عبد الواحد المشيخص يروي معارك الجراحين لإنقاذ مرضاهم

يقول إن الجراحة لا تخلو من ساعات فرح وانتصار

عبد الواحد المشيخص يروي معارك الجراحين لإنقاذ مرضاهم
TT

عبد الواحد المشيخص يروي معارك الجراحين لإنقاذ مرضاهم

عبد الواحد المشيخص يروي معارك الجراحين لإنقاذ مرضاهم

«خلال السنوات التطبيقية بالمستشفى؛ كطالب للطب في كلية الجراحين الملكية الآيرلندية بدبلن، لم أكن أحب الجراحين، كنت أعتبرهم مخلوقات متعجرفة، متكبرة ومغرورة، مزهوة بنفسها تعتقد أنها قادمة من الفضاء الخارجي، مزاجهم لا يمكن التنبؤ به، فقلما ارتسمت على شفاههم ابتسامة، وإذا ما ابتسموا ضحكوا ساخرين ومتهكمين...».

بهذه الكلمات يبدأ الجراح السعودي الدكتور عبد الواحد نصر المشيخص، استشاري الجراحة العامة والمناظير الجراحية، سرد تجربته عبر 35 عاماً في كتاب «مذكرات جراح».

يحمل الدكتور المشيخص زمالة كلية الجراحين الملكية البريطانية، وزمالة كلية الجراحين الأميركية، وعمل سابقاً رئيساً للأقسام الجراحية بمستشفى الدمام المركزي، كما عمل أيضاً رئيساً لقسم الجراحة بمستشفى الملك فهد التخصصي بالدمام.

في بداية مشواره الطبي، كان يتوجس من الأطباء الجراحين، يصفهم في كتابه بأنهم على خلاف أطباء الباطنية الذين «قلما تنتابهم نوبات غضب عارم كتلك التي تنتاب الجراحين، غضب الجراح لا يطفئه سوى تقزيم وتحقير من هو أمامهم».

بعد تخرجه عمل سنة الامتياز في أحد مستشفيات غرب أسكوتلندا. وهناك، كما في بقية أرجاء المملكة المتحدة، لا بد لطبيب الامتياز أن يعمل ستة أشهر متتالية في قسم الجراحة العامة، وستة أخرى في قسم الباطنة قبل أن يصبح ممارساً مسجلاً تسجيلاً كاملاً لدى المجلس الطبي البريطاني (British General Medical Council)، وخلال سنة الامتياز أمكنه معايشة معاناة الأطباء الجراحين. يقول: «يبلغ القلق ذروته أثناء إجرائهم العمليات الجراحية المعقدة، وترافقهم الكآبة عند حدوث مضاعفة جراحية بعد العملية لأحد مرضاهم، أدركت عندها أنه لا عجب أن يغلب على سمات الجراحين التجهم والقلق وسرعة الغضب، أدركت أن وراء غطاء هذه الغطرسة الزائفة يكمن رجل خائف قلق يكاد يفقد ثقته بنفسه».

بداية عمله جراحاً، استُدعي المشيخص لمساعدة فريق طبي (في أسكوتلندا) في عملية استئصال سرطان بالقولون، بعد قضاء 48 ساعة من المناوبة المضنية في عطلة نهاية الأسبوع، ولم يكن وقتها قد تناول وجبة الإفطار، شعر بعد مضي نصف ساعة من بدء العملية بضيق في التنفس وتعرق ودوران، قبل أن يسقط أرضاً، صرخ الجراح على إحدى الممرضات لتسعفه وتأخذه خارج الغرفة... يقول المشيخص: «منذ ذلك الوقت وبناءً على هذه الحادثة الفريدة، يعتقد الجراح (كان) بأني غير قادر جسدياً أن أكون جراحاً، رغم اعتقاده بأنني من أفضل أطباء الامتياز الذين مروا عليه للتدرب في وحدته...»، وختم نصيحته قائلاً: «إذا ما صممت أن تتخصص في الجراحة، فاختر تخصصاً لا يحتاج إلى جهد بدني مثل جراحة الأنف والأذن والحنجرة!».

