«معرض بيروت للكتاب»... فسحة متجددة

يفتتح دورته الـ66 اليوم في «سي سايد أرينا» ويستمر حتى 25 من مايو الحالي

بازار الكتب في الدورة السابقة من معرض بيروت للكتاب (سبوتنك)
بازار الكتب في الدورة السابقة من معرض بيروت للكتاب (سبوتنك)
TT

«معرض بيروت للكتاب»... فسحة متجددة

بازار الكتب في الدورة السابقة من معرض بيروت للكتاب (سبوتنك)
بازار الكتب في الدورة السابقة من معرض بيروت للكتاب (سبوتنك)

يفتتح اليوم (الخميس) «معرض بيروت الدولي للكتاب» دورته الـ66، بمشاركة 134 دار نشر، غالبيتها لبنانية. بيروت تلتقط أنفاسها من جديد، وتحاول استنهاض ما فات. فهذه الدورة كان يفترض أن تبصر النور في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي، لكن أجواء الحرب الإسرائيلية كانت لا تزال ترخي بظلالها على العاصمة. لم يرد «النادي الثقافي العربي» الذي ينظم المعرض منذ عام 1956 إلى اليوم أن يُسقط هذه الدورة، رغم صعوبة الظروف، وهو الذي جاهد باستمرار لأن يبقى الكتاب موجوداً والمناسبة قائمة. يذكّر القيمون على النادي بأنهم تغلبوا على الاجتياح الإسرائيلي حين داهم بيروت عام 1982، وعلى مخاوف الانفجارات التي ضربت العاصمة أكثر من مرة، وأجواء التوترات، وها هم يقولون إن «عميد المعارض العربية» سيبقى يمارس دوره ويستعيد ألقه تدريجياً، ويفتح أبوابه وسط بيروت في «سي سايد أرينا» ويستمر حتى 25 من الشهر الحالي، يترافق مع ما يقارب 60 نشاطاً على مدى الأيام العشرة، أي بمعدل ستة أنشطة ثقافية في اليوم، بين ندوة وأمسية وحوار، ومحاضرة. وتحدث لـ«الشرق الأوسط» مدير المعرض د. عدنان حمود عن إقبال جيد من جانب الناشرين أفضل من الدورة التي سبقتها، والتي عقدت في ظرف لا نحسد عليه، كانت حرب غزة يومها اندلعت، والجنوب مشتعل.

من دوراته السابقة

صعوبات وخلافات

لكن المعرض أثناء التحضير واجه صعوبات من نوع آخر. فنقابة الناشرين اللبنانيين أيضاً تريد أن يكون لها معرضها الخاص، وهو ما تسبب بانعقاد معرضين في سنة واحدة، قبل ذلك. ويمكن أن يتكرر العام الحالي. وهو أمر مربك ومكلف، لا يحبذه كثير من الناشرين، بسبب ما يرتب عليهم الاشتراك في معرضين من جهد دون مردود مناسب. وبناء عليه حاول وزير الثقافة غسان سلامة رأب الصدع بين الطرفين، لكن الوساطة لم تؤت أؤكلها لغاية اللحظة، وبين من يقول إن معرضاً ثانياً سيعقد لنقابة الناشرين، ومن يجزم بأن الأمر سيكون صعباً، تبقى الأمور معلقة.

وهذا بسبب الخلافات الداخلية بين نقابة الناشرين و«النادي الثقافي العربي» الذي يعدُّ أن له الأحقية في تنظيم معرض يعتبره تاريخياً ودوره فيه لا ينكر على مدى أكثر من ستة عقود.

