أفعالٌ صغيرة تصنعُ تواريخ كبيرة

تاريخنا البشري ليس نتاجاً حتمياً لسلسلة سببية من الأفعال العقلانية

براين كلاس
براين كلاس
TT

أفعالٌ صغيرة تصنعُ تواريخ كبيرة

براين كلاس
براين كلاس

كثيراً ما نميلُ إلى التفكّر الحثيث في تاريخنا البشري والطبيعي، ووضعه موضع الاستنطاق والمساءلة. يبدو أنّ المساءلة الشائعة لهذه التواريخ ستجعلنا ننتهي إلى ما يمكن تسميتها «سرديات كبرى (Grand Narratives)»: عصر التنوير والإصلاح الديني الأوروبي، ونشوء الحربين العالميتين الأولى والثانية، مثلاً، يمثلان سردية كبرى في تاريخنا البشري، مثلما أنّ نشوء الإنسان العاقل (Homo Sapiens) يمثل سردية كبرى في تاريخنا الطبيعي، وانبثاق الحضارة الصناعية بأطوارها المختلفة (بخارية، وكهرباء، ومحرك الاحتراق الداخلي...) يمثل سردية كبرى في تاريخنا التقني. تتشارك هذه السرديات الكبرى في خصائص مميزة: إنها أفعال كبيرة، حتمية محكومة بسلسلة سببية خطية صارمة؛ عقلانية. لعلّ مواريث عصر النهضة الأوروبية (الثورة الفيزيائية النيوتنية بالتحديد) هي السبب الأعظم الذي ساهم في التأطير المفاهيمي لهذه التواريخ ووضعها في هذا السياق النسقي الذي جاء مع «عصر الحداثة»، ثمّ مع حلول حقبة «ما بعد الحداثة» نُسِفت هذه السرديات الكبرى ولم تعُدْ تحتلُّ مواضعها المركزية السابقة في الفكر البشري. نحنُ في العادة نميلُ إلى التماهي مع سياق السرديات الكبرى؛ لما تنطوي عليه من حتمية وعقلانية وعناصر كبرى من الفعل تتفق مع رغبتنا البشرية في إضفاء الخصيصة العلمية الصارمة على أفعالنا التاريخية. السرديات الكبرى بكلّ أناقتها المفاهيمية وصِلاتها السببية الخطية توفّرُ علينا عناء البحث عمّا هو كامنٌ تحت السطح المباشر والمرئي للأحداث؛ لكنّ تراكماً من الوقائع في العالم المادي دفعنا دفعاً إلى مراجعة هذه السرديات الكبرى مراجعة شاملة.

يمكن عَدّ «نظرية الفوضى (Chaos Theory)» بداية خطّ الشروع في هذه المراجعة التاريخية الجذرية. «نظرية الفوضى» في أصلها هي محاولة علمية تُرينا كيف تتعامل النظم المعقدة بحساسية كبرى مع التغيرات الصغيرة التي تطرأ عليها. بعبارة أخرى: الأفعال الصدفوية الصغيرة (Flukes) يمكن أن تنشأ عنها تأثيرات كبيرة في النظم المادية (الفيزيائية). نحنُ في العادة لا نحبّذُ مدّ هذه الرؤية على النظم البيولوجية (الكائنات الحية) لاعتقادنا بأنها تخضع لمؤثرات أخرى؛ لكنّ التحليل الدقيق سيكشف لنا خطل هذه الرؤية. هذا ما يعتقده ويؤكّد عليه البروفسور براين كلاس (Brian Klaas) أستاذ «التاريخ العالمي (Global History)» في «الكلية الجامعة» بلندن، وقد عرض أفكاره في أحدث كتبه المنشور في يناير (كانون ثاني) 2024 بعنوان:

«الأفعال العشوائية الصغيرة: الصدفة... الفوضى... ولماذا أيّ شيء نفعله له أهميته المؤثرة».

يبدأ كلاس كتابه بمقدّمة مسهبة يكتب فيها عن الأفعال الصدفوية والعشوائية التي رافقت تشكّل تاريخنا البشري المعروف بموضوعاته الكبرى، ثمّ يقدّمُ شرحاً مكثفاً لحالة معاصرة - ليست بعيدة عنا – عندما تمّ القرار على إلقاء القنابل النووية على اليابان. هذه الحالة هي أقربُ إلى «دراسة الحالة (Case Study)» المعروفة في حقل الأدبيات الطبية، حيث تكون حالةٌ ما نموذجية دالة على حالات كثيرة؛ لذا سيكون من المفيد عرضُ تفاصيل قرار إلقاء القنابل النووية على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين.

