«ليس عزاءً بل ضوءاً»... استعادة فلسفة سيمون فاي

«ليس عزاءً بل ضوءاً»... استعادة فلسفة سيمون فاي
TT

«ليس عزاءً بل ضوءاً»... استعادة فلسفة سيمون فاي

«ليس عزاءً بل ضوءاً»... استعادة فلسفة سيمون فاي

يطرح الكاتب المصري مينا ناجي سؤالاً مركزياً هو: «كيف نحب في حياة صعبة كهذه؟»، ليتأمل في ظواهر الحب والروحانيات والتاريخ، مستعيناً بفكر الفيلسوفة والباحثة الفرنسية سيمون فاي (1909-1943) عبر كتابه « ليس عزاءً بل ضوءاً - في استلهام فكر وفلسفة سيمون فاي» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة.

كتبت فاي في مجالات الفلسفة والتصوف والسياسة والتنظيم الاجتماعي، لكن لم يُنشر في حياتها القصيرة غير بعض المقالات وكتاب واحد هو «القمع والحرية». لم تلقَ كتاباتها الاهتمام إلا بعد وفاتها عن عمر يناهز 34 عاماً فقط، لكن اللافت أنه بحلول عام 2012 كان هناك أكثر من 5 آلاف كتاب ودراسة أكاديمية ومقال عن أعمالها وحياتها.

وُلدت فاي في 3 فبراير (شباط) 1909 في مدينة باريس لعائلة برجوازية من أبوين يهوديين يعتنقان فلسفة «اللاأدرية»، التي تشير إلى عدم القدرة على إثبات أو نفي حقائق الوجود الكبرى، وشقيق أصبح بعد ذلك عالم الرياضيات المعروف أندريه فاي. في مستهلّ حياتها، كانت طالبة نابغة، حتى إنها أتقنت اليونانية القديمة في سن الثانية عشرة، وعند تخرجها في كلية الفلسفة كانت الأولى على دفعتها، حيث سبقت الفيلسوفة سيمون دي، التي حازت المرتبة الثانية.

في فترة مراهقتها كان لها ميول ماركسية قوية واهتمام خاص بالعمال، لكنها أصبحت نقدية تجاه هذا المذهب في بداية العشرين حتى تركته بعدما عملت لمدة عام في مصنعين؛ أحدهما مصنع «رينو» للسيارات في سن الخامسة والعشرين، حيث أخذت إجازة من مهنة التدريس كذلك. اتجهت فاي بعد ذلك تدريجياً إلى التصوف الروحي المنفتح على المعتقدات الأخرى، وشاركت في الحرب الأهلية الإسبانية ضد الفاشيين، كما شاركت في الحرب العالمية الثانية ضد الاحتلال النازي لفرنسا واستمرت في هذا النضال، عملياً وفكرياً، حتى وفاتها بعد أربع سنوات نتيجة مضاعفات مرض السل ونقص التغذية والإجهاد.

يشير الشاعر تي إس إليوت في تصديره للترجمة الإنجليزية لكتابها «التجذر» إلى أننا يجب ألا نتشتت كما يمكن أن يحدث في الأغلب في قراءتنا الأولى لفاي بمدى اتفاقنا واختلافنا معها وفي أي مواضع يحدث ذلك، بل «يجب أن نعرض أنفسنا ببساطة على شخصية امرأة عبقرية تماثل ما للقديسين».

وحين فاز ألبير كامو بجائزة نوبل 1957 وذهب إلى استوكهولم سأله أحد الصحافيين عمن يعدهم أقرب أصدقائه، فقال: رينيه شار الشاعر الفرنسي، والاسم الآخر كان سيمون فاي، علَّق الصحافي بأنها متوفاة، فردَّ كامو بأن الموت لا يقف عائقاً أبداً بين الأصدقاء الحقيقيين.

