«لا تقل إنني لم أحذرك»... تأملات في كواليس الكتابة والإبداع

«لا تقل إنني لم أحذرك»... تأملات في كواليس الكتابة والإبداع
TT
20

«لا تقل إنني لم أحذرك»... تأملات في كواليس الكتابة والإبداع

«لا تقل إنني لم أحذرك»... تأملات في كواليس الكتابة والإبداع

في مزيج ساحر من تجربته الشخصية في الكتابة، وبصيرته الخاص كأديب موهوب، يأخذنا الصحافي والروائي الأميركي الشهير تشاك بولانيك، مؤلف رواية «نادي القتال»، التي تحولت إلى فيلم شهير بطولة براد بيت، إلى ما وراء كواليس الكتابة، ويشارك القارئ مغامراته المثيرة ويقدم نصائح سخية للأدباء الشبان في كتاب «لا تقل إنني لم أحذرك»، الصادر عن «دار الكرمة» بالقاهرة، ترجمة محمد الدخاخني. يركز المؤلف بشكل خاص على ما يجعل الكتابة قوية وما يجعلنا نصف حكاية ما بأنها مؤثرة. ومن خلال خبرة طويلة تستند إلى أعوام من الدراسة المتأنية والعديد من الكتب الناجحة، يمنح بولانيك كل مهتم بحرفة الكتابة دليلاً واضحاً وملهماً وعملياً وكشفاً مذهلاً لقوة الكتابة الإبداعية وتأثير فن السرد القصصي.

رغم ذلك يقول بولانيك مخاطباً القارئ إنه إذا أتاه وطلب منه أن يعلمه كل ما يستطيع فسيخبره أن صناعة النشر في حالة يُرثى لها، وأن الرواية لم تعد ولو مجرد ومضة في الثقافة، فقد جاء الجيل الجديد متأخراً جداً بعد أن دمرت القرصنة الأرباح وانتقل القراء كافة إلى مشاهدة الأفلام وألعاب الكمبيوتر. ويخاطب المؤلف قارئه قائلاً: «يا ولد عد إلى البيت، فلا أحد يُولد للقيام بهذه الوظيفة؛ سرد القصص. نعم لكن عندما تصبح مؤلفاً فإنك تبحث عن مؤلفين آخرين كموجهين لك وتستفيد من تجربتهم بالطريقة التي يبحث بها مصاصو الدماء عن ضحاياهم، مع إيمان عميق بأنه لكي يدوم أي شيء يجب أن يكون مصنوعاً من الغرانيت أو الكلمات».

ويشير بولانيك إلى أن هذا الكتاب يعد بطريقة ما دفتر قصاصات من حياته الكتابية ومطاردته لمشاهير الأدباء ومصاحبتهم طالباً النصيحة، من التبضع في سوق الخردة في برشلونة مع ديفيد سيدرايس إلى تناول المشروبات في حانة مع نورا إيفرون قبل أشهر فقط من وفاتها، إلى سنوات المراسلة المتقطعة التي مر بها مع توم جونز وأيراليفين. وإذا عاد مؤلف شاب في يوم آخر وطلب منه أن يعلمه أسرار الإبداع، فسيخبره أن كونه مؤلفاً ينطوي على ما هو أكثر من الموهبة والمهارة، لأنه ببساطة عرف مؤلفين رائعين لم ينتهوا من أي مشروع وأدباء أطلقوا أفكاراً لا تُصدق ثم لم ينفذوها بالكامل قط، ورأى كُتاباً باعوا كتاباً واحداً وأصيبوا بخيبة أمل شديدة بسبب العملية إلى درجة أنهم لم يكتبوا كتاباً آخر.

ويقتبس بولانيك بتصرف عن الكاتبة جوي ويليامز قولها إن «الكُتاب يجب أن يكونوا أذكياء بما يكفي لإيجاد فكرة رائعة، لكنهم يجب أن يكونوا مملين بما يكفي لدراستها وتنقيحها وتحريرها مع تسويق المخطوطة ومراجعتها ومراجعتها مرة أخرى وإعادة مراجعتها ومراجعة النسخة المحررة وتدقيق التنضيد الأولي وإجراء مقابلات وكتابة مقالات للترويج للعمل، وأخيراً الذهاب إلى عدد من المدن وتوقيع النسخ لآلاف أو عشرات الآلاف من الأشخاص».

