لماذا وُلدت الفلسفة في المدينة الإغريقيّة أثينا؟

تكوّنت تكوّناً تاريخيّاً كان يتيح للمواطنين أن يتشاركوا في ممارسة السلطة

هايدغر
هايدغر
TT

لماذا وُلدت الفلسفة في المدينة الإغريقيّة أثينا؟

هايدغر
هايدغر

غالباً ما يستغرب الناس العلاقة الوثيقة بين الفلسفة والتمدّن الإغريقيّ. أعظمُ فلاسفة الألمان، في مقدّمتهم هيغل وهايدغر، أثبتوا الحقيقة الحضاريّة هذه. أمّا الوقائع فتدلّنا على أنّ التفلسف الحقّ لم ينشأ عند العرب أو الفرس أو سكّان الهند أو الصين أو أفريقيا أو مجتمعات السكّان الأصليّين في القارّة الأمِيركيّة أو الأستراليّة. ومن ثمّ، يجدر بنا أن نستفسر عن العوامل الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة التي جعلت المدينة الإغريقيّة الناشئة في القرن الثامن ق. م تساهم مساهمةً جليلةً في ولادة الفكر الفلسفيّ المحض. أعرف أنّ جميع الحضارات الإنسانيّة اختبرت ضروباً شتّى من التأمّل الوجدانيّ النفيس. غير أنّ استخدام العقل في بناء قواعد المنطق واستخراج أحكام النظر الموضوعيّ في الحياة ظاهرةٌ ثقافيّةٌ خطيرةٌ اقترنت بما انعقدت عليه المدينة الإغريقيّة القديمة من خصائص بنيويّة انفردت بها انفراداً استثنائيّاً.

أفلاطون

إذا كانت المدينة الإغريقيّة قد استهلّت زمناً حضاريّاً جديداً في مَسار التاريخ البشريّ، فذلك لأنّها انطبعت بثلاث سماتٍ جوهريّةٍ بالغةِ الأثر. تجلّت السمة الأولى في مقام كلام التخاطب، وقد أولاه سكّانُ المدينة الإغريقيّة الصدارةَ المطلقةَ على جميع وسائل النفوذ والسلطان المستخدَمة عصرَذاك. من جرّاء الانتظام الاجتماعيّ في المدينة، أضحى كلامُ التخاطب الوسيلة السياسيّة البارزة، وباب السلطة في الدولة وسبيلها الأفعل والأخطر، وأداة الحكم وواسطة السيطرة على الآخرين. لا بدّ في هذا السياق من التذكير بـ«إلهة الإقناع» عند الإغريق القدماء، وقد أطلقوا عليها اسم «الإلهة بيثو» (Peitho) تُسعفهم في إتقان فنّ المحاجّة العقليّة القادرة على استقطاب تأييد الشعب. لا ريب في أنّ صورة «إلهة الإقناع» مستخرجةٌ من الشعائر الدِّينيّة التي كانت تفترض في الأقوال الابتهاليّة المنطوقة قدرةً خارقةً على الاستجابة للدعوة وتحقيق الأمنية. وما لبث سلاطين الممالك والإمبراطوريّات القديمة أن استأثروا بهذا السلطان، فغدت أقوالُهم محلَّ إكرامٍ وتبجيلٍ لما انطوت عليه من قيمةٍ إنفاذيّةٍ خطيرةٍ.

أرسطو

بيد أنّ أهل المدينة الإغريقيّة لم يقلّدوا القدماء، بل أعادوا تعريف كلام التخاطب، فجرّدوه من صفاته الشعائريّة التعظيميّة ومن سلطانه الملوكيّ القاهر، ونسبوا إليه مقاماً تداوليّاً جعله ينبسط في صورة المباحثة الحرّة والمناقشة المفتوحة والمحاجّة البرهانيّة الموضوعيّة. من جرّاء التحوّل الخطير هذا، أصبح الكلام التخاطبيّ النشاطَ الاجتماعيَّ الثقافيَّ الأبرزَ في حياة أهل المدينة، إذ أخذ الناس يعاينون في الجماعة الملتئمة جمهوراً مُصغياً قادراً على التمييز والحُكم على مضامين المناقشة العلنيّة المحتدمة. كذلك اكتسب القاطنون في المدينة الإغريقيّة صفة المرجعيّة القضائيّة التي تَنظر في القضايا المتناقضة المطروحة على بساط البحث، وتقرّر أيّها الأقدرُ على الإقناع والأنفعُ لمدينتهم.

