الدولة أمام «توحش» التكنولوجيا في كتاب جديد

علاقات شائكة وسيناريوهات تعيد قراءة مفهومها وسيادتها

غلاف كتاب «فلسفة الدولة» (الشرق الأوسط)
غلاف كتاب «فلسفة الدولة» (الشرق الأوسط)
TT

الدولة أمام «توحش» التكنولوجيا في كتاب جديد

غلاف كتاب «فلسفة الدولة» (الشرق الأوسط)
غلاف كتاب «فلسفة الدولة» (الشرق الأوسط)

أربكت موجات متلاحقة من التطورات التكنولوجية شهدها العالم خلال العقدين الماضيين مفهوم الدولة، انطلاقاً من التقدم العلمي الذي تجلّى في اختراعات وابتكارات تتصاعد كل يوم، مروراً بالوفرة الاتصالية عبر الإنترنت، وصولاً إلى تطبيقات متناهية الصغر تبدأ من الروبوتات وتنتهي إلى الصواريخ العابرة للقارات.

اتخذت تلك التطورات طابعاً كونياً، ووصلت لدرجة من التعقيد في التعامل مع الأجسام متناهية الصغر في حياتنا، ومتناهية البعد في المجرات الأخرى، كل ذلك عبر الأجهزة والتقنيات والشبكات التي حطمت الحدود وقربت المسافات واخترقت كل الأسوار، وأصبحت خطراً يهدد سيادة الدولة بمفهومها التقليدي وأقانيمها الثلاثة (الأرض –الشعب - السلطة).

ومن ثم، أصبح العالم بين خيارين: إما أن تتمكن الدولة من ترويض «وحش التكنولوجيا» الذي أصبح يشكل تهديداً وجودياً لها، أو يفرض «الوحش» شروطه ويقدم مفهوماً جديداً للدولة على مقاسه.

يطرح الدكتور مالك محمد القعقور، الإعلامي اللبناني، تلك الإشكالية بتوسّع في كتابه «فلسفة الدولة أمام التكنولوجيا الكونية»، متتبعا نشأة فكرة الدولة منذ عصر الإغريق وحتى العصور الوسطى وانتهاء بالعصر الحديث، كما يرصد تطورات التكنولوجيا منذ عصر الحرف وحتى عصر البخار ثم الأتمتة، وانتهاء بالعصر النووي.

يشير الكتاب الصادر عن دار أوراق بالقاهرة إلى التفاعل والمنفعة المتبادلة بين الدولة والتكنولوجيا، فالدولة توفر سبل وإمكانيات البحث والتطوير للتكنولوجيا، فيما توفر التكنولوجيا أدوات وآليات تخدم الدولة في مناح مختلف اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وحتى استعماريا.

ويشير المؤلف إلى أن هذه العلاقة التبادلية تغيرت بمرور الزمن، فمع ظهور فكرة العولمة وتحوّل العالم إلى قرية صغيرة، وهو ما يطلق عليه الكاتب مصطلحات مثل «الكوكبة» و«الكونية» و«الشوملة»، تصاعد دور الشركات متعددة الجنسيات التي وصل عددها إلى عشرات الآلاف، بحسب ما ورد في الكتاب. موضحا أن الأقانيم الثلاثة التقليدية، التي كانت تحدد مجال الدولة (أرض وشعب وحكومة)، تحولت إلى أرض وفرد يمتلك مجالاً افتراضياً وشعبا وحكومة، فالتعريف التقليدي للدولة بأنها «تجمع سياسي يؤسس كياناً ذا اختصاص سيادي في نطاق إقليمي محدد، ويمارس السلطة عبر منظومة من المؤسسات الدائمة». لم يعد دقيقاً أو يعبر عن الواقع.

يعزو ذلك إلى أن التكنولوجيين ممثلين في شركات عملاقة عابرة للقارات تجاوزوا دور الدولة، بل أصبحوا يهددون وجودها، وبدأت تظهر تساؤلات حول جدوى «الدولة» وهل هي ضرورية؟ ويستشهد الكاتب، في الكتاب الذي يقع في 372 صفحة، برأي الفيلسوف الفرنسي جاك إلّول (1912 - 1994) في كتابه «خدعة التكنولوجيا» بأن الدولة تذوي ويحل محلها تنظيم اجتماعي غير سياسي مؤسس على نوع معين من المعرفة.

الشركات الكبرى تمكنت من إلغاء الحدود بين الدول، والتغاضي عن القوانين المحلية، مما أثّر على الدولة اقتصادياً واجتماعياً بشكل سلبي، وهناك مثال يطرحه الكتاب في النزاع بين شركة «أبل» والسلطات الفيدرالية الأميركية التي طلبت فك شفرات أجهزة أيفون لمشتبه في تورطه بجرائم إرهاب.

