أحلام عبثية في واقع كابوسي

الكاتب المصري سعد القرش في روايته «2067»

أحلام عبثية في واقع كابوسي
TT

أحلام عبثية في واقع كابوسي

أحلام عبثية في واقع كابوسي

في روايته «2067»، الصادرة عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» ببيروت، يرتحل الكاتب والروائي المصري سعد القرش صوب المستقبل، متقدماً بعداد الزمن للأمام، لتفرض الأجواء الكابوسية نفسها على المكان الروائي؛ حيث يهيمن على المشهد الافتتاحي «الآليون الذين لا قدرة لأحد عليهم»؛ يُصادفهم الناس في سيرهم العادي صامتين، وهم يأسون على شوارعهم المستباحة.

وعلى الرغم من غلبة هذا الفضاء «الديستوبي» النزعة، فإن أحداث الرواية المُتخيلة ترتكز بشكل جذري على الواقع المعاصر، فالبطل «رشيد» يتحدث عن والده الذي مات متأثراً بفيروس «كورونا» «قبل ثلاثين عاماً»، وعندما تقع عيناه على تاريخ «25 يناير (كانون الثاني)» يغمره طيف ذكرى ثورة مرت قبل «أربعين عاماً»، عندما كان في الرابعة من عمره، ويشير إلى شارع صغير في وسط المدينة، لافتاً إلى أنه «قبل 99 عاماً خرج من هذا الشارع بيان الجيش المصري في يوليو (تموز) 1952»، ليبدو السرد الروائي في إيقاعه وكأنه مراوحة بين استباق واسترجاع، مُحاكياً لبنية الزمن ولعبة الذاكرة.

حروب عبثية

ينتمي البطل «رشيد» إلى هزائم مدينته اليومية، وسط تناقص أعدادها السكانية مع تراجع معدلات الخصوبة، بينما تبدو المفارقة أنه على الرغم من تناقص أعداد البشر، تتمرس المعامل لتحضير وإطلاق كائنات غير مرئية، في امتداد لحالة من الهوس المطلق بفرض الهيمنة الكاملة على بشر المدينة، من جانب قوى آلية تتحكم فيها جهة تُعرف بـ«إدارة الكنترول»، فيُجبر الناس بمجرد إطلاق رنين ما على الاستماع إلى بيان السلطة الذي يُبث عبر أثير صوتي موحّد في الإذاعات والهواتف بمجرد إطلاق هذا الرنين، وتتوقف الاتصالات وشاشات التلفزيون وقاعات السينما عن عرض ما كانت تذيعه حتى ينتهي البيان، وهي أجواء يعيش تحت مظلتها بطل الرواية «رشيد» الذي يعمل في المحاماة، وبالمصادفة يتعرف على «سونهام» فيجمعهما إحباطهما الشخصي في نواة قصة حب، ويفتح تطور علاقتهما مسارات مختلفة لقراءة التاريخ، وفهم المسافة بين الواقع و«الديستوبيا».

يبدو عالم الرقابة في الرواية عبثياً، فيتخذ «الذباب» سمتاً آخر؛ حيث يتم تحضيره في معامل بيولوجية مُثبّتة في رؤوسها كاميرات دقيقة، تنقل الصور والأصوات مباشرة إلى الكنترول، وكذلك بصمات العيون والأصوات، وتبدو ملامح التجسس الجديدة أقرب لحرب شديدة العبثية، فيتم القبض على قط في نهاية الرواية بسبب ابتلاعه ذبابة، فتقتحم قوات ميدانية المكان «لإحضار القط قانص الذبابة قبل أن تهضمها معدته»، وتحديداً قبل أن تهضم الكاميرا الدقيقة المتطورة التي كانت تحملها الذبابة.

أحلام أثرية

يمنح سعد القرش للمكان الروائي صوتاً له خصوصية واضحة، فأغلب أحداث الرواية تقع في ميدان «التحرير» ومنطقة وسط القاهرة التاريخية، وتُحيل حوارات الأبطال لومضات تستدعي أحداثاً ومشاهد من الثورة المصرية عام 2011، ويخلق مقتل والد البطلة خلال تلك الأحداث، رابطاً شخصياً بينها وبين تلك الثورة التي لا تنسى ذكراها، يدفعها بحس «نوستالجي» لتأسيس «متحف لمقتنيات الثورة»، عبر موقع على الإنترنت، يتم بثه من خارج البلد، خشية أن يقع تحت رقابة السلطة الشمولية، فتضم للمتحف الافتراضي صورة لقميص والدها ببقع دمائه المُتجمدة.

