لماذا وُلدت الفلسفة في المدينة الإغريقيّة أثينا؟

تكوّنت تكوّناً تاريخيّاً كان يتيح للمواطنين أن يتشاركوا في ممارسة السلطة

هايدغر
هايدغر
TT
20

لماذا وُلدت الفلسفة في المدينة الإغريقيّة أثينا؟

هايدغر
هايدغر

غالباً ما يستغرب الناس العلاقة الوثيقة بين الفلسفة والتمدّن الإغريقيّ. أعظمُ فلاسفة الألمان، في مقدّمتهم هيغل وهايدغر، أثبتوا الحقيقة الحضاريّة هذه. أمّا الوقائع فتدلّنا على أنّ التفلسف الحقّ لم ينشأ عند العرب أو الفرس أو سكّان الهند أو الصين أو أفريقيا أو مجتمعات السكّان الأصليّين في القارّة الأمِيركيّة أو الأستراليّة. ومن ثمّ، يجدر بنا أن نستفسر عن العوامل الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة التي جعلت المدينة الإغريقيّة الناشئة في القرن الثامن ق. م تساهم مساهمةً جليلةً في ولادة الفكر الفلسفيّ المحض. أعرف أنّ جميع الحضارات الإنسانيّة اختبرت ضروباً شتّى من التأمّل الوجدانيّ النفيس. غير أنّ استخدام العقل في بناء قواعد المنطق واستخراج أحكام النظر الموضوعيّ في الحياة ظاهرةٌ ثقافيّةٌ خطيرةٌ اقترنت بما انعقدت عليه المدينة الإغريقيّة القديمة من خصائص بنيويّة انفردت بها انفراداً استثنائيّاً.

أفلاطون
أفلاطون

إذا كانت المدينة الإغريقيّة قد استهلّت زمناً حضاريّاً جديداً في مَسار التاريخ البشريّ، فذلك لأنّها انطبعت بثلاث سماتٍ جوهريّةٍ بالغةِ الأثر. تجلّت السمة الأولى في مقام كلام التخاطب، وقد أولاه سكّانُ المدينة الإغريقيّة الصدارةَ المطلقةَ على جميع وسائل النفوذ والسلطان المستخدَمة عصرَذاك. من جرّاء الانتظام الاجتماعيّ في المدينة، أضحى كلامُ التخاطب الوسيلة السياسيّة البارزة، وباب السلطة في الدولة وسبيلها الأفعل والأخطر، وأداة الحكم وواسطة السيطرة على الآخرين. لا بدّ في هذا السياق من التذكير بـ«إلهة الإقناع» عند الإغريق القدماء، وقد أطلقوا عليها اسم «الإلهة بيثو» (Peitho) تُسعفهم في إتقان فنّ المحاجّة العقليّة القادرة على استقطاب تأييد الشعب. لا ريب في أنّ صورة «إلهة الإقناع» مستخرجةٌ من الشعائر الدِّينيّة التي كانت تفترض في الأقوال الابتهاليّة المنطوقة قدرةً خارقةً على الاستجابة للدعوة وتحقيق الأمنية. وما لبث سلاطين الممالك والإمبراطوريّات القديمة أن استأثروا بهذا السلطان، فغدت أقوالُهم محلَّ إكرامٍ وتبجيلٍ لما انطوت عليه من قيمةٍ إنفاذيّةٍ خطيرةٍ.

أرسطو
أرسطو

بيد أنّ أهل المدينة الإغريقيّة لم يقلّدوا القدماء، بل أعادوا تعريف كلام التخاطب، فجرّدوه من صفاته الشعائريّة التعظيميّة ومن سلطانه الملوكيّ القاهر، ونسبوا إليه مقاماً تداوليّاً جعله ينبسط في صورة المباحثة الحرّة والمناقشة المفتوحة والمحاجّة البرهانيّة الموضوعيّة. من جرّاء التحوّل الخطير هذا، أصبح الكلام التخاطبيّ النشاطَ الاجتماعيَّ الثقافيَّ الأبرزَ في حياة أهل المدينة، إذ أخذ الناس يعاينون في الجماعة الملتئمة جمهوراً مُصغياً قادراً على التمييز والحُكم على مضامين المناقشة العلنيّة المحتدمة. كذلك اكتسب القاطنون في المدينة الإغريقيّة صفة المرجعيّة القضائيّة التي تَنظر في القضايا المتناقضة المطروحة على بساط البحث، وتقرّر أيّها الأقدرُ على الإقناع والأنفعُ لمدينتهم.

