حداثةٌ وما بعد حداثة من بوّابة العمارة

ظلّت طويلاً أقرب لاشتغال مهني مركون في المكاتب الهندسية وعالم المقاولات

خالد السلطاني
خالد السلطاني
TT

حداثةٌ وما بعد حداثة من بوّابة العمارة

خالد السلطاني
خالد السلطاني

لا يمكنُ للمشتغل في تاريخ الثقافة وفلسفات الحداثة وما بعد الحداثة في عالمنا العربي إلّا أن يدقق كثيراً وطويلاً في الحقيقة التالية: كانت العمارة (Architecture)، إلى جانب بعض ألوان الأدب «الرواية بالتخصيص» والفن التشكيلي والمسرح، إطلالتنا المبكّرة على عالم الحداثة وما بعد الحداثة؛ لكنْ برغم هذه الطلائعية الحداثوية ظلّت العمارة أقرب لاشتغال مهني مركون في مثاباته الوظيفية العالية (المكاتب الهندسية وعالم المقاولات)، ولم تتحوّلْ نسقاً ثقافياً فاعلاً. هذا ما تعزّزه حقيقة النقص الفادح في المطبوعات التي تتناول تأثير العمارة في تشكيل السياسات الثقافية. ظلّ المعمار العربي أسير الرؤية الضيقة التي لا ترى في العمارة سوى طريق نحو تحقيق نوع من الحظوة الاجتماعية بفعل الانضمام إلى المجتمع المعماري الكلاسيكي الذي تشيع فيه أخلاقيات «الأرستقراطية المالية» المتوقعة. كانت النتيجة فقراً مزمناً في المنشورات التي تؤكّد على «دور المعمار في حضارة الإنسان»، وهو عنوان كتاب مثير للمعمار العراقي الراحل رفعة الجادرجي.

روبرت فنتوري

كانت العمارة تَرِدُ في مقروءاتنا كمَنْشط إنساني ملحق بالفعاليات البشرية. هذا ما حصل معي - وكثرةٍ من مُجايليّ - طيلة سنوات السبعينات من القرن العشرين. أذكرُ أنني قرأتُ في عدد شهر مارس (آذار) لعام 1978 من مجلة «آفاق عربية» العراقية موضوعاً مثيراً عنوانه «أسرجة الفن المعماري الحديث الثلاثة»، ترجمه المعمار العراقي محمود حمندي. توفّر الموضوع على ميزة استثنائية وهي أنك كنت تقرأ فيه نتاج عقل مهجوس بالوضع البشري وليس بنطاق مهني ضيق فيه، وظهر الكاتب أقرب لمشتغل متمرّس بالأنساق الثقافية امتدّ بصره خارج أنطقة المكاتب المعمارية وسياقات عملها الوظيفية الصارمة. عزمتُ بعد تلك القراءة الكاشفة على أن أتابع قراءاتي في الثقافة المعمارية، وكان بعضُ ما عزّز هذه الاندفاعة لديّ هو أنّ بعض مُنظّري ثقافة الحداثة وما بعد الحداثة في العالم كانوا من أكابر المعماريين العالميين، وأخصُّ منهم تشارلز جينكس (Charles Jencks) الذي يمكنك أن ترى في بعض كتاباته آثاراً من الآباء المؤسسين لما بعد الحداثة الثقافية مثل إيهاب حسن.

تحفة بصرية

حصل معي بداية ثمانينات القرن العشرين أن قرأتُ كتاباً صغيراً بعنوان «حديث في العمارة» نُشِر في العراق ضمن سلسلة الموسوعة الصغيرة. مؤلف الكتاب هو الدكتور خالد السلطاني، الأستاذ في قسم العمارة بجامعة بغداد، والمقيم حالياً في الدنمارك. منذ ذلك الحين حرصتُ على متابعة منشورات السلطاني في مقالاته الغزيرة أو في كتبه العديدة التي جاوزت العشرات. خالد السلطاني، كما أرى، هو أحد الأضلاع في المثلث المعماري العراقي (رفعة الجادرجي، معاذ الآلوسي، خالد السلطاني) الذي عمل على تكريس العمارة اشتغالاً نسقياً ثقافياً مؤثراً في طبيعة المعيش اليومي وحركياته المتطورة سعياً نحو تثويره وتحفيزه للارتقاء الحثيث بالمجتمع في كلّ جوانبه. آخِرُ كتب السلطاني هو الكتاب المعنون «عمارات: لمحةٌ إلى عمارة الحداثة... وأخرى إلى ما بعدها». الكتاب من منشورات أواخر عام 2023.