إحجام وعتب

لكن ذلك لم يقنع العديد من الدور عن الإحجام عن المشاركة، منها «هاشيت - أنطوان » و«مكتبة لبنان» و«الرافدين» و«المكتبة الشرقية» وغيرها، وهو ما يأسف له ناشرون آخرون، مثل سليمان بختي، صاحب «دار نلسون» الذي يعتبر أن المسألة تتجاوز الحاجة إلى البيع والشراء والاتجار... «هذا يحدث كل يوم، لكن اللبنانيين، بعد كل المآسي التي مروا بها، يحتاجون فسحة أمل. والاحتفاء بالكتاب يخرجهم من الأجواء التعيسة والباهتة». ويذكر بختي بأن للبنان ثلاثة مداميك رئيسية يتوجب المحافظة عليها، وهي هامش الحرية، والتنوع، والمستوى التعليمي والثقافي لجامعاته ومؤسساته. «لهذا فأن يترك الكتاب لمنازلات السياسة وتجاذباتها، هو أمر يحزّ في نفوسنا، لأننا كنا نريد لهذا العيد أن يكون جامعاً ومتعالياً على كل الخلافات التي تبدو هامشية أمام المصلحة العامة». لكن مدير المعرض د. حمود يعتقد أن العام المقبل سيكون الوضع أقرب لتوحيد المعرضين والخروج بمعرض جامع كما يتمنى الجميع، قائلاً: «نحن معرض عمره أكثر من ستين عاماً لا نستطيع أن نستغني عن تاريخنا، ونوقف عملنا ونترك مهمتنا من أجل معرض عمره عامان».

إبراز المبدعات

تعلق رنا إدريس، مديرة «دار الآداب»، «بأن المعرض لا يأتي في وقته المعتاد، أي في ديسمبر (كانون الأول)، ويعقد بعد أزمة كبيرة، ومعاناة، وكذلك متزامناً مع الانتخابات البلدية التي تشغل الناس، إلا أنني لم أتردد ثانية واحدة في المشاركة، لأنه في النهاية معرض بيروت، أياً تكن الأوضاع، ومهما كانت الظروف بيروت تبقى بيروت، لا تخذلنا ولا نخذلها». وتذكّر إدريس بأن العقبات والحروب لم تمنعا الدار من الاستمرار في إصدار كتب تحظى بمصداقية القارئ وتنال الجوائز.

وترى إدريس أن وجود الدار بعد إنجاز هذه الإصدارات في معرض بيروت هذا العام أمر مهم، «نريد أن نلقي الضوء على الكتب التي برزت من خلالها كاتبات مبدعات، مثل هدى بركات وروايتها (هند أو أجمل امرأة في العالم)، ونجوى بركات وروايتها الجديدة (غيبة مي)، وحنين الصايغ التي ثبتت مكانتها من خلال (ميثاق النساء)، وعندنا ضيفة هي الروائية العمانية جوخة الحارثي التي بالتعاون مع الجامعة الأميركية وكرسي الشيخ زايد مدعوة إلى المعرض، وكذلك تأتي حنين الصايغ من برلين، وريم بسيوني التي انطلقت من (دار الآداب)، وهناك الجزء الثاني من (قناع بلون السماء) للروائي الأسير باسم خندقجي (سادن المحرقة)، وقد لقيت صدى ونالت استحساناً كبيراً». تعدُّ إدريس أن «أفضل الطرق لإبراز هذه الأعمال هو المعرض، رغم الجراح وألم كثيرين من القراء الذين لم يتمكنوا بعد من العودة إلى منازلهم. فلا بد أن الكتاب يخفف بعضاً من الأحزان».

مساحة أوسع

هناك عتب وانزعاج من الفرقة والخلافات، لكن المعرض يمضي قدماً. وقد تمت توسعة مكان العرض عن الدورة الماضية التي كان خلالها محدود المساحة، مزعجاً للرواد. فانفجار مرفأ بيروت أتى على الصالات التي تعقد فيها المناسبة، والآن تم استكمال البناء وعادت المساحة إلى ما كانت عليه، مما يمنح المعرض مدى وحيوية، وفرصة لاستقبال عدد أكبر من الزوار والأنشطة. وتمت الاستفادة لتوسيع الأجنحة، كما خصصت قاعتان للندوات والأمسيات والحوارات، إحداها لبرنامج النادي الثقافي العربي والأخرى لدور النشر. كما أن المعرض يستقبل هذه السنة خمسة معارض فنية تشكيلية، أحدها للغرافيك تنظمه الجامعة الأميركية في بيروت، وآخر عن تاريخ السينما، وثالث عن طرابلس عاصمة عربية للثقافة، وثمة معرض رابع عن الكتاب العربي، وخصص لغزة معرض خاص أيضاً.

