دونييل كلايتون تريد تغيير صناعة النشر الأميركية

75 % من المؤلفين من البيض... والمؤلفون الملونون يتقاضون أجوراً أقل

دونييل كلايتون
دونييل كلايتون
TT

دونييل كلايتون تريد تغيير صناعة النشر الأميركية

دونييل كلايتون
دونييل كلايتون

في إحدى أمسيات الخريف هذه السنة، اجتمع حشدٌ من الكتاب والمهنيين بمجال النشر داخل صالة في قلب مانهاتن. وينتمي هذا الحفل الذي استضافته شركة جديدة تدعى «إلكتريك بوستكارد إنترتيمنت» إلى نمط الفعاليات الفاخرة التي أصبحت نادرة بمجال صناعة الكتب خلال حقبة تتميز باندماج الشركات وتقليص أحجامها.

خلال الحفل، تبادل الضيوف أطراف الحديث حول الصناعة. وضم الحشد مديرين تنفيذيين من شركة «سوني»، ووكلاء أفلام ومنتجين، وكشافة كتب، وروائيين ومحررين، ومسؤولين عن الدعاية من دور نشر مثل «ماكميلان»، و«سيمون آند شوستر»، و«ويليام مورو».

وجرى تقديم عروض مبيعات الشركة خلسة عبر أكياس الهدايا المحشوة بالشموع، وسترة من النوع الثقيل والشاي. وإلى جانب غنيمة الحفلة، كان هناك مظروف صغير مختوم يحمل بطاقة بلاستيكية بها رمز الاستجابة السريعة المؤدي إلى موقع على شبكة الإنترنت، وجرى نشر مقتطفات من 10 من مشروعات الكتب الجديدة للشركة. من بين هذه المشروعات قصة رومانسية حول السفر عبر الزمن، وتدور عن كاتبة رحلات صاحبة بشرة داكنة وهي «خالدة» تتجول حول العالم لعدة قرون، وكذلك قصة خيالية حول تنافس ملحمي بين عائلتين من السود بارزتين تمارسان السحر.

اللافت أن القصص لم تكن قد جرى الانتهاء منها تماماً بعد، وشكلت هذه المقتطفات مقاطع دعائية تشويقية لكتب محتملة، وكانت شركة «إلكتريك بوستكارد إنترتيمنت»، التي تتولى ابتكار أفكار هذه الكتب، تتطلع نحو مشترين. وهناك ملحوظة منشورة على موقع الشركة، تحث المهتمين على الاتصال بـ«نيو إيف ليتراري آند ميديا»، وهي وكالة تمثل مشروعات «إلكتريك بوستكارد إنترتيمنت».

أما العقل المدبر وراء هذه «المؤامرات الخيالية» وعشرات غيرها فهي دونييل كلايتون - أمينة مكتبة سابقة تحول خيالها الجامح إلى مصنع غزير الإنتاج للملكية الفكرية. ومع أن اسمها لا يظهر دوماً على أغلفة الكتب التي ينتجها خيالها، فإنها تحولت بهدوء إلى وسيط نافذ في عالم صناعة الكتاب. في حديثه عنها، يقول الروائي جيسون رينولدز، الذي حققت رواياته أعلى المبيعات، والذي حضر الحفل: «إنها تشبه محرك الدمى، فالناس لا يعرفون أن يد دونييل حاضرة في كل شيء».

بالإضافة إلى إدارة شركة «إليكتريك بوستكارد إنترتيمنت»، التي أسستها العام الماضي، تتولى كلايتون منصب رئيس «كيك كرييتيف»، وهي شركة تغليف أخرى تتولى تطوير الملكية الفكرية لكتب الأطفال، بجانب تأليفها أكثر من 10 روايات.

ومثلما الحال مع غيرها من العاملين بمجال صناعة الكتاب، تبتكر كلايتون، البالغة من العمر40 عاماً، أفكاراً لروايات محتملة، وتستأجر كتباً لتنفيذها، ثم تبيع الكتب لدور نشر. وقد شكل ذلك ملمحاً أساسياً من صناعة النشر على مدار عقود، وكانت المحرك وراء نجاحات مثل «غوسيب غيرل» و«ذي فامبايرز دياريز» و«بريتي ليتل لايرز».