أربع خصائص مميزة يمكن تنسيبها لهذا الكتاب:

* أولاً، قَصَدَ المؤلف أن يكون الكتاب تحفةً بصريةً يرى فيها القارئ أعاظم المنجزات المعمارية لأسماء كبيرة في عالم العمارة. أراد المؤلف إحداث انعطافة مفصلية عن سياق مؤلفاته السابقة فعمد إلى تحريك الحواس كاملةً بدلاً من الاكتفاء بالجهد الذهني والتفكّر المعقلن. أنت هنا «ترى» الحداثة وما بعد الحداثة في سياق تشكلات صُوَرية معمارية غاية في الجاذبية ولا تكتفي بالقراءة الموغلة في التنظير الفلسفي للأفكار. من المؤكّد أنّ الإخراج الفني البديع ساهم في تعزيز قصد المؤلف.

وثانياً، الكتاب ليس ترتيباً زمنياً خطياً رتيباً (كرونولوجياً) يُشترطُ فيه القراءة السياقية المنتظمة. يكفي القارئ أن يطّلع على قائمة محتويات كلّ فصل ثم ينتقي ما يشاء من عمارة محدّدة أو اسم معمار عالمي أو مدرسة معمارية عالمية. الكتاب في النهاية ليس مقرراً دراسياً ولا كتاباً توثيقياً شاملاً لأفكار عمارة الحداثة وما بعد الحداثة بقدر ما أراده المؤلف خلوة محببة مع بعض منتجات الحداثة وما بعد الحداثة المعمارية. كان المؤلف واضحاً منذ البدء في إشارته إلى أنّ خياراته للشواخص المعمارية في الكتاب إنّما تعكس ذائقته الشخصية وليس من المفيد أن تترتب عليها أي تقييمات على صعيد الجودة التنفيذية أو الأمثلية المعمارية.

وثالثاً، مع أنّ المؤلف لم يشأ بقصدية واضحة تقديم أطروحة تنظيرية مغالية في أكاديميتها؛ كانت المقدمة المختصرة التي كتبها مثابة مميزة حقاً لأنه استطاع في صفحات قليلة ضغطَ خبرة مديدة وتكثيفها وتقديمها لقارئ لم يتمرّس في دروب العمارة ومتاهاتها حتى لو كانت له حصيلة ثقافية عامة معتبرة.

وأخيراً، عهد المؤلف في التفاتة لمّاحة إلى إناطة كتابة تمهيد الكتاب بشاعر وإعلامي عراقي له صيته الجميل في الساحة الثقافية العراقية. وهو (المؤلف) في هذه الالتفاتة يؤكّد على كسر النخبوية المعمارية الضيقة والعمل على انفتاح الفضاء المعماري على أنسقة ثقافية أكثر اتساعاً من حدود القاعات الجامعية أو المكاتب المعمارية المهنية.

هناك نقص فادح في المطبوعات التي تتناول تأثير العمارة في تشكيل السياسات الثقافية

نظرية العمارة

الكتاب بسيط الترتيب ولا تعقيد فيه من جهة المحتويات، وهذه بعضُ فضائله. ثمة مقدمة (أؤكّد أنها عظيمة الفائدة) موجزة، يعقبها فصلان يختص الأول بنماذج من عمارة الحداثة، ويختص الثاني بنماذج من عمارة ما بعد الحداثة، ثم يختتم الكتاب بفصل قصير أوجز فيه المؤلف رؤاه السابقة (تسمى إيجازاً Summing Up). يرد في خاتمة الكتاب قائمة موجزة ومهمة بالمصادر والمراجع، مع ملحق قصير بالإنجليزية.

يؤكّد المؤلف أنّ مفاهيم الحداثة وما بعد الحداثة المعمارية كانت سابقاً تدرّسُ كنُتَفٍ مفاهيمية مبعثرة في منهاج «تاريخ العمارة»؛ لكنّه عمل بجهد حثيث على التأكيد عليها وتضمينها في منهج دراسي منفصل هو «نظرية العمارة» متمايز عن تاريخ العمارة. يكتب المؤلف واصفاً بعض تفاصيل الحداثة المعمارية:

«اعتمدت الحداثة المعمارية على التقدم الصناعي والنجاحات الجديدة التي حدثت فيه، وتبنت الأفكار الطليعية المنادية للتغيير، كما اهتمت بالجانب الاجتماعي للعمارة...» ، ثم يوردُ صفات محددة للحداثة المعمارية: النزعات العقلانية في إيجاد حلول المعضلات المعمارية، رفض الطرز التاريخية للمباني، وإهمال لغة الذاكرة التاريخية المحلية.