فحين حاولت الدولة مراقبة وسائل الإعلام والاتصالات لمعرفة ما يدور في خلد المواطنين، أو حتى لحماية نفسها أو مجالها السلطوي وجدت نفسها في مواجهة منظومة معقدة من التطور التقني تكاد تكون خارج السيطرة.

كل ذلك انعكس على مفهوم الإنتاج وأدواته ومن ثم على وظائف الدولة، فيمكن استبدال الآلة بالعمالة، وأصبحت هناك تهديدات شاملة عابرة للقوميات، وأخطار مرتبطة بالإنتاج الكيماوي والذري شديد التطور، مما أثّر في دلالات مفاهيم مثل الزمان والمكان والدولة والأمة.

يلفت الكتاب إلى تغيّر مفهوم السيادة في القرن الماضي، مع تطور التكنولوجيا وثورة الاتصالات والمعلومات، وتبدّل قوانين التجارة الدولية وآلياتها بطريقة أصبحت تنتهك السيادة الوطنية، برضا السلطات أو غير رضاها، كما ظهرت إمبراطوريات إعلامية ومؤسسات ومنظمات دولية غير حكومية تخرق سيادة الدول.

تلك التطورات خلقت صراعاً بين الدولة والمواطنين، ساحته شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، الطرفان يتنازعان على أحقية كل منهما في السيادة الافتراضية، فبعد أن كانت السلطة في يد الدولة انتقلت إلى يد الشبكة أو التفاعل بين الشبكات، فالأخيرة أصبحت تتنافس مع الدولة للهيمنة على «المواضيع الساخنة» وإبرازها أمام العالم.

الفلسفة التي أسست مفهوم الدولة، وسبق أن حذرت من مخاطر التكنولوجيا إذا تفلتت من سيطرة الإنسان، يجب أن تتصدى للمأزق الراهن الذي تواجهه الدولة، ويجب إعمال التفكير النقدي في «غربلة» المعلومات للوصول إلى الحقيقة لأنه السبيل الوحيد لعدم تحول البشر إلى «حشود جاهلة» يجرفها في طريقه «فيضان الإلكترون».

د. مالك القعقور

وتدخلت التكنولوجيا وثورة الاتصالات على الشبكة العنكبوتية في الكثير من الأحداث الكبرى، منها جماعة «أنونيموس» المعروفة بالقرصنة الإلكترونية منذ عام 2003، ولهم تعريف مجازي شائع بأنهم «الدماغ العالمي الرقمي اللاسلطوي»، وكان لهذه الجماعة دور في الهجوم على مواقع حكومية مثل موقع وزارة العدل الأميركية.

وقدمت الحركة الدعم الفني لعدد من الثورات العربية وحركة «احتلوا وول ستريت»، وتبنى الثوار في أكثر من دولة شعار الحركة وهو قناع «غاي فوكس» المعروف بـ«فنديتا». من هنا تتكون عصبيات افتراضية، من القبيلة إلى «فيسبوك»، لتشكل البنية الاجتماعية الجديدة في المجتمع الكوني الكبير.

ويتناول الكتاب نموذج المدن الجديدة (ما دون الدولة) التي تحظى بنشاط إنتاجي مميز في مجال معين، وتعرف باسم الدولة المصغرة تتعامل بشكل مستقل عن الدولة أحياناً، ويصل الأمر لدرجة أن يكون لها تمثيل دبلوماسي عبر بعثات تحت شعار الدولة الأم.

ومن مخاطر تشريد العمال إلى تطوير الأسلحة إلى التحكم في الجينات البشرية يتحول التطور التكنولوجي إلى ما يشبه «صندوق بندورا»، الذي يحمل كل شرور العالم، فهو منظومة متضخمة تعجز السياسة أمامها، ومن خصائصها الاستقلال الذاتي، كما أنها تسير وتنتشر في كل أنحاء العالم وفق قوانينها الكونية.

من هنا تصبح الدولة في حاجة إلى تعريف آخر أو إطار جديد يحتويها ويحدد دورها ووظائفها، بعد أن تآكل مبدأ السيادة على جميع الجبهات (الأرض - الشعب - السلطة).