ومن خلال عرض أفكار على الكتاب، مع الاحتفاظ بحقوق الطبع والنشر، يتمكن القائمون على صناعة الكتاب من إنشاء كتالوجات ضخمة ومربحة للملكية الفكرية. وفي حين يعرض البعض على المؤلفين جزءاً من المبلغ المقدم وحقوق المؤلف، ما يسمح لهم بالمشاركة في نجاح الكتاب، يدفع البعض الآخر فقط رسوماً يجري التفاوض حولها، التي يمكن أن تتراوح من بضعة آلاف من الدولارات إلى عشرات الآلاف.

ومع ذلك، تبقى لدى كلايتون طموحات أكبر، وشرعت بالفعل في تأسيس شركة من نوع مختلف. وهي تسعى إلى إنشاء ما يشبه «خط أنابيب للخيال» يضم شتى أطياف التنوع العرقي، وكذلك شخصيات من أصحاب الاحتياجات الخاصة، وكذلك شخصيات تنتمي إلى خلفيات دينية وثقافية متنوعة، وذلك لإقناع الناشرين بأن هذه الأعمال يمكن أن تحرز نجاحاً مدوياً. وتعمل كلايتون حصراً مع كتاب ينتمون إلى مجتمعات تعاني التهميش، وتسعى لأن تمنح المؤلفين العاملين معها نصيباً عادلاً من الربح، وكذلك الأدوات التي تعينهم على بناء مسيرتهم المهنية.

في صناعة طالما كانت تعاني من مشكلة التنوع، كافحت كلايتون لجذب الناشرين. وقوبلت في خضم ذلك بعدد لا يحصى من الردود الرافضة، وسمعت الكثير من من الحجج القائلة بأن الكتب التي تركز على الأشخاص الملونين لا تباع. إلا أنه خلال العقد الماضي، نجحت الشركة الخاصة بها في بيع 57 كتاباً؛ جرى بيع 41 منها منذ عام 2020، وجرى اختيار 9 مشروعات للتلفزيون والسينما. وقالت كلايتون إن الكثير من الكتاب الـ26 الذين عملوا معها وقعوا صفقات لكتب تقوم على أفكار خاصة بهم.

ومن بين من تخرجوا من تحت يد كلايتون، كوامي مباليا الذي بدأ في ترك بصمته الخاصة في «ديزني»، بعد أن حققت سلسلته الخيالية الأولى «تريستان سترونغ»، أفضل مبيعات عام 2019 من بين خريجي «كيك كرييتيف» كذلك نيك بروكس، الذي أبدع «بروميس بويز»، قصة تدور حول جريمة قتل غامضة تقع داخل حرم جامعي، بينما أبطال القصة مجموعة من الطلاب أصحاب البشرة الداكنة القادمين من السلفادور، ويجري اتهامهم عن طريق الخطأ بقتل مديرهم في الجامعة. وتقوم هذه القصة بناءً على فكرة اقترحتها كلايتون.

وقد بيعت هذه القصة، التي صدرت في وقت سابق من العام الحالي، إلى هنري هولت مقابل مبلغ مكون من سبعة أرقام. كما وقع اختيار شركة «نتفليكس» عليها لتنفيذها بالتعاون مع كل من شركتي «تيمبل هيل» و«هاير غراوند»، المملوكة لباراك وميشيل أوباما.

ومثلما الحال مع الكثير من مجالات عالم الترفيه، كان العرق الأبيض، ولا يزال، مهيمناً بأغلبية ساحقة على صناعة الكتب. وكثيراً ما يتقاضى المؤلفون الملونون أجوراً أقل من أقرانهم البيض، ولا يستثمر الناشرون الكثير في تسويق كتبهم، ما يعيق مبيعاتهم.