وينصح المؤلف الأديب الشاب بأن يفكر في القصة على أنها تدفق من المعلومات، في أحسن الأحوال، سلسلة من الإيقاعات متغيرة باستمرار، ثم يفكر في نفسه باعتبار أنه ليس الكاتب بل منسق الأغاني أو «الدي جي» الذي يقوم بخلط وتجهيز وعرض المقطوعات الغنائية. وكلما زاد عدد المقطوعات الموسيقية التي يتعين على الأديب المبتدئ أخذ عينات منها، كلما زاد عدد الأسطوانات التي يتعين عليه تدويرها وزادت احتمالية إبقاء الجمهور يرقص. هنا سيكون لديه المزيد من الحيل للتحكم في الحالة المزاجية له وللجمهور الراقص. لتهدئتها تماماً ثم العلو بها بقوة، لكن عليه الاستمرار دوماً في التغيير والتنويع والتطوير.


مقالات ذات صلة

يوسف بكار يعاين بوادر التجديد في الشعر المعاصر

ثقافة وفنون يوسف بكار يعاين بوادر التجديد في الشعر المعاصر

يوسف بكار يعاين بوادر التجديد في الشعر المعاصر

يكشف كتاب «بوادر التجديد في شعرنا المعاصر»، للدكتور يوسف بكار، عن جوانب تجديدية في المضمون الشعري وتشكيلاته الفنية، متناولاً قصيدتين لخليل مطران وإبراهيم طوقان

«الشرق الأوسط» (عمّان)
صحتك التعاطف مع الذات والوعي بما يحتاج إليه جسمكم هما المفتاح لنوم أفضل (متداولة)

8 نصائح بسيطة لنوم أفضل

هل تواجهون صعوبة في النوم؟ إليكم 8 نصائح رئيسية عملية لمساعدتكم على الاسترخاء والاستغراق في النوم.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق تمت استعارة الكتاب في مارس (آذار) 1926 من مكتبة بمقاطعة أوشن في نيوجيرسي (أرشيفية - رويترز)

امرأة تعيد إلى المكتبة كتاباً استعاره جدُّها قبل 99 عاماً

عندما انتقلت ماري كوبر من منزلها إلى منزل آخر، أحضرت صناديق تحتوي على متعلقات والدتها الراحلة إلى منزلها الجديد، حيث اكتشفت قطعة أثرية متمثلة في كتاب.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
ثقافة وفنون كتاب مصري يحتفي بـ«فارس الثقافتين»

كتاب مصري يحتفي بـ«فارس الثقافتين»

يُعدّ الدكتور أحمد مستجير أحد أبرز الشخصيات في الثقافة العربية خلال القرن العشرين، التي جمعت بين الأدب والعلم في تجربة مدهشة اتسمت بالإنجاز عبر مؤلفات لافتة.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون ثلاثة كتب لباسم المرعبي

ثلاثة كتب لباسم المرعبي

للشاعر العراقي باسم المرعبي صدرت ثلاثة كتب دفعة واحدة، عن دار «جبرا»، الأردن.

«الشرق الأوسط» (لندن)

«مشروع 25» وفيلسوف وراء الترمبيّة

روبرت نوزيك
روبرت نوزيك
TT
20

«مشروع 25» وفيلسوف وراء الترمبيّة

روبرت نوزيك
روبرت نوزيك

لم تعد تصريحات الرئيس الأميركيّ دونالد ترمب ومواقفه تثير القلق الشديد عند نصف مواطنيه أو الحماس الصاخب عند نصفهم الآخر فحسب، بل وتحولت إلى ما يشبه عرضاً يومياً مسرحه العالم برمته.

ولعل تسطّح التغطية الإعلاميّة وطبيعتها الضحلة والقصيرة المدى يفرض على المتابع الانتقال من تصريح للرئيس ترمب هنا أو إجراء باسمه هناك دون تروٍّ للبحث في دوافع محتملة وراء تصريحاته أو خطوط عامّة قد تنتظم تحتها توجهاته السياسيّة، والتي يمكن أن تكوّن بمجموعها نوعاً من نظام مستقر معرفيّاً يساعد على تفسير المواقف السابقة للرئيس وإدارته، وربما أيضاً التنبؤ بنسق محتمل لما قد يبدر عنهما تالياً.

أحاول في هذا المقال القبض على ثلاث مسائل قد يكون كل منها معلوماً في مجاله وفضائه، لكنها تكتسب، حين تجتمع معاً، قدرة مقنعة على وصف النظام الترمبي - إذا صح التعبير -، وتفسير نجاحه في الوصول إلى السلطة، والتحقق من منطلقات الثقافة السياسيّة التي تحكم الحركة لـ«استعادة أميركا العظيمة»، وتتخذ من شخص الرئيس ترمب محور تركيزها.