عندما تقرّر قصف اليابان نووياً في مايو (أيار) عام 1945 عقب نهاية الحرب على الجبهة الألمانية؛ اختير «بنك أهداف» من المدن اليابانية التالية: كيوتو، هيروشيما، كوكورا، نيغاتا، ثمّ أضيفت ناغازاكي خياراً إضافياً. هذا ما اعتمدته لجنة من كبار جنرالات الحرب الأميركيين؛ لكن عندما عُرضت القائمة على وزير الحرب هنري ستيمسون (Stemson) رفض بشدّة وَضْعَ كيوتو على قائمة الأهداف، متعللاً بأنّها مدينة تضمُّ كثيراً من كبار الطبقة المثقفة (الأنتلجنسيا) اليابانية الذين سيكون من المفيد التعامل معهم بعد نهاية الحرب مع اليابان. تكشّفت حقيقة الأمر لاحقاً: كان ستيمسون وزوجته قد أمضيا شهر عسلهما في فندق بمدينة كيوتو قبل تسعة عشر عاماً (عام 1926 بالتحديد)، وقد ساء ستيمسون أن يرى مظاهر الحزن على وجه زوجته عندما علمت بأنّ هذه المدينة ستؤول إلى محرقة نووية عمّا قريب، فعزم على إخراج المدينة من قائمة الأهداف المرشّحة للقصف النووي. جاهد الجنرالات الأميركان لحثّه على قصف مدينة كيوتو لأنها مركز لتجمّع صناعي مهم فضلاً عن أنها عقدة المواصلات اليابانية؛ لكنّ ستيمسون رفض بحزم. ماذا كانت النتيجة؟ دفع أهل هيروشيما ثمن النوستالجيا المؤلمة التي حرّكت عواطف زوجة وزير الحرب الأميركي.

حدث أمرٌ مشابه بعض الشيء عند قصف ناغازاكي... كانت مدينة ناغازاكي هي المرشّحة للقصف؛ تليها مدينة كوكورا؛ لكنّ تجمعاً كثيفاً من الغيوم دفع طاقم الطائرة القاصفة للعدول عن قصف ناغازاكي واختيار الهدف الثاني على لائحة القصف. استدارت الطائرة متوجهة نحو كوكورا؛ لكنّ عضو الطاقم المسؤول عن توجيه القنبلة لمح في اللحظة الأخيرة فتحة بين الغيوم بانت منها مدينة ناغازاكي؛ فأشار إلى قائد الطائرة بالعودة إلى المسار السابق وتنفيذ خطة القصف الأصلية، وهكذا حُرق أبناء ناغازاكي في الوقت الذي بقي فيه أهل كوكورا سالمين. ذهب هذا المثل تعبيراً عن كلّ ذي حظ عظيم؛ فيوصفُ بأنّ له حظاً عظيماً في الحياة مثل «حظّ كوكورا».

المثال الموصوف أعلاه يمثّلُ حالة نموذجية لأفعال صدفوية صغيرة صنعت تاريخاً كبيراً، وقد انطوت على كلّ الخصائص الجوهرية لهذه الأفعال من حيث إنها:

1- أفعال صدفوية صغيرة: لعلّ قضاء شهر عسل يمثلُ حدثاً كبيراً في تاريخ الأزواج؛ لكنه لا يعدّ حدثاً مؤثراً في تشكيل تاريخنا البشري. ماذا لو قرّر ستيمسون وزوجته قضاء شهر عسلهما في مدينة غير كيوتو؟ وماذا لو أنّ عضو الطاقم المسؤول عن توجيه القنبلة قرّر صرف النظر عن وجود فتحة في الغيوم تكفي لتحديد مدينة ناغازاكي بصرياً ومن ثمّ قصفها بالقنبلة النووية؟

2- غير محكومة بسببية صارمة: قانون السببية الخطية لا يبدو أنه يعمل في مثال القصف النووي الياباني. كانت طوكيو العاصمة - مثلاً - شبه محطمة بتأثير القصف الجوي الأميركي التقليدي بقنابل حارقة، وقد بدا القصف النووي على اليابان أقرب لاستعراض قوة أميركية موجّه إلى الحلفاء الآخرين وليس دفعاً لليابان للتوقيع على وثيقة الاستسلام غير المشروط.