اعتلنت السمة الثانية في عَلانية المباحثة المنعقدة بين أصحاب الرؤى المتباينة والقضايا المتناقضة. ذلك بأنّ المدينة الإغريقيّة أتاحت للحياة الإنسانيّة أن تحظى بمنظوريّتها الاجتماعيّة في المجال العامّ أو العموميّ، بحيث أجمع أهلُها على البحث عن أسباب المنفعة العامّة المشتركة وصونها من هيمنة المصالح الذاتيّة الخاصّة. في قرائن هذا التحوّل، اضطرّ أهل السلطان إلى تقليص دائرة الممارسات الأرستقراطيّة النخبويّة التواطئيّة السرّيّة، والإفصاح العلنيّ عن عمليّات التفاوض المفضية إلى استخراج القرارات السياسيّة والاقتصاديّة. من البديهيّ، والحال هذه، أن يجرّد الناسُ أصحابَ السلطة من هيمنتهم على مصادر المعرفة حتّى يتسنّى للجميع أن يطّلعوا على المعلومات الضروريّة التي تؤهّلهم للحُكم الموضوعيّ على القضايا المصيريّة المشتركة. بعد أن كانت المعرفة محصورةً في دائرة السلطان الحاكم، شاعت شيوعَ المساواة في الاطّلاع والاستعلام. فنشأ من جرّاء هذا كلّه تحريضٌ حميدٌ على إعمال الفكر في شؤون الحياة المدنيّة العامّة، فنهض الناسُ إلى الاعتناء بتهذيب عقولهم حتّى يستطيعوا أن يواكبوا الحدث ويضطلعوا بمسؤوليّة الوعي النقديّ المستجدّ.

هيغل
هيغل

أمّا السمة الثالثة فظهرت في خضوع الشأن السياسيّ كلّه لسلطان الكلام التخاطبيّ التداوليّ. ذلك بأنّ المناقشة والمحاجّة والجدل أعمالٌ أمست تضبط مَسار النشاط الفكريّ والحركة السياسيّة. أمّا الجماعة الناظرة في القضايا العامّة فتحوّلت إلى رقيبٍ يدقّق في إنتاجات الفكر وأعماله، وفي اجتهادات الدولة وقراراتها. فما لبث هذا التحوّل أن أفضى إلى تغيير ناموس المدينة الإغريقيّة، بحيث نبذ الناسُ الحُكمَ الاستبداديَّ المطلق، وآثروا نظام الانتخاب المباشر والمواكبة الساهرة والمحاسبة الصارمة. ومن ثمّ، لم يَعد في مقدور السلطان السياسيّ أو الدِّينيّ أن يفرض أحكامه بالقوّة، بل اضطرّ إلى الاستعانة بالدليل الواضح والبرهان الجليّ من أجل إقناع الناس بصوابيّة السبيل الإقراريّ الذي أفضى إلى مثل هذا التدبير أو ذاك.

لا ريب إذن في أنّ التحوّل الثقافيّ الذي أصاب المدينة الإغريقيّة أتاح انبثاقَ نمطٍ جديدٍ من التفكّر المبنيّ على النظر العقليّ الموضوعيّ المجرّد. فإذا بالفكر الفلسفيّ يولَد في معترك التحوّلات البنيويّة الذهنيّة الثقافيّة الاجتماعيّة هذه، فيحرّر رويداً رويداً الوعي الإنسانيّ من تصوّراته اللاهوتيّة الميتولوجيّة الأسطوريّة، ويساهم مساهمةً حاسمةً في تجلّي زمن العقل. في سياق هذا المنعطف، يمكن القول إنّ الفلسفة الإغريقيّة لم تشهد ولادة العقل، بل بَنت بنفسها العقل، أي أنشأت الشكل الأوّل من العقلانيّة الغربيّة. ذلك بأنّ العقل الإغريقيّ، في اعتلانه الأوّل، اضطلع بمسؤوليّةٍ جليلةٍ على قدر ما أكبّ ينظر في الأمور نظرةً منهجيّةً موضوعيّةً مجرّدةً أتاحت له التأثير في عقول الناس، قبل أن يتمكّن لاحقاً من تغيير مسار الطبيعة. وعليه، يصحّ القول إنّ العقل هذا، في طاقاته الاستكشافيّة وفي حدود إمكاناته، إنّما هو ابن المدينة الإغريقيّة القديمة.

