«مجبر على الاختيار»

تعقيباً على عرض لكتابين حول الإرادة الحرة والجبرية

«مجبر على الاختيار»
TT

«مجبر على الاختيار»

«مجبر على الاختيار»

دخل علم الوراثة والأعصاب أخيراً على خط السجال، الفلسفي والإنساني حتى الثقافي، المتعلق باختيارات الإنسان، محاولاً الرد على تساؤلات الإشكالية القديمة - الجديدة، وهي: هل الإنسان مسيّر أم مخيّر؟

في مراجعة نُشرت في «الشرق الأوسط» في 5 يونيو (حزيران) 2024، لكتابين حديثين، لعالم الوراثة والأعصاب كيفن ج. ميتشل، الأستاذ بجامعة ترينتي في دبلن، وعالم الأعصاب والأحياء الأميركي روبرت سابولسكي، ألقي الضوء على التفاصيل العلمية حول كيفية تشكيل تطور أدمغتنا وتنشئها، وهل هي حاسمة في الإجابة عن سؤال: هل لدينا إرادة حرة.

ففي كتابه «الوكلاء الأحرار: كيف أعطانا التطور الإرادة الحرة»، الصادر عام 2023، عن دار «بريسنتون بريس»، يقول مؤلفه ميتشل إن الإرادة الحرة خاصية غامضة، وهي «وظيفة بيولوجية متطورة تعتمد على الأداء السليم لمجموعة موزعة من الموارد العصبية».

أما روبرت سابولسكي، فإنه يتحدث في كتابه «محدد: علم الحياة من دون إرادة حرة» الصادر عام 2023، عن دار «بنغوين بريس»، فيقول إن الأدلة العلمية على عدم وجود الإرادة الحرة تعتمد على التجارب التي تظهر أن خياراتنا الحرة الواعية يتم تحديدها من دون وعي من قِبل دماغنا قبل ثوانٍ عدة.

أعادتني تلك الأفكار، وإن كانت علمية، إلى أيام الدراسة حينما كنت أتلمس مفاتيح الفلسفة قبل سنوات طويلة؛ إذ تولدت لدي حينها، بعد دراسة «الجبرية» و«القدرية»، قناعة مفادها أن «الإنسان مجبر على الاختيار». لم أعمل على تحويل هذه الفكرة إلى نظرية، بل ذهبت بعيداً إلى فلسفة الدولة والتكنولوجيا.

الجبر والاختيار متلازمان، وليس أمام الإنسان في كل لحظة وموقف وموقع، إلا أن يختار بين خيارين فأكثر وضعا أمامه، جبراً. وهنا ثمة من يسأل: وأين «الحرية»؟ نعم، الحرية في الاختيار والوعي هما أصل الموضوع. دع عنك الأفكار المسبقة، وانظر للحظة في الظروف السابقة لأي اختيار، وعلى سبيل المثال: ورد إلى هاتفك اتصال، فماذا ستفعل؟ ستجد نفسك مجبراً على أن تختار، وبوعي وبحرية تامة، أحد الخيارين: إما أن تتجاهل الاتصال، وإما أن ترد عليه. وكلا الخيارين اختيارٌ وله نتيجة، وهكذا دواليك.

هنا أنت أمام حرية مطلقة في الاختيار، وفي الوقت نفسه مجبرٌ على أن تختار واحداً منهما. وهكذا في الأمور كلها بالنسبة إلى الناس أجمعين، سواء أكان الفرد منهم في أدنى درجات الوعي أم أقصاها. وكذلك هو الأمر بالنسبة إلى كل الأمور، من أبسطها إلى أعظمها. الإنسان مجبر على أن يختار، وهذا ليس طرحاً توفيقياً بين «المسيّر» و«المخير»، بل هو واقع نعيشه كل لحظة... وتبسيط لمسألة معقّدة حتى وإن التحق علم الأعصاب في جدالها.


مقالات ذات صلة

«المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

ثقافة وفنون «المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

«المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

رغم وفاته في سن السادسة والثلاثين، فإن الكاتب المسرحي والمخرج السينمائي والممثل الألماني راينر فيرنر فاسبندر (1945 - 1982) ترك وراءه كنزاً من الإبداع

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق المعرض يشهد استحداث ممر تكريمي للشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن (وزارة الثقافة)

تجلّيات الثقافة والفكر تُزيّن معرض الرياض الدولي للكتاب

المعرض يُعدّ تظاهرة ثقافية وفكرية سنوية بارزة بالمنطقة تجسّد منذ عقود الإرث الثقافي للمملكة وترسّخ ريادتها في صناعة الثقافة وتصدير المعرفة.