طريق التحدي

لكنه لم يستمع إلى نصيحة طبيبه المشرف، فبعد انتهائه من سنة الامتياز، عام 1986، كطبيب مقيم في قسم العظام لمدة ستة أشهر، كجزء من متطلبات التحضير لامتحان زمالة كلية الجراحين الملكية، في مستشفى رودرهام بالقرب من مدينة (Rotherham General Hospital) في شِفيلد (Sheffield) بمقاطعة جنوب يوركشاير. وضعه استشاري جراحة العظام وكان اسمه روبسون (Robson) ويصفه بأنه كان «طيباً وهادئاً وحنوناً على غير ما تعودت عليه من الجراحين»، على قائمة العمليات، وأخبره: «غداً سنكون نحن الاثنين فقط، فمساعدي الأول في إجازة»، كانت العملية عبارة عن تبديل مفصل الورك، وهي من عمليات العظام الصعبة والتي قد تستغرق ساعات عديدة، وكان على الطبيب الشاب أن يكون المساعد الأول في عملية صعبة يجريها لأول مرة في حياته العملية كجراح بعد سنة الامتياز، بدأت الجراحة في الساعة الثامنة صباحاً واستمرت إلى الخامسة مساءً، قاوم تعبه وقلقه وأدى عملاً مميزاً نال عليه إشادة الجراح روبسون... وخلال هذه الفترة أكمل متطلبات تدريب الزمالة كلية الجراحين الملكية، يقول المشيخص: «أذكر ذلك اليوم من أيام ديسمبر (كانون الأول) 1989 جيداً، عندما اجتزت امتحان الزمالة بنجاح، وحالاً صار كل من في المستشفى يدعونني (مستر) بدلاً من (دكتور)، شعور غريب وغامر بالفخر والعظمة»، وهذا تقليد بريطاني غريب ويمثل لغزاً بالنسبة للأطباء القادمين من البلدان الأخرى، حيث يتغير مسمى الجراح من «دكتور» إلى «سيد» بعد اجتياز امتحان زمالة (Fellowship) في إحدى كليات الجراحين الملكية (لندن، إدنبرة، جلاسجو، أو دبلن)، وقد جرت هذه العادة من باب الاحترام والتقدير لمهنة الجراحة».

بين الأمل والألم

في كتابه «مذكرات جراح» يسرد المشيخص قصصاً لمرضى أشرف على علاجهم أثناء مشواره الجراحي الطويل، وقصصاً لمرضى تركوا في نفسه أثراً لا يُنسى، وحفروا لهم «في ذاكرته بصمات لا تزول ولا تمحى»، حيث عايش آلامهم وشاركهم أحزانهم وحاول جاهداً مسح دموعهم وامتصاص غضبهم في فترة زمنية صعبة شحت فيها الموارد وانعدمت حينها الإمدادات. ولم يكن تخصص الجراحة وقتها مفروشاً بالورود ومدعوماً بالخدمات الطبية المساندة.

يقول: «طريق الجراحة ليس مفروشاً بالورود، بل محفوف بالمخاطر، قلق قبل وأثناء إجراء العملية الجراحية، ويستمر شبح القلق إلى ما بعد العملية، خوف مستمر من حدوث مضاعفات كبرى قد تودي بحياة المريض، هذا القلق يسلب الجراح سعادته ويقض مضجعه ويعكر عليه صفو يومه».

من المتعارف عليه علمياً أن كل تدخل جراحي لا يخلو من المضاعفات البسيطة أو المعقدة، ومسببات المضاعفات الجراحية كثيرة، إلا أن الجراح غالباً ما يجنح إلى جلد ذاته ويرمي بالمسؤولية الكبرى على عاتقه، فيستحوذ عليه تأنيب الضمير، هل كان قرار التدخل الجراحي صائباً؟ وهل تم تحضير المريض جيداً قبل العملية؟ وهل كانت الطريقة التي أُجريت بها العملية صحيحة؟ وغيرها من الأسئلة التي تستحوذ على فكره وتتزاحم على مطاردته.