شاعت عمارة الحداثة في الفترة الممتدة من أوائل القرن العشرين حتى سبعيناته، ثم بدأت طلائع ما بعد الحداثة المعمارية تقتحمُ حصون الحداثة منذ أواسط ستينات القرن العشرين بفعل تأثير ثلاثة أساطين معماريين. يكتب المؤلف في بعض هذا الشأن:

«معلومٌ أنّ روبرت فنتوري Robert Venturi (1925- 2018)، المعمار الأميركي المعروف، الذي ارتبط اسمه كأحد المنظّرين اللامعين لظاهرة عمارة ما بعد الحداثة، قد ألّف كتاباً ونشره عام 1966 بعنوان (التعقيد والتناقض في العمارة Complexity and Contradiction in Architecture) يتناول مسوّغات التغيير وضرورته في الذائقة الجمالية للعمارة، ويروّجُ لأطروحة تقف بالضد من عمارة الحداثة...». لقي الكتاب التأسيسي لفنتوري رواجاً واسعاً عقب نشره، وتُرجِم إلى 16 لغة عالمية، وقامت المعمارية العراقية سعاد مهدي بترجمته إلى العربية ونشره في بغداد عام 1987، ثم أعقبت هذا الكتاب بكتاب تاريخي مهم عنوانه «عصر أساطين العمارة». نجد في كتاب فنتوري تأكيداً صارماً لفكرة أنّ العمارة نظام نسقي معرفي متكامل مع المعرفة البشرية:

«الفعالية المعمارية ما هي سوى شكل من أشكال المعرفة حالها حال الرياضيات والفيزياء والأدب، ولتوسيع شكل المعرفة هذا ينبغي النظر إلى علاقتها بالأنظمة الأخرى...».

يشيرُ المؤلف في انتباهة شديدة الأهمية إلى جملة من العوامل التي تدفع الارتقاء الحثيث للممارسة المعمارية المعاصرة؛ فيذكر من هذه العوامل: تطور تقنيات المحاكاة الحاسوبية، العلوم الجديدة (علم الكونيات الحديث، علوم التعقيد)، توظيف المعلوماتية والعولمة، الاستفادة من المواد النانوية فائقة الصغر.

عقب الاستفاضة في الحديث عن عمل فنتوري يتناول المؤلف مُنظّراً معمارياً آخر هو تشارلز جينكس (1939 - 2019) وكتابه «عمارة ما بعد الحداثة» المنشور عام 1977. يعجب المرء لقلّة مترجمات أعمال جينكس الكثيرة إلى العربية، وربما من المفيد الإشارة إلى عمله الموسوم «عمارة الكون الوثاب» الذي تُرجِم قبل بضع سنوات.

بيتر آيزينمان (Peter Eisenman)، المولود عام 1933، هو المنظّر الثالث لما بعد الحداثة المعمارية، الذي تناوله المؤلف. تناغمت أفكار هذا المنظّر مع الفلسفة التفكيكية للفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، وهذه المقاربة نراها واضحة في كتبه العديدة.

بعد القراءة المدققة للمقدمة المكثفة للمؤلف يمكن للقارئ الترحّلُ بتجوال بصري حر في عوالم منتقاة من عمارة الحداثة وما بعد الحداثة. للقارئ أن يحلّق كما يشاء ويحطّ أنّى يشاء؛ فالمؤلف يبتغي إمتاعه أولاً وقبل كل شيء من غير ضواغط فكرية أو منهجية ثقيلة.

عالمنا يتفجّر بألوان من المعارف كلّ يوم حتى بات المرء مثقلاً بعبء البحث عن الجديد مع عدم إغفال المعرفة القديمة. وَسْطَ شواغل ومثيرات حسية لا تنتهي قلما يجد القارئ (حتى الشغوف) وسيلة مناسبة لقراءةٍ مُصممة لإثرائه وتوفير الجهد والزمن له مع عدم الاخلال بالخصيصة الفكرية التي تشتغل في الجبهات العالية للمعرفة. أعتقد أنّ كتاب السلطاني أوفى بمتطلبات هذا الاستحقاق الذي سيقدّمُ خدمة كبرى لكثرة من القرّاء المهجوسين بالمعرفة المعمارية والإنسانية الشاملة.


