«رسائل جون كيتس إلى فاني برون»... ثنائية الحب والمرض

وصفها إليوت بأنها أكثر أهمية مما كتبه أي شاعر إنجليزي

«رسائل جون كيتس إلى فاني برون»... ثنائية الحب والمرض
TT

«رسائل جون كيتس إلى فاني برون»... ثنائية الحب والمرض

«رسائل جون كيتس إلى فاني برون»... ثنائية الحب والمرض

تمثل ترجمة مختارات من رسائل الشاعر الإنجليزي جون كيتس إلى حبيبته فاني برون تحدياً كبيراً بالنظر إلى لغة الشاعر وأسلوبه المكثف من جهة، وطبيعة الرسائل نفسها وما تثيره من تساؤلات وتأويلات وإشكاليات من جهة أخرى.

هذا ما يؤكده الباحث د. محمد هشام في تقديمه لكتاب «رسائل جون كيتس إلى فاني براون» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، فلغة الرسائل تنتمي إلى عصر كتابتها في مطلع القرن التاسع عشر، وقد تأثرت مفرداتها وتراكيبها ودلالاتها بما طرأ على اللغة الإنجليزية من تبدلات على مر السنين، مما يجعل كثيراً منها غريباً بل مستعصياً حتى على أبناء هذه اللغة نفسها في العصر الحالي.

تشكّل تلك الحقيقة عقبة أولية أمام محاولة الترجمة إلى لغة مغايرة تماماً في بنائها، كما تستدعي الرجوع إلى معاجم متخصصة أحياناً وإلى دراسات حول الخصائص اللغوية لذلك العصر في أحيان أخرى، لكن اللافت أن مترجمة الكتاب رفيدة جمال نجحت في أن تقدم النص في نسخته العربية بسلاسة وجاذبية ودقة على نحو يماثل في عذوبته وانسيابه نص الشاعر الأصلي.

وتشير المترجمة إلى أنه رغم حياته القصيرة، ترك كيتس بصمةً عميقةً جعلته من أبرز شعراء الحركة الرومانسية الإنجليزية، وبرعت أعماله في الربط بين الجمال وحقائق الوجود. تُعد قصائده من روائع الشعر الرومانسي، واستمر تأثيره ليُلهم الشعراء والفنانين في العصرين الفيكتوري والحديث.

وبرع بشكل خاص في كتابة القصائد الغنائية والروائية، ومن أشهر قصائده الغنائية «أنشودة إلى عندليب»، «إلى الخريف»، «أنشودة إلى النفس»، أما قصائده الروائية فتشمل «إنديمين»، «ليميا»، «إيزابيلا».

يتميز شعر كيتس بعدة سمات بارزة تبرز نزعته الرومانسية، منها عشقه للجمال المحسوس؛ حيث عبر عن هذا الشغف بقوله: «أنا على يقين من أنني يجب أن أكتب بدافع اللهفة والرقة التي أكنها للجمال حتى لو كانت هذه الكتابات ستُحرق كل صباح دون أن تراها الأعين». السمة الثانية هي قربه الروحي من الثقافة اليونانية القديمة؛ فقد تشبع بثراء خيال الإغريق رغم أنه لم يتعلم اللغة اليونانية معتمداً في ذلك على القواميس والتراجم. أما السمة الثالثة فتتجلى في اختياره لموضوعات تختلف عن تلك التي تناولها معظم الشعراء الرومانسيين الآخرين، فقد كان حبه للطبيعة مستحكماً وقوياً وهو ما ينعكس في الصور الغنية التي تفيض بها قصائده.

وفيما يتعلق بفاني برون، فإنه من الملاحظ أن شهرتها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعلاقة العاطفية التي جمعتها بالشاعر جون كيتس، رغم قلة المصادر المتاحة عن حياتها. ومعظم معلوماتنا عنها مستقاة من الكتب التي تناولت حياته، فضلاً عن السيرة الذاتية الوحيدة التي كتبتها عنها جوانا ريتشاردسن في عام 1952.