وإذا كانت الدور المشاركة في غالبيتها لبنانية، بسبب الظروف الاستثنائية الحالية، فإن هذا لم يمنع وجود جناح لمعرض الدوحة الدولي للكتاب، كما مشاركة «دار الشروق» المصرية، و«معهد العالم العربي» في باريس الذي سيكون مديره الشاعر العراقي شوقي عبد الأمير موجوداً للاحتفاء بكتابه «أحجار تفضح الصمت»، ولإحياء أمسية شعرية.

ويلفت الناشر سليمان بختي إلى أن وضع الكتاب العربي سيئ أصلاً، والناشرون يعانون. وإذا كانت الكتب لا تزال تطبع فبفضل وجود كاتب حالم وناشر مجنون، «بالتالي فإن الخلافات، والإصرار على إقامة معرضين، ضربة تأتي في وقت غاية في السوء للنشر وصناعة الكتب، حيث الحاجة للملمة الجراح، والالتقاء حول الكتاب الذي هو نتاجنا جميعاً، وصوتنا جميعاً، وأن لا نترك الجانب المظلم يتغلب على الوجه الجميل».

يذكر أن دوراً عديدة أصدرت كتباً جديدة أرادتها متزامنة مع المناسبة كما جرت العادة. و«دار نلسن» نفسها تصدر كتاب «ثلاثون عاماً من الشعر» وهو نصوص غير منشورة سابقاً للشاعر يوسف الخال، وكذلك كتاب هو جزء أول من سلسلة عن تاريخ اليابان للكاتب بسّام طيارة. كما لـ«دار النهضة» عدد من الكتب الجديدة بينها ديوان الشاعر حسين بن حمزة «كمن يريد أن يمحو». وفي «الدار العربية للعلوم» كتابان صدرا للمفكر علي حرب «الأممية الشيعية إلى أين؟» ومجموعة مقابلات له في مؤلف يحمل عنوان «إنسانيتنا تفضحنا». أما «دار الساقي» فبين إصداراتها «الإسلام والديمقراطية في العالم العربي» لهشام العلوي، وهو ترجمة لأطروحته التي نال عنها درجة الدكتوراه وكتبها باللغة الإنجليزية. وكتاب «ذاكرة ليست تمضي» لوداد حلواني، الذي توقعه خلال المعرض.

«عميد المعارض العربية» سيبقى يمارس دوره ويستعيد ألقه تدريجياً

أنشطة متنوعة

ومن بين الأنشطة والندوات الثقافية المرافقة للمعرض ندوة مخصصة لمجلة «العرفان»، وأخرى تحية لروح الشاعر شوقي أبي شقرا، مع قراءات شعرية له من الفنان رفعت طربيه، وندوة حول «مئوية ملوك العرب» لأمين الريحاني، وكذلك احتفاء بمئوية سليمان البستاني، وندوة مخصصة لذكرى مرور نصف قرن على وفاة كوكب الشرق أم كلثوم، وأمسية موسيقية مخصصة لمئوية توفيق الباشا، يحييها ابنه عبد الرحمن الباشا، عزفاً على البيانو في الجامعة الأميركية (الأسمبلي هول)، وتم تخصيص ندوة لذكرى رحيل الروائي إلياس خوري. سوف يتحدث فيها أهم أصدقائه وأقربهم إليه فواز طرابلسي وماهر جرار وصقر أبو فخر، الذي عمل معه في «مؤسسة دراسات فلسطينية» لفترة طويلة أيضاً سوف تحضر عائلته.


مقالات ذات صلة

«مدائح تائهة»... نصّ يتمرد على التصنيفات الأدبية

ثقافة وفنون «مدائح تائهة»... نصّ يتمرد على التصنيفات الأدبية

«مدائح تائهة»... نصّ يتمرد على التصنيفات الأدبية

«الإنسان حيوان مدّاح»، يقول رائد العيد في كتابه الجديد «مدائح تائهة»، عادَّاً أن «تأمل الأشياء من حولنا نوع من ممارسة الخشوع»

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون «الدرويشة»... قصص تمزج براءة الطفولة بالفانتازيا

«الدرويشة»... قصص تمزج براءة الطفولة بالفانتازيا

عن دار «مسافات» للنشر بالقاهرة، صدرت أخيراً المجموعة القصصية «الدرويشة» للكاتبة المصرية صفاء النجار.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب غريغوري راباسا

راباسّا... حياةٌ مكرّسة للترجمة

قد لا يعرف كثيرون اسمه ولم يسمعوا به من قبلُ؛ لكنّهم - على الأرجح - يمتلكون بعض أعماله في مكتباتهم. إنّه غريغوري راباسا، المثابة الشاخصة في الترجمة الأدبية.