اعتلنت السمة الثانية في عَلانية المباحثة المنعقدة بين أصحاب الرؤى المتباينة والقضايا المتناقضة. ذلك بأنّ المدينة الإغريقيّة أتاحت للحياة الإنسانيّة أن تحظى بمنظوريّتها الاجتماعيّة في المجال العامّ أو العموميّ، بحيث أجمع أهلُها على البحث عن أسباب المنفعة العامّة المشتركة وصونها من هيمنة المصالح الذاتيّة الخاصّة. في قرائن هذا التحوّل، اضطرّ أهل السلطان إلى تقليص دائرة الممارسات الأرستقراطيّة النخبويّة التواطئيّة السرّيّة، والإفصاح العلنيّ عن عمليّات التفاوض المفضية إلى استخراج القرارات السياسيّة والاقتصاديّة. من البديهيّ، والحال هذه، أن يجرّد الناسُ أصحابَ السلطة من هيمنتهم على مصادر المعرفة حتّى يتسنّى للجميع أن يطّلعوا على المعلومات الضروريّة التي تؤهّلهم للحُكم الموضوعيّ على القضايا المصيريّة المشتركة. بعد أن كانت المعرفة محصورةً في دائرة السلطان الحاكم، شاعت شيوعَ المساواة في الاطّلاع والاستعلام. فنشأ من جرّاء هذا كلّه تحريضٌ حميدٌ على إعمال الفكر في شؤون الحياة المدنيّة العامّة، فنهض الناسُ إلى الاعتناء بتهذيب عقولهم حتّى يستطيعوا أن يواكبوا الحدث ويضطلعوا بمسؤوليّة الوعي النقديّ المستجدّ.

هيغل

أمّا السمة الثالثة فظهرت في خضوع الشأن السياسيّ كلّه لسلطان الكلام التخاطبيّ التداوليّ. ذلك بأنّ المناقشة والمحاجّة والجدل أعمالٌ أمست تضبط مَسار النشاط الفكريّ والحركة السياسيّة. أمّا الجماعة الناظرة في القضايا العامّة فتحوّلت إلى رقيبٍ يدقّق في إنتاجات الفكر وأعماله، وفي اجتهادات الدولة وقراراتها. فما لبث هذا التحوّل أن أفضى إلى تغيير ناموس المدينة الإغريقيّة، بحيث نبذ الناسُ الحُكمَ الاستبداديَّ المطلق، وآثروا نظام الانتخاب المباشر والمواكبة الساهرة والمحاسبة الصارمة. ومن ثمّ، لم يَعد في مقدور السلطان السياسيّ أو الدِّينيّ أن يفرض أحكامه بالقوّة، بل اضطرّ إلى الاستعانة بالدليل الواضح والبرهان الجليّ من أجل إقناع الناس بصوابيّة السبيل الإقراريّ الذي أفضى إلى مثل هذا التدبير أو ذاك.

لا ريب إذن في أنّ التحوّل الثقافيّ الذي أصاب المدينة الإغريقيّة أتاح انبثاقَ نمطٍ جديدٍ من التفكّر المبنيّ على النظر العقليّ الموضوعيّ المجرّد. فإذا بالفكر الفلسفيّ يولَد في معترك التحوّلات البنيويّة الذهنيّة الثقافيّة الاجتماعيّة هذه، فيحرّر رويداً رويداً الوعي الإنسانيّ من تصوّراته اللاهوتيّة الميتولوجيّة الأسطوريّة، ويساهم مساهمةً حاسمةً في تجلّي زمن العقل. في سياق هذا المنعطف، يمكن القول إنّ الفلسفة الإغريقيّة لم تشهد ولادة العقل، بل بَنت بنفسها العقل، أي أنشأت الشكل الأوّل من العقلانيّة الغربيّة. ذلك بأنّ العقل الإغريقيّ، في اعتلانه الأوّل، اضطلع بمسؤوليّةٍ جليلةٍ على قدر ما أكبّ ينظر في الأمور نظرةً منهجيّةً موضوعيّةً مجرّدةً أتاحت له التأثير في عقول الناس، قبل أن يتمكّن لاحقاً من تغيير مسار الطبيعة. وعليه، يصحّ القول إنّ العقل هذا، في طاقاته الاستكشافيّة وفي حدود إمكاناته، إنّما هو ابن المدينة الإغريقيّة القديمة.