وعلى الرغم من وجود ضغوط لتغيير ذلك الوضع على مر السنين، كان التقدم بطيئاً بشكل مؤلم. ويمثل البيض 76 في المائة من العاملين صناعة النشر في أكثر من 150 شركة، بما في ذلك دور النشر والوكالات والمجلات الأدبية، حسبما أظهر استطلاع أجرته مؤسسة «لي آند لو بوكس» عام 2019. (من المقرر صدور تقريرهم التالي مطلع عام 2024).

عام 2020، بعد أن أشعل مقتل جورج فلويد الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد، واجه الناشرون ضغوطاً مزدادة لجعل صناعة النشر أكثر شمولاً. وعليه، حرصت دور النشر الكبرى على تعيين وترقية محررين من خلفيات عرقية متنوعة، والاهتمام بأعمال الكتاب الملونين. وسارع المحررون إلى الاشتراك في كتب المؤلفين أصحاب البشرة السمراء، واهتموا بالكتب التي تستكشف العرق والعنصرية، وقد حقق الكثير منها أرباحاً جيدة.

ورغم عدم وجود إحصائيات حالية على مستوى الصناعة حول الخلفيات العرقية للمؤلفين الأميركيين، فإن التقارير الأخيرة الصادرة عن اثنين من أكبر الناشرين في البلاد تكشف خطوات كبيرة في هذا الصدد، مع استمرار وجود اختلالات عنصرية. وفي إطار تقرير التنوع الذي صدر حديثاً، أعلنت دار «بنغوين راندوم هاوس»، أكبر دار نشر بالولايات المتحدة، إن مراجعة برامج النشر الخاصة بها من عام 2019 حتى عام 2021، خلصت إلى أن نحو 75 في المائة من المؤلفين من البيض.

وبالمثل، أعلنت دار «هيشيت بوك غروب»، هذا الربيع، أنه رغم ارتفاع حصة مشاركة المؤلفين والرسامين من غير البيض بمعدل 20 في المائة، بين عامي 2019 و2022، شكل الكتاب والفنانون البيض 76 في المائة من إجمالي الكتب التي اشترت حقوقها الدار عام 2022.

حسب استطلاع من المقرر صدوره 2024: يمثل البيض 76 % من العاملين في صناعة النشر بأكثر من 150 شركة بما في ذلك دور النشر والوكالات والمجلات الأدبية

من جهتها، قالت كلايتون إن بعض الناشرين سارعوا إلى تنويع قوائم المتعاونين معهم، لكن عندما واجهوا مبيعات مثيرة للإحباط لبعض الكتب نكصوا على أعقابهم اليوم وعادوا لحججهم القديمة التي تدعي أن مثل تلك الكتب لا تترك أصداءً واسعة ـ وهو معيار لا يبدو أنه ينطبق على الكتاب البيض!

وأضافت: «يكافح الكثير من الكتاب من أجل إحراز اختراق كبير من جديد». وقد حرصت كلايتون على حفظ كل مذكرة رفض لدراسة الأنماط والاحتفاظ بسجل لديها. وقالت عن ذلك: «أنا أمينة مكتبة، وأمينة أرشيف. كما أن لدي الإيصالات».

نشأت كلايتون في ولاية ميريلاند، وكانت، وفقاً لروايتها الخاصة، «مهووسة بالقراءة، قارئة نهمة ترتدي نظارات سميكة، مثل قطة صغيرة مزعجة». وفي معظم الأوقات، كانت تختبئ تحت طاولة غرفة الطعام وتقرأ - وتلتهم الكلاسيكيات بشكل خاص.