3- لا عقلانية: نحنُ - لو تُركنا لحالنا ومخيلتنا الخصبة - فسنميلُ لتوقّع أنّ انتقاء الأهداف اليابانية جاء بعد مناقشات مستفيضة اتّسمت بعقلانية صارمة ومفرطة، خصوصاً أنّ الأميركان كانوا بصدد تجريب سلاح نوعي جديد ذي قدرة تدميرية ساحقة. هذا حدث بالفعل، وكانت العقلانية هي الحاكمة لمباحثات اللجنة المكلّفة انتقاء الأهداف؛ لكنّ القرار الأخير كان بمؤثرات غير عقلانية (نوستالجيا في مثال كيوتو، وتشكّل عشوائي للغيوم في مثال كوكورا).

بعد المقدمة المسهبة للكتاب، يتناول المؤلف موضوعات تؤكّدُ عناوينها أصل أطروحته. نقرأ في هذه العناوين: «تغييرُ أي شيء يغيّرُ كلّ شيء»، و«لا يحدث أيّ شيء بسبب محتّم»، و«لماذا تشوّه أدمغتنا الواقع؟»، و«السرب البشري»، و«قواعد هيراقليطس»، و«الحيوان الذي يروي الحكايات»، و«لكلّ منا تأثير الفراشة الخاص به»، و«عن الساعات والتقاويم»، و«معادلات الإمبراطور الجديدة»، و«هل يمكن للأمور أن تحدث بطريقة أخرى؟»... عناوين مثيرة من غير شك، وتُغري بقراءة الكتاب.

كلُّ كتابٍ يخالف السرديات الكبرى السائدة له سحره الخاص وإغواؤه الفكري الجاذب. أظنُّ أنّ السحر والإغواء لن يخفتا أو ينقطعا لدى القارئ الذي يقرأ أيّ فصل من فصول كتاب كلاس.

«الأفعال العشوائية الصغيرة: الصدفة... الفوضى... ولماذا أيّ شيء نفعله له أهميته المؤثرة»

Fluke: Chance, Chaos, and Why Everything We Do Matters

المؤلف: براين كلاس

الناشر:

«Scribner Book Company»

2024


مقالات ذات صلة

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
ثقافة وفنون شاهد قبر من البحرين، يقابله شاهدان من تدمر

الفتى حامل الطير وعنقود العنب

يحتفظ متحف البحرين الوطني في المنامة بمجموعة كبيرة من شواهد القبور الأثرية المزينة بنقوش تصويرية آدمية، منها شاهد مميّز يمثّل فتى يحمل عصفوراً وعنقوداً من العنب

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون غلاف الكتاب

الرواية الفلسطينية... ممارسات الاحتلال وآليات المقاومة

«أسئلة الرواية الفلسطينية» هو الكتاب الحادي عشر في النقد الروائي للشاعر والناقد سلمان زين الدين، وقد صدر مؤخّراً عن «مركز ليفانت للدراسات والنشر» في الإسكندرية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون ريما بالي

الكاتبة السورية ريما بالي: أُواجه الحرب بالخيال وقصص الحب

تهتم الكاتبة الروائية السورية ريما بالي بسردية بلادها ما بعد الحرب، وتوليها عناية خاصة من خلال أعمالها التي تتحدث فيها عادة عن مسقط رأسها «حلب» في سياقات مختلفة

منى أبو النصر (القاهرة)

رؤية موحّدة للحياة في سياق علاقات تفاعلية معقّدة

فرتجوف كابرا
فرتجوف كابرا
TT

رؤية موحّدة للحياة في سياق علاقات تفاعلية معقّدة

فرتجوف كابرا
فرتجوف كابرا

عندما وقعتْ عيني على نسخة إلكترونية من كتاب «الطاوية والفيزياء الحديثة» لم أتأخّرْ في قراءته على الفور، وأضاف العنوان الثانوي للكتاب «استكشافُ التماثلات بين الفيزياء الحديثة والصوفية الشرقية» دافعية إضافية لي لقراءة الكتاب.