في هذا الجو، تؤسس الرواية لعبة من المفارقات المجازية التي تحمل في طياتها تساؤلات حول مآلات ثورة يناير المصرية، ومصير جيلها ومن تلاه من أجيال. بطلته «سونهام» التي «تشعر بأن لديها جذوراً في الماضي» تؤسس مركزاً للتحف ونواة لمركز ثقافي في وسط المدينة، يحمل اسم «أنتيكا» وهو الاسم الذي يُلهمها به «رشيد»، بينما يبدو أن ولعهما المشترك بفكرة «التحف» يحمل رغبة مشتركة منهما في الانتماء لجزيرة معزولة عن عالمهما الشمولي المخيف. فمتجر التحف يجمع داخله شتات ما تبقى من حضارة، ولو افتراضياً، ويلفت نظر رشيد تمثال مُصغَّر لحصان على ظهره فارس، وتمثال مُستنسخ آخر لإيزيس ربَّة الحكمة، ويفصح تمسكه بتلك المُصغرات عن حالة رثاء مُبطنة تجاه رموز تجاوزها الزمن، وتحوّلت إلى مجرد «أنتيكات». يدعم تلك الرؤية شغف «سونهام» بمشروع المتحف الإلكتروني للثورة الذي تجمع فيه شتات ذكرياتها من صور ووثائق، في زمن يغلب عليه «المحو»، فوسائل الإعلام استبدلت باسم ميدان التحرير «رمز الثورة» اسم «ميدان أفندينا»، بعد أن تم محو اسمه من الأرشيف الورقي بدار الكتب والوثائق، وأرشيف المؤسسات الصحافية، فيما يبدو لملمة لشتات أحلام جيل آبائهم الحالمين، وأن هذه الأحلام بدورها أصبحت أحلاماً «أثرية».

تؤسس الرواية لعبة من المفارقات المجازية التي تحمل في طياتها تساؤلات حول مآلات ثورة يناير المصرية ومصير جيلها والأجيال اللاحقة

يواجه أبطال الرواية عالماً يطغى عليه المحو والسلطوية، وأزمة مضاعفة مع الهوية، وسط ارتباك حقيقي في التواصل، خشية الرقابة المفروضة عليهم حتى من «ذباب» المدينة، وكذلك في قدرتهم على التواصل عبر اللغة التي يغلب عليها التشظي تحت وطأة علاقات حب مشوهة، فابن «رشيد» يعاني تأخراً في الكلام، يصفه «رشيد» بأنه «ثمرة الصمت» بسبب زواج فُقد فيه الحب والحوار، فيصبح أمل «رشيد» الكبير «أن تنفك عقدة لسان ابنه»، بينما يظهر لدى شخصيات أخرى في الرواية نزوع نحو التفاصح و«لوثة الحروف المنضبطة» التي في الحقيقة تعكس فراغ أصحابها. أما البطلة «سونهام» فعلاقتها باللغة مرتبكة، فهي تتواصل مع «رشيد» عبر محادثات تمزج بين العربية والإنجليزية، فيسألها «رشيد» ذات مرة عن «اللغة التي تفكر وتحلم وتغضب وتبيع وتشتري بها»، لتبدو أزمة اللغة تصاعدية، تُورَّث وتتنامى كما تُورَّث الهزائم، ويُصبح أبسط الكلام في هذا الزمن «الديستوبي» في حاجة إلى «برمجة ذهنية».

أما الحب، فيبدو في الرواية أيضاً وقد أصابه ما أصاب اللغة، فتستعصي قصة حب «رشيد» و«سونهام» على أن تكتمل، على الرغم مما بدا عليها من بوادر أمل كبيرة، فيما يبدو إسقاطاً آخر لتبعات ثورة لم تكتمل، ولم تؤتِ ثمار أحلامها.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية
TT

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية

اشتهر كارل فون كلاوزفيتز، كبير فلاسفة الحرب في الغرب، بملاحظته أن الحرب امتداد للسياسة، كما أشار إلى نقطة ثانية، وهي أن الحرب تابعة للسياسة، ومن ثم فهي تتشكّل من خلالها، مما يجعل «تأثيرها ملموساً حتى في أصغر التفاصيل العملياتية».

