عبد الواحد المشيخص يروي معارك الجراحين لإنقاذ مرضاهم

يقول إن الجراحة لا تخلو من ساعات فرح وانتصار

عبد الواحد المشيخص يروي معارك الجراحين لإنقاذ مرضاهم
TT

عبد الواحد المشيخص يروي معارك الجراحين لإنقاذ مرضاهم

عبد الواحد المشيخص يروي معارك الجراحين لإنقاذ مرضاهم

«خلال السنوات التطبيقية بالمستشفى؛ كطالب للطب في كلية الجراحين الملكية الآيرلندية بدبلن، لم أكن أحب الجراحين، كنت أعتبرهم مخلوقات متعجرفة، متكبرة ومغرورة، مزهوة بنفسها تعتقد أنها قادمة من الفضاء الخارجي، مزاجهم لا يمكن التنبؤ به، فقلما ارتسمت على شفاههم ابتسامة، وإذا ما ابتسموا ضحكوا ساخرين ومتهكمين...».

بهذه الكلمات يبدأ الجراح السعودي الدكتور عبد الواحد نصر المشيخص، استشاري الجراحة العامة والمناظير الجراحية، سرد تجربته عبر 35 عاماً في كتاب «مذكرات جراح».

يحمل الدكتور المشيخص زمالة كلية الجراحين الملكية البريطانية، وزمالة كلية الجراحين الأميركية، وعمل سابقاً رئيساً للأقسام الجراحية بمستشفى الدمام المركزي، كما عمل أيضاً رئيساً لقسم الجراحة بمستشفى الملك فهد التخصصي بالدمام.

في بداية مشواره الطبي، كان يتوجس من الأطباء الجراحين، يصفهم في كتابه بأنهم على خلاف أطباء الباطنية الذين «قلما تنتابهم نوبات غضب عارم كتلك التي تنتاب الجراحين، غضب الجراح لا يطفئه سوى تقزيم وتحقير من هو أمامهم».

بعد تخرجه عمل سنة الامتياز في أحد مستشفيات غرب أسكوتلندا. وهناك، كما في بقية أرجاء المملكة المتحدة، لا بد لطبيب الامتياز أن يعمل ستة أشهر متتالية في قسم الجراحة العامة، وستة أخرى في قسم الباطنة قبل أن يصبح ممارساً مسجلاً تسجيلاً كاملاً لدى المجلس الطبي البريطاني (British General Medical Council)، وخلال سنة الامتياز أمكنه معايشة معاناة الأطباء الجراحين. يقول: «يبلغ القلق ذروته أثناء إجرائهم العمليات الجراحية المعقدة، وترافقهم الكآبة عند حدوث مضاعفة جراحية بعد العملية لأحد مرضاهم، أدركت عندها أنه لا عجب أن يغلب على سمات الجراحين التجهم والقلق وسرعة الغضب، أدركت أن وراء غطاء هذه الغطرسة الزائفة يكمن رجل خائف قلق يكاد يفقد ثقته بنفسه».

بداية عمله جراحاً، استُدعي المشيخص لمساعدة فريق طبي (في أسكوتلندا) في عملية استئصال سرطان بالقولون، بعد قضاء 48 ساعة من المناوبة المضنية في عطلة نهاية الأسبوع، ولم يكن وقتها قد تناول وجبة الإفطار، شعر بعد مضي نصف ساعة من بدء العملية بضيق في التنفس وتعرق ودوران، قبل أن يسقط أرضاً، صرخ الجراح على إحدى الممرضات لتسعفه وتأخذه خارج الغرفة... يقول المشيخص: «منذ ذلك الوقت وبناءً على هذه الحادثة الفريدة، يعتقد الجراح (كان) بأني غير قادر جسدياً أن أكون جراحاً، رغم اعتقاده بأنني من أفضل أطباء الامتياز الذين مروا عليه للتدرب في وحدته...»، وختم نصيحته قائلاً: «إذا ما صممت أن تتخصص في الجراحة، فاختر تخصصاً لا يحتاج إلى جهد بدني مثل جراحة الأنف والأذن والحنجرة!».