لطفية الدليمي
كتب سردية تاريخية لفهم «الجنون»

سردية تاريخية لفهم «الجنون»

خلال القرنين التاسع عشر والعشرين في كتابها «تاريخ الجنون والمصحات العقلية»، تنطلق الكاتبة جوليانا كامينجز في رحلة موصولة بشغف طويل لتتبع تاريخ المرض العقلي

منى أبو النصر (القاهرة)
كتب «جوركي وتشيخوف»... مراسلات في الأدب والحياة

«جوركي وتشيخوف»... مراسلات في الأدب والحياة

تكشف الطبعة الجديدة من «مراسلات جوركي وتشيخوف»، عن جانب من جوانب روائع الفكر في الأدب التي يعبر عنها اثنان من العظماء في تاريخه هما مكسيم جوركي وأنطون تشيخوف

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

راباسّا... حياةٌ مكرّسة للترجمة

غريغوري راباسا
غريغوري راباسا
TT

راباسّا... حياةٌ مكرّسة للترجمة

غريغوري راباسا
غريغوري راباسا

قد لا يعرف كثيرون اسمه ولم يسمعوا به من قبلُ؛ لكنّهم - على الأرجح - يمتلكون بعض أعماله في مكتباتهم. إنّه غريغوري راباسا Gregory Rabassa، المثابة الشاخصة في الترجمة الأدبية. ترجم لأكثر من 30 كاتباً ناطقاً بالإسبانية والبرتغالية من أميركا اللاتينية إلى الإنجليزية. فَتَحَتْ ترجمات راباسا أعين القراء الناطقين باللغة الإنجليزية على الموجة الغنية من الأدب الحديث لأميركا اللاتينية المستوحى من التراث الشعبي (Folktale)، التي أُنتِجَتْ خلال فترة «الازدهار The Boom» لمؤلفين مثل خوليو كورتاثار، وماريو فارغاس يوسا، وبالطبع غابرييل غارسيا ماركيز.

«إذا كانت هذه خيانة If This Be Treason» هي مذكرات راباسا القصيرة؛ لكنها برغم قصرها مثيرة للتفكير. فضلاً عن كونها غنية بالمتع اللغوية والحقائق التاريخية والإشارات الأدبية فإنّ المذكّرات تظهر بجلاء وكأنّها عملُ شاعر بارع، تبقيك متيقظاً كمن يلعب الشطرنج ويتوقّع كل حين نقلة غير متوقّعة تقلب مسار اللعبة. تحفل المذكّرات بالعديد من الحكايات الشخصية؛ إلا أن راباسا يحافظ على مسافة بين السطور طوال الوقت كما لو أنّه لا يريد التصريح بعائديتها له. ربما يعود ذلك إلى أنه - كمترجم - اعتاد على المكوث في منطقة الظلّ، مقتفياً أثر المؤلفين الذين يترجم لهم. هذه بالطبع بعضُ مكابدات المترجم أينما كان في العالم. مع ذلك فإن اتباع كلمات المؤلف والعمل في ظلال نصوصه لا يعني التنصل من عبء المسؤولية. الأمرُ على العكس تماماً. إن العبء الأكبر الذي يقع على عاتق المترجم هو التفكير في خيانته الضرورية لأداء عمله، وهذا تماماً ما يفعله راباسا في القسم الأول من مذكراته. هنا يقدّم راباسا مراجعة لفعل المثاقفة المنطوية على خيانة كما وصف المثل الإيطالي القديم الذي صار واحداً من أشهر الأمثلة الكلاسيكية. يتساءل راباسا في مدخل أطروحته الجميلة حول الخيانة الترجمية: هل يخون هو (أي راباسا)، أو أي مترجم سواه، اللغة، أو الثقافة، أو المؤلف، أو - وهذا هو الأشدّ إيلاماً - نفسه عند الترجمة؟ كما يعلم كل من مارس فعل الترجمة الحقيقية، فإن نوعاً من الخيانة (أو الخسارة الثقافية) أمرٌ يكاد يكون حتمياً؛ بل إن راباسا يذهب إلى حد القول إن الترجمة فعلُ تقليد نجتهدُ أن يكون بأفضل ما يمكن لأننا لا نستطيع أن نكرر تماماً في لغة ما نقوله في أخرى. ومع ذلك علينا أن نحاول ولا نكفّ عن المحاولة وتحسين الفعل. يقول راباسا في هذا الشأن: «قد تكون الترجمة مستحيلة؛ ولكن على الأقل يمكن تجربتها».

