أفعالٌ صغيرة تصنعُ تواريخ كبيرة

تاريخنا البشري ليس نتاجاً حتمياً لسلسلة سببية من الأفعال العقلانية

براين كلاس
براين كلاس
TT

أفعالٌ صغيرة تصنعُ تواريخ كبيرة

براين كلاس
براين كلاس

كثيراً ما نميلُ إلى التفكّر الحثيث في تاريخنا البشري والطبيعي، ووضعه موضع الاستنطاق والمساءلة. يبدو أنّ المساءلة الشائعة لهذه التواريخ ستجعلنا ننتهي إلى ما يمكن تسميتها «سرديات كبرى (Grand Narratives)»: عصر التنوير والإصلاح الديني الأوروبي، ونشوء الحربين العالميتين الأولى والثانية، مثلاً، يمثلان سردية كبرى في تاريخنا البشري، مثلما أنّ نشوء الإنسان العاقل (Homo Sapiens) يمثل سردية كبرى في تاريخنا الطبيعي، وانبثاق الحضارة الصناعية بأطوارها المختلفة (بخارية، وكهرباء، ومحرك الاحتراق الداخلي...) يمثل سردية كبرى في تاريخنا التقني. تتشارك هذه السرديات الكبرى في خصائص مميزة: إنها أفعال كبيرة، حتمية محكومة بسلسلة سببية خطية صارمة؛ عقلانية. لعلّ مواريث عصر النهضة الأوروبية (الثورة الفيزيائية النيوتنية بالتحديد) هي السبب الأعظم الذي ساهم في التأطير المفاهيمي لهذه التواريخ ووضعها في هذا السياق النسقي الذي جاء مع «عصر الحداثة»، ثمّ مع حلول حقبة «ما بعد الحداثة» نُسِفت هذه السرديات الكبرى ولم تعُدْ تحتلُّ مواضعها المركزية السابقة في الفكر البشري. نحنُ في العادة نميلُ إلى التماهي مع سياق السرديات الكبرى؛ لما تنطوي عليه من حتمية وعقلانية وعناصر كبرى من الفعل تتفق مع رغبتنا البشرية في إضفاء الخصيصة العلمية الصارمة على أفعالنا التاريخية. السرديات الكبرى بكلّ أناقتها المفاهيمية وصِلاتها السببية الخطية توفّرُ علينا عناء البحث عمّا هو كامنٌ تحت السطح المباشر والمرئي للأحداث؛ لكنّ تراكماً من الوقائع في العالم المادي دفعنا دفعاً إلى مراجعة هذه السرديات الكبرى مراجعة شاملة.

يمكن عَدّ «نظرية الفوضى (Chaos Theory)» بداية خطّ الشروع في هذه المراجعة التاريخية الجذرية. «نظرية الفوضى» في أصلها هي محاولة علمية تُرينا كيف تتعامل النظم المعقدة بحساسية كبرى مع التغيرات الصغيرة التي تطرأ عليها. بعبارة أخرى: الأفعال الصدفوية الصغيرة (Flukes) يمكن أن تنشأ عنها تأثيرات كبيرة في النظم المادية (الفيزيائية). نحنُ في العادة لا نحبّذُ مدّ هذه الرؤية على النظم البيولوجية (الكائنات الحية) لاعتقادنا بأنها تخضع لمؤثرات أخرى؛ لكنّ التحليل الدقيق سيكشف لنا خطل هذه الرؤية. هذا ما يعتقده ويؤكّد عليه البروفسور براين كلاس (Brian Klaas) أستاذ «التاريخ العالمي (Global History)» في «الكلية الجامعة» بلندن، وقد عرض أفكاره في أحدث كتبه المنشور في يناير (كانون ثاني) 2024 بعنوان:

«الأفعال العشوائية الصغيرة: الصدفة... الفوضى... ولماذا أيّ شيء نفعله له أهميته المؤثرة».