ويؤكد مينا ناجي أننا نستطيع أن نرى أمثلة عديدة لتفردها الروحي، كما في مناقضة المفاهيم النرجسية الحالية حين تساوي بين ذاتها والكون في رحابة تبعث على الشعور بالسكينة المدهشة، حيث تتساءل في مذكراتها الشخصية: «كيف لا ترضى وكل شيء تتمناه يوجد أو وُجد أو سيوجد في مكان ما، لأنه لا يمكن اختراع شيء ما بالكامل!». ونرى هذا التفرد أيضاً في تهميشها ذاتها بشكل بطوليّ في سبيل أفكارها، فقد عاشت بعمق شديد وفق ما آمنت به من أفكار بجدية وصدق مذهلَين.

تشير فاي في كتاباتها إلى ما سمَّته «الحب الفائق للطبيعة»، كونه غير مشروط بالطبيعة ولا محدَّد بها، كما أنه يتضاد مع ما تروّجه الفلسفة الليبرالية المهيمنة بأن «الرحلة فردية» وبأن على الذات أن تتجاوز بنفسها ما تعاني منه من جروح ودمار الماضي في الرحلة نفسها. ندرك أنه في واقع الأمر لا يوجد حل فردي بمعزل عن الآخرين بالأساس، لأنه لا توجد ذات منفصلة أو معلقة في الهواء. هذا وهم طرحته الفلسفة الليبرالية بوصفه تصوراً مثالياً يروَّج له الآن بشدة، فحتى أكثر الذوات عزلةً في العالم مشكَّلة ومسكونة بأشباح الآخرين من داخلها.

وتعارض فاي فكرة أفلاطون عن الحب وأن هدفه الأساسي هو التحسن الذاتي واكتساب الفضائل مثل العدل والحكمة وضبط النفس والشجاعة والتواضع، فهي ترى أنه ليس من الضروري أن تأتي الراحة بعد ظهور الحب لأنه ليس عزاءً بل ضوء منوط به أن يُنير الروح لا أن يسكنها.


مقالات ذات صلة

الكتابة على الحافة بين أدب الرحلة ورثاء الراحلين

ثقافة وفنون عيسى مخلوف

الكتابة على الحافة بين أدب الرحلة ورثاء الراحلين

لعلني لا أجافي الحقيقة في شيء إذا نوهت في بداية هذه المقالة بأن مسارعتي لقراءة إصدار عيسى مخلوف الجديد «باريس التي عشت» لا تعود إلى جاذبية المدينة المعنية

شوقي بزيع
ثقافة وفنون «ابن خلدون»... زيارة جديدة بعيون فرنسية

«ابن خلدون»... زيارة جديدة بعيون فرنسية

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «ابن خلدون – فلسفته الاجتماعية» لعالم الاجتماع الفرنسي جوستون بوتول

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب مؤرخ فرنسي يكتب شهادته عن جحيم غزة

مؤرخ فرنسي يكتب شهادته عن جحيم غزة

في ليلة من ليالي ديسمبر (كانون الأول) 2024، نجح المؤرخ الفرنسي جان بيار فيليو في دخول غزّة عبر منطقة رفح الحدودية، رغم الحصار المشّدد والموانع الأمنية.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب جميل البارودي (الشرق الأوسط)

جميل البارودي... 3 عقود من الدبلوماسية السعودية

بخطاباته الطويلة التي تمتزج فيها فصاحته بمعلوماته التاريخية، وقف جميل البارودي على منبر الأمم المتحدة ممثلاً للدبلوماسية السعودية لثلاثة عقود

عمر البدوي (الرياض)
كتب «تنويعات إيقاعية على الطبل»... قصص في الحرب وتجلياتها

«تنويعات إيقاعية على الطبل»... قصص في الحرب وتجلياتها

تبرز الحرب بوصفها الثيمة المهيمنة على المجموعة القصصية «تنويعات إيقاعية على الطبل» لزهير كريم.

