«منازل العطراني»... سيرة ذاتية بنكهة الرواية الحديثة

مطاردات أمنية مرئية وغير مرئية وبحث عن مكان آمن

«منازل العطراني»... سيرة ذاتية بنكهة الرواية الحديثة
TT

«منازل العطراني»... سيرة ذاتية بنكهة الرواية الحديثة

«منازل العطراني»... سيرة ذاتية بنكهة الرواية الحديثة

رواية «منازل العطراني» للروائي جمال العتابي، الصادرة عام 2023، سيرة ذاتية بنكهة الرواية الحديثة؛ إنها تحاول أن تلملم خيوط حكايةٍ بطلُها «محمد الخلف» الذي هرب من السجن وراح يرسم خطة دقيقة للوصول إلى ملاذ آمن في قريته «العطرانية» في منطقة الفرات الأوسط. ونكتشف أن بطل الرواية كان سجيناً من سجناء الرأي بعد عام 1960، إذ أُحيل بتهمة كيدية ملفقة إلى المحكمة العسكرية التي حكمت عليه بالسجن، وأودع سجن الكوت. وعندما حدث انقلاب الثامن من فبراير (شباط) 1963 الفاشي، نجح السجناء، ومنهم بطل الرواية، بالتعاون مع أبناء المدينة، في كسر أبواب السجن، وإطلاق سراح السجناء الذين اتخذوا طرقاً مختلفة للوصول إلى بيوتهم أو البحث عن ملاذات آمنة.

والرواية بكاملها عبارة عن مونولوغ داخلي طويل، من وجهة نظر بطل الرواية، يتحدث فيه عن حياته الجديدة المجهولة تماماً:

«أين المسار، بعد أن بِتَّ ليلتك في بيت أحد أصحابك المعلمين في الكوت؟ أصبحت طليقاً الآن، قالها «محمد الخلف»، وبحيرة وذهول: ما زلت بملابس السجن»، (ص 5).

وهكذا تتشكل البنية السردية للرواية، بوصفها بنية بحث عن ملاذ آمن، وبنية مطاردة، مرئية وغير مرئية، من أجهزة الأمن الديكتاتورية آنذاك. وتتحول قرية «العطرانية» وهي سكن العائلة والعشيرة في منطقة الفرات الأوسط إلى بنية مكانية مولدة، تحرك الأحداث، وتستحضر الذكريات المغيَّبة، وتقدم مراجعة نقدية ذاتية لتجربة الحركة الوطنية طوال نصف قرن، وتعيد تشكيل صورة البنية السردية بكاملها.

فعندما وصل «محمد الخلف» إلى قرية «العطرانية» أطلق عليه «نوار الناهض»، زوج شقيقته الذي رافقه إلى قرية «العطرانية» في قلعة سكر بالناصرية، لقب «محمد العطراني»، ووفَّر له ملاذاً آمناً:

«ها هو مخبؤك، بعيدٌ عن أعين الرقباء، تستعيد فيه ملامح الماضي»، (ص 29).

وكان هذا المخبأ حقاً فرصة مناسبة لـ«محمد الخلف»، لمراجعة صفحات حياتية بعين نقدية فاحصة ونقد ذاتي سياسي وشخصي للسنوات الماضية. والرواية، من جانب آخر، تفضح مظاهر العنف والاستبداد التي تمارسها الأنظمة الديكتاتورية، وبشكل خاص نظام البعث وأجهزة أمنه ومخابراته، كما تنطوي الرواية على مراجعة لتاريخ العراق السياسي طيلة نصف قرن، وتحديداً منذ ثورة الرابع عشر من يوليو (تموز) عام 1958 حتى الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003. كما تكشف الرواية عن استيعاب دقيق لطبيعة الحياة اليومية وتفاصيلها في الأرياف والأهوار. ويمكن القول إن معظم شخصيات الرواية الثانوية هي من شريحة الفلاحين الكادحين، باستثناء نماذج تنتمي إلى شريحة المثقفين والمتعلمين في مقدمتهم بطل الرواية «محمد الخلف»، وولده «خالد»، فضلاً عن «نوار»، زوج شقيقته الكبرى الذي رافقه إلى ملاذه الأخير. وتُختتم الرواية بقرار الحكومة بإخلاء السجون والعفو عن المحكومين والسجناء والهاربين وإطلاق سراحهم، وذلك الإجراء كان إجراء استباقياً لاحتمال احتلال البلاد وغزوها بعد أن راحت الحشود العسكرية الأجنبية تقف على الحدود لاحتلال البلاد خصوصاً بعد احتلال النظام الصدامي لدولة الكويت الشقيقة:

«الغاية واضحة، النظام أقدم على الإجراء قبل أن يتداعى وينهار، أمام حشود العساكر التي تنتظر في الحدود لاحتلال البلاد وغزوها»، (ص 252).