لا بدّ هنا من التذكير بأنّ هذه المدينة تكوّنت تكوّناً تاريخيّاً أفضى إلى قيامها على هيئة الانتظام الاجتماعيّ الذي كان يتيح للمواطنين أن يتشاركوا تشاركاً عادلاً في ممارسة السلطة، بحيث إنّ القوانين لم تَعد تَتنزّل عليهم من سماء التعالي الإلهيّ أو من دائرة السلطان القاهرة، بل أضحت تنبثق من صميم مباحثاتهم المستندة إلى مراعاة مصالح المدينة المشتركة. بفضل التحوّل الخطير في البنية السياسيّة هذه، استطاعت المدينة الإغريقيّة أن تستولد ضروباً جليلةً من التغيير الثقافيّ الاجتماعيّ البالغ. إذا أراد المرء أن يستجلي طبيعة هذا التغيير، أمكنه أن يحصيه في أربعة حقول أساسيّة من حياة الناس في المدينة. تجلّى التغيير أوّلاً في حقل الاجتهاد القانونيّ، إذ انبرى المشرّع الإغريقيّ الشهير سولون (حوالى 640 ق.م - حوالى 558 ق.م) يصوغ دستور المدينة الأوّل، وقد عزَّز فيه سلطة الشعب. لذلك عاين فيه أفلاطون وأرسطو مثالَ المجتهد المصلِح الجريء الذي جدّد الحياة السياسيّة الإغريقيّة. تحقّق التغييرُ ثانياً في انتقاد التقليد الثقافيّ السائد، لا سيّما في البنى السياسيّة والاجتماعيّة، بحيث عكف العقلاءُ على تعطيل القرارات التي كانت الأريستوقراطيا الإغريقيّة تستأثر بها وتُبرمها سرّاً وتفرضها على الناس. كذلك طفق الفلاسفة ينتقدون المنهج التربويّ القائم على الذهنيّة العسكريّة القتاليّة والائتمار الإذعانيّ الذي لا يبيح الشورى. أمّا موضع الانتقاد الأخطر فأصاب مقام الكلام الذي كان مقتصراً على تلاوة القصائد وحفظ الملاحم الشعريّة المبنيّة على تعظيم أصول المدينة الأسطوريّة.

تجلّى التغيير أوّلاً في حقل الاجتهاد القانونيّ، إذ انبرى المشرّع الإغريقيّ الشهير سولون بصوغ دستور المدينة الأوّل وقد عزَّز فيه سلطة الشعب