يسرد المشيخص قصصاً جراحية واقعية واجهها أثناء عمله جراحاً خلال الـ35 عاماً الماضية: «بعض هذه القصص تعكس كم هي محفوفة حياة الجرّاح بالمخاطر والتعب والقلق. ساعات طويلة مضنية في غرف العمليات لإجراء عمليات إسعافية طارئة بعد منتصف الليل وفي ساعات الصباح الباكر، ساعات حزينة دامعة مع أقارب المرضى في غرف الانتظار، دموع وصراخ وعويل عند إفشاء الأخبار غير السارة، حزن عميق وكآبة لا توصف لفقد مريض بعد جهد وسباق مع الزمن لإنقاذ حياته. ساعات يأس، غضب وكآبة من عدم التمكن من استئصال ورم مستعصٍ أنشب مخالبه في أعضاء مهمة، ليال يستعصي فيها النوم وتستحوذ فيها الكوابيس بسبب مريض يتأرجح بين الحياة والموت في العناية المركزة بعد عملية جراحية كبرى، والقائمة تطول وتطول».

كل تدخل جراحي لا يخلو من المضاعفات البسيطة أو المعقدة إلا أن الجراح غالباً ما يجنح إلى جلد ذاته ويرمي بالمسؤولية الكبرى على عاتقه

يقول: «تتراءى إلى ذاكرتي صورة الجراح (أوور)، أحد الجراحين الذين تدربت على يديهم في بداية مشواري الجراحي، فهو يمتنع عن الكلام ورؤية الآخرين وتصاحبه الكآبة ويطلق لحيته دون حلاقة أو تهذيب إذا ما حصل للمريض تسرب بعد عملية استئصال ورم بالقولون». ويضيف: «أتذكر أيضاً زميلاً جراحاً بريطانياً من أصل هندي عاصرته في بدايات سِني عملي في مستشفى الدمام المركزي يدعى الدكتور باتيا، كان جراحاً متمرساً ذا خبرة جراحية عالية وسمعة جيدة، عندما أرى شعر رأسه الأشيب قد بدا دون أن يجد وقتاً ليصبغه، أعلم أن مريضاً من مرضاه ليس بخير».

ومن القصص الأخرى: «أذكر أيضاً الجراح جون دوثي الذي تدربت على يديه في مدينة مانشستر، كان يملأ غرفة العمليات بالبهجة والسرور والنكات المضحكة أثناء إجرائه أعقد العمليات الجراحية في البطن وخاصة جراحات الجهاز الهضمي المعقدة التي كان يبدع فيها، إلا أنه يكون متوتراً ساكتاً لا ينبس بكلمة، متعرق اليد والجبين أثناء إجراء عمليات استئصال الغدة النكافية، كنت حينها أقول لنفسي لن أجري مثل هذه العملية مستقبلاً ما دامت تجلب هذا القدر من التوتر والبؤس والقلق، لكنني أخلفت الوعد وأجريتها في مستشفى الدمام المركزي لاحقاً».

لكنه يقول: «الجراحة لا تخلو من ساعات جميلة، ساعات فرح وانتصار... ساعة نجاح اجتثاث سرطان من مريض دبّ اليأس في نفسه واستسلم للموت... ساعة تخليص مريض من مرض جراحي طارئ حوّل حياته جحيماً مثل استئصال عضو ملتهب كالزائدة الدودية أو المرارة، إصلاح فتق مختنق، أو فك انسداد بالأمعاء، وغيره... ساعات من البهجة والفرحة ولحظات امتنان وشكر وعرفان المرضى لإنهاء معاناتهم، هذه الساعات الجميلة تمحو كل ما ذكر من الأوقات البائسة والحزينة المرتبطة بالجراحة، أوقات تجعل الجرّاح يجثو على ركبتيه ساجداً لربه وشاكراً له أن وفقه لخدمة مرضاه الذين يعانون أمراضاً جراحية، شاكراً ربه أن هيأ له السبل وذلل الصعاب ليكون جراحاً».


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية
TT

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية

اشتهر كارل فون كلاوزفيتز، كبير فلاسفة الحرب في الغرب، بملاحظته أن الحرب امتداد للسياسة، كما أشار إلى نقطة ثانية، وهي أن الحرب تابعة للسياسة، ومن ثم فهي تتشكّل من خلالها، مما يجعل «تأثيرها ملموساً حتى في أصغر التفاصيل العملياتية».