غلاف مشروع (2025: تكليف بالقيادة، الوعد المحافظ)
غلاف مشروع (2025: تكليف بالقيادة، الوعد المحافظ)

إن أولى تلك المسائل هي الفهم الواقعي لحقيقة أن جوهر السياسة – بغض النظر عن كل الشعارات المؤدلجة يميناً أو يساراً – هو في الصراع على السلطة، وأن كل تباينات في الإجراءات والمبادرات السياسيّة في الزّمان والمكان، لا تخرج في محصلتها عن كونها تصبّ إما في الجهود للحفاظ على هيكل وديناميكيات السلطة، أو تغييرها. ولذلك؛ فإن الرئيس ترمب ليس سوى الواجهة العلنيّة لتيار سياسي يميني متجذر في الثقافة السياسية الأميركيّة يسعى إلى تغيير هيكل وديناميكيات السلطة بهدف استعادة نموذج مجتمع يوتوبي نقيّ أخلاقيّاً (وربما عرقيّاً وطائفيّاً أيضاً) يرى أنصاره أنّه قد حان وقته لإنقاذ البلاد من التهتك الذي ما لبثت تغرق فيه منذ بعض الوقت، وأصبح يهدد بانحلالها.

وهذا يأخذنا إلى المسألة الثانية، وهي أن ثمة فلسفة مدونة ومعلنة لهذا التيار من خلال جدول أعمال منشور منذ عام 2023 (مشروع 2025: تكليف بالقيادة، الوعد المحافظ) الذي يجمل خطة عمل متكاملة تستهدف تركيز السلطات الفيدرالية في الولايات المتحدة بأيدي فئة قليلة من النافذين.

روبرت نوزيك وغلاف كتابه" الفوضى والدولة واليوتوبيا"، 1974
روبرت نوزيك وغلاف كتابه" الفوضى والدولة واليوتوبيا"، 1974

نشر هذا المشروع المستوحى من خطط نثرت بذورها الأولى في عقد السبعينات من القرن الماضي من قِبل مؤسسة التراث الليبرتارية التي تعبّر عن تيار يميني محافظ لا يعتذر عن قناعته بأن تحقيق «أميركا العظيمة» – بصفتها يوتوبيا عصر ذهبي – يمر بالضرورة عبر الإطاحة وبلا تردد بجميع الظروف الاجتماعية القائمة من خلال تسليم السلطة إلى نخبة من الأفراد البارزين (أمثال دونالد ترمب وإيلون ماسك وبيتر ثايل، وغيرهم) تقود عملية تفكيك للدولة القائمة واستبدالها بدولة رشيقة لديها الحد الأدنى من الصلاحيات لإنفاذ القانون، وتختص أساساً بحماية حقوق الأفراد، والملكيّة الخاصة للأثرياء.

وتستند هذه الخطة إلى تفسير مثير للجدل للنظرية التنفيذية الموحدة التي ترى أن السلطة التنفيذيّة برمتها تخضع بأكملها لسيطرة الرئيس؛ ما سيمكن ترمب من تفكيك البيروقراطية الحكومية التي يرى مناصرو الليبرتاريين أنها ذات هوى ليبرالي (أقرب إلى الحزب الديمقراطي)، في حين يحذر منتقدوها مما اعتبروه مؤامرة أصولية (قومية مسيحية) ستقود البلاد إلى الاستبداد، وتقوّض سيادة القانون والفصل بين السلطات، والفصل بين الكنيسة والدولة، والحريات المدنيّة.

ووفق الخطة، فإن الرئيس بعد تفكيك البيروقراطية سيتسنى له تنفيذ أجندة «مشروع 2025» التي تتضمن فيما تتضمنه سياسات لخفض الضرائب على الشركات وأرباح رؤوس الأموال، وخفض الرعاية الطبية العامّة، وإزالة التقييدات على استخدام الوقود الأحفوري، وشطب برامج التنوع والإنصاف والشمول، وتشديد القيود على الهجرة، واعتقال المهاجرين غير الشرعيين وترحيلهم، ونشر الجيش لتنفيذ القانون على مستوى الولايات، وفرض اللغة الإنجليزية لغةً رسمية، بالإضافة إلى تبني تعريفات وفق ثقافة اليمين المسيحي بشأن كل ما يتعلق بالجندر والعائلة والإجهاض. وقد وجد تحليل أجرته أسبوعية «تايم» الأميركيّة أن أكثر من ثلثي الأوامر التنفيذية التي أصدرها الرئيس ترمب منذ توليه مهام منصبه في الولاية الثانية تعكس كلياً أو بشكل كبير مقترحات محددة في «مشروع 2025»، كما أن عدداً كبيراً ممن كانوا وراء المشروع التحقوا بحملة ترمب الانتخابيّة، أو استدعوا للخدمة في إدارته.