يبدأ كلاس كتابه بمقدّمة مسهبة يكتب فيها عن الأفعال الصدفوية والعشوائية التي رافقت تشكّل تاريخنا البشري المعروف بموضوعاته الكبرى، ثمّ يقدّمُ شرحاً مكثفاً لحالة معاصرة - ليست بعيدة عنا – عندما تمّ القرار على إلقاء القنابل النووية على اليابان. هذه الحالة هي أقربُ إلى «دراسة الحالة (Case Study)» المعروفة في حقل الأدبيات الطبية، حيث تكون حالةٌ ما نموذجية دالة على حالات كثيرة؛ لذا سيكون من المفيد عرضُ تفاصيل قرار إلقاء القنابل النووية على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين.

عندما تقرّر قصف اليابان نووياً في مايو (أيار) عام 1945 عقب نهاية الحرب على الجبهة الألمانية؛ اختير «بنك أهداف» من المدن اليابانية التالية: كيوتو، هيروشيما، كوكورا، نيغاتا، ثمّ أضيفت ناغازاكي خياراً إضافياً. هذا ما اعتمدته لجنة من كبار جنرالات الحرب الأميركيين؛ لكن عندما عُرضت القائمة على وزير الحرب هنري ستيمسون (Stemson) رفض بشدّة وَضْعَ كيوتو على قائمة الأهداف، متعللاً بأنّها مدينة تضمُّ كثيراً من كبار الطبقة المثقفة (الأنتلجنسيا) اليابانية الذين سيكون من المفيد التعامل معهم بعد نهاية الحرب مع اليابان. تكشّفت حقيقة الأمر لاحقاً: كان ستيمسون وزوجته قد أمضيا شهر عسلهما في فندق بمدينة كيوتو قبل تسعة عشر عاماً (عام 1926 بالتحديد)، وقد ساء ستيمسون أن يرى مظاهر الحزن على وجه زوجته عندما علمت بأنّ هذه المدينة ستؤول إلى محرقة نووية عمّا قريب، فعزم على إخراج المدينة من قائمة الأهداف المرشّحة للقصف النووي. جاهد الجنرالات الأميركان لحثّه على قصف مدينة كيوتو لأنها مركز لتجمّع صناعي مهم فضلاً عن أنها عقدة المواصلات اليابانية؛ لكنّ ستيمسون رفض بحزم. ماذا كانت النتيجة؟ دفع أهل هيروشيما ثمن النوستالجيا المؤلمة التي حرّكت عواطف زوجة وزير الحرب الأميركي.

حدث أمرٌ مشابه بعض الشيء عند قصف ناغازاكي... كانت مدينة ناغازاكي هي المرشّحة للقصف؛ تليها مدينة كوكورا؛ لكنّ تجمعاً كثيفاً من الغيوم دفع طاقم الطائرة القاصفة للعدول عن قصف ناغازاكي واختيار الهدف الثاني على لائحة القصف. استدارت الطائرة متوجهة نحو كوكورا؛ لكنّ عضو الطاقم المسؤول عن توجيه القنبلة لمح في اللحظة الأخيرة فتحة بين الغيوم بانت منها مدينة ناغازاكي؛ فأشار إلى قائد الطائرة بالعودة إلى المسار السابق وتنفيذ خطة القصف الأصلية، وهكذا حُرق أبناء ناغازاكي في الوقت الذي بقي فيه أهل كوكورا سالمين. ذهب هذا المثل تعبيراً عن كلّ ذي حظ عظيم؛ فيوصفُ بأنّ له حظاً عظيماً في الحياة مثل «حظّ كوكورا».