مقالات ذات صلة

«نحو تفكير كردي جديد»

كتب غلاف كتاب «نحو تفكير كردي جديد»

«نحو تفكير كردي جديد»

صدر حديثاً عن «دار الزمان» كتاب جديد للباحث الكردي السوري حواس محمود بعنوان «نحو تفكير كردي جديد».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
كتب نمو قياسي لـ«الكتاب الصوتي» بفضل «الذكاء الاصطناعي»

نمو قياسي لـ«الكتاب الصوتي» بفضل «الذكاء الاصطناعي»

تتطور المنتجات الصوتية بشكل غير مسبوق، بفضل الذكاء الاصطناعي، الذي بات يوفّر آلياً ساعات من النصوص المسموعة، بكلفة منخفضة.

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون هدى عمران

هدى عمران: أتسلى بمصير شخصياتي عبر لعبة ذكية مع القارئ

تُولي الشاعرة والكاتبة المصرية هدى عمران شغفاً لافتاً بالمغامرة الفنية، والانفتاح على التجريب كلعبة تُعيد بها تشكيل الحكاية، واستكشاف عالمها الشعوري

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون إريش كستنر يطرح سؤال الأخلاق بين الحربين العالميتين

إريش كستنر يطرح سؤال الأخلاق بين الحربين العالميتين

تُعيد ترجمة عربية لرواية «فابيان - قصة رجل أخلاقي» للكاتب والروائي الألماني إريش كستنر (1899 – 1974) تأمل الهُوة السحيقة في ألمانيا خلال الفترة بين الحربين العا

منى أبو النصر
ثقافة وفنون إعادة نشر أول رواية مكتوبة باللغة الكرديّة

إعادة نشر أول رواية مكتوبة باللغة الكرديّة

صدرت حديثاً عن «منشورات رامينا» في لندن، بالتعاون مع «وكالة حرف» في الرياض، طبعة جديدة لرواية «السيّدة خاتي» للكاتب الكرديّ علي عبد الرحمن بترجمة قادر عكيد.

«الشرق الأوسط» (لندن)

الرواية الخليجية... بدأت خجولة في الثلاثينات ونضجت مع الألفية

الرواية الخليجية... بدأت خجولة في الثلاثينات ونضجت مع الألفية
TT

الرواية الخليجية... بدأت خجولة في الثلاثينات ونضجت مع الألفية

الرواية الخليجية... بدأت خجولة في الثلاثينات ونضجت مع الألفية

يتناول الناقد والباحث اليمني د. فارس البيل نشأة وجذور السرد الإبداعي في منطقة الخليج وعلاقة النص بالتطورات الاجتماعية والاقتصادية المتلاحقة عبر كتابه «الرواية الخليجية - قراءة في الأنساق الثقافية» الصادر مؤخراً عن دار «الأكاديميون» بعَمّان.

ويشير المؤلف إلى أن بدايات ظهور النص الروائي الخليجي كانت في السعودية، وتمثل تجربة عبد القدوس الأنصاري في «التوأمان» التي صدرت عام 1930 وواكبت بدء تكون المجتمع وبناء مؤسسات الدولة وبداية مرحلة الاستقرار، ثم صدرت رواية «الانتقام الطبيعي» لمحمد نور جوهرجي عام 1935، وشهد عام 1948 صدور عملين هما «فكرة» لأحمد السباعي ﻭ«ﺍﻟﺒﻌث» لمحمد علي المغربي.

ويرى المؤلف أن روايات هذه المرحلة، كما في بدايات أي مرحلة إبداعية؛ تفتقر إلى الجودة الفنية والمعيارية، وانحصرت في ﻗﻀﺎيا ﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ وﺛﻘﺎﻓﻴﺔ محدودة، من حيث استخدامها للسرد بوصفه منبراً للإصلاح، ومن هنا غلب عليها الطابع التعليمي الوعظي، الذي يسعى لتكريس قيم الخير والفضيلة. ويعتبر كثير من النقاد أن رواية «ثمن التضحية» الصادرة عام 1959 لحامد دمنهوري؛ البداية الفنية الحقيقية للرواية السعودية، كما ظهرت الرواية النسوية في بداية الستينات مع سميرة خاشقجي، لتشهد مؤخراً تراكماً إنتاجياً وحضوراً واسعاً واكب الازدهار الاقتصادي، وانتشار التعليم والتثقيف، وازدياد حضور المرأة، ونضالها للتحرر من القيود الاجتماعية وفرض ذاتها، كما أولت الرواية السعودية منذ ثمانينات القرن العشرين عناية واضحة بالخصائص الثقافية.