«الشرق الأوسط» (عمان)

مؤرخ فرنسي يكتب شهادته عن جحيم غزة

مؤرخ فرنسي يكتب شهادته عن جحيم غزة
TT

مؤرخ فرنسي يكتب شهادته عن جحيم غزة

مؤرخ فرنسي يكتب شهادته عن جحيم غزة

في ليلة من ليالي ديسمبر (كانون الأول) 2024، نجح المؤرخ الفرنسي جان بيار فيليو في دخول غزّة عبر منطقة رفح الحدودية، رغم الحصار المشّدد والموانع الأمنية. كانت غزّة، حسب وصفه، «قبة محكمة الإغلاق، لا يدخل إليها أحد إلا عبر نفق من الألم، ولا يخرج منها أحد إلا عبر بوابة الموت». قضى فيليو 32 يوماً في قلب هذا الجحيم، يروي، ويسمع، ويشهد على حياة وممات شعب تحت القصف.

من هذه التجربة خرج الباحث الفرنسي، المتخصص في تاريخ الشرق الأوسط، بشهادة مؤلمة وصادمة في مؤلفه «مؤرخ في غزة» (دار نشر لي زارين) وهو كتاب يضم 224 صفحة مقسمة إلى 19 فصلاً، كل منها يحمل عنواناً يختزل جانباً من جوانب المأساة الإنسانية منها: الصدمة، المستشفيات، الموت، الماء، الانتظار. كما جمع فيه شهادات سكان القطاع الذين عاشوا الموت اليومي تحت وابل القصف والدمار. في كتابه يقدم فيليو أرقاماً صادمة حول حجم الدمار الذي طال قطاع غزة. وفقاً لتقارير الأمم المتحدة التي يوثقها، فإن 87 في المائة من المباني السكنية دُمرت كلياً أو جزئياً. ويضيف أن 1.9 مليون شخص اضطروا إلى النزوح مرة أو مرات عديدة، فيما لا يتجاوز نصيب كل لاجئ في الملاجئ البدائية سوى متر ونصف المتر من المساحة للبقاء على قيد الحياة. أما الخسائر البشرية، فهي تفوق الخيال. يذكر فيليو أن عدد القتلى المسجلين رسمياً في المستشفيات يتجاوز 54 ألف شخص، بينهم أكثر من 16 ألف طفل. ثم يضيف لو قُورن هذا الرقم مع تعداد فرنسا، لكانت حصيلة القتلى تعادل 1.7 مليون فرنسي. لكن هذه الأرقام لا تشمل كل الضحايا، إذ ما زالت آلاف الجثث تحت الأنقاض، إضافة إلى من قضوا جراء القصف، أو الحرائق، أو الجوع، أو المرض أو انقطاع الرعاية الصحية. ويشير فيليو إلى أن الأمراض والأوبئة، مثل شلل الأطفال الذي عاد للظهور بعد اختفائه، تتفشى في ظل انهيار منظومة التطعيمات. جان بيار فيليو، الذي عرف غزة منذ عقود واحة خضراء مزدهرة، يروي كيف اختفت معالم الحياة فيها، وحلت مكانها أنقاضٌ وخرائب، فيما يكافح الناس للبقاء بأقصى قدر من الكرامة.

ولم يكتف المؤرخ الفرنسي بتسجيل الأرقام والإحصاءات، بل غاص في أعماق المعاناة الإنسانية من خلال الاستماع إلى سكان غزة الذين عاشوا تحت القصف ليلاً ونهاراً. يروي كيف أن العائلات فقدت كل شيء، من بيوتها وذكرياتها إلى أعز ما تملك من أطفال وأحباء. يصف كيف تحولت المستشفيات من مراكز للشفاء إلى ساحات موت، والأطباء يعالجون الجرحى بأيديهم العارية في ظل انقطاع الكهرباء ونقص الأدوية والمعدات الطبية. أما المقابر فلم تعد تتسع للضحايا، مما اضطر الأهالي إلى دفن موتاهم في مقابر جماعية، في مشهد يذكر بأحلك فترات التاريخ الإنساني. حتى الماء، هذا المصدر الأساسي للحياة، لم يعد متوفراً، والانتظار أصبح مصيراً يومياً مؤلماً، انتظار الخبز والدواء، بل وحتى انتظار الموت الذي يتربص بالجميع في كل لحظة.