المثال الموصوف أعلاه يمثّلُ حالة نموذجية لأفعال صدفوية صغيرة صنعت تاريخاً كبيراً، وقد انطوت على كلّ الخصائص الجوهرية لهذه الأفعال من حيث إنها:

1- أفعال صدفوية صغيرة: لعلّ قضاء شهر عسل يمثلُ حدثاً كبيراً في تاريخ الأزواج؛ لكنه لا يعدّ حدثاً مؤثراً في تشكيل تاريخنا البشري. ماذا لو قرّر ستيمسون وزوجته قضاء شهر عسلهما في مدينة غير كيوتو؟ وماذا لو أنّ عضو الطاقم المسؤول عن توجيه القنبلة قرّر صرف النظر عن وجود فتحة في الغيوم تكفي لتحديد مدينة ناغازاكي بصرياً ومن ثمّ قصفها بالقنبلة النووية؟

2- غير محكومة بسببية صارمة: قانون السببية الخطية لا يبدو أنه يعمل في مثال القصف النووي الياباني. كانت طوكيو العاصمة - مثلاً - شبه محطمة بتأثير القصف الجوي الأميركي التقليدي بقنابل حارقة، وقد بدا القصف النووي على اليابان أقرب لاستعراض قوة أميركية موجّه إلى الحلفاء الآخرين وليس دفعاً لليابان للتوقيع على وثيقة الاستسلام غير المشروط.

3- لا عقلانية: نحنُ - لو تُركنا لحالنا ومخيلتنا الخصبة - فسنميلُ لتوقّع أنّ انتقاء الأهداف اليابانية جاء بعد مناقشات مستفيضة اتّسمت بعقلانية صارمة ومفرطة، خصوصاً أنّ الأميركان كانوا بصدد تجريب سلاح نوعي جديد ذي قدرة تدميرية ساحقة. هذا حدث بالفعل، وكانت العقلانية هي الحاكمة لمباحثات اللجنة المكلّفة انتقاء الأهداف؛ لكنّ القرار الأخير كان بمؤثرات غير عقلانية (نوستالجيا في مثال كيوتو، وتشكّل عشوائي للغيوم في مثال كوكورا).

بعد المقدمة المسهبة للكتاب، يتناول المؤلف موضوعات تؤكّدُ عناوينها أصل أطروحته. نقرأ في هذه العناوين: «تغييرُ أي شيء يغيّرُ كلّ شيء»، و«لا يحدث أيّ شيء بسبب محتّم»، و«لماذا تشوّه أدمغتنا الواقع؟»، و«السرب البشري»، و«قواعد هيراقليطس»، و«الحيوان الذي يروي الحكايات»، و«لكلّ منا تأثير الفراشة الخاص به»، و«عن الساعات والتقاويم»، و«معادلات الإمبراطور الجديدة»، و«هل يمكن للأمور أن تحدث بطريقة أخرى؟»... عناوين مثيرة من غير شك، وتُغري بقراءة الكتاب.

كلُّ كتابٍ يخالف السرديات الكبرى السائدة له سحره الخاص وإغواؤه الفكري الجاذب. أظنُّ أنّ السحر والإغواء لن يخفتا أو ينقطعا لدى القارئ الذي يقرأ أيّ فصل من فصول كتاب كلاس.

«الأفعال العشوائية الصغيرة: الصدفة... الفوضى... ولماذا أيّ شيء نفعله له أهميته المؤثرة»

Fluke: Chance, Chaos, and Why Everything We Do Matters

المؤلف: براين كلاس

الناشر:

«Scribner Book Company»

2024


مقالات ذات صلة

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
ثقافة وفنون شاهد قبر من البحرين، يقابله شاهدان من تدمر

الفتى حامل الطير وعنقود العنب

يحتفظ متحف البحرين الوطني في المنامة بمجموعة كبيرة من شواهد القبور الأثرية المزينة بنقوش تصويرية آدمية، منها شاهد مميّز يمثّل فتى يحمل عصفوراً وعنقوداً من العنب