لقد سمع كثيرون بـ«مشروع 2025»، لكن قلة يعرفون عن الفيلسوف الذي تمثل أعماله مصدر إلهام الحركة الليبرتارية، وهذه المسألة الثالثة التي يمكن أن تعين في فهم نظام ترمب. لقد كان الفيلسوف الأميركي اليهودي من أصول روسيّة روبرت نوزيك (1938 - 2002) مفكراً ثورياً بالمعنى الحقيقي للكلمة، فهو مثل كارل ماركس، لم يكتف بوصف العالم، بل طمح إلى تغييره، وقد أصبح كتابه في الفلسفة السياسية «الفوضى والدّولة واليوتوبيا» – 1974، بمثابة المرجع الفكري الأول للجناح اليميني في الإمبراطورية الأميركيّة الذي يسعى الآن من خلال «مشروع 2025» إلى تطبيق فلسفته حول مفهوم الحريّة وعلاقة الفرد بالدولة على أرض الواقع.

أفكار نوزيك الفلسفية لا بدّ منها لفهم الترمبيّة التي بحكم ارتباطها بمشروع سياسي فلسفي متكامل قد لا تنتهي بولاية ترمب الثانية بل تستمر بعده

لم يخترع نوزيك الآيديولوجيا اليمينية الليبرتارية، لكنّه منحها المرجعية النظريّة، على الرغم من أن فلاسفة السياسة شككوا في الأساس الفكري الذي بنيت عليه نظرياته، واعتبروا حجج صاحبها غير صحيحة، ومنفصلة عن العالم الحقيقي.

منجز نوزيك الفلسفي كان نقداً لمفهوم العدالة عند الفيلسوف الأميركيّ جون رولز الذي جادل بأن المجتمع ينبغي أن يتأسس على التنفيذ العقلاني والعادل للخير بغض النظر عن الانقسامات الهرمية، وأن الخيار المنطقي الوحيد للبشر هو مجتمع يضمن العدالة المتساوية بموجب القانون للجميع. وبينما وافق نوزيك على مبدأ العدالة، فإنه اعترض على منطق المساواة، واعتبر أنّه ليس من واجب الأثرياء الالتزام بمساعدة الآخرين من أجل تحسين المجتمع، ونادى بمبدأ الحريّة الإيجابيّة بمعنى أن من حق الأفراد أن يفعلوا ما يريدون ما داموا قادرين على دفع تعويض عن الضرر الذي قد يلحق بالآخرين، مبرراً بذلك أن يقبل الضعفاء بـ«العبوديّة» مقابل تعويض مناسب من الأثرياء.

ويطرح نوزيك نسخة معدلة أكثر صرامة من العقد الاجتماعي لجون لوك، وفي رؤيته أن الدور الوحيد للدولة هو الدفاع عن حقوق الأفراد وممتلكاتهم وأموالهم، وما قد يريدون فعله بتلك الممتلكات والأموال، ويرفض كل أفكار الرعاية الاجتماعية، ويساوي الضرائب بالسرقة، بل ويستهجن الجهود غير الحكومية لتعزيز قدر أكبر من المساواة الاجتماعية.

إن وضع هذه المسائل الثلاث في إطار واحد: فهم جوهر السياسة بصفتها صراعاً على السلطة، وخطط عمل مؤسسة التراث وفق «مشروع 2025»، وأفكار نوزيك الفلسفية يبدو ممراً لا بدّ منه لفهم الترمبيّة، التي يرجح أنّها بحكم ارتباطها بمشروع سياسي فلسفي متكامل لا تنتهي بولاية الرئيس ترمب الثانية، بل ربما ستستمر بعده، ربما من خلال نائبه الحالي جي دي فانس، الذي سيكون جاهزاً لخوض انتخابات الرئاسة خلفاً له بعدما اكتسب خبرة في استعادة يوتوبيا «أميركا العظيمة» يداً بيد مع الرئيس طوال أربع سنوات.