لم تكن فاني برون مجرد حبيبة لكيتس، بل ألهمته أيضاً بعضاً من أجمل أشعاره وكانت جزءاً لا يتجزأ من قصة حياته رغم قصر فترة علاقتهما. ولدت برون في التاسع من أغسطس (آب) عام 1800 في ضيعة صغيرة بالقرب من قرية هامستيد في إنجلترا. كانت الابنة الكبرى للتاجر الثري صامويل برون، حيث نشأت في بيئة مريحة وتلقت تعليماً جيداً كما هو متوقع من فتاة من الطبقة المتوسطة آنذاك.

استأجرت السيدة فرانسيس والدة فاني نصف منزل تشارلز براون صديق كيتس في صيف 1818، وبما أن المنزلين كانا يتقاسمان الحديقة نفسها نشأت صداقة بين العائلتين استمرت لسنوات عديدة. أما التاريخ الدقيق الذي التقى فيه جون بفاني فغير معروف، لكن يعتقد أنه كان في نوفمبر (تشرين الثاني) 1818 عندما كانت في الثامنة عشرة من عمرها.

كانت فاني الملهمة في العديد من قصائد كيتس مثل «حين أخشى موتي» و«إلى فاني» و«الحسناء قاسية القلب». عانى كيتس من مشاعر الغيرة والشك في بعض الأحيان، خاصة عندما كانت فاني تشارك في حفلات الرقص والمناسبات الاجتماعية. في عام 1820 بدأت صحته في التدهور بسبب مرض السل، ومن ثم سافر في سبتمبر (أيلول) من العام نفسه إلى إيطاليا على أمل استرداد عافيته في مناخ أكثر دفئاً. استمر في مراسلة فاني لكنه طلب منها إعادة رسائله إليه دون قراءتها خوفاً من أن تزيد معاناته قبل أن يُتوفى في روما دون أن يتمكن من رؤيتها مرة أخرى.

وتذكر المترجمة أن رسائل جون كيتس إلى أصدقائه وعائلته وحبيبته فاني برون تتمتع بأهمية أدبية تضاهي ما ناله شعره من تقدير، حتى إن ت. إس. إليوت أشار إلى أن عظمة كيتس تتجلى في خطاباته، مشيداً بطابعها الشكسبيري؛ حيث قال: «إن خطابات كيتس تُعد أرقى وأكثر أهمية مما كتبه أي شاعر إنجليزي، فهي تزخر بموضوعات ثرية وتظهر من دون مقدمات أو مظاهر استعراضية؛ لذلك فهي تحمل أعمق نقد وأدق فهم، حتى إن مقولاته عن الشعر المتناثرة في رسائله تلامس حدود الإلهام لأنه يمتلك عقلاً شعرياً».

وبالانتقال إلى نماذج من تلك الرسائل نجد جون كيتس يقول في إحداها: «أشعر أني أكثر تعقلاً هذا الصباح، فالصباح هو أنسب الأوقات للكتابة إلى فتاة حسناء أحبها حباً جماً، بينما في الليل بعدما ينسلخ النهار تنتظرني الغرفة الوحيدة الصامتة الموحشة كالقبر».

وفي رسالة أخرى يخاطب حبيبته قائلاً: «شرعت منذ هنيهة في نسخ بعض القصائد بدقة، لكن لم أستطع التركيز. يجدر بي أن أكتب لكِ بضعة أسطر لعلها تساعدني على إبعادك عن ذهني لفترة وجيزة، فحبي لكِ جعلني أنانياً لا أستطيع العيش من دونك. إنني ذاهل عن أي شيء عدا رؤيتك مرة أخرى، كأن الحياة قد توقفت عند ذلك الحد فلا أرى أبعد منه».

ويقول في سياق رسالة ثالثة: «أشعر بالتحسن هذا الصباح مقارنة بحالي منذ أسبوع، بل إن صحتي تتعافى يوماً بعد يوم. أتطلع إلى خوض نزهة معك في الأول من مايو (أيار)، ريثما يحل ذلك اليوم لن أستسلم لليأس، لهذا الأسر البابلي أو أعلق قيثارتي كيهودي على شجرة صفصاف، بل سأجتهد في إنهاء ما بدأته من القصائد ومع استعادتي للعافية سأباشر عملاً جديداً».