نحن نرى هذا اليوم في الشرق الأوسط، حيث قد تسترشد محاولات إنقاذ الرهائن الفتاكة، والاغتيالات الكبرى، كتلك التي أودت بحياة حسن نصر الله زعيم «حزب الله»، بنقاط سياسية بقدر ما تسترشد بالرغبة في إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن. وعلى الجانب الآخر من المعادلة، يبدو أن أحدث سرب من الصواريخ الباليستية الإيرانية، التي انفجر معظمها من دون ضرر فوق إسرائيل، كان عملاً من أعمال المسرح السياسي الذي يهدف في المقام الأول إلى رفع المعنويات على الجبهة الداخلية.

من المفيد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وآية الله علي خامنئي من إيران، ناهيكم عن الرئيس الأميركي المقبل، أن يقرأوا كتاب جفري فافرو «حرب فيتنام: تاريخ عسكري» (652 صفحة، دار «بيسك بوكس» للنشر).

إنه يُلقي أفضل نظرة عامة على المغامرة الأميركية في جنوب شرقي آسيا، ومن المؤكد أنه سوف يصبح كتاباً معيارياً عن تلك الحرب، وبينما نتابع المعاناة الجارية في الشرق الأوسط، فإن هذا الكتاب يقدّم لنا أيضاً دروساً قوية بشأن المخاطر المترتبة على شن حرب مفتوحة من دون إستراتيجية حقيقية.

تركّز أغلب كتب التاريخ عن حرب فيتنام على الدبلوماسية والسياسة في الصراع، بالعودة إلى العمليات العسكرية للأحداث الرئيسية فقط، مثل هجوم «تيت» ومعركة مدينة «هوي»؛ إذ يتبع واورو، المؤرخ في جامعة نورث تكساس، نهجاً أكثر تنويراً.

ووفقاً لرأي فافرو، كان التدخل الأميركي في فيتنام بمثابة درس كبير في كيفية تجنّب شنّ الحرب، وقد أدى الاعتقاد الطائش في فاعلية القوة النارية المحضة، إلى حملات القصف الأميركية المدمِّرة التي كما يقول واورو: «أدّت إلى إحراق سُبع أراضي جنوب فيتنام» و«خلقت خمسة ملايين لاجئ داخلي»، على أمل دفع قوات «فيت كونغ» الفيتنامية إلى العراء، ورفض الخصم الشيوعي القتال بهذه الطريقة، بل كانوا يشتبكون سريعاً، ثم ينسحبون عندما يردّ الأميركيون بوابل عنيف من نيران المدفعية والغارات الجوية. في الأثناء ذاتها، كلما حاول الرئيس ليندون جونسون - الذي لم يدرس مبادئ كلاوزفيتز - فصل الحرب عن السياسة، بالكذب بشأن تكاليفها ورفض تعبئة الاحتياطي العسكري؛ صارت الحرب أكثر سياسية، وهيمنت على الخطاب الأميركي، ثم عصفت به خارج الرئاسة.

لم يكن أداء أميركا أفضل مع الهجمات المستهدفة، وكما هو الحال مع أجهزة البيجر المتفجرة التي استخدمتها إسرائيل، فإن برنامج «فينكس» من إعداد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لاغتيال أعضاء «فيت كونغ» قد «ركّز على (القبض أو القتل)»، كما كتب واورو، وأدى إلى سقوط ضحايا أبرياء، كما أنه لم يؤدِّ إلى الاقتراب من نهاية الحرب؛ لأن البرنامج بأكمله كان مبنياً على «أرقام ملفقة»، كما يوضح المؤلف، «وليس على الواقع الحقيقي»، وكان البرنامج عبارة عن طريقة أخرى لقتل الناس من دون فهم الحرب.