عمر البدوي (الرياض)
خاص الحجيلان يكشف حدود الدور الفرنسي في تحرير المسجد الحرام play-circle 01:52

خاص الحجيلان يكشف حدود الدور الفرنسي في تحرير المسجد الحرام

في الحلقة الأخيرة من مذكراته، يوضح رجل الدولة السعودي الشيخ جميل الحجيلان، حقيقة الدور الفرنسي في جهود تحرير الحرم المكي الشريف من مجموعة جهيمان العتيبي.

بندر بن عبد الرحمن بن معمر (الرياض)
يوميات الشرق تبدأ فصول من المعرفة والفكر والثقافة على مدى 10 أيام من عمر المعرض (واس)

رحلة معرفية جديدة تنطلق في معرض الرياض الدولي للكتاب 2024

تنطلق (الخميس)، التظاهرة الثقافية الدولية للكتاب، تحت شعار «الرياض تقرأ»، التي تبدأ معها فصول من المعرفة والفكر والثقافة.

عمر البدوي (الرياض)
كتب دليل من أجل الحكم الرشيد

دليل من أجل الحكم الرشيد

أسئلة مهمة يطرحها هذا الكتاب بشأن السمات والمهارات وطرائق التفكير التي تصنع القائد الناجح، ويقترح عليهم مؤلفه من وحي خبرته الشخصيّة أموراً ينبغي للقادة فعلها - أو تجنُّب القيام بها - للحصول على صيت خالد في التاريخ.

ندى حطيط (لندن)

دليل من أجل الحكم الرشيد

دليل من أجل الحكم الرشيد
TT

دليل من أجل الحكم الرشيد

دليل من أجل الحكم الرشيد

أصدر رئيس الوزراء البريطاني السابق، توني بلير (71 عاماً)، كتاباً جديداً بعنوان «عن القيادة: دروس للقرن الحادي والعشرين» (2024)، يقول فيه إنه يقدم جميع النصائح التي تمنى لو علم بها عندما تولى المنصب التنفيذي الأهم في المملكة المتحدة عام 1997.

ويرى بعض النقاد في الصحف البريطانيّة أن توقيت صدور الكتاب قد يمثّل مدخلاً إلى إعادة التأهيل السياسي للزعيم السابق لحزب العمال مع العودة المظفرة لحزبه إلى 10 داونيينغ ستريت - مقر رئاسة الحكومة البريطانية في لندن - بعد عقد ونصف العقد من انفراد حكومات حزب المحافظين بالسلطة، وتولي كير ستارمر، أحد تلامذته الأمينين على خط الديمقراطيّة الاجتماعية الجديدة، منصب رئيس الوزراء.

وكان بلير، الذي انتُخب لولايتين متتاليتين وبشعبيّة غير مسبوقة على خلفية من ركود سياسي شاب أداء حكومات المحافظين في التسعينات، قد ترك السلطة بسمعة مختلطة؛ إذ اعتبرت جهات - في اليمين - أن الرجل دفع بمصالح بريطانيا إلى الأمام، وحقق «إصلاحات» في مجالات عدّة، وساهم في تثبيت النظام لحظة الارتباك أمام مقتل الليدي ديانا سبنسر، لكن آخرين، لا سيما في اليسار، لعنوه – وما زالوا - بسبب قراره المخالف للتوجهات الشعبيّة بالانضمام إلى الغزو الذي قادته الولايات المتحدة ضد العراق في عام 2003، وانحياز حكومته العماليّة لمصالح القطاع الخاص في التعليم والصحة والنقل العام.

ومهما يكن من أمر الخلاف على تراث الرجل، فإن خبرته الطويلة نسبياً في حكم دولة مفصليّة في النظام العالمي مثل بريطانيا، وعلاقاته الوثيقة بالإدارات الأميركيّة، وشبكة العلاقات الدّولية الواسعة التي أدارها بعد تركه السلطة من خلال مؤسسته الاستشارية، تفرض على كل معني بالسياسة، والحكم الرشيد، والإدارة، أن يصغي لما قد يقوله حول فن غامض وخطير وشديد الأهميّة مثل القيادة.

لعل المقدمة، وهي أقوى ما جاء في الكتاب، تعطي تبريراً شديد الواقعية للفائدة المرجوة من قراءة نصوص من مارسوا أدواراً قيادية بشكل أو آخر، سواء في حكم الدّول، أو في إدارة الشركات والمنظمات؛ فلا أحد - كما يقول بلير - ينجح في مهمته لمجرد كونه قائداً، بل من خلال العمل الدؤوب، والاعتناء بالتنفيذ، وإعمال الفكر عند اتخاذ القرارات، والفضول والرغبة بالمعرفة، ومقاومة الغطرسة عبر توازن دقيق بين الثقة بالنفس والتواضع. وعلى النقيض من معظم المهن في العالم المعاصر، التي تتطلب تخصصاً وتأهيلاً، فمن الجليّ أن القيادة - في فضاء السياسة على الأقل - لا تتطلب مؤهلات رسمية معينة أو خبرة سابقة محددة أو تدريباً محضّراً، ولذلك فإن الاطلاع على تجارب الممارسين من خلال كتبهم ومذكراتهم قد تكون من المصادر القليلة المتوفرة لفهم هذه الظاهرة المعقّدة.