يستخدم راباسا القسم الأول أيضاً للإطلالة السريعة على وقائع موجزة من خلفيته العائلية والثقافية والمهنية. يبدو الأمر وكأنّ راباسا كان مهيّئاً على نحو جيد منذ البدء ليكرّس حياته للترجمة. كان ابناً لأبوين عاشقين للكلمات، وجَدّين من أربعة بلدان مختلفة، حظي بتعليم لغوي مكثف ومتنوّع وممتاز، وشرع في مسيرة عسكرية قصيرة أوصلته إلى أوروبا وأفريقيا البعيدتين كخبير تشفير (Cryptographer) للمراسلات العسكرية. ثم يُواصل راباسا عرضَ موقفه في قضايا شائكة مثل نظرية الترجمة (وهو ليس من مُعجبيها ولا معجبي منظّريها الأكاديميين الذين يراهم ديناصورات متغطرسة!)، ودور النشر الكبيرة التي يمقتها أيضاً، ووظيفة المترجم التي يراها ببساطة أن يتبع المترجم كلمات المؤلّف مع كلّ حمولتها الثقافية والسياقية. من جانب آخر يُبدي راباسا استخفافاً بتدريس الترجمة، ويكتب في هذا الشأن: «لقد حاولتُ تعليم ما لا يُمكن تعليمه. كما ذكرتُ سابقاً، يُمكنك شرح كيفية الترجمة؛ ولكن كيف يُمكنك أن تُملي على الطالب ما يقوله دون أن تُعبّر عنه أنت بنفسك؟ يُمكنك أن تُملي عليه أي كتاب يقرأه؛ ولكنك لا تستطيع قراءته نيابةً عنه». من المثير معرفةُ أنّ راباسا - وهو ما صرّح به في الكتاب - نادراً ما يقرأ الكتب التي يترجمها قبل البدء بالعمل عليها، مسوّغاً ذلك بالقول: «عندما أترجم كتاباً فأنا - ببساطة - لا أفعل شيئاً سوى قراءته باللغة الإنجليزية. الترجمة قراءة لو شئنا الدقّة». إلى جانب هذا يرى راباسا الترجمة فناً لا حرفة: «يمكنك تعليم بيكاسو كيفية خلط ألوانه؛ لكن لا يمكنك تعليمه كيفية رسم لوحاته».

القسم الثاني هو الجزء الأكثر ثراءً في مذكّرات راباسا. يناقش راباسا فيه ما يربو على ثلاثين مؤلفاً سبق له أن ترجم لهم. يتناولهم بترتيب زمني (كرونولوجي) مقصود لأن كل عمل ترك بصمته على الذي يليه بطريقة ما. يؤكّدُ راباسا في بداية هذا القسم أنّ تجربته الشخصية مع الترجمة أبعدُ ما تكون عن التعقيد أو الإزعاج. هو يتبع النص، يتركه ليقوده إلى حيث يتبيّنُ موطن التميّز والاختلاف فيه وربما حتى الابتكار الذي يميّز كل مؤلف عن سواه. يضيف راباسا في هذا الشأن: «يدعم هذا نظريتي بأنّ الترجمة الجيدة هي في الأساس قراءة جيّدة: إنْ عرفنا كيف نقرأ وفق ما ينبغي للنص فسنتمكّنُ من صياغة ما نقرأه في لغة أخرى بطريقتنا الخاصة. قد أتمادى وأقول نصوغه بكلماتنا الخاصة...».