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون غلاف الكتاب

الرواية الفلسطينية... ممارسات الاحتلال وآليات المقاومة

«أسئلة الرواية الفلسطينية» هو الكتاب الحادي عشر في النقد الروائي للشاعر والناقد سلمان زين الدين، وقد صدر مؤخّراً عن «مركز ليفانت للدراسات والنشر» في الإسكندرية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون ريما بالي

الكاتبة السورية ريما بالي: أُواجه الحرب بالخيال وقصص الحب

تهتم الكاتبة الروائية السورية ريما بالي بسردية بلادها ما بعد الحرب، وتوليها عناية خاصة من خلال أعمالها التي تتحدث فيها عادة عن مسقط رأسها «حلب» في سياقات مختلفة

منى أبو النصر (القاهرة)

موجة ازدهار في الروايات الرومانسية بأميركا

بعض واجهات المكتبات
بعض واجهات المكتبات
TT

موجة ازدهار في الروايات الرومانسية بأميركا

بعض واجهات المكتبات
بعض واجهات المكتبات

الصيف الماضي، عندما روادت ماي تنغستروم فكرة فتح مكتبة لبيع الروايات الرومانسية بمنطقة فنتورا بكاليفورنيا، كان أول ما فعلته البحث عبر الإنترنت للتعرف على ما إذا كانت هناك مكتبات مشابهة في الجوار. وبالفعل، عثرت على مكتبة «ذي ريبيد بوديس»؛ مكتبة في كلفر سيتي تبلي بلاءً حسناً للغاية، لدرجة أنها تتوسع بافتتاح فرع ثانٍ لها في حي بروكلين بمدينة نيويورك.

وعن ذلك، قالت: «شعرت بالتهديد».

ومع أن نجاح «ذي ريبيد بوديس» بدا بمثابة مصدر تهديد، فإنه يوحي كذلك في الوقت ذاته باحتمالية وجود مساحة أمام مكتبة أخرى للروايات الرومانسية. وعليه، افتتحت في فبراير (شباط) مكتبة «سميتن» بمنطقة مزدحمة من «مين ستريت»، على بعد نحو ميل من منافسيها.

في الأشهر التي تلت ذلك، تحولت مكتبة «سميتن» إلى مركز نابض بالحياة لقراء الأعمال الأدبية الرومانسية، مع توقيعات المؤلفين وقراءات التارو ونوادي الكتب وأمسيات الترفيه والحرف اليدوية.

بعض الأحيان، يتصل عملاء بالمكتبة، محملين بطلبات محددة للغاية. عن ذلك، قالت تنغستروم: «جاء شخص ما وقال: أنا أحب الأعمال الأدبية الخيالية، وأريد الرواية أن تكون غريبة، وبها تمثيل لثقافة مختلفة. كما أريدها بذيئة قدر الإمكان».

وأضافت: «لديّ عملاء منتظمون يأتون عدة مرات في الأسبوع. وأسألهم أحياناً: ألم تشتر لتوك كتابين اليوم السابق؟».

اللافت أن الأعمال الأدبية الرومانسية كانت ذات يوم مجالاً يتجاهله أصحاب المكتبات المستقلة إلى حد كبير. ومع ذلك، تحولت اليوم إلى إحدى أكثر الفئات رواجاً في عالم الكتاب، وأصبحت، إلى حد بعيد، النوع الأدبي الأكثر مبيعاً، ونجاحها لا يعيد رسم ملامح المشهد العام لصناعة النشر فحسب، بل وكذلك صناعة بيع التجزئة.