ويعد الإنتاج الروائي السعودي الأكثر غزارة خليجياً؛ إذ صدر منذ 1930 وحتى 2010 ما يقرب من 500 عمل روائي تتنوع فيها الرؤى من الرواية الإصلاحية التعليمية في البداية، إلى الرواية الفنية الكلاسيكية، والواقعية، والرومانسية، والرواية الرمزية، والرواية الجديدة. وتدرجت الرواية شكلاً؛ من الشكل الروائي الكلاسيكي منذ 1959 إلى الشكل الروائي الجديد مع التسعينات والألفية الثالثة، كما توزعت الرواية السعودية من الرواية المحافظة في النصوص الروائية الأولى، إلى الرواية المنفتحة، التي تتميز بالصراحة والجرأة.

الرواية الكويتية

وتأتي الكويت تالية للسعودية من حيث الإنتاج الروائي والأسبقية؛ فأول نص روائي هو «آلام صديق» لفرحان راشد الفرحان، الصادر 1948، ثم صدرت رواية «قسوة الأقدار» لصبيحة المشاري، 1960، كما صدرت «مُدرّسة من المرقاب» لعبد الله خلف عام 1962، و«الحرمان» لنورية السداني 1968. وتعتبر هذه روايات الريادة والبواكير التي تمثل الإرهاصات الأولى المبشرة بميلاد جنس أدبي جديد. وشكلت القضايا الاجتماعية الموضوعات الأساسية للروايات الأولى في الكويت، متمثلة بنشوء مجتمع حديث بملامح وعاداتٍ جديدة، وما ترتب على ذلك من تغيرات، إلى جانب نزعة الحنين إلى الماضي، بالإضافة إلى تناول عالم المرأة وهمومها في علاقتها بذاتها وبالجنس الآخر وسلطة المجتمع.

وتعد حقبة الثمانينات بداية انطلاقة الرواية الكويتية التي توسعت مع عقد التسعينات، ليسجل مؤشر الإنتاج تراكماً كبيراً ومتميزاً مع سنوات العقد الأول من الألفية الثالثة. وربما كان صراع الحراك الاجتماعي الأكثر تداولاً هنا، كما أن كثيراً من النصوص انتسبت من حيث أسلوبها ولغتها وشكل البناء الفني إلى المدرسة الواقعية. وإذا ما تتبعنا رصد الإنتاج الكمي للرواية الكويتية نجد أن هناك ما يناهز 130 رواية صدرت منذ 1948 حتى عام 2008.

الرواية العمانية

وتعد رواية «ملائكة الجبل الأخضر» لعبد الله الطائي الصادرة عام 1963 أول رواية في سلطنة عمان، إذ نشأ هذا الفن عمانياً بالتزامن مع نشأة القصة القصيرة، بل إن رائدهما واحد هو عبد الله الطائي. وتحكي هذه الرواية تجربة الشعب العماني في مقاومة التدخل الإنجليزي. وللطائي رواية أخرى بعنوان «الشراع الكبير» تتحدث عن كفاح العمانيين ضد المستعمر البرتغالي في القرن السادس عشر. وتقترب هاتان الروايتان من جنس السيرة الأدبية الذاتية، المغلفة بنكهة روائية، وتفتقران للبعد الفني بمفهومه الحديث. لكن التجارب الفعلية لفن الرواية في عمان بدأت في الظهور عندما أصدر سعود المظفر «رجال وجليد» 1988 التي تناولت الأوضاع في البلاد قبل النهضة 1970، وقضايا التطور الاجتماعي الذي مرَّ به المجتمع بعدها، وأصدر سيف السعدي روايتين في العام نفسه هما «خريف الزمن» و«جراح السنين». وتعددت النصوص لكتاب آخرين بين القصص الطويلة والتأليف السردي القائم على الإطالة في السرد وتعدد الشخصيات، من دون أن تحقق الشروط الفنية لكتابة الرواية. وأصدرت بدرية الشحي رواية بعنوان «الطواف حول الجمر»، لتكون أول رواية نسوية عمانية 1999، وهي «صرخة احتجاج ضد تجاهل المرأة في المجتمع».