يتذكّرُ راباسا بعض المؤلفين بمودّة كبيرة بعد أن التقى بالعديد منهم، وأصبح صديقاً حميماً لهم، أو حتى دَرَسَ أعمالهم عندما كان طالباً بعدُ. يُغدق راباسا بالثناء والتشبيهات على بعض هؤلاء الكتّاب: خوان بينيت مثلاً هو بروست إسبانيا، وغابرييل غارسيا ماركيز هو الوريث المباشر لثيربانتس، وكلاريس ليسبكتور كانت تُشبه مارلين ديتريش وتكتب كفيرجينيا وولف؛ لكنّ الحياة لم تحسن معاملتها كما تستحق. يميل راباسا إلى التقشّف والاختصار والمباشرة في كل شيء، وربما هذه بعض خصال المترجم الحاذق.

لن يكون أمراً غريباً أن يُكرّس راباسا صفحاتٍ أكثر لغابرييل غارسيا ماركيز من أي كاتبٍ آخر؛ فقد ترجم له ستاً من رواياته. يُقالُ إنّ غارسيا ماركيز كان يُفضّل ترجمة راباسا الإنجليزية على روايته الأصلية. وكما هو مُعتاد، يُقدّم راباسا هذا الإطراء بأسلوبٍ متواضعٍ مُميّز: «شعوري الغامض هو أن غابو (غابريل غارسيا ماركيز) كانت لديه بالفعل كلماتٌ إنجليزيةٌ مُختبئةٌ خلف الإسبانية، وكل ما كان عليّ فعله هو استخلاصها». برغم هذه الجودة الترجمية والمبيعات الهائلة لماركيز يصرّحُ راباسا في ملاحظة صغيرة أنّه لم يحصل على أيّ عائد مالي من ترجمة رواية «مائة عام من العزلة» التي كانت أوّل عمل ترجمه لماركيز.

تظهر المذكّرات وكأنّها عملُ شاعر بارع. إنها تبقيك متيقظاً كمن يلعب الشطرنج ويتوقّع كل حين نقلة غير متوقّعة

السياسة موضوع لا مفر منه مع أن راباسا لا يُكثِرُ من التطرق إليه. الواقعية السحرية (Magical Realism) ذلك المصطلح الذي يُثير جدلاً واسعاً كانت في ذهن راباسا دعوةً شعبيةً للحرية والعدالة. في موضع آخر، يذكر بإيجاز أن الواقعية السحرية كانت المقاربة الروائية التي دفعت كُتّاب أميركا اللاتينية إلى استكشاف الجوانب المظلمة في تاريخ القارة المنكوبة بالاستغلال والقهر الاجتماعي.

في القسم الثالث «القصير جداً. لا يتجاوز نصف الصفحة إلا بقليل»، يُدين راباسا خيانته المفترضة! هو يُعاني من المعاناة ذاتها التي يُعاني منها العديد من المترجمين: إنّه ببساطة لا يرضى أبداً عن عمله عندما يُراجعه. لا يُمكن للمرء أن يكون واثقاً من عمله أبداً.

انتقد البعض هذا الكتاب لكونه مغالياً في الاختصار؛ لكنني أظن أنً راباسا تقصّد هذا الاختصار. أما نجوم المذكّرات الحقيقية فهي الأعمال نفسها، سواء نصوص المؤلفين الأصلية الإسبانية أو البرتغالية أو ترجمات راباسا الإنجليزية لها. ومع أخذ ذلك في الاعتبار أشعر أنّ هذا الكتاب، على الرغم من روعته، يجب أن يأتي مع تحذير. لا يخدعنّك الاختصار أو التقشّف. إذا كنتَ ممّن يرى في الترجمة فعل مثاقفة رفيعة لا يحسنُها سوى العقل المسكون بالشغف والفضول المعرفي فقد لا يكون هذا الكتاب الصغير سهل القراءة أبداً.

«إذا كانت الترجمة خيانة»: مذكّرات غريغوري راباسّا (دار المدى 192 صفحة 2025)