وفي غضون عامين فقط، تبدل المشهد العام بالبلاد، من وجود مكتبتين فقط مخصصتين للروايات الرومانسية، «ذي ريبيد بوديس» و«لوفز سويت آرو»، في شيكاغو، إلى شبكة وطنية تضم أكثر عن 20 مكتبة، من بينها «تروبس آند ترايفلز» في مينيابوليس، و«غرمب» و«صن شاين» في بلفاست بولاية مين، و«بيوتي» و«بوك إن أنكوريج» في ألاسكا، و«لوف باوند ليبراري» في سولت ليك سيتي، و«بلوش بوكستور» بمنطقة ويتشيتا في كنساس. ولا يزال الكثير في الطريق، ومن بينها «كيس آند تيل» في كولينغسوود بنيوجيرسي، و«ذي نيو رومانتيكس» في أورلاندو بفلوريدا، و«غراند جستشر بوكس» في بورتلاند بولاية أوريغون؛ متجر عبر الإنترنت متخصص في بيع الروايات الرومانسية، يتحول اليوم إلى متجر على أرض الواقع.

اللافت أن غالبية هذه المكتبات تمتلكها وتديرها نساء، ناهيك عن أن النساء يشكلن غالبية قراء الروايات الرومانسية، ويعود الفضل إليهن في الارتفاع الهائل في مبيعات هذا الصنف الأدبي، من 18 مليون نسخة مطبوعة عام 2020 إلى أكثر عن 39 مليون نسخة عام 2023، تبعاً لمؤسسة «سيركانا بوكسكان».

في هذا الصدد، قالت ريبيكا تايتل، المحامية السابقة، التي تمتلك اليوم مكتبة «ميت كيوت» المتخصص في الروايات الرومانسية في سان دييغو: «هناك تحول ثقافي يجري على الأرض يشير إلى أن الإعلام، بصورة أساسية، أصبحت تجري كتابته وتوجيهه نحو النساء. اليوم، أدركت أعداد متزايدة من الأفراد أن الروايات الرومانسية ليست رائجة فحسب، وتحمل كذلك قيمة تجارية، بل وتحمل قيمة فنية وترفيهية كذلك».

من ناحية أخرى، يهيمن روائيون رومانسيون، مثل ساره جيه. ماس وإيميلي هنري وكولين هوفر وريبيكا ياروس على قوائم أفضل الكتب مبيعاً. وتكشف الأرقام أن 6 من بين أفضل 10 روائيين من حيث المبيعات داخل الولايات المتحدة، عبر العام الحالي حتى الآن، من كتاب الأعمال الرومانسية.

أما الناشرون، فيعمدون إلى توسيع نطاق قوائمهم الرومانسية، وجذب المؤلفين الرومانسيين الذين ينشرون أعمالهم ذاتياً. ويبدو هذا تحولاً هائلاً عن أيام سابقة كان يجري خلالها النظر بازدراء إلى الروايات الرومانسية باعتبارها سطحيةً وغير جادة، أو بذيئةً. وحتى سنوات قليلة مضت، حرصت الكثير من المكتبات المستقلة على عرض مجموعة صغيرة منتقاة من الروايات الرومانسية، التي غالباً ما يجري وضعها في رف خلفي داخل المكتبة.

من ناحيتها، قالت ليا كوك، التي تشارك في ملكية «ذي ريبيد بوديس»؛ أول مكتبة متخصصة في عرض الروايات الرومانسية تفتتح أبوابها على مستوى الولايات المتحدة عام 2016، إنها لا تزال تتذكر عندما كانت تبحث في سنوات المراهقة عبر المكتبات عن روايات رومانسية، دون جدوى.

وكان الشعور بالتعرض للتجاهل جزءاً من الدافع وراء سعي كوك وشقيقتها، بيا هودجيز كوك، لفتح مكتبة متخصصة في الروايات الرومانسية.

وعبّرت كوك عن اعتقادها بأن «الكثيرين ممن يعملون بمجال النشر وداخل المكتبات المستقلة شعروا وكأن الروايات الرومانسية غير جديرة بإهدار وقت في سبيلها. وكنت أقول في نفسي: بإمكانكم جني أموال، لكن لا بأس، أنا سأجني المال».