مقالات ذات صلة

«مدائح تائهة»... نصّ يتمرد على التصنيفات الأدبية

ثقافة وفنون «مدائح تائهة»... نصّ يتمرد على التصنيفات الأدبية

«مدائح تائهة»... نصّ يتمرد على التصنيفات الأدبية

«الإنسان حيوان مدّاح»، يقول رائد العيد في كتابه الجديد «مدائح تائهة»، عادَّاً أن «تأمل الأشياء من حولنا نوع من ممارسة الخشوع»

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون «الدرويشة»... قصص تمزج براءة الطفولة بالفانتازيا

«الدرويشة»... قصص تمزج براءة الطفولة بالفانتازيا

عن دار «مسافات» للنشر بالقاهرة، صدرت أخيراً المجموعة القصصية «الدرويشة» للكاتبة المصرية صفاء النجار.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب غريغوري راباسا

راباسّا... حياةٌ مكرّسة للترجمة

قد لا يعرف كثيرون اسمه ولم يسمعوا به من قبلُ؛ لكنّهم - على الأرجح - يمتلكون بعض أعماله في مكتباتهم. إنّه غريغوري راباسا، المثابة الشاخصة في الترجمة الأدبية.

لطفية الدليمي
كتب سردية تاريخية لفهم «الجنون»

سردية تاريخية لفهم «الجنون»

خلال القرنين التاسع عشر والعشرين في كتابها «تاريخ الجنون والمصحات العقلية»، تنطلق الكاتبة جوليانا كامينجز في رحلة موصولة بشغف طويل لتتبع تاريخ المرض العقلي

منى أبو النصر (القاهرة)
كتب «جوركي وتشيخوف»... مراسلات في الأدب والحياة

«جوركي وتشيخوف»... مراسلات في الأدب والحياة

تكشف الطبعة الجديدة من «مراسلات جوركي وتشيخوف»، عن جانب من جوانب روائع الفكر في الأدب التي يعبر عنها اثنان من العظماء في تاريخه هما مكسيم جوركي وأنطون تشيخوف

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

راباسّا... حياةٌ مكرّسة للترجمة

غريغوري راباسا
غريغوري راباسا
TT

راباسّا... حياةٌ مكرّسة للترجمة

غريغوري راباسا
غريغوري راباسا

قد لا يعرف كثيرون اسمه ولم يسمعوا به من قبلُ؛ لكنّهم - على الأرجح - يمتلكون بعض أعماله في مكتباتهم. إنّه غريغوري راباسا Gregory Rabassa، المثابة الشاخصة في الترجمة الأدبية. ترجم لأكثر من 30 كاتباً ناطقاً بالإسبانية والبرتغالية من أميركا اللاتينية إلى الإنجليزية. فَتَحَتْ ترجمات راباسا أعين القراء الناطقين باللغة الإنجليزية على الموجة الغنية من الأدب الحديث لأميركا اللاتينية المستوحى من التراث الشعبي (Folktale)، التي أُنتِجَتْ خلال فترة «الازدهار The Boom» لمؤلفين مثل خوليو كورتاثار، وماريو فارغاس يوسا، وبالطبع غابرييل غارسيا ماركيز.

«إذا كانت هذه خيانة If This Be Treason» هي مذكرات راباسا القصيرة؛ لكنها برغم قصرها مثيرة للتفكير. فضلاً عن كونها غنية بالمتع اللغوية والحقائق التاريخية والإشارات الأدبية فإنّ المذكّرات تظهر بجلاء وكأنّها عملُ شاعر بارع، تبقيك متيقظاً كمن يلعب الشطرنج ويتوقّع كل حين نقلة غير متوقّعة تقلب مسار اللعبة. تحفل المذكّرات بالعديد من الحكايات الشخصية؛ إلا أن راباسا يحافظ على مسافة بين السطور طوال الوقت كما لو أنّه لا يريد التصريح بعائديتها له. ربما يعود ذلك إلى أنه - كمترجم - اعتاد على المكوث في منطقة الظلّ، مقتفياً أثر المؤلفين الذين يترجم لهم. هذه بالطبع بعضُ مكابدات المترجم أينما كان في العالم. مع ذلك فإن اتباع كلمات المؤلف والعمل في ظلال نصوصه لا يعني التنصل من عبء المسؤولية. الأمرُ على العكس تماماً. إن العبء الأكبر الذي يقع على عاتق المترجم هو التفكير في خيانته الضرورية لأداء عمله، وهذا تماماً ما يفعله راباسا في القسم الأول من مذكراته. هنا يقدّم راباسا مراجعة لفعل المثاقفة المنطوية على خيانة كما وصف المثل الإيطالي القديم الذي صار واحداً من أشهر الأمثلة الكلاسيكية. يتساءل راباسا في مدخل أطروحته الجميلة حول الخيانة الترجمية: هل يخون هو (أي راباسا)، أو أي مترجم سواه، اللغة، أو الثقافة، أو المؤلف، أو - وهذا هو الأشدّ إيلاماً - نفسه عند الترجمة؟ كما يعلم كل من مارس فعل الترجمة الحقيقية، فإن نوعاً من الخيانة (أو الخسارة الثقافية) أمرٌ يكاد يكون حتمياً؛ بل إن راباسا يذهب إلى حد القول إن الترجمة فعلُ تقليد نجتهدُ أن يكون بأفضل ما يمكن لأننا لا نستطيع أن نكرر تماماً في لغة ما نقوله في أخرى. ومع ذلك علينا أن نحاول ولا نكفّ عن المحاولة وتحسين الفعل. يقول راباسا في هذا الشأن: «قد تكون الترجمة مستحيلة؛ ولكن على الأقل يمكن تجربتها».

