فرجينيا وولف... قبل الكاتبة كانت الصحافية

142 سنة على ميلاد صاحبة «السيدة دالوي» في مثل هذا اليوم

فرجينيا وولف في مكتبها
فرجينيا وولف في مكتبها
TT

فرجينيا وولف... قبل الكاتبة كانت الصحافية

فرجينيا وولف في مكتبها
فرجينيا وولف في مكتبها

إذا كنا نعرف فرجينيا وولف الروائية الكبيرة وصاحبة الأعمال الخالدة كـ«السيدة دالوي» و«غرفة جاكوب»، فإن فرجينيا الصحافية مجهولة عند الكثير. مشوارها مع الصحافة بدأ منذ 1904، حيث كتبت فيه أكثر من 500 مقال، لكن مساهمتها الممتازة في الصحف والجرائد بوصفها ناقدة وكاتبة مقال لم تجد صدًى كبيراً عند الباحثين وكتّاب سيرتها الذاتية.

أولى التجارب الصحافية عند الكاتبة البريطانية بدأت وهي ابنة التاسعة، حين كانت تكتب برفقة الشقيقين فانيسا وتوبي منشورة أسبوعية بخط اليد، عبارة عن صحيفة عائلية تضم أخبار الأهل وحكايات من وحي الخيال، وكانت تحمل عنوان: «هايد بارك جات نيوز» باسم الحي الذي كانت تقطن فيه العائلة. واستمرت 4 سنوات إلى تاريخ وفاة والدة فرجينيا، حيث كانت وقتها في الثالثة عشرة. الباحثة الفرنسية أديل كاسينيول تشرح في كتابها «قصّة في غنى عن الكلمات أو الكتابة عن الطفولة في الهايد بارك جات نيوز» أن صحيفة الطفولة كانت بمثابة مدرسة للكتابة، والفضاء الذي سمح لفرجينيا الطفلة بتحقيق ذاتها عبر الكتابة. كان والداها هما أول قرائها حيث كانت تستيقظ مع الفجر، وتضع المنشورة تحت باب غرفة النوم، مترقبة ردود أفعالهما على المقالات.

لقاء فرجينيا وولف الفعلي بالصحافة كان بعد فترة صعبة من حياتها عرفت فيها سلسلة من المحن: موت والدها في فبراير (شباط) 1904، وإصابتها بالاكتئاب، ومحاولتها الأولى للانتحار، ثم دخولها المصّحة النفسية. صديقتها عالمة النباتات والمستشرقة فيوليت ديكنسون تعلم أن الكتابة لها مفعول المهدئ لفرجينيا، فتقوم بتقديمها لرئيسة تحرير ملحق المرأة بصحيفة «الغارديان» مارغريت ليتلتون، ليثمر اللقاء تعاوناً مع الصحيفة، وكان أول مقال يُنشر لها في 21 من ديسمبر (كانون الأول) 1904 بعنوان «الحج إلى هاوورت» وصفت فيه لقّراء الصحيفة العريقة زيارتها لدير الراهبات الذي كانت تسكنه الأخوات برونتي: شارلوت، وإيميلي وآن، وبذلك أصبح هذا المقال أول نص يُنشر لفرجينيا، والصحافة أول مهنة لها وهي في سن الـ22 أي أكثر من 10 سنوات قبل أن تكتب أول رواياتها «رحلة المظاهر» عام 1915.

كتبت فرجينيا طيلة مشوارها الصحافي أكثر من 500 موضوع، وتعاونت فيها مع صحف بريطانية وأميركية ذائعة الصيت، مثل صحيفة «الغارديان» و«التايمز» و«نيويورك إفنينغ بوست» و«أكاديمي أند ليتيراتور» و«فوغ» وصحف أخرى. وكتبت بشكل أساسي في النقد الأدبي: مراجعات نقدية للإصدارات الجديدة وبأسلوب أكثر عمقاً سجلت فيها تأملاتها في الأدب والعملية الإبداعية، فاتحة فيها حواراً مباشراً مع القرّاء، كما كتبت أيضاً عن السّير الذاتية لكبار الكتّاب، وفي المقام الأول الكتّاب الروس والفرنسيون الأقرب إلى قلبها: دوستويسفكي، تولستوي، مونتان، وبالطبع، الإنجليز مثل جين أوستن وكيبلنغ. وفي مقال بالملحق الثقافي لجريدة «التايمز» نُشر في 13 من يناير (كانون الثاني) 1924 كتبت بخصوص الكاتب الفرنسي مونتان الذي كانت تعشقه وتقرأ مؤلفاته باللّغة الفرنسية: «هذا الأسلوب الذي كان يتم به الإفصاح عن الذات، وفقاً للإلهام، بمنحنيات وثقل ولون ومقاس للنفس بكل اعترافاتها وتنوعها وعيوبها... هذا الفن يعود لرجل واحد فقط هو: مونتان...». وقد يكون توجه فرجينيا وولف إلى مقالات السّير الذاتية هو سير على خطى والدها سور ليسلي ستيفن الصحافي والكاتب ورئيس تحرير «القاموس الوطني للسيرة الذاتية»، هذا الأب المثقف الراقي، الذي كان متشّدداً مع بناته لدرجة أن فرجينيا اعترفت في مذكراتها بأن موته قد حررّها؛ حيث كانت في بداية انطلاقها في الكتابة تعترف بما يلي: «اليوم ذكرى ميلاد والدي، كان سيكمل الـ96 سنة، ولكن شكراً لله لم يَصِلْها، حياته كانت ستبتلع حياتي، ماذا كان سيحدث؟ لم أكن لأكتب ولا كتاباً واحداً... شيء لا يمكن تصوره».