كان الكتابُ هدية، حسبتها كبرى؛ لسببَين: أمتعَني كثيراً لأنّه قدّم رؤية حديثة غير مستكشفة للفيزياء المعاصرة، تختلف نوعياً عن الفيزياء المدرسية في سياقاتها المعروفة، وتكمن الجدّة والحداثة في تقديم الفيزياء كمسعى إنساني يتناغم مع سائر تطلّعات الإنسان الطموحة في إضفاء معنى حقيقي على وجوده البشري.

وفّر لي الكتاب، وهذا هو السبب الثاني، معرفةً بالفيزيائي النظري فريتجوف كابرا Fritjof Capra، الذي علمتُ منذ قراءتي كتابه أنّ متابعتي له لن تنقطع أبداً في السنوات اللاحقة، كما حدستُ أنّ كتابه ذاك كان مقدّمة تمهيدية لانخراطه في مباحث أكثر تعقيداً بشأن دراسة مفهوم الحياة ذاتها دراسةً نسقية موحّدة، تعتمدُ الثراءَ التفاعلي بين حقول معرفية متعدّدة، وجاءت السنوات اللاحقة مصداقاً لحدسي؛ إذ نشر كابرا العديد من الكتب المهمّة التي تُرجِم بعضها إلى العربية، وآخرُها - وهو أهمّها بالتأكيد- الكتاب المعنون «النظرة النُّظُميّة إلى الحياة.. رؤية موحِّدة» The Systems View of Life: A Unifying Vision.

لندقّقْ في ضمّ النون والظاء في مفردة (النُّظُمية)، أحياناً قد تسمّى رؤية منظومية أو أنظومية. الفكرة واحدة، وهي إحالةٌ إلى مفهوم النظام System، وأُفضّلُ من جانبي مفردة الرؤية النسقية؛ لأنّ النسق يأتي في سياق تناول تاريخ الأفكار، وليس في السياق التقني الضيّق والمحدّد للمفردة.

لويسي

لن أُخفي سعادتي بهذه الترجمة، ولي أسبابي العديدة، التي أوّلها أنّ مؤلّفَي الكتاب عَلَمان كبيران في حقل أبحاثهما الخاصة بنظرية التعقيد Complexity Theory وتطبيقاتها في مفهوم الحياة بكلّ متفرعاتها على صعيد العلم والتقنية والاقتصاد والبيئة، ومن أسبابي الأخرى رغبتي التوّاقة في إشاعة هذا اللون من الفكر النسقي الخاص بالنُّظُم الدينامية المعقّدة التي نشكو منها فراغاً معيباً - يكادُ يوصف بفجوة معرفية وفكرية كثقب أسود- على صعيد الفكر العام وأروقة الأكاديميا معاً.

يكتب كابرا في تقديم الكتاب أنّه لطالما رأى فيه تحقيقاً لحلم راوده طويلاً، وملأه إثارةً على مدى سنوات عديدة، وقد عظّم بواعث الإثارة اشتراكُه مع صديقه القديم بيير لويجي لويزي Pier Luigi Luisi في تأليف الكتاب-الحلم، وخصوصاً أنّ لويزي معروفٌ عنه أنّه أحد أكابر المختصين العالميين بموضوعة «أصل الحياة والتنظيم الذاتي في النُّظُم التركيبية والطبيعية».

جاءت النتيجة كتاباً مرجعياً «Textbook»، وصالحاً للقراءة العامة أيضاً، تشتبك فيه الحياة في أبعادها الأربعة: البيولوجية، الإدراكية (المعرفية)، الاجتماعية، والبيئية.

هذا ما يفعله الكاتبان في جزء الكتاب الأول؛ أما في جزئه الثاني فيقدّمان أطروحة ثمينة بشأن المترتبات الفلسفية والاجتماعية والسياسية الناشئة عن التناول النسقي الشامل لمفهوم الحياة. الأطروحة الأساسية في الكتاب هي مغادرة النظرة الميكانيكية الاختزالية (الديكارتية) للحياة بوصفها آلة معقّدة، والانتقال المفاهيمي إلى رؤية الحياة بكونها سلسلة علاقات دينامية مشتبكة.

ثمة انتقالة مفاهيمية من الحياة بوصفها أشياء مادية إلى الحياة بوصفها شبكة علاقات بينية متداخلة لا يمكن فكّها أو اختزالها.