يستخدم راباسا القسم الأول أيضاً للإطلالة السريعة على وقائع موجزة من خلفيته العائلية والثقافية والمهنية. يبدو الأمر وكأنّ راباسا كان مهيّئاً على نحو جيد منذ البدء ليكرّس حياته للترجمة. كان ابناً لأبوين عاشقين للكلمات، وجَدّين من أربعة بلدان مختلفة، حظي بتعليم لغوي مكثف ومتنوّع وممتاز، وشرع في مسيرة عسكرية قصيرة أوصلته إلى أوروبا وأفريقيا البعيدتين كخبير تشفير (Cryptographer) للمراسلات العسكرية. ثم يُواصل راباسا عرضَ موقفه في قضايا شائكة مثل نظرية الترجمة (وهو ليس من مُعجبيها ولا معجبي منظّريها الأكاديميين الذين يراهم ديناصورات متغطرسة!)، ودور النشر الكبيرة التي يمقتها أيضاً، ووظيفة المترجم التي يراها ببساطة أن يتبع المترجم كلمات المؤلّف مع كلّ حمولتها الثقافية والسياقية. من جانب آخر يُبدي راباسا استخفافاً بتدريس الترجمة، ويكتب في هذا الشأن: «لقد حاولتُ تعليم ما لا يُمكن تعليمه. كما ذكرتُ سابقاً، يُمكنك شرح كيفية الترجمة؛ ولكن كيف يُمكنك أن تُملي على الطالب ما يقوله دون أن تُعبّر عنه أنت بنفسك؟ يُمكنك أن تُملي عليه أي كتاب يقرأه؛ ولكنك لا تستطيع قراءته نيابةً عنه». من المثير معرفةُ أنّ راباسا - وهو ما صرّح به في الكتاب - نادراً ما يقرأ الكتب التي يترجمها قبل البدء بالعمل عليها، مسوّغاً ذلك بالقول: «عندما أترجم كتاباً فأنا - ببساطة - لا أفعل شيئاً سوى قراءته باللغة الإنجليزية. الترجمة قراءة لو شئنا الدقّة». إلى جانب هذا يرى راباسا الترجمة فناً لا حرفة: «يمكنك تعليم بيكاسو كيفية خلط ألوانه؛ لكن لا يمكنك تعليمه كيفية رسم لوحاته».

القسم الثاني هو الجزء الأكثر ثراءً في مذكّرات راباسا. يناقش راباسا فيه ما يربو على ثلاثين مؤلفاً سبق له أن ترجم لهم. يتناولهم بترتيب زمني (كرونولوجي) مقصود لأن كل عمل ترك بصمته على الذي يليه بطريقة ما. يؤكّدُ راباسا في بداية هذا القسم أنّ تجربته الشخصية مع الترجمة أبعدُ ما تكون عن التعقيد أو الإزعاج. هو يتبع النص، يتركه ليقوده إلى حيث يتبيّنُ موطن التميّز والاختلاف فيه وربما حتى الابتكار الذي يميّز كل مؤلف عن سواه. يضيف راباسا في هذا الشأن: «يدعم هذا نظريتي بأنّ الترجمة الجيدة هي في الأساس قراءة جيّدة: إنْ عرفنا كيف نقرأ وفق ما ينبغي للنص فسنتمكّنُ من صياغة ما نقرأه في لغة أخرى بطريقتنا الخاصة. قد أتمادى وأقول نصوغه بكلماتنا الخاصة...».