لا عجب، من ثمّ، في أن ينعقد التغيير الثالث على ابتكار النظام الدِّموقراطيّ الذي أفضى إلى تدبير الحياة السياسيّة بالاستناد إلى مباحثات الساحة العامّة العلنيّة (الأغورا) ومجادلات الناس الملتئمين فيها التئامَ التمثيل الانتخابيّ العادل. أمّا السبيل الوحيد الذي كان يتيح تقلُّد المناصب التشريعيّة والتنفيذيّة، فالكلام التخاطبيّ التحاوريّ القادر على إقناع عقول الناس وإرشادهم إلى القرار السياسيّ الأنسب. من جرّاء الضروب الثلاثة الخطيرة هذه من التغيير البنيويّ العميق، انبثق التغيير الفكريّ الأخطر الذي أصاب الذهنيّة السائدة، إذ انصرف الناس إلى ممارسة الفعل الفلسفيّ، فالتأموا في مدارس محبّي الحكمة الذين شرعوا يحرّضونهم على ترك التفاسير اللاهوتيّة الأسطوريّة والاعتصام بالتحليل العقليّ الموضوعيّ. من أعظم هؤلاء الحكماء كان المعلّم سقراط (حوالى 470 ق.م-399 ق.م) الذي انتهج في المحاورة الفلسفيّة الحرّة سبيلَ التفكّر العقلانيّ الجريء. ولشدّة الإقبال على مزاولة المحاجّة الفلسفيّة، انبرت فرقةٌ من حكماء الدهاء البرهانيّ عُرِفوا بالسوفسطائيّين، ومنهم بروتاغوراس (490 ق.م - حوالى 420 ق.م) الذي رسم أنّ الإنسان مقياسُ كلِّ حقيقة ومرجعها، فطفقت تحثّ الناس على تعلُّم فنّ الكلام وأساليبه وإتقان لغة البلاغة والإحكام البيانيّ الساحر. أمّا أفلاطون فجسّد مثال الفيلسوف القادر على انتزاع نفسه من قرائن الخضوع لأحكام التقاليد، والارتقاء إلى مستوى النظر في عالم المثُل السامية. لذلك استهلّت كتاباتُه زمنَ الفلسفة الأصيلة التي استثمرت تحوّلات المدينة الإغريقيّة، فأخذت تسائل الوجود الإنسانيّ وتستفسره عن معناه الأعمق والأرحب. إذا كانت الفلسفة بنتَ العقل النظيف الحرّ، فإنّ الاستبداد يخنقها ويُجهِض ولادتها.


مقالات ذات صلة

«الدّماغ المؤدلج»: حين يكون التطرّف السياسي نتاج البيولوجيا

كتب ليور زميغرود

«الدّماغ المؤدلج»: حين يكون التطرّف السياسي نتاج البيولوجيا

طرحٌ جريء في علم الأعصاب الاجتماعي تقدّمه الباحثة الملحقة بجامعة كامبردج (بريطانيا) ليور زميغرود في كتابها الجديد «الدماغ المؤدلج»

ندى حطيط
كتب فدوى طوقان

صمود فلسطيني على الجبهة الثقافية

صدر كتاب باللغة الإنجليزية يحمل عنواناً عربياً: «صمود: مختارات من كتابات فلسطينية جديدة» (Sumud: A New Palestinian Reader)، أشرف على التحرير جوردان الجرابلي…

د. ماهر شفيق فريد
يوميات الشرق حسين فهمي أكد حبه للقراءة وارتباطه بها (مهرجان القاهرة السينمائي الدولي)

حسين فهمي لـ«الشرق الأوسط»: الكتاب رفيق دربي

أبدى الفنان المصري حسين فهمي، رئيس مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، فخره وسعادته بالمشاركة بصفته متحدثاً رئيسياً في معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2025.

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)
ثقافة وفنون يحفل معرض مسقط الدولي للكتاب بنحو 211 فعالية ثقافية وفنية وترفيهية (العمانية)

الفعاليات الثقافية تفتح مساحة للحوار في «معرض مسقط للكتاب»

استقطبت 211 فعالية في «معرض مسقط الدولي للكتاب 2025» حضوراً لافتاً من الجمهور المهتم الذي يتوافد إليه، توزعت بين ندوات حوارية وأمسيات ثقافية وعروض مسرحية.

«الشرق الأوسط» (مسقط)
ثقافة وفنون محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

كل قراءة أو «إعادة» قراءة لشاعر هي قراءة جديدة. ما مِن إعادة بمعنى التكرار إزاء النصوص المخترقة لزمنها، المتقدمة عليه.

باسم المرعبي

«الدّماغ المؤدلج»: حين يكون التطرّف السياسي نتاج البيولوجيا

ليور زميغرود
ليور زميغرود
TT
20

«الدّماغ المؤدلج»: حين يكون التطرّف السياسي نتاج البيولوجيا

ليور زميغرود
ليور زميغرود

طرحٌ جريء في علم الأعصاب الاجتماعي تقدّمه الباحثة الملحقة بجامعة كامبردج (بريطانيا) ليور زميغرود في كتابها الجديد «الدماغ المؤدلج*»، حيث تسعى لتفسير ميل بعض البشر إلى الآيديولوجيات المتطرفة انطلاقاً من بنية الدماغ وبيولوجيته، وليس فقط من خلال السياقات الاجتماعية أو الثقافية. ويأتي هذا العمل الذي يندرج ضمن مشروع أوسع في الجامعات الغربيّة للربط بين العلوم السلوكيّة والسياسة في وقت تصاعدت فيه الاستقطابات الحادة، سواء داخل المجتمعات أو عبر الحدود، وبينما يعيد كثيرون طرح السؤال القديم مجدداً: لماذا يصبح بعض الناس أكثر تطرفاً من غيرهم؟