ويذكر المؤلف أن الرواية العمانية كانت في بداياتها أشبه بسيرٍ ذاتية؛ تلتزم النهج الكلاسيكي، لكن حدث نوع من التمرد على هذه القوالب وبدأ تيار الوعي يتعمق في نصوصها مع بداية الألفية الجديدة. كما أنها رصدت حركة نمو المجتمع وتحوله من طابع تقليدي إلى مجتمع متطور ومنفتح على أشكال الثقافات ومظاهر التطور والمدنية، وانعكست فيها معالم التغير الذي أصاب المكان والإنسان العماني، علاوة على تسجيلها حركة التحول الاقتصادي.

الرواية البحرينية

وتعود بواكير الكتابة الروائية في مملكة البحرين لمنتصف الستينات، فأول نص روائي هو «ذكريات على الرمال» الصادر 1966 للكاتب فؤاد عبيد، وهو أحد رواد القصة القصيرة، والرواية تقوم بسرد عوالم ما قبل النفط، وتظهر شظف العيش بجانب البحر، وتمتلئ بحكايا الحب والطلاق وغيرهما. ثم حدث بعد هذه الرواية انقطاع في المشهد البحريني حتى مرحلة الثمانينات التي فيها بدأ الحراك في مجال الكتابة الروائية من خلال أسماء مثل محمد عبد الملك، الذي بدأ قاصاً أيضاً لكنه أصدر روايته «الجذوة» 1980 التي تعتبر البداية الفعلية للرواية البحرينية. وفي الفترة نفسها، برز عبد الله خليفة الذي صدرت له أعمال كثيرة، وفوزية رشيد وأحمد المؤذن وأمين صالح وغيرهم. وركزت الرواية البحرينية على معاناة الإنسان البحريني قبل مراحل النهوض ولم تغفل قضايا المرأة في المجتمع.

يعد الإنتاج الروائي السعودي الأكثر غزارة خليجياً إذ صدر منذ 1930 وحتى 2010 ما يقرب من 500 عمل روائي

الرواية الإماراتية

تعتبر «شاهندة» لراشد عبد الله، الصادرة 1976، أول رواية مطبوعة إماراتياً، وهي في المنظور الفني حكاية بسيطة كإحدى الحكايات الشعبية التي يسردها راوٍ ماهر بقصد الإمتاع والتسلية. وتطورت الرواية الإماراتية ببطء واضح بين السبعينات والثمانينات، وعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود تالية، نجد الشكل الفني للرواية قد قطع شوطاً بعيداً. وإذا كان راشد عبد الله اعتمد شكلاً سردياً بسيطاً يتسم بالحكائية؛ فإن الكتاب اللاحقين قد سعوا إلى تبني الأشكال الفنية المتطورة، إذ تأثر الكتاب الإماراتيون الجدد والمخضرمون منهم بالأشكال الفنية الجديدة، مجارين بذلك النقلات السريعة الجارية على مستوى التطوير العمراني والمؤسسي في البلد؛ حيث جاءت التجارب الروائية اللاحقة متبنية أنماطاً حداثية.

ويُعد علي أبو الريش، الروائي الأول في الإمارات من حيث تراكم إصداراته وجدية تجربته مثل «الاعتراف» 1982، وهناك أسماء أخرى عديدة مثل ثاني السويدي، ومنصور عبد الرحمن، ومحمد غباش وغيرهم ممن تأثروا بالأشكال الفنية الحديثة للسرد الروائي. وأسهمت المرأة الإماراتية في إثراء العملية الإبداعية إذ تبدو هموم المرأة وانكساراتها هاجساً مباشراً في الرواية الإماراتية. وتعد رواية «شجن بنت القدر الحزين» لحصة الكعبي الصادرة 1992 الأولى من نوعها في هذا السياق. ويبرز حضور البيئة في الرواية الإماراتية بوضوح، لا سيما ثنائية البحر والنفط.

في قطر

وتأخر ظهور الرواية القطرية إذ صدرت «أسطورة الإنسان والبحيرة» لدلال خليفة 1993، وبعدها بنحو شهر تقريباً صدر عملان روائيان لشقيقتها شعاع خليفة، وبالإضافة لهما يضم المشهد الروائي القطري عدداً محدوداً من الروائيين من أبرزهم: أحمد عبد الملك، ومريم آل سعد، وزكية مال الله، وهدى النعيمي.