يتذكّرُ راباسا بعض المؤلفين بمودّة كبيرة بعد أن التقى بالعديد منهم، وأصبح صديقاً حميماً لهم، أو حتى دَرَسَ أعمالهم عندما كان طالباً بعدُ. يُغدق راباسا بالثناء والتشبيهات على بعض هؤلاء الكتّاب: خوان بينيت مثلاً هو بروست إسبانيا، وغابرييل غارسيا ماركيز هو الوريث المباشر لثيربانتس، وكلاريس ليسبكتور كانت تُشبه مارلين ديتريش وتكتب كفيرجينيا وولف؛ لكنّ الحياة لم تحسن معاملتها كما تستحق. يميل راباسا إلى التقشّف والاختصار والمباشرة في كل شيء، وربما هذه بعض خصال المترجم الحاذق.

لن يكون أمراً غريباً أن يُكرّس راباسا صفحاتٍ أكثر لغابرييل غارسيا ماركيز من أي كاتبٍ آخر؛ فقد ترجم له ستاً من رواياته. يُقالُ إنّ غارسيا ماركيز كان يُفضّل ترجمة راباسا الإنجليزية على روايته الأصلية. وكما هو مُعتاد، يُقدّم راباسا هذا الإطراء بأسلوبٍ متواضعٍ مُميّز: «شعوري الغامض هو أن غابو (غابريل غارسيا ماركيز) كانت لديه بالفعل كلماتٌ إنجليزيةٌ مُختبئةٌ خلف الإسبانية، وكل ما كان عليّ فعله هو استخلاصها». برغم هذه الجودة الترجمية والمبيعات الهائلة لماركيز يصرّحُ راباسا في ملاحظة صغيرة أنّه لم يحصل على أيّ عائد مالي من ترجمة رواية «مائة عام من العزلة» التي كانت أوّل عمل ترجمه لماركيز.

تظهر المذكّرات وكأنّها عملُ شاعر بارع. إنها تبقيك متيقظاً كمن يلعب الشطرنج ويتوقّع كل حين نقلة غير متوقّعة

السياسة موضوع لا مفر منه مع أن راباسا لا يُكثِرُ من التطرق إليه. الواقعية السحرية (Magical Realism) ذلك المصطلح الذي يُثير جدلاً واسعاً كانت في ذهن راباسا دعوةً شعبيةً للحرية والعدالة. في موضع آخر، يذكر بإيجاز أن الواقعية السحرية كانت المقاربة الروائية التي دفعت كُتّاب أميركا اللاتينية إلى استكشاف الجوانب المظلمة في تاريخ القارة المنكوبة بالاستغلال والقهر الاجتماعي.

في القسم الثالث «القصير جداً. لا يتجاوز نصف الصفحة إلا بقليل»، يُدين راباسا خيانته المفترضة! هو يُعاني من المعاناة ذاتها التي يُعاني منها العديد من المترجمين: إنّه ببساطة لا يرضى أبداً عن عمله عندما يُراجعه. لا يُمكن للمرء أن يكون واثقاً من عمله أبداً.

انتقد البعض هذا الكتاب لكونه مغالياً في الاختصار؛ لكنني أظن أنً راباسا تقصّد هذا الاختصار. أما نجوم المذكّرات الحقيقية فهي الأعمال نفسها، سواء نصوص المؤلفين الأصلية الإسبانية أو البرتغالية أو ترجمات راباسا الإنجليزية لها. ومع أخذ ذلك في الاعتبار أشعر أنّ هذا الكتاب، على الرغم من روعته، يجب أن يأتي مع تحذير. لا يخدعنّك الاختصار أو التقشّف. إذا كنتَ ممّن يرى في الترجمة فعل مثاقفة رفيعة لا يحسنُها سوى العقل المسكون بالشغف والفضول المعرفي فقد لا يكون هذا الكتاب الصغير سهل القراءة أبداً.

«إذا كانت الترجمة خيانة»: مذكّرات غريغوري راباسّا (دار المدى 192 صفحة 2025)