طريق التحدي

لكنه لم يستمع إلى نصيحة طبيبه المشرف، فبعد انتهائه من سنة الامتياز، عام 1986، كطبيب مقيم في قسم العظام لمدة ستة أشهر، كجزء من متطلبات التحضير لامتحان زمالة كلية الجراحين الملكية، في مستشفى رودرهام بالقرب من مدينة (Rotherham General Hospital) في شِفيلد (Sheffield) بمقاطعة جنوب يوركشاير. وضعه استشاري جراحة العظام وكان اسمه روبسون (Robson) ويصفه بأنه كان «طيباً وهادئاً وحنوناً على غير ما تعودت عليه من الجراحين»، على قائمة العمليات، وأخبره: «غداً سنكون نحن الاثنين فقط، فمساعدي الأول في إجازة»، كانت العملية عبارة عن تبديل مفصل الورك، وهي من عمليات العظام الصعبة والتي قد تستغرق ساعات عديدة، وكان على الطبيب الشاب أن يكون المساعد الأول في عملية صعبة يجريها لأول مرة في حياته العملية كجراح بعد سنة الامتياز، بدأت الجراحة في الساعة الثامنة صباحاً واستمرت إلى الخامسة مساءً، قاوم تعبه وقلقه وأدى عملاً مميزاً نال عليه إشادة الجراح روبسون... وخلال هذه الفترة أكمل متطلبات تدريب الزمالة كلية الجراحين الملكية، يقول المشيخص: «أذكر ذلك اليوم من أيام ديسمبر (كانون الأول) 1989 جيداً، عندما اجتزت امتحان الزمالة بنجاح، وحالاً صار كل من في المستشفى يدعونني (مستر) بدلاً من (دكتور)، شعور غريب وغامر بالفخر والعظمة»، وهذا تقليد بريطاني غريب ويمثل لغزاً بالنسبة للأطباء القادمين من البلدان الأخرى، حيث يتغير مسمى الجراح من «دكتور» إلى «سيد» بعد اجتياز امتحان زمالة (Fellowship) في إحدى كليات الجراحين الملكية (لندن، إدنبرة، جلاسجو، أو دبلن)، وقد جرت هذه العادة من باب الاحترام والتقدير لمهنة الجراحة».

بين الأمل والألم

في كتابه «مذكرات جراح» يسرد المشيخص قصصاً لمرضى أشرف على علاجهم أثناء مشواره الجراحي الطويل، وقصصاً لمرضى تركوا في نفسه أثراً لا يُنسى، وحفروا لهم «في ذاكرته بصمات لا تزول ولا تمحى»، حيث عايش آلامهم وشاركهم أحزانهم وحاول جاهداً مسح دموعهم وامتصاص غضبهم في فترة زمنية صعبة شحت فيها الموارد وانعدمت حينها الإمدادات. ولم يكن تخصص الجراحة وقتها مفروشاً بالورود ومدعوماً بالخدمات الطبية المساندة.

يقول: «طريق الجراحة ليس مفروشاً بالورود، بل محفوف بالمخاطر، قلق قبل وأثناء إجراء العملية الجراحية، ويستمر شبح القلق إلى ما بعد العملية، خوف مستمر من حدوث مضاعفات كبرى قد تودي بحياة المريض، هذا القلق يسلب الجراح سعادته ويقض مضجعه ويعكر عليه صفو يومه».

من المتعارف عليه علمياً أن كل تدخل جراحي لا يخلو من المضاعفات البسيطة أو المعقدة، ومسببات المضاعفات الجراحية كثيرة، إلا أن الجراح غالباً ما يجنح إلى جلد ذاته ويرمي بالمسؤولية الكبرى على عاتقه، فيستحوذ عليه تأنيب الضمير، هل كان قرار التدخل الجراحي صائباً؟ وهل تم تحضير المريض جيداً قبل العملية؟ وهل كانت الطريقة التي أُجريت بها العملية صحيحة؟ وغيرها من الأسئلة التي تستحوذ على فكره وتتزاحم على مطاردته.