نحن نرى هذا اليوم في الشرق الأوسط، حيث قد تسترشد محاولات إنقاذ الرهائن الفتاكة، والاغتيالات الكبرى، كتلك التي أودت بحياة حسن نصر الله زعيم «حزب الله»، بنقاط سياسية بقدر ما تسترشد بالرغبة في إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن. وعلى الجانب الآخر من المعادلة، يبدو أن أحدث سرب من الصواريخ الباليستية الإيرانية، التي انفجر معظمها من دون ضرر فوق إسرائيل، كان عملاً من أعمال المسرح السياسي الذي يهدف في المقام الأول إلى رفع المعنويات على الجبهة الداخلية.

من المفيد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وآية الله علي خامنئي من إيران، ناهيكم عن الرئيس الأميركي المقبل، أن يقرأوا كتاب جفري فافرو «حرب فيتنام: تاريخ عسكري» (652 صفحة، دار «بيسك بوكس» للنشر).

إنه يُلقي أفضل نظرة عامة على المغامرة الأميركية في جنوب شرقي آسيا، ومن المؤكد أنه سوف يصبح كتاباً معيارياً عن تلك الحرب، وبينما نتابع المعاناة الجارية في الشرق الأوسط، فإن هذا الكتاب يقدّم لنا أيضاً دروساً قوية بشأن المخاطر المترتبة على شن حرب مفتوحة من دون إستراتيجية حقيقية.

تركّز أغلب كتب التاريخ عن حرب فيتنام على الدبلوماسية والسياسة في الصراع، بالعودة إلى العمليات العسكرية للأحداث الرئيسية فقط، مثل هجوم «تيت» ومعركة مدينة «هوي»؛ إذ يتبع واورو، المؤرخ في جامعة نورث تكساس، نهجاً أكثر تنويراً.

ووفقاً لرأي فافرو، كان التدخل الأميركي في فيتنام بمثابة درس كبير في كيفية تجنّب شنّ الحرب، وقد أدى الاعتقاد الطائش في فاعلية القوة النارية المحضة، إلى حملات القصف الأميركية المدمِّرة التي كما يقول واورو: «أدّت إلى إحراق سُبع أراضي جنوب فيتنام» و«خلقت خمسة ملايين لاجئ داخلي»، على أمل دفع قوات «فيت كونغ» الفيتنامية إلى العراء، ورفض الخصم الشيوعي القتال بهذه الطريقة، بل كانوا يشتبكون سريعاً، ثم ينسحبون عندما يردّ الأميركيون بوابل عنيف من نيران المدفعية والغارات الجوية. في الأثناء ذاتها، كلما حاول الرئيس ليندون جونسون - الذي لم يدرس مبادئ كلاوزفيتز - فصل الحرب عن السياسة، بالكذب بشأن تكاليفها ورفض تعبئة الاحتياطي العسكري؛ صارت الحرب أكثر سياسية، وهيمنت على الخطاب الأميركي، ثم عصفت به خارج الرئاسة.

لم يكن أداء أميركا أفضل مع الهجمات المستهدفة، وكما هو الحال مع أجهزة البيجر المتفجرة التي استخدمتها إسرائيل، فإن برنامج «فينكس» من إعداد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لاغتيال أعضاء «فيت كونغ» قد «ركّز على (القبض أو القتل)»، كما كتب واورو، وأدى إلى سقوط ضحايا أبرياء، كما أنه لم يؤدِّ إلى الاقتراب من نهاية الحرب؛ لأن البرنامج بأكمله كان مبنياً على «أرقام ملفقة»، كما يوضح المؤلف، «وليس على الواقع الحقيقي»، وكان البرنامج عبارة عن طريقة أخرى لقتل الناس من دون فهم الحرب.