وفي سياق تاريخي أوسع، يشير فيليو إلى أن غزة كانت دائماً ساحة للصراع عبر التاريخ، منذ عهد الإسكندر المقدوني الذي حاصرها مائة يوم عام 332 قبل الميلاد، مروراً بالعصور الإسلامية التي شهدت ازدهارها كمركز تجاري وعلمي، وصولاً إلى الحكم العثماني الذي شهد سلسلة من المذابح حتى لم يبق في المدينة عام 1525 سوى ألف عائلة فقط. وبعد حرب 1948، استقبلت غزة ربع سكان فلسطين الانتدابية، فتحولت إلى «سفينة نوح» للهاربين من الموت، لكن اليوم لم يعد هناك مكان للفرار.

الإسكندر المقدوني حاصر غزة 100 يوم عام 332 قبل الميلاد، وفي الحكم العثماني شهدت مذابح حتى لم يبق في المدينة عام 1525 سوى ألف عائلة فقط. وبعد حرب 1948 أصبحت غزة «سفينة نوح» للهاربين من الموت

الباحث الفرنسي انتقد الإعلام الغربي وخضوعه للسردية الإسرائيلية، بعيداً عن مبادئ الحقيقة والعدالة الصحافية مضيفاً أنه كثيراً ما تختتم أخبار الضحايا بعبارة «حسب حركة حماس الإسلامية...»، في محاولة مقصودة للتشكيك في حقيقة المجازر والتقليل من وقعها. كما انتقد بشّدة التلاعب في توزيع المساعدات الإنسانية، مؤكداً أن حركة «حماس» لم تحتجزها كما تدعي الآلة الإعلامية الإسرائيلية، معتبراً أن هذه الادعاءات جزء من بروباغندا ممنهجة. كما وجّه أصابع الاتهام إلى الخطاب الإسرائيلي والغربي الذي يحاول إجراء «موازنة» بين آلام عائلات المحتجزين ومآسي أكثر من 50 ألف ضحية، معظمهم من الأطفال والنساء الأبرياء. ولم يكتف جان بيار فيليو بوصف المأساة، بل أدان التواطؤ الدولي الصامت، مشيراً إلى أن العالم يشاهد الموت اليومي في غزة دون أن يتحرك أو يتخذ إجراءات فعلية لوقف المجزرة، مضيفاً أن سياسة الاحتلال الإسرائيلي التدميرية لا تواجه مقاومة حقيقية من المجتمع الدولي، وأن المساعدات الإنسانية المحدودة لا تكفي لإنقاذ حياة المدنيين. هذا التواطؤ، في نظره، يشكل جزءاً لا يتجزأ من المأساة، لأنه يجعل الموت أمراً اعتيادياً ويقتل الأمل في تحقيق العدالة. وفي أكثر من موضع، يعترف فيليو بأن اللغة تقف عاجزة عن تصوير الفظائع التي شهدها في غزة، فكيف يمكن وصف موت طفل تحت الأنقاض بكلمات؟ كيف تصف أماً تبحث عن جثة ابنها بين الركام؟ أو طبيباً يعالج الجرحى بلا أدوية ولا كهرباء؟ تتعثر الكلمات أمام هول المأساة، لكن الشهادة تبقى كصرخة في وجه العالم الصامت.

ورغم كل هذا الدمار والألم، يؤكد فيليو أن غزة تبقى «الرحم الذي ولدت منه حركة الفدائيين ومهد الانتفاضة»، وأنها تقع في قلب بناء الدولة الفلسطينية المعاصرة. وهو يؤمن أن غزة لا تموت رغم كل محاولات الإبادة، وأنها ستظل حجر الزاوية في أي حل سياسي مستقبلي، محذراً من أن الإهمال والتهميش الدوليين يزيدان من معاناة أهلها ويجعلان السلام مستحيلاً بدون الاعتراف بحقوقهم المشروعة.

في الختام، خلص فيليو إلى أن السلام الحقيقي والدائم يجب أن يبدأ من غزة، لأنها تمثل أصعب اختبار للضمير الإنساني، وأن أي حل سياسي حقيقي يجب أن ينطلق منها كونها القلب النابض للقضية الفلسطينية.