لا بدّ هنا من التذكير بأنّ هذه المدينة تكوّنت تكوّناً تاريخيّاً أفضى إلى قيامها على هيئة الانتظام الاجتماعيّ الذي كان يتيح للمواطنين أن يتشاركوا تشاركاً عادلاً في ممارسة السلطة، بحيث إنّ القوانين لم تَعد تَتنزّل عليهم من سماء التعالي الإلهيّ أو من دائرة السلطان القاهرة، بل أضحت تنبثق من صميم مباحثاتهم المستندة إلى مراعاة مصالح المدينة المشتركة. بفضل التحوّل الخطير في البنية السياسيّة هذه، استطاعت المدينة الإغريقيّة أن تستولد ضروباً جليلةً من التغيير الثقافيّ الاجتماعيّ البالغ. إذا أراد المرء أن يستجلي طبيعة هذا التغيير، أمكنه أن يحصيه في أربعة حقول أساسيّة من حياة الناس في المدينة. تجلّى التغيير أوّلاً في حقل الاجتهاد القانونيّ، إذ انبرى المشرّع الإغريقيّ الشهير سولون (حوالى 640 ق.م - حوالى 558 ق.م) يصوغ دستور المدينة الأوّل، وقد عزَّز فيه سلطة الشعب. لذلك عاين فيه أفلاطون وأرسطو مثالَ المجتهد المصلِح الجريء الذي جدّد الحياة السياسيّة الإغريقيّة. تحقّق التغييرُ ثانياً في انتقاد التقليد الثقافيّ السائد، لا سيّما في البنى السياسيّة والاجتماعيّة، بحيث عكف العقلاءُ على تعطيل القرارات التي كانت الأريستوقراطيا الإغريقيّة تستأثر بها وتُبرمها سرّاً وتفرضها على الناس. كذلك طفق الفلاسفة ينتقدون المنهج التربويّ القائم على الذهنيّة العسكريّة القتاليّة والائتمار الإذعانيّ الذي لا يبيح الشورى. أمّا موضع الانتقاد الأخطر فأصاب مقام الكلام الذي كان مقتصراً على تلاوة القصائد وحفظ الملاحم الشعريّة المبنيّة على تعظيم أصول المدينة الأسطوريّة.

تجلّى التغيير أوّلاً في حقل الاجتهاد القانونيّ، إذ انبرى المشرّع الإغريقيّ الشهير سولون بصوغ دستور المدينة الأوّل وقد عزَّز فيه سلطة الشعب

لا عجب، من ثمّ، في أن ينعقد التغيير الثالث على ابتكار النظام الدِّموقراطيّ الذي أفضى إلى تدبير الحياة السياسيّة بالاستناد إلى مباحثات الساحة العامّة العلنيّة (الأغورا) ومجادلات الناس الملتئمين فيها التئامَ التمثيل الانتخابيّ العادل. أمّا السبيل الوحيد الذي كان يتيح تقلُّد المناصب التشريعيّة والتنفيذيّة، فالكلام التخاطبيّ التحاوريّ القادر على إقناع عقول الناس وإرشادهم إلى القرار السياسيّ الأنسب. من جرّاء الضروب الثلاثة الخطيرة هذه من التغيير البنيويّ العميق، انبثق التغيير الفكريّ الأخطر الذي أصاب الذهنيّة السائدة، إذ انصرف الناس إلى ممارسة الفعل الفلسفيّ، فالتأموا في مدارس محبّي الحكمة الذين شرعوا يحرّضونهم على ترك التفاسير اللاهوتيّة الأسطوريّة والاعتصام بالتحليل العقليّ الموضوعيّ. من أعظم هؤلاء الحكماء كان المعلّم سقراط (حوالى 470 ق.م-399 ق.م) الذي انتهج في المحاورة الفلسفيّة الحرّة سبيلَ التفكّر العقلانيّ الجريء. ولشدّة الإقبال على مزاولة المحاجّة الفلسفيّة، انبرت فرقةٌ من حكماء الدهاء البرهانيّ عُرِفوا بالسوفسطائيّين، ومنهم بروتاغوراس (490 ق.م - حوالى 420 ق.م) الذي رسم أنّ الإنسان مقياسُ كلِّ حقيقة ومرجعها، فطفقت تحثّ الناس على تعلُّم فنّ الكلام وأساليبه وإتقان لغة البلاغة والإحكام البيانيّ الساحر. أمّا أفلاطون فجسّد مثال الفيلسوف القادر على انتزاع نفسه من قرائن الخضوع لأحكام التقاليد، والارتقاء إلى مستوى النظر في عالم المثُل السامية. لذلك استهلّت كتاباتُه زمنَ الفلسفة الأصيلة التي استثمرت تحوّلات المدينة الإغريقيّة، فأخذت تسائل الوجود الإنسانيّ وتستفسره عن معناه الأعمق والأرحب. إذا كانت الفلسفة بنتَ العقل النظيف الحرّ، فإنّ الاستبداد يخنقها ويُجهِض ولادتها.


مقالات ذات صلة

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

كتب إيمانويل كانط

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟

لطفية الدليمي
كتب «الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري

رشا أحمد (القاهرة)
شمال افريقيا الكاتب الجزائري بوعلام صنصال يتحدث في مؤتمر صحافي خلال الدورة الثانية والستين لمهرجان برلين السينمائي الدولي 9 فبراير 2012 (أ.ب)

الجزائر تواجه دعوات متزايدة للإفراج عن الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال

دعا سياسيون وكتاب وناشطون إلى الإفراج عن الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال.

«الشرق الأوسط» (الجزائر)
كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.