يسرد المشيخص قصصاً جراحية واقعية واجهها أثناء عمله جراحاً خلال الـ35 عاماً الماضية: «بعض هذه القصص تعكس كم هي محفوفة حياة الجرّاح بالمخاطر والتعب والقلق. ساعات طويلة مضنية في غرف العمليات لإجراء عمليات إسعافية طارئة بعد منتصف الليل وفي ساعات الصباح الباكر، ساعات حزينة دامعة مع أقارب المرضى في غرف الانتظار، دموع وصراخ وعويل عند إفشاء الأخبار غير السارة، حزن عميق وكآبة لا توصف لفقد مريض بعد جهد وسباق مع الزمن لإنقاذ حياته. ساعات يأس، غضب وكآبة من عدم التمكن من استئصال ورم مستعصٍ أنشب مخالبه في أعضاء مهمة، ليال يستعصي فيها النوم وتستحوذ فيها الكوابيس بسبب مريض يتأرجح بين الحياة والموت في العناية المركزة بعد عملية جراحية كبرى، والقائمة تطول وتطول».

كل تدخل جراحي لا يخلو من المضاعفات البسيطة أو المعقدة إلا أن الجراح غالباً ما يجنح إلى جلد ذاته ويرمي بالمسؤولية الكبرى على عاتقه

يقول: «تتراءى إلى ذاكرتي صورة الجراح (أوور)، أحد الجراحين الذين تدربت على يديهم في بداية مشواري الجراحي، فهو يمتنع عن الكلام ورؤية الآخرين وتصاحبه الكآبة ويطلق لحيته دون حلاقة أو تهذيب إذا ما حصل للمريض تسرب بعد عملية استئصال ورم بالقولون». ويضيف: «أتذكر أيضاً زميلاً جراحاً بريطانياً من أصل هندي عاصرته في بدايات سِني عملي في مستشفى الدمام المركزي يدعى الدكتور باتيا، كان جراحاً متمرساً ذا خبرة جراحية عالية وسمعة جيدة، عندما أرى شعر رأسه الأشيب قد بدا دون أن يجد وقتاً ليصبغه، أعلم أن مريضاً من مرضاه ليس بخير».

ومن القصص الأخرى: «أذكر أيضاً الجراح جون دوثي الذي تدربت على يديه في مدينة مانشستر، كان يملأ غرفة العمليات بالبهجة والسرور والنكات المضحكة أثناء إجرائه أعقد العمليات الجراحية في البطن وخاصة جراحات الجهاز الهضمي المعقدة التي كان يبدع فيها، إلا أنه يكون متوتراً ساكتاً لا ينبس بكلمة، متعرق اليد والجبين أثناء إجراء عمليات استئصال الغدة النكافية، كنت حينها أقول لنفسي لن أجري مثل هذه العملية مستقبلاً ما دامت تجلب هذا القدر من التوتر والبؤس والقلق، لكنني أخلفت الوعد وأجريتها في مستشفى الدمام المركزي لاحقاً».

لكنه يقول: «الجراحة لا تخلو من ساعات جميلة، ساعات فرح وانتصار... ساعة نجاح اجتثاث سرطان من مريض دبّ اليأس في نفسه واستسلم للموت... ساعة تخليص مريض من مرض جراحي طارئ حوّل حياته جحيماً مثل استئصال عضو ملتهب كالزائدة الدودية أو المرارة، إصلاح فتق مختنق، أو فك انسداد بالأمعاء، وغيره... ساعات من البهجة والفرحة ولحظات امتنان وشكر وعرفان المرضى لإنهاء معاناتهم، هذه الساعات الجميلة تمحو كل ما ذكر من الأوقات البائسة والحزينة المرتبطة بالجراحة، أوقات تجعل الجرّاح يجثو على ركبتيه ساجداً لربه وشاكراً له أن وفقه لخدمة مرضاه الذين يعانون أمراضاً جراحية، شاكراً ربه أن هيأ له السبل وذلل الصعاب ليكون جراحاً».