وبدأت كلايتون حياتها المهنية روائيةً، لكنها وجدت أنها لا تستطيع الكتابة بالسرعة الكافية التي تناسب جميع الأفكار التي في جعبتها. وبعد تدريس اللغة الإنجليزية في واشنطن العاصمة وماريلاند، انتقلت عام 2010 إلى نيويورك، حيث التحقت ببرنامج «أدب الأطفال» في المدرسة الجديدة، وعملت أمينة مكتبة في مدرسة مستقلة في هارلم، حيث تعيش الآن. وقد كافحت للعثور على كتب جذابة لطلابها الذين ينتمون في الغالب إلى مجتمعات المهاجرين من منطقة البحر الكاريبي وأمريكا الوسطى والجنوبية وغرب أفريقيا وبنغلاديش. ووجدت أن الكثير من الكتب التي وجدتها والتي تضم شخصيات من خلفيات متنوعة كانت قديمة، وكان الكثير منها يدور حول موضوعات مثل العبودية أو الفصل العنصري.

- خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو
TT

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

في روايتها «عشبة ومطر» دار «العين» للنشر بالقاهرة - تختار الكاتبة الإماراتية وداد خليفة الثقافة العربية سؤالاً مركزياً حائراً بين واقع مشوّش ومستقبل مجهول، حيث تبدو اللغة والتاريخ وكأنهما ينازعان أنفاسهما الأخيرة للصمود داخل قِلاعها العربية نفسها.

وتعتمد الروائية على تقنية الأصوات المتعددة لتعميق صراعات أبطالها مع عالمهم الخارجي، حيث تتشارك كل من بطلة الرواية «عشبة» وابنها «مطر» في نزعة تراثية جمالية يتفاعلان من خلالها مع دوائرهما التي يبدو أنها تتنصّل من تلك النزعة في مقابل الانسحاق في مدّ «الثقافة العالمية» المُعلبّة، ولغة التواصل «الرقمية»، فتبدو بطلة الرواية التي تنتمي إلى دولة الإمارات وكأنها تُنازِع منذ أول مشاهد الرواية من أجل التواصل مع محيطها الأسري بأجياله المتعاقبة، حيث تُقاوم النزعة «السائدة» في ذلك المجتمع العربي الذي بات أفراده يتحدثون الإنجليزية داخل بيوتهم، ولا سيما أجيال الأحفاد وسط «لوثة من التعالي»، «فهؤلاء الأبناء لا يعرفون من العربية سوى أسمائهم التي يلفظونها بشكل ركيك»، في حين تبدو محاولات «عشبة» استدراك تلك التحوّلات التي طرأت على المجتمع الإماراتي أقرب لمحاربة طواحين الهواء، فتأتيها الردود من محيطها العائلي مُثبِطة؛ على شاكلة: «لا تكبّري المواضيع!».

صناديق مفتوحة

يتسلل هذا الصوت النقدي عبر شِعاب الرواية، فتبدو «عشبة» مهمومة بتوثيق العلاقة مع الماضي بذاكرته الجمعية التي تتقاطع مع سيرتها الشخصية منذ تخرجها في معهد المعلمات بإمارة الشارقة وحتى تقاعدها، لتعيد تذكّر تفاعل جيلها مع كبريات التغيّرات السياسية سواء المحلية، وعلى رأسها المخاض الطويل لاتحاد الإمارات العربية المتحدة، وحتى سياقات الحروب والنكبات العربية منذ حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وصولاً لمجازر «صبرا وشاتيلا» الدامية في لبنان 1982 والنزف الفلسطيني المُستمر، في محطات تجترها البطلة بعودتها إلى قصاصات الأخبار التي ظلّت تجمعها وتحتفظ بها من مجلات وصحف عربية لتؤرشفها وتُراكمها عبر السنوات داخل صناديق، ليصبح فعل تقليبها في هذا الأرشيف بمثابة مواجهة شاقّة مع الماضي، بينما تبدو الصناديق والقصاصات الورقية مُعادلاً للحفظ الإلكتروني والملفات الرقمية التي قد تتفوق في آلياتها وبياناتها، وإن كانت تفتقر إلى حميمية الذكرى، وملمس المُتعلقات الشخصية التي تنكأ لديها جراح الفقد مع كل صندوق تقوم بفتحه: «أعدت غطاء الصندوق الذي يحتاج مني إلى جرأة أكبر لنبشه، ففي الصندوق ثوب فلسطيني طرَّزته أمٌ ثكلى من بئر السبع... أم صديقتي سميرة أخت الشهيد، ودفتر قصائد نازقة دوّنته صديقتي مها من غزة... صورٌ لزميلاتي بالعمل من جنين ونابلس ورام الله... رسائل من صديقتي ابتسام المقدسية... ومن حيفا مفارش مطرزة من صديقة العائلة أم رمزي».