جعلتني قراءة التاريخ الرائع الذي كتبه فافرو أفكّر في نتيجة لازمة جديدة لنظريات كلاوزفيتز: كلما كانت الاستراتيجية أقل تماسكاً في الحرب، أصبحت أكثر تسييساً، دخلت الولايات المتحدة الحرب لأسباب سياسية ودبلوماسية غامضة (الظهور بمظهر الصرامة أمام خصوم الحرب الباردة ليس نهاية المطاف). بعد عقدين من الزمان كان الغزو القصير والفوضوي لجنوب «لاوس» من قِبل القوات البرّية الفيتنامية الجنوبية والقوة الجوية الأميركية بمثابة «مسرحية سياسية، وليس حرباً»، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية عام 1972، لم تكن هناك نهاية في الأفق، وكان الدافع وراء الهجوم هو رغبة الرئيس ريتشارد نيكسون في جعل الأمر يبدو وكأن فيتنام الجنوبية تتولّى زمام الأمور في القتال، وبدلاً من ذلك، زاد من زعزعة استقرار المنطقة، ولم يفعل شيئاً يُذكر لقطع خطوط إمداد العدو.

لحسن الحظ، خلال الحرب العالمية الثانية استخدمت الولايات المتحدة السياسة لخدمة المجهود الحربي بدلاً من العكس، وإن لم يكن الجميع يرَون الأمر على هذا النحو. في كتاب «أميركا أولاً: روزفلت ضد ليندبيرغ في ظل الحرب» (444 صفحة، دار «دوبلداي للنشر»)، يُصوّر إتش دبليو براندز، نجم الطيران الشهير تشارلز ليندبيرغ، الذي تحدث عن النزعة الانعزالية في البث الإذاعي الوطني، بوصفها أمراً ساذجاً، ولكن صادقاً، في حين يُصوّر الرئيس فرانكلين روزفلت بأنه مخادع بشكل ملحوظ في جهوده لدفع الولايات المتحدة إلى الحرب.

لكن في الواقع، كان فرانكلين روزفلت هدفاً كبيراً لهذه التهمة؛ إذ تعهد الرئيس أثناء حملته الانتخابية للفوز بولاية ثالثة غير مسبوقة، قائلاً: «لن يُرسَل أبناؤكم إلى أي حروب خارجية»، وكان جيمس، نجل روزفلت، يتساءل عن سبب اتخاذ والده هذا الموقف، فقال والده موضحاً: «جيمي، كنت أعلم أننا ذاهبون إلى الحرب، كنت متأكداً من أنه لا يوجد مخرج من ذلك، كان لزاماً أن أثقّف الناس بشأن الحتمية تدريجياً، خطوة بخطوة»، ربما يكون هذا مخادِعاً، لكن هذه السياسة ساعدت الأميركيين على المشاركة في المجهود الحربي، كان كلاوزفيتز ليفخر بذلك.

في الوقت نفسه، عندما يرفض ليندبيرغ الدعوة إلى هزيمة ألمانيا في أواخر يناير (كانون الثاني) 1941، يُعيد إلى الأذهان رفض دونالد ترمب دعم المعركة الأوكرانية ضد العدوان الروسي، ويلاحظ براندز، وهو مؤرخ في جامعة تكساس فرع أوستن، ليونةَ ليندبيرغ إزاء ألمانيا النازية، ولكن - في رسم صورة متعاطفة للرجل - يستبعد عديداً من التفاصيل التي تظهر في كتب أخرى، مثل السيرة الذاتية تأليف «إيه سكوت بيرغ»، الفائزة بجائزة بوليتزر لعام 1998.

لا يذكر براندز، على سبيل المثال، أن ليندبيرغ رفض في مايو (أيار) 1940 الحديث عن مخاطر انتصار النازية، بوصفه «ثرثرة هستيرية»، أو أنه، في العام نفسه، ألّفت زوجة الطيار آن مورو ليندبيرغ كتاب «موجة المستقبل»، وفيه جادلت بأن العهد الجديد ينتمي إلى أنظمة استبدادية، وكان ذلك الرجل يحمل مثل هذه الولاءات المُرِيبة حتى بعد بيرل هاربر، كما قال ليندبيرغ (في تصريحات أغفلها براندز أيضاً): «إن بريطانيا هي السبب الحقيقي وراء كل المتاعب في العالم اليوم».