المفهوم الأساسي في النظرة النُّظُمية للحياة في عالمنا كثيف الاشتباك هو الإدامة الذاتية «Autopoiesis»، ذلك المفهوم الأساسي الذي طوّره هومبرتو ماتورانا وفرانسيسكو فاليرا في سبعينات القرن العشرين.

وطبقاً لهذه الرؤية فإنّ النُّظُم الحيّة تعيد تجديد مادتها الحية بطريقة حثيثة مستمرة عبر التحوّل إلى أشكال حيوية جديدة أو استبدال بعض أو كلّ أعضائها الحيوية، تقترن هذه الفعالية بتغيرات بنيوية (هيكلية)، مع الحفاظ على أنماط التنظيم الأساسية مع باقي الأجزاء الحيوية، ومع المحيط كذلك، إذن ظاهرة الحياة تنطوي على هذه الثنائية العجيبة: الاستقرارية «Stability»، والتغيّر «Change» معاً.

الاستقرارية والتغيّر خصيصتان جوهريتان في ظاهرة الحياة، تذكّراننا بمفهوم الجديد النوعي الناتج عن تفاعل ضدَّين قطبيَّين متعاكسَين، ربما تكون الرؤية النسقية للحياة هي المعادل البيولوجي المادي المعاصر للتركيب الهيغلي الذي يشتغل في نطاق الأفكار العليا، كمثال على الرؤية الجديدة للأفكار، فإننا بدلاً من التفكير بـ(العقل) في السياق التقليدي المتوارَث كجسم سكوني، صِرنا اليوم نشهد انتقالة نحو مفهوم الصيرورة الإدراكية «Process of Cognition»، الجسم السكوني (الدماغ) الذي ينبثق عنه العقل استحال شبكةً من العلاقات في نطاق صيرورة تفاعلية معقّدة؛ الأمر الذي نشأ عنه علمٌ كامل هو العلم الإدراكي الذي انطوت تحت ظلِّه الأُطُر المعرفية الكلاسيكية المعروفة في البيولوجيا والعلم العصبي وعلم النفس والإبستمولوجيا... إلخ.

قراءة كتاب «النظرة النُّظُمية إلى الحياة» رحلة في دراسة النظام «Order»، والتعقيد «Complexity» في العالم الحي، تتيحُ لنا فهم الخواص السلوكية للنُّظُم الفوضوية المعقّدة، والهدف هو فَهم أنماط التنظيم والفعاليات التطورية في النُّظُم الحية.

عندما نفكرُ في سياق نسقي فإنّ التنظيم والهيكلية (التركيب) والصيرورة هي الخواص الثلاث المتلازمة غير القابلة للاختزال في ظاهرة الحياة، الإشكالية الكبرى عند دراسة النُّظُم المعقّدة في سياق نسقي، عبر عملية النمذجة والمحاكاة، تكمنُ في أنّ العلماء والمختصين بهذه الظاهرة لا يمنحون الخواصّ الثلاث المميِّزة لهذه النُّظُم أهمية متساوية، بسبب إرثنا الثقيل من الفلسفة الديكارتية القائمة على ثنائية العقل- الجسد، فضلاً عن الخواص الثلاث المتداخلة أعلاه ثمّة خاصية رابعة تنبثق عنها، وهي خاصية المعنى «Meaning».

لنأخذ مثالاً لنظام دينامي معقّد غير بيولوجي: وسائط التفاعل الاجتماعي، تستخدمُ هذه الوسائل الاتصالية والتواصلية لغة رمزية ومحدّدات ثقافية وتَمظهُرات مختلفة من علاقات السلطة، يمكن القول إنّ النظرة النُّظُمية عند تطبيقها على وسائل التواصل الاجتماعي يمكن لها أن تقدّم لنا مثالاً على تحليل عناصر القوة (السلطة)، والهياكل الاجتماعية (التراتُبية الطبقية والاقتصادية)، والقيادة، والجماعات البشرية، دعونا نتذكّرْ أنّ وسائل التواصل الاجتماعي تضمّ عناصر بيولوجية (المستخدمون البشريون)، مع عناصر غير بيولوجية (العناصر المادية للتواصل)، لا فرق بين العنصر البيولوجي وغير البيولوجي إلا في درجة التعقيد.