وتكشف الرواية، من الناحية السردية، عن نزعة ميتاسردية واضحة، تتمثل في رغبة بطل الرواية «محمد الخلف» في كتابة مذكراته، ومنها الأوراق السبع التي كتبها والمؤرَّخة في: «22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1963 – العطرانية»، (ص 120). فضلاً عن وجود إشارات إلى أنه ترك فصولاً من مذكراته عن سيرته الشخصية بعنوان «مذكرات عطراني»، (ص 120). وهناك من بين مذكراته فصل أفرد له عنواناً باسم «سردياته» يتحدث فيه عن حياته عندما كان معلماً في الأربعينات، بعد أن نُقل إليها من «الدواية» عام 1951، وفيها وصفٌ شامل لحياة الناس والقرية والمدرسة، وبشكل خاص لمعلميها وطلابها، (ص 123).

وكانت الأم، زوجة «محمد الخلف»، رمزاً للمرأة العراقية المكافحة والصابرة التي تحملت كل المآسي والخسارات التي مرت بالأسرة والمجتمع:

«امرأة عاشت عمراً كاملاً من الأحزان والمرارة، مع ذلك ظلت شامخة كنخلة راسخة في الأرض»، (ص 250).

ونجد مظاهر واضحة للكوميديا السوداء في كثير من صفحات الرواية، وهي تسخر من أنظمة الاستبداد والديكتاتورية، وتكسر جدار الخوف الذي يمنع المواطن من مقاومتها، وربما تتجلى هذه الظاهرة في السخرية من استثمار لافتات النظام الديكتاتوري التي تحمل شعارات الحزب الحاكم (الحرية والاشتراكية) لعمل ملابس داخلية للأطفال، وكما قال أحد الأشخاص ساخراً: «تسترون مؤخراتكم بعبارات التحدي والنصر القادم!»، (ص 248). وكما قال «محمد الخلف» لأحد أشخاص الرواية:

«كان علينا أن نشملك بهذه (المكرمة) بالعيد، ربما وجدت عند خصيتيك شعارات (الحرية والاشتراكية). الأحفاد كذلك، نالوا حصتهم من (المكارم)، تلك ألبستهم الداخلية زاهية بشعارات تمجّد الأمة، خصوصاً إذا كان القماش ملوناً أصلاً»، (ص 248).

ومن الضروري الإشارة إلى وجود تنوع في أنماط السرد. على الرغم من هيمنة بنية المونولوغ الداخلي، التي تستبطن لا وعي بطل الرواية «محمد الخلف». فهناك فصول ومقاطع تكشف عن بنية السرد كلي العلم، وأخرى تعتمد على بنية المشهد الروائي، كما تشغل الحوارات الخارجية موقعاً خاصاً في البنية السردية، ولا يمكن أن نتجاهل الطبيعة البوليفونية متعددة الأصوات في السرد والتي تمنح الفرصة لعدد من الشخصيات الروائية لتقديم منظوراتهم ووجهات نظرهم السردية.

ففي الفصل السابع والعشرين يعتمد السرد إلى درجة كبيرة على بناء المشهد:

«عندما ينام الجميع، يبقى محمد مستيقظاً تحت الضوء الشاحب، المنسكب من السقف»، (ص 142).

كما نجد مظاهر للسرد كلي العلم، وهو سرد خارجي تقريري:

«كان محمد الخلف قد رسم له مسالك الطريق من ساحة الأمين إلى الكاظمية ثم إلى مدينة الحرية في الشارع المقصود في أول مظلة»، (ص 36).

ويتكرر توظيف بنية المونولوغ الداخلي في حوارات عدد من الشخصيات الروائية، منها منولوغات «نوار»:

«أذهب إلى الفراش كي أستريح، أصبح النوم صعباً، كم أيقظتني الكوابيس!»، (ص 32).

أو كما نجد الابن خالد في هذا المونولوغ عقب زيارته لوالده في السجن:

«كنت أوجه كلامي لأبي، ولا أعرف بالضبط لماذا انصرفت إلى رصد حالات الانفعال في وجوه السجناء ووجوه عوائلهم»، (ص 9).