بدأت زميغرود دراستها من مشهد سياسي معاصر، تحديداً من لحظة الانقسام في بريطانيا حول مسألة عضوية الاتحاد الأوروبي ونتائج الاستفتاء الشعبي الذي جرى عام 2016 واعتمدت عليه حكومة حزب المحافظين لتشرع في إجراءات الطلاق من أوروبا (بريكست)، إذ لفتتها المواقف المتصلبة لطرفي الطيف السياسيّ، وتساءلت عمّا إذا كانت نتاج انتهازية سياسية أم عرضاً لجذر أعمق مرتبط بتكوين الأشخاص النفسي والدماغي، لتصل في النهاية إلى استنتاج وحيد – في قلب كثير من التساؤلات أيضاً –: ثمّة جانب بيولوجي ملموس لتموضعات الأفراد السياسيّة.

تعتمد زميغرود في مقاربتها على تعريف صارم للآيديولوجية باعتبارها نمط تفكير متصلب يعطل المرونة الإدراكية لصالح نسق مغلق من المعتقدات. وهي في ذلك تعود إلى إرث علم النفس السياسي، وتحديداً أعمال إلسي فرينكل برونسويك وثيودور أدورنو، اللذين سعيا بعد تجربة الحرب العالمية الثانية لفهم السّمات التي تمتلكها «الشخصية الفاشية». لكنها في هذا السياق تذكر مفارقة تاريخيّة بشأن أصل مصطلح «آيديولوجيا»، الذي تقول إن الكونت الفرنسي ديستوت دو تريسي صاغه في إطار بحثه عن كيفية تكوّن المعتقدات. غير أن المصطلح انقلب على رأسه مع الزمن، ليعني الآن عكس ما أراده مبتدعه: الالتزام غير النقدي بالاعتقاد - بدلاً من تحليله -.

وبحسب زميغرود، فقد وجدت برونسويك في خمسينيات القرن الماضي، أن الأطفال المتحيزين ليسوا متصلبين في مواقف معرفيّة فحسب، بل يمتد تصلبهم وجمود أفكارهم إلى كل استجاباتهم الإدراكية. وتوسع المؤلفة هذا المنظور باستخدام أدوات علم الأعصاب الإدراكي، كاختبار ويسكونسن لقياس قدرة الأشخاص على التكيف والإبداع، فتظهر بيانات اختباراتها أن الأفراد ذوي التفكير العالي الأدلجة - لا فرق إذا كانوا في اليمين أو اليسار- يميلون بشكل عام إلى الجمود المعرفي، ومحدودية المرونة الذّهنية.

على أنّ الطرح الأكثر إثارة في الكتاب يكمن في تتبع زميغرود للرّوابط بين البنية العصبية والميول السياسية. إذ عبر دراسات تصوير الدماغ وتحليل التكوين الجيني، وجدت أن الأشخاص ذوي الميول الآيديولوجية المتطرفة يمتلكون توزيعاً مغايراً لهرمون الدوبامين في أدمغتهم عن الأشخاص الأقل تزمتاً: انخفاض في منطقة قشرة الفص الأمامي (المعنية بالتفكير العقلاني والمرن)، وارتفاع في منطقة وسط الدّماغ المرتبطة بالغرائز والسلوكيات الانفعاليّة الطابع. كما وتبين لها أن الشخصيّات المحافظة غالباً ما تمتلك (لوزة) دماغية أكبر حجماً، وهي المنطقة المسؤولة عن معالجة مشاعر الخوف والاشمئزاز، مما قد يفسر انجذابهم لمواقف تركز على الحفاظ على الأوضاع القائمة والنّظام والتقليد. غير أن المؤلفة تتجنب الحسم، إذ لا يُعرف تماماً ما إذا كانت هذه السمات العصبية وتركيب الأدمغة تسبق الآيديولوجيا أم تنتج عنها. أي، هل تغير معتقداتنا من شكل أدمغتنا؟ أم أن تكوين الدماغ يقودنا إلى اعتناق معتقدات بعينها؟ العلم هنا - وفق زميغرود دائماً - لا يتخذ موقفاً، لكنه يطرح أسئلة فلسفية وعمليّة عميقة حول مفهوم «حرية الإرادة» في السياق السياسي.