ويخصّص المؤلّفان فصلاً كاملاً في الكتاب لموضوعة «العلاقة بين العلم والدين والروحانية» «Spirituality»، وثمة أُطُر فكرية تكامُلية بين هذه الحقول الثلاثة، كذلك الإطار الذي يقدّمه كين ويلبر Ken Wilber الذي يدّعي بلوغه «نظرية كل شيء» في هذه الحقول الثلاثة.

يقدّم المؤلّفان إطاراً أقلّ ادّعاءً؛ فهما يتأمّلان في مواضع الالتقاء والاختلاف الممكنة بين هذه الحقول. ومن المثير في الكتاب بهذا الشأن أنّ المؤلّفَين يقدّمان الروحانية كنظام أخلاقي في سياق القيم البشرية، وعلى أساس هذه الرؤية تكون المعرفة البيئية «Ecoliteracy»، مثلاً، دالّة على مقدار قدرتنا على فهم المبادئ الأساسية للبيئة والاستدامة معاً، وبما يمكّننا من العيش التكامُلي مع البيئة في تفاعل أخلاقي لا ينفصم، البيئة وعاءُ وجودنا، والإساءة إليها فعل لا أخلاقي جسيم، تماماً مثل الإساءة إلى أجسادنا. هكذا يتّحد الوجود المادي مع الأخلاقيات الرفيعة في سياق الرؤية النسقية للحياة، نسعى لما هو أبعد من الفهم المجرّد، نريد بلوغ المقصد الأخلاقي وراء كلّ سلوك دينامي معقّد على صعيد الكائن البشري والطبيعة معاً.

يمكن للنظرة النُّظُمية عند تطبيقها على وسائل التواصل الاجتماعي أن تقدّم لنا مثالاً على تحليل عناصر القوة، والهياكل الاجتماعية، والقيادة، والجماعات البشرية

اعتمد المؤلّفان تصميماً أظنّه رائعاً في هيكلة الكتاب، فالأجزاء الرئيسية في الكتاب (وهي أربعة) تضمّ العناوين الكبيرة: الرؤية العالمية الميكانيكية، نشأة التفكير النسقي، مفهوم جديد للحياة، إدامة شبكة الحياة، وكلّ جزء من هذه الأجزاء الأربعة يضمّ أجزاءً ثانوية تتفرّع بدورها إلى أجزاء ثانوية أصغر يَشِي بها نظام الترقيم، ويمكن للقارئ أن يختار منها أجزاء منتخَبة للقراءة، وإن كنت أحسبُ أنّ سياق ترتيب الأفكار في الكتاب سيدفع القارئ الشغوف لمتابعة القراءة بحسب التسلسل السياقي لها في الكتاب. ينتهي كلّ جزء بملاحظات استنتاجية تعزّز التفكير السياقي لدى القارئ، وحجم المراجعة التاريخية للأفكار والشخوص في الكتاب ليس بالحجم القليل أبداً، وهذا ما يعزّز أهمية الكتاب، ويضعه في مصافّ الكتب التي لا يحتاج معها القارئ للانشغال بمراجعات كثيرة، وفي نهاية الكتاب ثمة ثبتٌ لمصادر كثيرة في الموضوع تُغني من يشاء الاستزادة الفكرية العامة أو الفلسفية في شتى جوانب موضوعة التعقيد والنُّظُم الدينامية المعقدة.

يقالُ في تراثياتنا العربية في سياق الإطراء على كتاب بعينه أنّ كتاباً قد يُغني عن عشرة، أثِق كثيراً أنّ كتاب كابرا ولويزي يُغني عن أكثر كثيراً من عشرة كتب!! هو كتاب ضخم يستلزم جلَداً وشَغفاً ورغبة في الاستزادة من المعرفة المعاصرة، وهو ليس قراءة سياحية، لكنه مع هذا يمكن أن يقدّم طبقاً ثرياً من المعرفة، لا بأس من قراءته بتمهّل وتفكّر على مدى شهر كامل، ولا أظنُّ أن الشهر كثير على ألوان المعرفة والأفكار المخبوءة فيه.

عنوان الكتاب: رؤية نُظُمية إلى الحياة – رؤية موحّدة

المؤلف: فريتجوف كابرا وبيير لويجي لويزي

الناشر: دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع

عدد الصفحات: 601

تأريخ النشر: 2023