الرواية لم تسقط في التسجيلية والوثائقية وبقيت أمينة على شروط السرد والتخييل

ونلاحظ أن عنوان الرواية «منازل العطراني» بوصفه عتبة نصية أولى بتعبير الناقد الفرنسي جيرار جنيت، ينطوي على دالّين سيميائيين: الأول دالٌّ مكاني هو «منازل» وهو الملاذ الذي اتجه إليه بطل الرواية «محمد الخلف» في هروبه والذي يشير إلى قرية «العطرانية» في الفرات الأوسط. أما الدال الثاني (العطراني) فيشير إلى شخصية بطل الرواية «محمد الخلف». وبهذا فالرواية تتحول جزئياً إلى رواية عن المكان، بوصفه مولداً للسرد، ورواية شخصية مركزية من جهة أخرى.

لكن الرواية في مجملها تظل رواية شخصية (Personality Novel) لأنها تتمحور، كما أشرنا سابقاً، حول سيرة بطلها ومعاناته داخل السجن وخارجه، حيث تتشكل الشخصية وبناؤها عبر أكثر من مستوى من مستويات السرد. فهناك سرد «بيوغرافي» يقدمه البطل نفسه من سلسلة مونولوغاته، التي تشكل القسم الأعظم من البنية السردية، كما تسهم تعليقات وأحكام أفراد أسرة البطل وأصدقائه في إضاءة جوانب مختلفة من شخصيته. وبهذا، فالشخصية الروائية تتحول إلى بؤرة مركزية تتوجه إليها جميع أنماط السرد، لتعلن في النهاية عن تكامل شخصية بطل الرواية «محمد الخلف»، كما رسمها الروائي.

وكما أشرنا سابقاً، فالرواية لم تسقط في التسجيلية والوثائقية، وبقيت أمينة على شروط السرد والتخييل، من خلال خلق شخصية روائية افتراضية، وورقية إلى حدٍّ كبير، بتعبير رولان بارت، لكنها لم تقطع جذورها بالأرض والحياة والواقع.


مقالات ذات صلة

الفتى حامل الطير وعنقود العنب

ثقافة وفنون شاهد قبر من البحرين، يقابله شاهدان من تدمر

الفتى حامل الطير وعنقود العنب

يحتفظ متحف البحرين الوطني في المنامة بمجموعة كبيرة من شواهد القبور الأثرية المزينة بنقوش تصويرية آدمية، منها شاهد مميّز يمثّل فتى يحمل عصفوراً وعنقوداً من العنب

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون غلاف الكتاب

الرواية الفلسطينية... ممارسات الاحتلال وآليات المقاومة

«أسئلة الرواية الفلسطينية» هو الكتاب الحادي عشر في النقد الروائي للشاعر والناقد سلمان زين الدين، وقد صدر مؤخّراً عن «مركز ليفانت للدراسات والنشر» في الإسكندرية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون ريما بالي

الكاتبة السورية ريما بالي: أُواجه الحرب بالخيال وقصص الحب

تهتم الكاتبة الروائية السورية ريما بالي بسردية بلادها ما بعد الحرب، وتوليها عناية خاصة من خلال أعمالها التي تتحدث فيها عادة عن مسقط رأسها «حلب» في سياقات مختلفة

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون "نصب الحرية" لجواد سليم

كلام الشموع

لأم كلثوم أغنية من تأليف أحمد رامي وتلحين محمد القصبجي عنوانها «سكت والدمع تكلّم على هواه»، تعود إلى ثلاثينات القرن الماضي

حيدر المحسن
كتب إميلي هنري

إيميلي هنري... كتب تحقق أعلى مبيعات من دون ترويج ولا «تيك توك»

لم يسبق لإيميلي هنري قط أن أجرت جولة للترويج لأحد كتبها أو قرأت مقاطع من كتبها داخل إحدى المكتبات بهدف الترويج.