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما
TT

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما» Simon Schama، في كتابه «قصة اليهود» The story of the Jews الصادر عن دار نشر «فينتغ بوكس» في لندن Vintige Books London، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين في دلتا النيل في مصر سنة 475 قبل الميلاد حتى نفيهم من إسبانيا سنة 1492 ميلادية. وهو يذكر أنهم في البداية كانوا عبيداً في مصر وطُردوا بشكل جماعي، وهم حتى اليوم يحتفلون بذكرى تحررهم من العبودية في مصر. وقد أمرهم إلههم بعدم العودة إلى مصر لكنهم عصوا أمره وعادوا مراراً وتكرارً إليها. واعتماداً على أسفار موسى الخمسة، وعلى آثار عمليات التنقيب في مصر، كانت بين يدي الكاتب مادة خصبة أعانته على جمع أدلة تفيده في نثر كتابه الذي يتناول مدة زمنية أسهمت في تكوين مصير مَن حُكم عليهم بالعيش حياة الشتات في الشرق والغرب.

ويذكر الكاتب أن اليهود عاشوا حياة الشتات، وأنهم أقلية مسحوقة دائماً بين قطبين، وبين حضارتين عظيمتين؛ بين الحضارة الأخمينية وحضارة الإغريق، بين بابل ووادي النيل، بين البطالمة والسلوقيين، ثم بين الإغريق والرومان.

وهكذا عاشوا منغلقين في قوقعة في أي مجتمع يستقرون فيه ، فمثلاً فترة انتشار الإمبراطورية الإغريقية وجدوا صعوبة في الحصول على المواطَنة الإغريقيّة لأنها كانت تعتمد على ثلاث ركائز: المسرح، والرياضة (الجيمانيزيوم) التي لا يمكن أن تتحقق من دون ملاعبَ العريُ التامُّ فيها إلزاميٌّ، الشيء الذي لا يتماشى مع تعاليم اليهودية، والدراسة الأكاديمية، التي لا يمكن أن يصلوا إليها.

صحيح أنهم عاشوا في سلام مع شعوب المنطقة (سوريين، وإغريقاً، وروماناً، وفُرساً، وآشوريين، وفراعنة، وفينيقيين) لكن دائماً كانوا يشعرون بأن الخطر على الأبواب، حسب الكاتب، وأي حدث عابر قد يتحول إلى شغب ثم تمرُّد ثم مجزرة بحقهم. ومن الطبيعي أن تتبع ذلك مجاعة وصلت أحياناً إلى تسجيل حالات أكل الأحذية وحتى لحوم البشر، ومذابح جماعية تشمل الأطفال والنساء وتدنيس المقدسات. ويضرب الكاتب هنا مثلاً بمحاولة انقلاب فاشلة قام بها القديس ياسون على الملك السلوقي أنطيوخس إبيفانيوس الرابع، فتحول هذا الأخير إلى وحش، وأمر بقتل كل يهودي في شوارع القدس وهدم المقدسات، وقدَّم الخنازير أضحية بشكل ساخر بدلاً من الخراف، وأجبر اليهود على أكل لحم الخنزير، وأخذ آلاف الأسرى لبيعهم في سوق النخاسة. وبعد فترة استقرار قصيرة في القدس، وأفول الحضارة الإغريقيّة لتحل مكانها الحضارة الرومانية، ذهب وفد من اليهود إلى الملك الروماني لمناشدته منح اليهود في القدس حكماً ذاتياً.

طبعاً هذه كانت مماطلة لا تُلغي وقوع الكارثة لكن تؤجلها. حتى إن الملك غاليكولا أمر ببناء تمثال له على هيئة إله وتنصيبه وسط معبد اليهود الذين كانوا يَعدّون ذلك من الكبائر.

حتى جاء اليوم الذي وقف فيه على أبوابها الملك الروماني بومبي الكبير فارضاً حصاراً دام عامين انتهى باصطحابه الأسرى اليهود مقيدين بالسلاسل لعرضهم في شوارع روما، تلت ذلك هجرة جماعية كانت آخر هجرة لهم. وهم فسروا ذلك بوصفه عقاباً إلهياً «لأنه لا يمكن أن يكون الله قد تخلى عنهم في وقت السلم كما في وقت الحرب. لأن السلم لم يكن سلم عزٍّ بل كان ذلاً».