يذكر أن مبيعات الروايات الرومانسية بدأت تشهد ارتفاعاً كبيراً خلال سنوات الجائحة، مع إعادة اكتشاف القراءة، وتحول الكثيرين نحو الأعمال الخيالية الرومانسية كملاذ للهروب من الواقع (من بين القواعد الحاكمة لهذا الصنف الأدبي أن الغالبية الكاسحة تنتهي بنهاية سعيدة).

وساهم ظهور تطبيق «بوك توك» في تعزيز هذا الارتفاع في المبيعات، مع اجتذاب مؤثري «تيك توك» القراء صغار السن عبر فيديوهات يتحدثون فيها عن كتّابهم المفضلين.

اليوم، تظهر الروايات الرومانسية بشكل بارز على قوائم «تارغيت» و«بارنيز آند نوبل». وفي وقت مضى، كان عشاق الروايات الرومانسية يشترون الكتب الإلكترونية بشكل أساسي، خصوصاً وأنها أرخص وأسهل في الوصول إليها، وربما من الأسهل إخفاؤها. أما اليوم، فإنهم يستعرضون الروايات الرومانسية التي يملكونها على أرفف مكتباتهم بفخر.

ومنح هذا الصعود السريع للمتاجر المتخصصة في الروايات الرومانسية مكاناً جديداً لعشاق هذا الصنف الأدبي؛ مكاناً مرحباً به للإقبال على شراء كتبهم المفضلة بحماس.

من جهتها، قالت جين نتر، مديرة شؤون الاتصالات والتسويق لدى دار «كنزنغتون» للنشر، المعنية بالروايات الرومانسية: «يمكنك دخول مكتبة مخصصة للروايات الرومانسية، وستجد البائع يسألك: هل تحب الروايات ذات الأحداث الساخنة؟ أم ترغب في رواية تاريخية؟ إنه سيدرك سريعاً ما تريده، ولن يحاول أن يصدر أحكاماً عليك».

اللافت أن الكثير من هذه المكتبات تتسم بمظاهر جملية جذابة ومشرقة وذات طابع أنثوي، مثل الاعتماد الشديد على اللون الوردي، المزدان بزخارف على شكل قلوب وزهور، ناهيك عن التلاعب بالاستعارات الرومانسية المألوفة؛ أعداء الغرام، والحب الممنوع، والهوية السرية.

وتضم هذه المكتبات بين أرففها جميع الأنواع التي يمكن تخيلها للروايات الأدبية: التاريخية والموجهة للقراء صغار السن والأعمال التي تخلط بين الرومانسية والفانتازيا، والأخرى التي تدور حول موضوع رياضي. كما تضم جنبات الكثير من هذه المكتبات أعمالاً أدبيةً تولى مؤلفوها نشرها بالاعتماد على ذواتهم، والتي عادة ما لا تجد طريقها إلى المكتبات الكبرى.

في هذا الصدد، شرحت ميليسا سافيدرا، صاحبة مكتبة «ستيمي ليت» المتخصصة في الروايات الرومانسية، في «ديرفيلد بيتش» في فلوريدا، أنها اكتشفت الروايات الرومانسية منذ ما يزيد قليلاً عن عقد، عندما كانت تعمل ضابطة في رتبة صغيرة بالبحرية الأميركية.

وقالت إن بوابتها إلى عالم الروايات الرومانسية جاء عبر سلسلة «إي. إل. جيمس» المثيرة «فيفتي شيدز أوف غراي» (Fifty Shades of Grey)، التي تمكنت من قراءتها عبر جهازها اللوحي عندما كانت على متن بارجة حربية أميركية.

وبعد أن تركت عملها في البحرية عام 2017، عملت وكيلة سفريات لفرق رياضية. وعندما تباطأت وتيرة العمل في أثناء فترة الجائحة، طرأت على ذهنها فكرة «ستيم بوكس»، صندوق اشتراك ربع سنوي يتضمن مجموعة من الروايات الرومانسية. وحقق المشروع انطلاقة قوية.