الكتاب عمل متقدّم في تفكيك ظواهر التطرف والاستقطاب الحاد التي تطبع تعاطي السياسة في هذا المنعطف من التاريخ

من الملاحظات اللافتة التي تقدمها زميغرود أن الأشخاص عاليي الأدلجة لا يدركون أنهم أشخاص بطيئو التفكير، بل يعتبرون أنفسهم مندفعين ومحبين للمخاطرة، أي أنهم يجمعون بين صلابة معرفية على المستوى اللاواعي، وسلوكيات متهورة على المستوى الواعي. هذا التناقض يمكن أن يفسر انجذاب المتطرفين إلى الخطابات التي تدعو إلى «النظام» و«سيادة القانون»، بينما يمتعهم في الوقت ذاته تهديم المؤسسات القائمة والنظام الحالي.

تجمع زميغرود في تشخيصها للدماغ الآيديولوجي بين المتطرفين على اليمين أو اليسار، وتزعم أن الجمود الآيديولوجي يمكن أن يصيب الجانبين، وتشير إلى أن الأفراد المتحررين من القيود الحزبيّة ويميلون إلى الليبرالية اليسارية غالباً ما يظهرون أعلى درجات المرونة المعرفية، لكنّها تصرّ على أنها لا تدعم تموضعاً سياسياً محدداً يمثل هذا الموقع، بقدر ما توثق حاجة مجتمعاتنا المعاصرة إلى إعادة تأهيل الفضاء العام كحيز للتواضع أمام المعرفة، والانفتاح على الآخر، وتوظيف الجدل في البحث عن حلول فضلى لمشكلات العالم. لكن هذا الطرح يثير بدوره سؤالاً أخلاقياً محوريّاً: هل يمكن للعقل المرن غير المدجج بالآيديولوجيا أن يواجه الاستبداد والفاشية؟ أم أن هذه المرونة نفسها قد تكون مدخلاً للتّراخي والتكيف مع الشر؟

هذا التحدي الفلسفي الذي يطرحه الكتاب - ولا يحسمه - يعيدنا إلى الجدل (في الغرب) حول تجارب الفاشيات في النصف الأول من القرن العشرين وكيف تورط ملايين من الأشخاص العاديين في تنفيذ سياسات أنظمة متطرفة وخاضوا من أجلها حروباً تدميرية لم يسبق لها مثيل في أعداد الضحايا وحجم الخراب.

ينطوي الكتاب على نغمة شخصية مؤثرة، إذ تتحدث زميغرود عن أصولها المتعددة والمتوزعة بين اللغات والثقافات والقارات، وتجد أن هذا التعدد هو ما جعلها حساسة للآيديولوجيا كمشروع إقصائي، وعنصر تهديد للهويات المعقدة والهجينة، مما يكسب مشروعها الفكري هذا صيغة نضال إنساني يسعى إلى حماية الفرد من اختزال تكوينه المعقد والمتعدد من قبل التطرفات العقائدية.

إن «الدماغ المؤدلج» عمل متقدّم في تفكيك ظواهر التطرف والاستقطاب الحاد التي تطبع تعاطي السياسة في هذا المنعطف من التاريخ، ويمتاز بجمعه الشيّق بين علم الأعصاب والتاريخ والفلسفة السياسية. لكنه في الوقت نفسه، لا يقدّم للقارئ أية إجابات سهلة، بل يورطه في إشكاليات مشرّعة على التفكير حول معاني الحرية، والإرادة، والعيش الأفضل في مجتمعاتنا المعاصرة.

*The Ideological Brain: A Radical Science of Susceptible Minds by Leor Zmigrod, Viking, 2025