وفي أوروبا العصور الوسطى، كان مفروضاً عليهم ارتداء شعار خاص لتمييزهم أيضاً عن باقي الناس، ومُنعوا من العمل في الوظائف الرسمية الحكومية مثل مهن الطبيب والمحامي والقاضي، حتى المهن الحرفية تم حرمانهم من التسجيل في نقاباتها. هذا بالنسبة ليهود الأشكنازي، أما بالنسبة ليهود إسبانيا السفاردي، فقد أصدرت الملكة إيزابيلا سنة 1492 (نفس سنة خروج الإسلام من إسبانيا) قانوناً لطرد اليهود من إسبانيا، ومنع اليهود من ارتداء الملابس الفاخرة، والتجول فقط في النهار، والعيش في أحياءً منعزلة، كما لا يحق لهم العمل مع المسيحيين أو العكس أو يكون عندهم خادمة مسيحية مثلاً، ومنعهم من امتلاك عقارات أو منح القروض إلا بشروط معينة...

لكن ما سبب هذا الاضطهاد بحق اليهود؟

حسب الكاتب، هناك سببان: أولاً وشايتهم إلى الملك الروماني وتحريضه لمحاكمة يسوع وهتافهم وقت صلبه «اقتلوه... اقتلوه»، أما السبب الآخر فهو أن الملكة إيزابيلا وضعت أمام اليهود الاختيار بين ثلاثة احتمالات: اعتناق المسيحية أو القتل أو الطرد، في حملةٍ لتطهير البلد من اليهودية. القليل من اليهود اعتنق المسيحية؛ خوفاً، وكان يطلق عليهم اسم «كونفرتو»، أو «المسيحيون الجدد»، لكن في السر استمروا في ممارسة طقوسهم اليهودية، وكان يطلق عليهم اسم «Marranos».

كتاب «قصة اليهود» لم يقتصر فقط على ذلك، فإلى إلى جانب فصول عن الحملات والحروب، هناك فصول عن اليهود في شبه الجزيرة العربية فترة النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، ويهود الأندلس، وصلاح الدين الأيوبي، ويهود مصر، وكذلك يهود بريطانيا، ويهود إسبانيا. وكذلك يفتح لنا الكتاب نوافذ على الحياة الاجتماعية والثقافية لشعوب ذاك الزمان، ويسرد تفاصيل الهندسة المعمارية بجماليّاتها خصوصاً لدى الإغريق، حيث اشتهرت عمارتهم بالأعمدة والإفريز والرواق والفسيفساء، الشيء الذي أخذه منهم اليهود.

لكنَّ هناك نقاطاً أخفق المؤلف في تسليط الضوء عليها أو طرحها في سياق المرحلة التاريخية التي يتناولها الكتاب، ومنها مرحلة حياة عيسى، عليه السلام، من لحظة ولادته حتى وقت محاكمته وصلبه، رغم أهميتها في مجريات الأحداث بتفاصيلها التي كانت انعطافاً كبيراً في تاريخ اليهود خصوصاً والعالم عموماً. ثانياً، وعلى الرغم من دقة وموضوعية المعلومات ورشاقة السرد، فإن الكاتب لم يذكر لحظات أو مراحل إيجابية عن حياة اليهود بقدر ما ذكر أهوال الحروب والحملات ضدهم وتوابعها عليهم.

وأعتمد المؤلف على المخطوطات parchments، أو رسائل على ورق البردي، وعلى قطع فخارية أثرية اكتُشفت في القرن الماضي ضمن حملات بتمويل حكومي ضخم لبعثات أثرية بريطانية وأميركية وفرنسية تسمى «Fact finding expenditures»، أي «بعثات البحث عن الحقيقة». وكذلك على وثائق تروي قصص ناس عاديين من عقود زواج أو ملفات دعاوى قضائية، بالإضافة إلى مؤلفات المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيو.