صعود مجتمعات وانحدارها من خلال مجلاتها النسائية

كانت الفترة من 1880 - 1955 العصر الذهبيّ لمجلات المرأة خصوصاً في العالم الأنجلو ساكسوني

صعود مجتمعات وانحدارها من خلال مجلاتها النسائية
TT

صعود مجتمعات وانحدارها من خلال مجلاتها النسائية

صعود مجتمعات وانحدارها من خلال مجلاتها النسائية

منذ صدور «ذا ليديز»، المجلّة النسائيّة الرائدة في بريطانيا عام 1770، أصبح لدى مؤرخي الحياة الاجتماعيّة مصدر توثيقيّ آخر لتتبع تطور أدوار المرأة في المجتمعات عبر العقود، وتلقب مزاج التوقعات التي تضعها على كاهل نصفها اللّطيف. ففي فضاء القرن الثامن عشر الذي كان يمور بتحولات عميقة في أوروبا الغربيّة في موازاة صعود البرجوازيات وتراجع البنى التقليدية، حفلت المجلات النسائيّة بمحتوى رصين يدفع باتجاه مشاركة فاعلة للمرأة في مختلف جوانب الحياة السياسيّة والاجتماعيّة، بينما عكست خلال القرن التالي هيمنة الذكوريّة البرجوازية، التي بفضل النجاح الفائق لثورتها الصناعيّة، تمكنت من فرض إيقاع نموذج العائلة النووية المثالية على المجتمعات، فتمحور مضمون المجلات النسائية حينها حول الإدارة المنزلية، وتقديم المشورة العملية للنساء بنبرة أخلاقيّة بدلاً من الترفيه، وافتقدت تماماً لروح الدّعابة ونزعة الاستقلال التي كان تلمس في محتوى تلك المجلات خلال القرن السابق، قبل أن تشرع مجدداً في توسيع آفاق القارئات بداية من الربع الأخير للقرن التاسع عشر وعشيّة مولد القرن العشرين ترافقاً مع التحولات النوعيّة التي شهدها العالم: في الصناعة، والملاحة، والتمدن، والتعمير، والتعليم، والطب ومكافحة الأوبئة الكبرى، كما في ظهور الأنساق السياسية الجديدة كالاشتراكية والماركسيّة والحركات النسائيّة والتعاونيات، وتكرّس نموذج الدّولة القوميّة.

ويمكن الآن وصف الفترة من 1880 - 1955 بالعصر الذهبيّ للمجلات النسائيّة، لا سيّما في العالم الأنجلو ساكسوني، حيث أصبحت صناعة واسعة تشغّل أعداداً كبيرةً من الصحافيين والمحررين والرسامين، فظهرت مجموعة من الدورياّت الجديدة عالية الجودة مثل «هاربر بازار» (1867) في الولايات المتحدة، وكل من «ذا ليدي» (1885) و«ذا جينتل وومان» (1890) في بريطانيا، التي كانت موجهةً بالأساس لنساء الطبقات العليا، وتوسعت في نشر الإعلانات التجاريّة، كما العديد من المجلات الأسبوعية زهيدة الثمن التي لعبت دوراً مهماً في تثقيف نساء الطبقات الوسطى بأساسيات النظافة، والتغذية، ورعاية الأطفال مع التسلية، والأزياء، وأخبار المشاهير.

ونجحت في الفترة ذاتها مجلات مثل «ليدز هوم» (1883)، التي اقترب توزيعها في وقت ما من النصف مليون نسخة شهريّاً، و«غود هاوس كيبينغ» (1885) التي أصبحت مرجعاً للسيدات في اكتشاف أحدث منتجات السلع الاستهلاكيّة، و«فوغ» (1892) أسبوعيّة بداية ثم شهريّة، وتخصصت بالأزياء والجانب الاحتفالي من الحياة المرفهة لنخبة مدينة نيويورك في تثوير طباعة وإخراج المطبوعات الدوريّة عموماً وتلك الموجهة للنساء خصوصاً، إذ أصبحت التصاميم الغرافيكيّة للصفحات أكثر جاذبيّةً، وتمّ تعزيز استخدام الألوان، والصور، وتعاظمت جهود المعلنين في إنتاج صفحات دعائيّة محفّزة نجحت في تسهيل الانتقال من سجن الصفحات الخلفيّة إلى مكانة بارزة في قلب الأقسام الرئيسيّة. ولا شكّ بأن هذا كله كان انعكاساً مباشراً لتحسن الدّخول وتوسع نطاق الطبقات الوسطى، وأيضاً التطور المتسارع في تكنولوجيا الطباعة وإنتاج الورق، وتوسع مجلات التوزيع بفضل انتشار شبكات السكك الحديدية والمطارات ومحلات التجزئة، والدّفق المستمر من مبادرات شركات المواد الاستهلاكيّة، كما تعملق صناعة الإعلان والدّعاية.

على أنّ النجاح التجاري للصحافة النسائيّة في عصرها الذهبي تضمّن أيضاً عناصر أدت بها في النصف الثاني من القرن العشرين لأن تفقد استقلالها على المستوى التحريري لمصلحة المعلنين، إذ مثّل هؤلاء مصدر التمويل الرئيس للمجلات، وكانت توجهاتهم غالباً محافظة اجتماعيّاً، تكرّس الأوضاع القائمة وتدفع لتشكيل وعي المرأة في قوالب من الامتثال والاستهلاك المسرف، ولعب الأدوار التي تخدم مصالح الرأسماليين. وقد انتهى ضعف المحتوى التحريري إلى تراجع تأثير المجلّة النسائيّة الرئيسة وفقدانها ولاء القارئات، ما فتح الباب أمام ظهور مجلات متخصصة للأعمار مثلاً المراهقات، أو التخصص (الطهو)، أو أخبار المشاهير والنميمة والموضة، فيما كان عمر غالب الدوريات النسائيّة الجذريّة قصيراً بحكم انعدام وجود بدائل تمويل كاف بغياب الإعلان.

وبالطبع فإن العالم ليس أنجلوساكسونياً بالمطلق، إذ إن مجتمعات عديدة أخرى أنتجت تجارب صحافة نسائيّة مهمة، سواء في مصر - كانت مجلة «الفتاة» التي أصدرتها اللبنانية هند نوفل بالإسكندرية عام 1892 أوّل مجلة نسائية تصدر في العالم العربي - أو الهند أو جنوب أفريقيا أو دول أمريكا اللاتينية، وأيضاً على البرّ الأوروبيّ في فرنسا وألمانيا وإسبانيا، ولكن إذا قبلنا الإيجاز لوصف تطور علاقة الصحافة النسائيّة بمجتمعاتها فسنجد أن أغلبها عاش دورة صعود وعصر ذهبي ثم هبوط وتشتت مماثلة - مع فروق محلية وزمنية - لما عاشته الصحافة النسائيّة الأنجلو ساكسونيّة، لا سيّما بشأن هيمنة المعلنين لاحقاً على المضمون التحريري، مع ضرورة استثناء تجارب روسيا والصين التي لعبت فيها المجلات النسائيّة في القرن العشرين أدواراً آيديولوجيّة محضة موجهة وممولة من الدّولة.

ويبدو أن القرن الحادي والعشرين سيشهد تلاشياً تدريجيّاً لمفهوم «المجلّة» النسائيّة على عمومه، بدلالة تراجع الصحافة المطبوعة على عمومها وبشكل كبير لمصلحة الصحافة الإلكترونيّة العامّة، وتلك التحوّلات الجذريّة في سلوكيات الأجيال الجديدة بشأن مصادر حصولهم على المعلومات والمعارف مع التقلبات السريعة في تكنولوجيا الاتصالات والإنترنت، والانتشار المتشظي لاستعمال وسائل التواصل الاجتماعي على تنوعها. وتحاول معظم العناوين النسائية التي لم تتوقف عن الصدور الورقيّ حتى الآن إعادة اختراع ذاتها كمنتج يصلح للبقاء أقله في إطار العالم الافتراضي، مع قصص نجاح جدّ قليلة.

الملفت أن هذا الموت البطيء المعلن للصحافة النسائيّة قد أثار عند القراء المعاصرين موجة من الحنين للمجلات النسائية في أوقات أفضل تمثلت في سعي محموم عند كثيرين لاقتناء أعداد قديمة من تلك المجلات، وارتفاع أسعار المتوفر منها إلى مستويات قياسيّة غير معهودة في سوق تستمر بالازدهار. ويقول خبراء في تجارة الكتب والمجلات القديمة إن الطّلب تزايد على هذه النوعيّة من النسخ بشكل مضطرد منذ عام 2000 مع توقف العديد من العناوين عن الصدور، وأن أسعارها تضاعفت بمعدل سنوي يقترب من 20 بالمائة سنويّاً، حتى أن عدداً من مجلّة «فوغ» من عام 1940 - بطبعتها البريطانيّة - بُيع مؤخراً في لندن بما يقرب من 1000 دولار أمريكيّ.

كانت مجلة «الفتاة» التي أصدرتها اللبنانية هند نوفل بالإسكندرية عام 1892 أوّل مجلة نسائية تصدر في العالم العربي

وبغض النّظر عن الحنين النوستالجيّ المفهوم للقديم، تعدد الدوافع لدى الهواة في سعيهم لاقتناء الأعداد القديمة من المجلات النسائيّة، فبعضهم يبحث عنها كأيقونات فنيّة من عصر ذهبي، لا سيّما عندما كانت الأغلفة تنجز بمعرفة الرّسامين، ويراها آخرون سجلاً لتطور التصوير الفوتوغرافي لاحقاً وأعمال رواده، فيما يطارد البعض الآخر أعداداً فيها مقالات لكتابات لامعات مثل سوزان سونتاغ، أو عناوين عكست استقلالاً تحريرياً ظاهراً أو مقابلات مع شخصيات مشهورة في مراحل سابقة، أو تغطية لأحداث تاريخيّة مهمّة على مستوى ما. ولا شكّ أن حالة النسخة، كما تسلسلها ضمن الأعداد العشر الأولى للإصدار، تضيف جاذبيّة ترفع بشكل عام من الأسعار، لا سيّما وأن المضمون التحريري فيها يكون عادة في أوجه مع سعي العنوان لتأسيس هويته وموقعه في أذهان القارئات.

وقد سهلت التجارة على الإنترنت على هواة اقتناء الأعداد القديمة من المطبوعات النسائيّة مشقة العثور على الأعداد التي يبحثون عنها إذا أصبح العالم كله مجالاً لبحثهم، ووجد كثيرون أيضاً ممن تراكمت لديهم نسخ من مجلات كانت تقتنيها أمهاتهم - وربما جدّاتهم - وتشغل مساحات ميتة من أماكن التخزين لديهم أن تلك أصبحت اليوم أشبه بثروة صغيرة. وهكذا، حتى في لحظات احتضارها الماديّ، فإن المجلات النسائية ما زالت تحمل في طياتها توثيقاً عميقاً لطبيعة الحياة الثقافيّة للمجتمعات، وتعاقب صيغ تبادل الأفكار والمقتنيات، وفوق ذلك كله تفاوت الأدوار المتوقعة من النساء في المراحل المختلفة.


مقالات ذات صلة

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

كتب دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

يضم الكتاب مجموعة من البحوث والدراسات الأكاديمية وموضوعات وقراءات تتعلق بالجانب الاجتماعي - الاقتصادي

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
كتب بعض واجهات المكتبات

موجة ازدهار في الروايات الرومانسية بأميركا

الصيف الماضي، عندما روادت ماي تنغستروم فكرة فتح مكتبة لبيع الروايات الرومانسية بمنطقة فنتورا بكاليفورنيا

ألكسندرا ألتر
كتب الرواية الخليجية... بدأت خجولة في الثلاثينات ونضجت مع الألفية

الرواية الخليجية... بدأت خجولة في الثلاثينات ونضجت مع الألفية

يتناول الناقد والباحث اليمني د. فارس البيل نشأة وجذور السرد الإبداعي في منطقة الخليج وعلاقة النص بالتطورات الاجتماعية والاقتصادية المتلاحقة

رشا أحمد (القاهرة)

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق
TT

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

صدر حديثاَ للباحث د. هاشم نعمة فياض، كتاب بعنوان «موضوعات اجتماعية - اقتصادية معاصرة مع التركيز على حالة العراق»، عن دار أهوار للنشر والتوزيع في بغداد، وهو يقع في 224 صفحة.

ويضم الكتاب مجموعة من البحوث والدراسات الأكاديمية وموضوعات وقراءات تتعلق بالجانب الاجتماعي - الاقتصادي مع التركيز على حالة العراق. ويعالج الكتاب قضايا مثل نمو سكان المناطق الحضرية في العراق وآثاره الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك يتناول الكتابات الماركسية الجديدة والنمو الحضري في البلدان النامية، اللاجئون العراقيون في أوروبا: تحليل مقارن، اتجاهات الهجرة الطلابية من البلدان العربية وتحولاتها، تزايد حاجة أوروبا للعمالة المهاجرة، العلاقة بين الخصوبة السكانية ومكانة المرأة في المجتمع، العراق مثالاً، وجفاف الدلتا في العراق وآثاره.

ومن المواضيع الأخرى صعود الليبرالية الجديدة وسقوطها، والعلاقة بين الديمقراطية والتنمية، والتعافي الاقتصادي بعد الجائحة، وعصر التنوير والجغرافيا، والجغرافيا والثقافة، وغيرها.

ويقول المؤلف إن هذه الموضوعات كُتبت أو تُرجمت في أوقات مختلفة، وارتأى جمعها في كتاب واحد لتكون في متناول الباحثين والقراء عموماً.

يركز الباحث على تحليل تطور نمو سكان الحضر في العراق زمانياً ومكانياً، ويمهد لذلك بخلفية نظرية تخص التحضر الهامشي وعلاقته بتوسع النظام الرأسمالي، ويتناول توزيع سكان الحضر على مستوى المحافظات، ويحلل مكونات النمو الحضري خصوصاً الهجرة الريفية - الحضرية إلى المدن الكبيرة مثل بغداد، ومدى مساهمتها في تضخم عدد سكانها، ويدرس الهجرة القسرية، ويتوقف عند التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية التي نتجت عن نمو سكان الحضر وما أفرزته من مشكلات كبيرة على مستوى أزمة السكن، خصوصاً السكن العشوائي والفقر والبطالة، ومساهمة ذلك بعد عام 2003 في تغذية الموقف السلبي من قبل الشباب تجاه الأحزاب الدينية والسياسية الحاكمة، وعلاقة ذلك باندلاع «انتفاضة تشرين 2019»، كما يعالج إشكالية هيمنة المدن الكبيرة على الشبكة الحضرية ونتائجها.

وبالنسبة إلى هجرة العراقيين يذكر الباحث أن هناك كثيراً من الأسباب المتشابكة التي تقف وراء موجات هجرة العراقيين القسرية في مراحل مختلفة من تاريخ العراق. ولعل أبرز الأسباب يكمن في فشل الدولة العراقية الحديثة والخلل في بناء الدولة - الأمة، وعدم الاستقرار السياسي نتيجة تعاقب الأنظمة المستبدة الفاقدة للشرعية التي وصلت إلى السلطة عن طريق الانقلابات العسكرية، وإقامة نظام الحزب الواحد المتمثل في حزب البعث وانتهاجه سياسات القمع السياسي والفكري والتبعيث القسري والتمييز القومي والديني والمذهبي والمناطقي، والحروب الداخلية والخارجية التي ساهم هذا النظام في اندلاعها، وكذلك احتلال العراق في عام 2003 وما تبعه من تفكك مؤسسات الدولة وإقامة نظام يتبنى المحاصصة الطائفية والإثنية، وشيوع ظاهرة الإرهاب والفساد وارتفاع معدلات البطالة وتدني الخدمات الأساسية، مما دفع آلاف العراقيين وخصوصاً الشباب، إلى طلب اللجوء لأوروبا خاصة.