كتبت وولف أيضاً مقالات سياسية تناولت فيها انشغالات تلك الفترة، كحقوق المرأة والسلام، وعن دعمها للجمهوريين في الحرب الأهلية في إسبانيا. وفي موضوع بمجلة «يال ريفيو» نُشر في سبتمبر (أيلول) 1930 بعنوان: «مذكرات عاملات في التعاونية» كتبت عن تدّني الأوضاع المعيشية للنساء العاملات، ونشرت شهادات مؤثرة لمعاناة النساء من الفقر رغم العمل الشّاق، مناشدة المسؤولين تغيير الأوضاع. وفي فقرة من المقال تحدثت أيضاً عن حق النساء في التصويت، حيث كتبت: «في هذا الجمهور الواسع، من بين هؤلاء النساء اللواتي يعملن واللواتي لديهن أطفال، اللواتي ينظفن ويطبخن ويساومن على كل شيء ويعرفن كيف يصرف كل قرش، لم يكن لأي واحدة منهن الحق في التصويت».

لقاء فرجينيا وولف الفعلي بالصحافة كان بعد فترة صعبة من حياتها عرفت فيها سلسلة من المحن: موت والدها، وإصابتها بالاكتئاب، ومحاولتها الأولى للانتحار، ثم دخولها المصّحة النفسية

استخدمت فرجينيا وولف نشاطها الصحافي أيضاً منبراً دعت من خلاله إلى إنهاء الحروب والعودة إلى الأمن والسلام، فبينما كانت لندن تحت قصف الطيران النازي كتبت في مجلة «نيو روبوبليك» النيويوركي في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1940 مقالاً بعنوان «اعتبارات حول السلام في زمن الحرب» جاء فيه ما يلي: «حلّق الألمان فوق منزلنا خلال الليلتين الماضيتين وهاهم يعودون. تجربة غريبة أن تستلقي في الظلام، وتستمع إلى صوت الدبابير وهي تقترب منك وتقول إن لدغتها قد تكلفك حياتك في أي لحظة. إنه صوت يمنع كل تأمل متماسك ومنسجم قد يكون لدينا بشأن السلام، ومع ذلك فهو أكثر من الصلوات، صوت يجب أن يشجعنا على التفكير في السلام».

وإضافة إلى أن الصحافة كانت الفضاء الذي سمح لها بتشكيل أسلوبها وتوسيع دائرة تجاربها وتفكيرها، فقد شكلّت بالنسبة لفرجينيا مصدر دخل رئيسياً ووسيلة لتحقيق ذاتها بوصفها امرأة حرّة مستقلة بذاتها، في نصّها المشهور «غرفة تخّص المرء وحده» عام 1929 ذكّرت الكاتبة البريطانية بأن «المرأة يجب أن يكون لديها المال وغرفة خاصة بها إذا أرادت التفرع لكتابة القصص»، وقد كان عملها في الصحافة ما سمح لها بالحصول على هذا الاستقلال المادي.

وفي محاضرة عن «المهن الخاصة للمرأة» نظمت بإشراف الجمعية الوطنية للمرأة في لندن في 21 من يناير 1931، استشهدت الكاتبة بتجربتها الخاصة بوصفها صحافية، حيث قالت: « فلنعد إلى قصّتي، الأمر بسيط يكفي أن نتخيل فتاة شابة جالسة وبيدها قلم رصاص، كل ما عليها فعله هو جرّ هذا القلم من اليسار إلى اليمين من العاشرة صباحاً حتى الواحدة، ثم تأتي فكرة القيام بشيء بسيط وغير مكلف، ثم وضع بعض الصفحات في ظرف ورميه في صندوق البريد في زاوية الشارع وهكذا... أصبحت صحافية... وكوفئت جهودي في الأول من الشهر التالي، ويا له من يوم سعيد بالنسبة إليّ حين فتحت رسالة مدير المجلة وفيها شيك بمبلع جنيه و10 شلنات...»!!!


مقالات ذات صلة

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

كتب إيمانويل كانط

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟

لطفية الدليمي
كتب «الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري

رشا أحمد (القاهرة)
شمال افريقيا الكاتب الجزائري بوعلام صنصال يتحدث في مؤتمر صحافي خلال الدورة الثانية والستين لمهرجان برلين السينمائي الدولي 9 فبراير 2012 (أ.ب)

الجزائر تواجه دعوات متزايدة للإفراج عن الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال

دعا سياسيون وكتاب وناشطون إلى الإفراج عن الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال.

«الشرق الأوسط» (الجزائر)
كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.