يتناول بلير في «عن القيادة» أسئلة مهمة بشأن السمات والمهارات وطرائق التفكير التي تصنع القائد الناجح، ويقترح عليهم من وحي خبرته الشخصيّة أموراً ينبغي للقادة فعلها - أو تجنب القيام بها - للحصول على صيت خالد في قلب كتاب التاريخ، لا مجرد ذكر عابر في سجل الزائرين! ومن المفارقات، مع ذلك، أن من اكتسبوا خبرة سابقة في موقع قيادي بخاصة في قطاع الشركات التجارية الكبرى سيجدون أجزاء كثيرة من الكتاب تكراراً ضحلاً ربما لبعض الأساسيات التي لا جدال بشأنها؛ فمعظم القادة يدركون أهميّة أن يكون لديهم خطة وأن يلتزموا بها، وأن يديروا الوقت العام والشخصي بفاعلية، وأن يحددوا الأولويات، وأن يفهموا الفرق بين التكتيك والاستراتيجية، وأن يفضلوا السياسات التوجيهية على الخطابيّة، وأن يفاوضوا بكفاءة، ويكونوا مستعدين لاتخاذ قرارات قد لا تحظى بشعبية، ويتابعوا التنفيذ حتى منتهاه. وبالطبع، فإن ما يحتاج إليه القادة هو أن يستمعوا - بشأن هذه الأمور كلها - إلى ما يفيدهم في معالجة تحديات عديدة ستواجههم حتماً لدى شروعهم بالقيام بها، وهو ما لا يقدّم بلير الكثير منه في معظم فصول كتابه. على أن ذلك يتم تعويضه على نحو مُرضٍ في المقاطع المتضمنة لمشورته حول كيفية التعامل مع الأعباء الشخصية للقيادة، وإدارة البيروقراطيّة، ومواجهة ضغوط وسائل التواصل الاجتماعي، وأهميّة السعي إلى تطوير المناطق النائية، وتجنب الغطرسة، ومعرفة الوقت الملائم لمغادرة المسرح.

أما القضية الأكثر إثارة للجدل بشأن رئاسته للوزراء، وهي حرب العراق والبحث العقيم عن أسلحة دمار شامل زعم الأميركيون أن بغداد تمتلكها، فلم يكن لدى بلير الكثير ليقوله في معرض الدروس التي يمكن للقادة استخلاصها من تلك التجربة المكلفة على الصعيد الإنساني، واكتفى بالإشارة إلى أنه سبق وتحدث في هذا الأمر مرات عديدة، بما في ذلك في مذكراته المنشورة - «رحلة» (2010) - وأنّه «لن يمكن إقناع شخص لا يريد أن يقتنع»، لكنّه لم يتوانَ عن تقريع الرئيس الروسيّ، فلاديمير بوتين، في عدة مواضع من الكتاب، لغزوه أوكرانيا، بحجة أنّ ذلك لا يليق بسلوك دولة ديمقراطيّة متحضرة.

نصيحة بلير الوحيدة للقادة هنا أن يعتنوا وهم في موقع القيادة بما سيكون عليه إرثهم بعد تركهم المنصب كي لا يتم تعريفهم لاحقاً من خلال قضيّة واحدة - مثل العراق في حالته - معترفاً بأنّه لم يفعل ما يكفي بهذا الاتجاه في أثناء توليه السلطة، ما ترك مجمل تجربته مشاعاً يحدده آخرون لم يعرفوه شخصياً وعلى الأغلب أنهم لن يلتقوا به في أيّ وقت.

صورة بلير التي يمكن استشفافها من خلال وجهة نظره عن ماهية القيادة تجعله أقرب إلى شخصيّة «أمير ميكافيللي»، إشارة إلى منهجية الفصل الواعي في إدارة شؤون الدّولة بين ما هو أخلاقي وما هو براغماتي كما في كتاب نيكولو ميكافيللي الشهير، فعند بلير ما يقوله القائد في الحملة الانتخابيّة ليس بالضرورة أن يكون خطته في الحكم، وما يجب أن يسعى لتحقيقه لأجل المصلحة العامة قد لا يحظى بالقبول الشعبي من الناخبين، بل يمكن للقائد أن يتعاطف علناً مع المُثل الاشتراكيّة النبيلة، ثم ينفّذ على أرض الواقع كل ما من شأنه أن يخدم مصالح القلة من الخواص.