إليزابيث إيغان

الانفعال بين علم النفس والأدب

توماس ديكسون
توماس ديكسون
TT

الانفعال بين علم النفس والأدب

توماس ديكسون
توماس ديكسون

كتاب صغير عن موضوع كبير. ففي نحو 150 صفحة من القطع الصغير، تحت عنوان «تاريخ الانفعالات: مدخل بالغ الإيجاز» (The History of Emotions: A Very Short Introduction) صدر عن مطبعة جامعة أكسفورد في العام الماضي 2023، يتناول توماس ديكسون (Thomas Dixon) الأستاذ بجامعة «كوين ماري» في لندن، ظاهرة من أهم ظواهر الحياة النفسية والعقلية، هي ظاهرة «الانفعال» (الكلمة مستخدمة هنا بمعناها الواسع، لتغطي المشاعر والعواطف والأهواء) وذلك منذ أيام الإغريق والرومان الأقدمين، مروراً بالعصور الوسطى وعصر النهضة، حتى يومنا هذا.

ما الذي نعنيه بالانفعال؟ ربما كان مما يعين على الإجابة عن هذا السؤال، أن نرجع إلى الأصل اللغوي الاشتقاقي للكلمة. كلمة «انفعال» (emotion) بالإنجليزية، و(emotion) بالفرنسية، مشتقة من الفعل اللاتيني «emovere» بمعنى: «يتحرك، أو يزيح، أو يطرد، أو يزعج». فالانفعال حركة داخلية «e-motion» ترتبط بالهجرة والانتقال من حالة إلى حالة، والاضطراب، وعدم الثبات. إنه حالة عقلية معقدة لا تقبل الاختزال، وتتخذ شكل ردود فعل بدنية إزاء العالم، أو انفجارات تلقائية: تسارع نبضات القلب، أو ارتفاع الصوت، أو احمرار الوجه، أو صعود الزبد إلى الشفتين (يصف الفيلسوف والكاتب المسرحي والسياسي الروماني سنيكا، في رسالته المسماة «عن الغضب» في القرن الأول الميلادي، رجلاً في حالة غضب: وجهه محتقن، شفتاه ترتعشان، يصر على أسنانه، يقف شعره، تطقطق مفاصله، يدق الأرض بقدميه).

إن الانفعال استجابة فردية لموقف، ولكنه أيضاً مشروط اجتماعياً، خاص وعام في آن. فالانفعالات تتأثر بالوسط العائلي، والطبقة الاجتماعية، والدين، والجيران، والقومية.

إن تاريخ الانفعالات أشبه بمحاورة أو محادثة بين الماضي والحاضر. وعلماء النفس يختلفون حول عدد الانفعالات وما تشترك فيه، فهل «الاكتئاب» انفعال أم اضطراب إكلينيكي أم كلا الأمرين؟

بل إن العلماء يختلفون حول انفعال من أهم الانفعالات الإنسانية وأبقاها على الزمن، هو «الحب». إنه عاطفة أو انفعال يسهل التعرف عليه. (يقول المثل الفرنسي: «أمران لا يمكن إخفاؤهما: رائحة العطر والحب»). ولكن بعض العلماء ينكرون أن يكون الحب انفعالاً. فالانفعال -تعريفاً- اهتياج وقتي. ولكن الحب -تعريفاً- حالة دائمة، وليس مجرد شعور عابر.

وإذا كان الحب انفعالاً، فبأي معنى يمكن القول إنه كذلك؟ لقد قيل إنه فن، أو ممارسة اجتماعية، أو نمط من الانتباه المستمر لشخص آخر، أو عادة، أو دافع، أو متلازمة، أو اضطراب، أو طريقة للوجود في العالم، أو علاقة، أو قصة، أو التزام، أو موقف أخلاقي. وسواء كان مثلاً أعلى من وجهة النظر الدينية، أو دافعاً من أقوى الدوافع الإنسانية، فإنه يظل يحتل مكانة مركزية في وجود الفرد والمجتمع والأمة. وهو يرتبط بالإحسان والتعاطف والخيرية وتقمص وضع الآخر. ويقول بول إيكمان إن الحب أشبه بـ«حبكة» اجتماعية معقدة (كحبكة رواية أو مسرحية) تتضمن أكثر من شخص، ورقعة واسعة من المواقف وانقلابات في الأحداث.