يطرح الكتاب أربعة سيناريوهات محتملة لشكل الدولة الجديد في ظل التطور الهائل للتكنولوجيا الكونية. السيناريو الأول: أن تحل الشركات متعددة الجنسيات محل الدولة، وتتنازل الدولة عن أجزاء من سيادتها لتلك الشركات. السيناريو الثاني: أن تستمر سيادة الدولة وتخسر جزءاً من وظائفها الاقتصادية والمالية. السيناريو الثالث: تشكيل حكومة عالمية (دولة كوكبية) تتنازل لها الدول القومية عن سيادتها. السيناريو الرابع: تفكيكي؛ ومفاده أن تتحول الدولة إلى مئات من الدول القومية الصغيرة بدواع مختلفة.

في النهاية يعلي القعقور من قيمة «التفكير النقدي» وقدرته على تقييم ما سيحمله الغد، مشيراً إلى أن الفلسفة التي أسست مفهوم الدولة، وسبق أن حذرت من مخاطر التكنولوجيا إذا تفلتت من سيطرة الإنسان، تتصدى للمأزق الراهن الذي تواجهه الدولة، وأن إعمال التفكير النقدي في «غربلة» المعلومات للوصول إلى الحقيقة هو السبيل لعدم تحول البشر إلى «حشود جاهلة» يجرفها في طريقه «فيضان الإلكترون».


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية
TT

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية

اشتهر كارل فون كلاوزفيتز، كبير فلاسفة الحرب في الغرب، بملاحظته أن الحرب امتداد للسياسة، كما أشار إلى نقطة ثانية، وهي أن الحرب تابعة للسياسة، ومن ثم فهي تتشكّل من خلالها، مما يجعل «تأثيرها ملموساً حتى في أصغر التفاصيل العملياتية».

نحن نرى هذا اليوم في الشرق الأوسط، حيث قد تسترشد محاولات إنقاذ الرهائن الفتاكة، والاغتيالات الكبرى، كتلك التي أودت بحياة حسن نصر الله زعيم «حزب الله»، بنقاط سياسية بقدر ما تسترشد بالرغبة في إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن. وعلى الجانب الآخر من المعادلة، يبدو أن أحدث سرب من الصواريخ الباليستية الإيرانية، التي انفجر معظمها من دون ضرر فوق إسرائيل، كان عملاً من أعمال المسرح السياسي الذي يهدف في المقام الأول إلى رفع المعنويات على الجبهة الداخلية.

من المفيد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وآية الله علي خامنئي من إيران، ناهيكم عن الرئيس الأميركي المقبل، أن يقرأوا كتاب جفري فافرو «حرب فيتنام: تاريخ عسكري» (652 صفحة، دار «بيسك بوكس» للنشر).

إنه يُلقي أفضل نظرة عامة على المغامرة الأميركية في جنوب شرقي آسيا، ومن المؤكد أنه سوف يصبح كتاباً معيارياً عن تلك الحرب، وبينما نتابع المعاناة الجارية في الشرق الأوسط، فإن هذا الكتاب يقدّم لنا أيضاً دروساً قوية بشأن المخاطر المترتبة على شن حرب مفتوحة من دون إستراتيجية حقيقية.

تركّز أغلب كتب التاريخ عن حرب فيتنام على الدبلوماسية والسياسة في الصراع، بالعودة إلى العمليات العسكرية للأحداث الرئيسية فقط، مثل هجوم «تيت» ومعركة مدينة «هوي»؛ إذ يتبع واورو، المؤرخ في جامعة نورث تكساس، نهجاً أكثر تنويراً.

ووفقاً لرأي فافرو، كان التدخل الأميركي في فيتنام بمثابة درس كبير في كيفية تجنّب شنّ الحرب، وقد أدى الاعتقاد الطائش في فاعلية القوة النارية المحضة، إلى حملات القصف الأميركية المدمِّرة التي كما يقول واورو: «أدّت إلى إحراق سُبع أراضي جنوب فيتنام» و«خلقت خمسة ملايين لاجئ داخلي»، على أمل دفع قوات «فيت كونغ» الفيتنامية إلى العراء، ورفض الخصم الشيوعي القتال بهذه الطريقة، بل كانوا يشتبكون سريعاً، ثم ينسحبون عندما يردّ الأميركيون بوابل عنيف من نيران المدفعية والغارات الجوية. في الأثناء ذاتها، كلما حاول الرئيس ليندون جونسون - الذي لم يدرس مبادئ كلاوزفيتز - فصل الحرب عن السياسة، بالكذب بشأن تكاليفها ورفض تعبئة الاحتياطي العسكري؛ صارت الحرب أكثر سياسية، وهيمنت على الخطاب الأميركي، ثم عصفت به خارج الرئاسة.