جعلتني قراءة التاريخ الرائع الذي كتبه فافرو أفكّر في نتيجة لازمة جديدة لنظريات كلاوزفيتز: كلما كانت الاستراتيجية أقل تماسكاً في الحرب، أصبحت أكثر تسييساً، دخلت الولايات المتحدة الحرب لأسباب سياسية ودبلوماسية غامضة (الظهور بمظهر الصرامة أمام خصوم الحرب الباردة ليس نهاية المطاف). بعد عقدين من الزمان كان الغزو القصير والفوضوي لجنوب «لاوس» من قِبل القوات البرّية الفيتنامية الجنوبية والقوة الجوية الأميركية بمثابة «مسرحية سياسية، وليس حرباً»، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية عام 1972، لم تكن هناك نهاية في الأفق، وكان الدافع وراء الهجوم هو رغبة الرئيس ريتشارد نيكسون في جعل الأمر يبدو وكأن فيتنام الجنوبية تتولّى زمام الأمور في القتال، وبدلاً من ذلك، زاد من زعزعة استقرار المنطقة، ولم يفعل شيئاً يُذكر لقطع خطوط إمداد العدو.

لحسن الحظ، خلال الحرب العالمية الثانية استخدمت الولايات المتحدة السياسة لخدمة المجهود الحربي بدلاً من العكس، وإن لم يكن الجميع يرَون الأمر على هذا النحو. في كتاب «أميركا أولاً: روزفلت ضد ليندبيرغ في ظل الحرب» (444 صفحة، دار «دوبلداي للنشر»)، يُصوّر إتش دبليو براندز، نجم الطيران الشهير تشارلز ليندبيرغ، الذي تحدث عن النزعة الانعزالية في البث الإذاعي الوطني، بوصفها أمراً ساذجاً، ولكن صادقاً، في حين يُصوّر الرئيس فرانكلين روزفلت بأنه مخادع بشكل ملحوظ في جهوده لدفع الولايات المتحدة إلى الحرب.

لكن في الواقع، كان فرانكلين روزفلت هدفاً كبيراً لهذه التهمة؛ إذ تعهد الرئيس أثناء حملته الانتخابية للفوز بولاية ثالثة غير مسبوقة، قائلاً: «لن يُرسَل أبناؤكم إلى أي حروب خارجية»، وكان جيمس، نجل روزفلت، يتساءل عن سبب اتخاذ والده هذا الموقف، فقال والده موضحاً: «جيمي، كنت أعلم أننا ذاهبون إلى الحرب، كنت متأكداً من أنه لا يوجد مخرج من ذلك، كان لزاماً أن أثقّف الناس بشأن الحتمية تدريجياً، خطوة بخطوة»، ربما يكون هذا مخادِعاً، لكن هذه السياسة ساعدت الأميركيين على المشاركة في المجهود الحربي، كان كلاوزفيتز ليفخر بذلك.

في الوقت نفسه، عندما يرفض ليندبيرغ الدعوة إلى هزيمة ألمانيا في أواخر يناير (كانون الثاني) 1941، يُعيد إلى الأذهان رفض دونالد ترمب دعم المعركة الأوكرانية ضد العدوان الروسي، ويلاحظ براندز، وهو مؤرخ في جامعة تكساس فرع أوستن، ليونةَ ليندبيرغ إزاء ألمانيا النازية، ولكن - في رسم صورة متعاطفة للرجل - يستبعد عديداً من التفاصيل التي تظهر في كتب أخرى، مثل السيرة الذاتية تأليف «إيه سكوت بيرغ»، الفائزة بجائزة بوليتزر لعام 1998.

لا يذكر براندز، على سبيل المثال، أن ليندبيرغ رفض في مايو (أيار) 1940 الحديث عن مخاطر انتصار النازية، بوصفه «ثرثرة هستيرية»، أو أنه، في العام نفسه، ألّفت زوجة الطيار آن مورو ليندبيرغ كتاب «موجة المستقبل»، وفيه جادلت بأن العهد الجديد ينتمي إلى أنظمة استبدادية، وكان ذلك الرجل يحمل مثل هذه الولاءات المُرِيبة حتى بعد بيرل هاربر، كما قال ليندبيرغ (في تصريحات أغفلها براندز أيضاً): «إن بريطانيا هي السبب الحقيقي وراء كل المتاعب في العالم اليوم».