وقد كانت الانفعالات دائماً مصدر إلهام للأدباء، ومنبعاً لأعمالهم، ومحركاً للسلوك الإنساني في الروايات والأقاصيص والقصائد والمسرحيات. ألم يكن غضب أخيل لمصرع صديقه باتروكولوس على يد الأمير الطروادي هكتور، هو الشرارة التي أطلقت ملحمة هوميروس «الإلياذة» في القرن الثامن ق. م؟ ألم يكن انفعال الأمير الطروادي باريس بجمال هيلين الإغريقية، زوجة منيلاوس، وفراره بها، هو ما سبَّب حرب طروادة التي دامت عشر سنين، وأهلكت الحرث والنسل؟ ألم يكن حب الشاعر الإيطالي دانتي لبياتريس هو الذي قاده إلى رؤيا الفردوس؟ ألم يكن انفعال الغيرة (تلك الهولة خضراء العينين) في مسرحية شكسبير «عطيل» (1603) هو ما أفقد المغربي النبيل صوابه، وجعله -متأثراً بوشاية الشرير المخادع ياغو- يشك في عفاف زوجته دزدمونة، فيخنقها في فراشها، وهي البريئة التي لم تدنس عرضها بريبة؟ ألم يكن شعور مدام بوفاري بالملل من رتابة الحياة البورجوازية المملة في بلدة إقليمية صغيرة في نورماندي، هو ما دفع ببطلة فلوبير إلى أحضان العشاق والديون والأكاذيب، وصولاً إلى الانتحار؟ ثم، ألم يكن شعور جوزيف ك (بطل كافكا) بالتهديد الصادر عن قوى مجهولة، لا قبل للإنسان بإدراكها أو السيطرة عليها، هو ما أنتج «المحاكمة» و«القلعة»؟

ولكن ما بالنا نذهب بعيداً (وهذه إضافة من عندي): ألم يكن حزن الخنساء على مصرع أخيها صخر، هو ما أسال دموعها دماً في مراثيها؟ ألم يكن سخط المعري على فساد الحياة السياسية والاجتماعية والعقلية في عصره، مبعث انقشاع أوهامه ونقده المرير لانعكاس الأوضاع ورذائل الطبيعة البشرية (لا يعفي المعري نفسه من النقد) في اللزوميات؟ ألم تكن فرحة أبي تمام بفتح عمورية على يدي المعتصم هي ما ولد بائيته «السيف أصدقاء أنباء من الكتب»؟ ألم يكن غضب المتنبي على كافور الإخشيدي (الملقب بـ«الأستاذ»)، حين لم يكافئه على مدائحه بما كان الشاعر ينتظره، علة الصواعق التي رمى بها المتنبي كافوراً؟

وكما كانت الانفعالات سدى الأعمال الأدبية ولحمتها، كانت موضوع تفكير الفلاسفة والمؤرخين وعلماء النفس، وعكست أفكار كل جيل لاهوتياً وعلمانياً.

يدعونا توماس ديكسون إلى إعادة النظر في أفكارنا التقليدية مثل الاعتقاد الشائع بأن الرجل عقلاني والمرأة عاطفية

وقد ذهب فرويد، مؤسس التحليل النفسي، إلى أن الإنسان مليء بطاقات غضب مكبوت، من الأفضل التفريج عنه بطريقة آمنة، وليس اختزانه بحيث ينفجر فيما بعد. ويصف فرويد الاكتئاب بأنه «غضب تحول إلى الداخل».

ومن المراجع التي يرجع إليها توماس ديكسون، في كتابه، كتاب «التعبير عن الانفعالات عند الإنسان والحيوانات» (1872) لتشارلز داروين، وكتاب «اضمحلال العصور الوسطى» (1919) للمؤرخ الهولندي يوهان جوزنغا. ولكني أجد من الغريب أنه لا يشير ولو بكلمة إلى عمل من أهم الأعمال عن موضوع الانفعال، هو كتاب الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر «مخطط نظرية في الانفعالات» (1939) (له ترجمة عربية بقلمَي: الدكتور سامي محمود علي، وعبد السلام القفاش، دار المعارف، القاهرة 1960).

وفيما عدا هذا النقص، فإن كتاب توماس ديكسون حافل باستبصارات قيمة عن الأبعاد المعنوية والطبيعية للشعور، والمقارنة بين الأفكار الغربية والأفكار الشرقية عن المشاعر. إنه يدعونا إلى إعادة النظر في أفكارنا التقليدية، مثل الاعتقاد الشائع بأن الرجل عقلاني والمرأة عاطفية. وكتابه دعوة للقارئ إلى أن يفكر في انفعالاته الخاصة وفي تاريخها. كيف نشأت؟ كيف تطورت؟ وما المسار المنتظر لها في المستقبل؟

«تاريخ الانفعالات: مدخل بالغ الإيجاز»

«The History of Emotions: A Very Short Introduction»

المؤلف: توماس ديكسون

الناشر: مطبعة جامعة أكسفورد، 2023.