لم يكن أداء أميركا أفضل مع الهجمات المستهدفة، وكما هو الحال مع أجهزة البيجر المتفجرة التي استخدمتها إسرائيل، فإن برنامج «فينكس» من إعداد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لاغتيال أعضاء «فيت كونغ» قد «ركّز على (القبض أو القتل)»، كما كتب واورو، وأدى إلى سقوط ضحايا أبرياء، كما أنه لم يؤدِّ إلى الاقتراب من نهاية الحرب؛ لأن البرنامج بأكمله كان مبنياً على «أرقام ملفقة»، كما يوضح المؤلف، «وليس على الواقع الحقيقي»، وكان البرنامج عبارة عن طريقة أخرى لقتل الناس من دون فهم الحرب.

جعلتني قراءة التاريخ الرائع الذي كتبه فافرو أفكّر في نتيجة لازمة جديدة لنظريات كلاوزفيتز: كلما كانت الاستراتيجية أقل تماسكاً في الحرب، أصبحت أكثر تسييساً، دخلت الولايات المتحدة الحرب لأسباب سياسية ودبلوماسية غامضة (الظهور بمظهر الصرامة أمام خصوم الحرب الباردة ليس نهاية المطاف). بعد عقدين من الزمان كان الغزو القصير والفوضوي لجنوب «لاوس» من قِبل القوات البرّية الفيتنامية الجنوبية والقوة الجوية الأميركية بمثابة «مسرحية سياسية، وليس حرباً»، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية عام 1972، لم تكن هناك نهاية في الأفق، وكان الدافع وراء الهجوم هو رغبة الرئيس ريتشارد نيكسون في جعل الأمر يبدو وكأن فيتنام الجنوبية تتولّى زمام الأمور في القتال، وبدلاً من ذلك، زاد من زعزعة استقرار المنطقة، ولم يفعل شيئاً يُذكر لقطع خطوط إمداد العدو.

لحسن الحظ، خلال الحرب العالمية الثانية استخدمت الولايات المتحدة السياسة لخدمة المجهود الحربي بدلاً من العكس، وإن لم يكن الجميع يرَون الأمر على هذا النحو. في كتاب «أميركا أولاً: روزفلت ضد ليندبيرغ في ظل الحرب» (444 صفحة، دار «دوبلداي للنشر»)، يُصوّر إتش دبليو براندز، نجم الطيران الشهير تشارلز ليندبيرغ، الذي تحدث عن النزعة الانعزالية في البث الإذاعي الوطني، بوصفها أمراً ساذجاً، ولكن صادقاً، في حين يُصوّر الرئيس فرانكلين روزفلت بأنه مخادع بشكل ملحوظ في جهوده لدفع الولايات المتحدة إلى الحرب.

لكن في الواقع، كان فرانكلين روزفلت هدفاً كبيراً لهذه التهمة؛ إذ تعهد الرئيس أثناء حملته الانتخابية للفوز بولاية ثالثة غير مسبوقة، قائلاً: «لن يُرسَل أبناؤكم إلى أي حروب خارجية»، وكان جيمس، نجل روزفلت، يتساءل عن سبب اتخاذ والده هذا الموقف، فقال والده موضحاً: «جيمي، كنت أعلم أننا ذاهبون إلى الحرب، كنت متأكداً من أنه لا يوجد مخرج من ذلك، كان لزاماً أن أثقّف الناس بشأن الحتمية تدريجياً، خطوة بخطوة»، ربما يكون هذا مخادِعاً، لكن هذه السياسة ساعدت الأميركيين على المشاركة في المجهود الحربي، كان كلاوزفيتز ليفخر بذلك.

في الوقت نفسه، عندما يرفض ليندبيرغ الدعوة إلى هزيمة ألمانيا في أواخر يناير (كانون الثاني) 1941، يُعيد إلى الأذهان رفض دونالد ترمب دعم المعركة الأوكرانية ضد العدوان الروسي، ويلاحظ براندز، وهو مؤرخ في جامعة تكساس فرع أوستن، ليونةَ ليندبيرغ إزاء ألمانيا النازية، ولكن - في رسم صورة متعاطفة للرجل - يستبعد عديداً من التفاصيل التي تظهر في كتب أخرى، مثل السيرة الذاتية تأليف «إيه سكوت بيرغ»، الفائزة بجائزة بوليتزر لعام 1998.