وجاء «ستيم بوكس» بمثابة وسيلة للتخلص من وصمة العار العالقة بالروايات الرومانسية المثيرة. وقالت سافيدرا، التي ولدت في ليما بالبيرو، ثم انتقلت إلى ساوث فلوريدا عندما كانت في العاشرة: «لا يزال يتعين علينا أنا نقاتل بشراسة كي نفرض على الناس احترام هذا الصنف الأدبي». وقد ألزمت سافيدرا نفسها بالعمل على الترويج لأعمال الكتاب الرومانسيين من خلفيات متنوعة.

وقررت سافيدرا فتح مكتبة عندما أدركت أن مجتمعها في «ديرفيلد بيتش» يخلو من أي مكتبة متخصصة في الروايات الرومانسية، خصوصاً فيما يتعلق بالأعمال الرومانسية المتنوعة.

وفي عطلة نهاية الأسبوع الذي شهد افتتاح «ستيمي ليت»، أقبل على زيارة المكتبة نحو 500 شخص، وباعت 900 كتاب. ومنذ ذلك الحين، استضافت المكتبة أكثر من حفل توقيع لكتاب، بينهم كيندي رايان وعلي هيزلوود وآبي جيمينيز، التي نظمت احتفالية بالمكتبة في مايو (أيار)، ظهرت بها أعداد من الماعز الصغير، في إشارة إلى مشهد من روايتها «بارت أوف يور وورلد» (Part of Your World) تظهر به أعداد من الماعز.

وفي ظهيرة أحد أيام الأحد الربيع الماضي، كانت «ستيمي ليت» تعج بالقراء الذين يتصفحون الكتب ويحصلون على توقيع الكاتبة الرومانسية إيه. إتش. كننغهام، التي كانت تروج لروايتها «آوت أوف أوفيس» (Out of Office).

وقالت كننغهام إن المكتبة كانت تعج بمحادثات بالإنجليزية والإسبانية، مضيفة: «هذه المساحات التي نحتاجها».

اللافت أن غالبية هذه المكتبات التي تبيع الروايات الرومانسية تمتلكها وتديرها نساء بالإضافة إلى أنهن يشكلن غالبية قراء هذه الروايات

والتقط القراء صوراً تذكارية أمام اللافتات الوردية المضاءة بمصابيح «النيون» الخاصة بالمكتبة، بينما تصفح آخرون الأعمال الإسبانية داخل المكتبة. وحملت بعض أرفف المكتبة روايات تحت عناوين «الرومانسية المظلمة» و«الرمادي الأخلاقي» و«عصر البكاء». وقالت سافيدرا: «هذ الأرفف لا تبقى ممتلئة أبداً»، في إشارة إلى الأعمال الرومانسية.

من جهتها، حملت روزن فولمور، واحدة من العملاء المواظبين على زيارة «ستيمي ليت»، مجموعة من الروايات القديمة بيدها باتجاه كننغهام كي توقع عليها.

كانت فولمور قد سمعت عن المكتبة عندما نشرت رايان، واحدة من الكتاب المفضلين لديها، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أنها ستقيم فعالية هناك. ومنذ ذلك الحين أصبحت عميلة منتظمة لدى المكتبة، التي قالت عنها إنها «تضم جميع الأشياء المثيرة والجذابة التي يمكنك تخيلها».

وقالت عميلة أخرى، هي أنجيلا ثاير، التي تعمل في إدارة شؤون المحاربين القدامى في فلوريدا، إنها تأتي عادةً كل أسبوعين، عندما تحصل على راتبها. وفي ذلك الأحد، أحضرت ابنتها، آشلي واتكينز، التي كانت متحمسة لرؤية الكثير من الروايات الرومانسية لمؤلفين ملونين. وقالت واتكينز: «إن رؤية الكتب التي تضم أشخاصاً يشبهونني في المواقف الرومانسية أمر رائع حقاً».

خدمة «نيويورك تايمز»