إن مثل هذه الإغفالات تجعل كتاب براندز يبدو وكأنه مُوجَز متحيّز إلى ليندبيرغ أكثر من كونه كتاباً تاريخياً نزيهاً. كتب براندز يقول: «لقد أصاب ليندبيرغ كثيراً في حملته ضد الحداثة، لكنه أخطأ في أمر واحد كبير- فهو لم يرَ أن الأميركيين كانوا على استعداد للتدخل في الصراعات الخارجية». وأودّ أن أزعم أن ليندبيرغ كان مخطئاً أكثر من ذلك؛ فقد عبث بمعاداة السامية، وهو شيء ينتقص براندز من أهميته، وعلى نحو مفاجئ بالنسبة لطيار شهير، لم يكن يبدو أن لديه الكثير من البصيرة في دور القوة الجوية في الحرب، وحتى في القراءة الأكثر تعاطفاً، لا بد أن كلاوزفيتز كان ليحتدم غيظاً.

الجنرال البروسي العجوز هو موضوع تحليل جديد لاذع، وربما شديد التحريض من ناحية «أزار غات»، المؤرخ الفكري في جامعة تل أبيب. في كتابه «أسطورة كلاوزفيتز: أو ملابس الإمبراطور الجديدة» (228 صفحة، دار «كرونوس للنشر»)، يزعم غات أن كتاب كلاوزفيتز «عن الحرب» مؤثر بصورة رئيسية؛ لأنه مُحير للغاية. ويَخلُص إلى أن «الكثير من سمعة الكتاب تستند إلى سوء فهم دائم لما يعنيه في الواقع».

هناك في الأساس اثنان من كلاوزفيتز؛ الأول ألّف في وقت مبكر من حياته المهنية الكثير من كتب «عن الحرب»، بينما يسعى إلى فهم انتصارات نابليون السريعة والساحقة على بروسيا، والآخر كان يحاول بعد سنوات رسم مسارٍ لاستعادة بروسيا مكانتها في أوروبا، ولكن بدلاً من تأليف كتاب ثانٍ، كما يقول غات، عاد الضابط البروسي ونقّح كتاب «عن الحرب» بطرق تتناقض على نحو جَلِيّ مع بعض الأجزاء الأسبق من نفس الكتاب. بدأ كلاوزفيتز بكتابة أن النصر يعتمد على هزيمة سريعة للعدوّ في معركة كبيرة واحدة. وفي وقت لاحق أدرك أن العديد من الأطراف الفاعلة، سيما الأضعف منها، قد يكون لديها سبب لإطالة أمد القتال. وشرع في التنقيح، لكنه لم يكن لديه الوقت لعلاج هذا التضادّ قبل وفاته عام 1831.

وبينما كنت أقرأ كتاب غات، ظللتُ أفكّر في أنه لم يدرك النقطة الأكثر أهميةً؛ قد تشوب الأعمال الكلاسيكية حالة من النقص إلى حد بعيد؛ إذ تطرح أسئلة أكثر مما تقدّم من إجابات، وهو ما كان بمثابة طريق أكثر أماناً للاستمرار عبر الزمن. في الواقع، كانت واحدة من أشهر ملاحظات كلاوزفيتز تتعلّق بطرح الأسئلة، وهو يقول إنه قبل أن تتصاعد أعمال العنف يجب على القادة المفكرين أن يسألوا أنفسهم: ما نوع هذه الحرب؟ وما الذي تريد أمّتي تحقيقه؟ وهل يمكن أن تحقّق ذلك فعلاً؟

هذه اعتبارات جيدة. إن مواصلة حرب استنزاف لا نهاية لها، سواء في جنوب شرقي آسيا، أو في الشرق الأوسط، من غير المرجّح أن تؤدي إلا إلى المزيد من الفوضى والموت، وعلى نحو مماثل، لو تعامل قادة أميركا بجدّية مع نهاية المسألة قبل غزو فيتنام، ناهيكم عن العراق أو أفغانستان، ربما كانت حروبهم لتسير على نحو أفضل كثيراً، أو ربما لم تكن لتحدث على الإطلاق.

-------------------

خدمة: «نيويورك تايمز».