لا يذكر براندز، على سبيل المثال، أن ليندبيرغ رفض في مايو (أيار) 1940 الحديث عن مخاطر انتصار النازية، بوصفه «ثرثرة هستيرية»، أو أنه، في العام نفسه، ألّفت زوجة الطيار آن مورو ليندبيرغ كتاب «موجة المستقبل»، وفيه جادلت بأن العهد الجديد ينتمي إلى أنظمة استبدادية، وكان ذلك الرجل يحمل مثل هذه الولاءات المُرِيبة حتى بعد بيرل هاربر، كما قال ليندبيرغ (في تصريحات أغفلها براندز أيضاً): «إن بريطانيا هي السبب الحقيقي وراء كل المتاعب في العالم اليوم».

إن مثل هذه الإغفالات تجعل كتاب براندز يبدو وكأنه مُوجَز متحيّز إلى ليندبيرغ أكثر من كونه كتاباً تاريخياً نزيهاً. كتب براندز يقول: «لقد أصاب ليندبيرغ كثيراً في حملته ضد الحداثة، لكنه أخطأ في أمر واحد كبير- فهو لم يرَ أن الأميركيين كانوا على استعداد للتدخل في الصراعات الخارجية». وأودّ أن أزعم أن ليندبيرغ كان مخطئاً أكثر من ذلك؛ فقد عبث بمعاداة السامية، وهو شيء ينتقص براندز من أهميته، وعلى نحو مفاجئ بالنسبة لطيار شهير، لم يكن يبدو أن لديه الكثير من البصيرة في دور القوة الجوية في الحرب، وحتى في القراءة الأكثر تعاطفاً، لا بد أن كلاوزفيتز كان ليحتدم غيظاً.

الجنرال البروسي العجوز هو موضوع تحليل جديد لاذع، وربما شديد التحريض من ناحية «أزار غات»، المؤرخ الفكري في جامعة تل أبيب. في كتابه «أسطورة كلاوزفيتز: أو ملابس الإمبراطور الجديدة» (228 صفحة، دار «كرونوس للنشر»)، يزعم غات أن كتاب كلاوزفيتز «عن الحرب» مؤثر بصورة رئيسية؛ لأنه مُحير للغاية. ويَخلُص إلى أن «الكثير من سمعة الكتاب تستند إلى سوء فهم دائم لما يعنيه في الواقع».

هناك في الأساس اثنان من كلاوزفيتز؛ الأول ألّف في وقت مبكر من حياته المهنية الكثير من كتب «عن الحرب»، بينما يسعى إلى فهم انتصارات نابليون السريعة والساحقة على بروسيا، والآخر كان يحاول بعد سنوات رسم مسارٍ لاستعادة بروسيا مكانتها في أوروبا، ولكن بدلاً من تأليف كتاب ثانٍ، كما يقول غات، عاد الضابط البروسي ونقّح كتاب «عن الحرب» بطرق تتناقض على نحو جَلِيّ مع بعض الأجزاء الأسبق من نفس الكتاب. بدأ كلاوزفيتز بكتابة أن النصر يعتمد على هزيمة سريعة للعدوّ في معركة كبيرة واحدة. وفي وقت لاحق أدرك أن العديد من الأطراف الفاعلة، سيما الأضعف منها، قد يكون لديها سبب لإطالة أمد القتال. وشرع في التنقيح، لكنه لم يكن لديه الوقت لعلاج هذا التضادّ قبل وفاته عام 1831.

وبينما كنت أقرأ كتاب غات، ظللتُ أفكّر في أنه لم يدرك النقطة الأكثر أهميةً؛ قد تشوب الأعمال الكلاسيكية حالة من النقص إلى حد بعيد؛ إذ تطرح أسئلة أكثر مما تقدّم من إجابات، وهو ما كان بمثابة طريق أكثر أماناً للاستمرار عبر الزمن. في الواقع، كانت واحدة من أشهر ملاحظات كلاوزفيتز تتعلّق بطرح الأسئلة، وهو يقول إنه قبل أن تتصاعد أعمال العنف يجب على القادة المفكرين أن يسألوا أنفسهم: ما نوع هذه الحرب؟ وما الذي تريد أمّتي تحقيقه؟ وهل يمكن أن تحقّق ذلك فعلاً؟

هذه اعتبارات جيدة. إن مواصلة حرب استنزاف لا نهاية لها، سواء في جنوب شرقي آسيا، أو في الشرق الأوسط، من غير المرجّح أن تؤدي إلا إلى المزيد من الفوضى والموت، وعلى نحو مماثل، لو تعامل قادة أميركا بجدّية مع نهاية المسألة قبل غزو فيتنام، ناهيكم عن العراق أو أفغانستان، ربما كانت حروبهم لتسير على نحو أفضل كثيراً، أو ربما لم تكن لتحدث على الإطلاق.

-------------------

خدمة: «نيويورك تايمز».