إن مثل هذه الإغفالات تجعل كتاب براندز يبدو وكأنه مُوجَز متحيّز إلى ليندبيرغ أكثر من كونه كتاباً تاريخياً نزيهاً. كتب براندز يقول: «لقد أصاب ليندبيرغ كثيراً في حملته ضد الحداثة، لكنه أخطأ في أمر واحد كبير- فهو لم يرَ أن الأميركيين كانوا على استعداد للتدخل في الصراعات الخارجية». وأودّ أن أزعم أن ليندبيرغ كان مخطئاً أكثر من ذلك؛ فقد عبث بمعاداة السامية، وهو شيء ينتقص براندز من أهميته، وعلى نحو مفاجئ بالنسبة لطيار شهير، لم يكن يبدو أن لديه الكثير من البصيرة في دور القوة الجوية في الحرب، وحتى في القراءة الأكثر تعاطفاً، لا بد أن كلاوزفيتز كان ليحتدم غيظاً.

الجنرال البروسي العجوز هو موضوع تحليل جديد لاذع، وربما شديد التحريض من ناحية «أزار غات»، المؤرخ الفكري في جامعة تل أبيب. في كتابه «أسطورة كلاوزفيتز: أو ملابس الإمبراطور الجديدة» (228 صفحة، دار «كرونوس للنشر»)، يزعم غات أن كتاب كلاوزفيتز «عن الحرب» مؤثر بصورة رئيسية؛ لأنه مُحير للغاية. ويَخلُص إلى أن «الكثير من سمعة الكتاب تستند إلى سوء فهم دائم لما يعنيه في الواقع».

هناك في الأساس اثنان من كلاوزفيتز؛ الأول ألّف في وقت مبكر من حياته المهنية الكثير من كتب «عن الحرب»، بينما يسعى إلى فهم انتصارات نابليون السريعة والساحقة على بروسيا، والآخر كان يحاول بعد سنوات رسم مسارٍ لاستعادة بروسيا مكانتها في أوروبا، ولكن بدلاً من تأليف كتاب ثانٍ، كما يقول غات، عاد الضابط البروسي ونقّح كتاب «عن الحرب» بطرق تتناقض على نحو جَلِيّ مع بعض الأجزاء الأسبق من نفس الكتاب. بدأ كلاوزفيتز بكتابة أن النصر يعتمد على هزيمة سريعة للعدوّ في معركة كبيرة واحدة. وفي وقت لاحق أدرك أن العديد من الأطراف الفاعلة، سيما الأضعف منها، قد يكون لديها سبب لإطالة أمد القتال. وشرع في التنقيح، لكنه لم يكن لديه الوقت لعلاج هذا التضادّ قبل وفاته عام 1831.

وبينما كنت أقرأ كتاب غات، ظللتُ أفكّر في أنه لم يدرك النقطة الأكثر أهميةً؛ قد تشوب الأعمال الكلاسيكية حالة من النقص إلى حد بعيد؛ إذ تطرح أسئلة أكثر مما تقدّم من إجابات، وهو ما كان بمثابة طريق أكثر أماناً للاستمرار عبر الزمن. في الواقع، كانت واحدة من أشهر ملاحظات كلاوزفيتز تتعلّق بطرح الأسئلة، وهو يقول إنه قبل أن تتصاعد أعمال العنف يجب على القادة المفكرين أن يسألوا أنفسهم: ما نوع هذه الحرب؟ وما الذي تريد أمّتي تحقيقه؟ وهل يمكن أن تحقّق ذلك فعلاً؟

هذه اعتبارات جيدة. إن مواصلة حرب استنزاف لا نهاية لها، سواء في جنوب شرقي آسيا، أو في الشرق الأوسط، من غير المرجّح أن تؤدي إلا إلى المزيد من الفوضى والموت، وعلى نحو مماثل، لو تعامل قادة أميركا بجدّية مع نهاية المسألة قبل غزو فيتنام، ناهيكم عن العراق أو أفغانستان، ربما كانت حروبهم لتسير على نحو أفضل كثيراً، أو ربما لم تكن لتحدث على الإطلاق.

-------------------

خدمة: «نيويورك تايمز».