بالتوازي مع تنقّل السرد من حكايات صندوق إلى آخر، يتصاعد الصراع الدرامي لبطل الرواية «مطر» الخبير في تقييم التُحف، الذي يقوده شغفه بمجال «الأنتيك» والآثار القديمة لتتبع مساراتها في مزادات أوروبية تقترب به من عالم عصابات مافيا القطع الأثرية، كما تقوده إلى الاقتراب من حكايات أصحاب القطع الأثرية التي تُباع بالملايين في صالات الأثرياء، كحكاية «مرآة دمشقية» ظلّ صاحبها يتتبعها حتى وصلت لقاعة مزادات «كريستيز» حاملاً معه ذكرى حكاية جدته وأسرته وتشريدهم، وتصنيعهم تلك المرآة بأُبهتها الزخرفية والفنية في غضون ظروف تاريخية استثنائية خلال فترة سيطرة الحكم العثماني في دمشق.

نهب ممنهج

تبدو الرواية التي تقع في 350 صفحة، وكأنها تمنح حضوراً سردياً للقطع الأثرية المفقودة، والمنهوبة، بصفتها شواهد تاريخية تتعقب «تُجار الممتلكات الثقافية»، ودور المزادات، وأمناء المتاحف، وسط متاهات تزوير الوثائق الخاصة بالقِطع وشهادات المنشأ، وتهريب القطع من بلادها، ولا سيما بعد الربيع العربي والحروب الأهلية التي أعقبته، لتفتح ساحات السرقة الممنهجة للآثار في المواقع الأثرية العربية، كما في تونس ومصر وسوريا والعراق، في حين تبدو قصص القطع المفقودة أُحجيات تتبعها الرواية وتحيكها بخيوط نوستالجية تمدّها الكاتبة على امتداد السرد.

تعتني لغة الرواية بالوصف الدقيق للتفاصيل الجمالية التي تبدو في صراع متواتر مع تيار محو أعنف، كقطع السجاد الأصيل وأنواله التقليدية، والزخارف الغرناطية العتيقة على الأسطح، في مقابل ثقافة «الماركات» الاستهلاكية التي تُميّع الذوق العام، والحروف اللاتينية التي تُناظر الحروف العربية وتُغيّبها في لغة الحياة اليومية.

وقد حازت رواية «عشبة ومطر» أخيراً جائزة «العويس للإبداع»، ومن أجواء الرواية نقرأ:

«كنتُ قصيراً، أقفز كي تلمس أطراف أصابعي مطرقة الباب، وبعد أن كبرت قليلاً، وأصبحت أمسكها بيدي، استوقفني شكلها الذي صُنع على هيئة يد بشرية، ثم أدركت أن هناك مطرقتين فوق بعضهما، تعجبت، وسألت أمي عن السبب فقالت: (كانت لدروازتنا مطرقة واحدة، لكن والدك أبهرته فنون بغداد، فجلب منها مطرقتين، مثبتاً المطرقة الأكبر في الأعلى للرجال والمطرقة الأصغر أسفل منها للنساء، ليختصر بذلك السؤال عن هُوية الطارق، فكنا نُميّز الطارق رجلاً أم امرأة من صوت المطرقة)... بِتُ أنصت للطَرق، كنت أعرف طرقات أمي الثلاث، وتعرف أمي طرقاتي المتسارعة، كان هناك طَرقٌ مُبشر، وطرقٌ يخلع القلب، طرق هامس مُدلل، وطرق يُشبه كركرة الأطفال».