دونييل كلايتون تريد تغيير صناعة النشر الأميركية

75 % من المؤلفين من البيض... والمؤلفون الملونون يتقاضون أجوراً أقل

دونييل كلايتون
دونييل كلايتون
TT

دونييل كلايتون تريد تغيير صناعة النشر الأميركية

دونييل كلايتون
دونييل كلايتون

في إحدى أمسيات الخريف هذه السنة، اجتمع حشدٌ من الكتاب والمهنيين بمجال النشر داخل صالة في قلب مانهاتن. وينتمي هذا الحفل الذي استضافته شركة جديدة تدعى «إلكتريك بوستكارد إنترتيمنت» إلى نمط الفعاليات الفاخرة التي أصبحت نادرة بمجال صناعة الكتب خلال حقبة تتميز باندماج الشركات وتقليص أحجامها.

خلال الحفل، تبادل الضيوف أطراف الحديث حول الصناعة. وضم الحشد مديرين تنفيذيين من شركة «سوني»، ووكلاء أفلام ومنتجين، وكشافة كتب، وروائيين ومحررين، ومسؤولين عن الدعاية من دور نشر مثل «ماكميلان»، و«سيمون آند شوستر»، و«ويليام مورو».

وجرى تقديم عروض مبيعات الشركة خلسة عبر أكياس الهدايا المحشوة بالشموع، وسترة من النوع الثقيل والشاي. وإلى جانب غنيمة الحفلة، كان هناك مظروف صغير مختوم يحمل بطاقة بلاستيكية بها رمز الاستجابة السريعة المؤدي إلى موقع على شبكة الإنترنت، وجرى نشر مقتطفات من 10 من مشروعات الكتب الجديدة للشركة. من بين هذه المشروعات قصة رومانسية حول السفر عبر الزمن، وتدور عن كاتبة رحلات صاحبة بشرة داكنة وهي «خالدة» تتجول حول العالم لعدة قرون، وكذلك قصة خيالية حول تنافس ملحمي بين عائلتين من السود بارزتين تمارسان السحر.

اللافت أن القصص لم تكن قد جرى الانتهاء منها تماماً بعد، وشكلت هذه المقتطفات مقاطع دعائية تشويقية لكتب محتملة، وكانت شركة «إلكتريك بوستكارد إنترتيمنت»، التي تتولى ابتكار أفكار هذه الكتب، تتطلع نحو مشترين. وهناك ملحوظة منشورة على موقع الشركة، تحث المهتمين على الاتصال بـ«نيو إيف ليتراري آند ميديا»، وهي وكالة تمثل مشروعات «إلكتريك بوستكارد إنترتيمنت».

أما العقل المدبر وراء هذه «المؤامرات الخيالية» وعشرات غيرها فهي دونييل كلايتون - أمينة مكتبة سابقة تحول خيالها الجامح إلى مصنع غزير الإنتاج للملكية الفكرية. ومع أن اسمها لا يظهر دوماً على أغلفة الكتب التي ينتجها خيالها، فإنها تحولت بهدوء إلى وسيط نافذ في عالم صناعة الكتاب. في حديثه عنها، يقول الروائي جيسون رينولدز، الذي حققت رواياته أعلى المبيعات، والذي حضر الحفل: «إنها تشبه محرك الدمى، فالناس لا يعرفون أن يد دونييل حاضرة في كل شيء».

بالإضافة إلى إدارة شركة «إليكتريك بوستكارد إنترتيمنت»، التي أسستها العام الماضي، تتولى كلايتون منصب رئيس «كيك كرييتيف»، وهي شركة تغليف أخرى تتولى تطوير الملكية الفكرية لكتب الأطفال، بجانب تأليفها أكثر من 10 روايات.

ومثلما الحال مع غيرها من العاملين بمجال صناعة الكتاب، تبتكر كلايتون، البالغة من العمر40 عاماً، أفكاراً لروايات محتملة، وتستأجر كتباً لتنفيذها، ثم تبيع الكتب لدور نشر. وقد شكل ذلك ملمحاً أساسياً من صناعة النشر على مدار عقود، وكانت المحرك وراء نجاحات مثل «غوسيب غيرل» و«ذي فامبايرز دياريز» و«بريتي ليتل لايرز».

ومن خلال عرض أفكار على الكتاب، مع الاحتفاظ بحقوق الطبع والنشر، يتمكن القائمون على صناعة الكتاب من إنشاء كتالوجات ضخمة ومربحة للملكية الفكرية. وفي حين يعرض البعض على المؤلفين جزءاً من المبلغ المقدم وحقوق المؤلف، ما يسمح لهم بالمشاركة في نجاح الكتاب، يدفع البعض الآخر فقط رسوماً يجري التفاوض حولها، التي يمكن أن تتراوح من بضعة آلاف من الدولارات إلى عشرات الآلاف.

ومع ذلك، تبقى لدى كلايتون طموحات أكبر، وشرعت بالفعل في تأسيس شركة من نوع مختلف. وهي تسعى إلى إنشاء ما يشبه «خط أنابيب للخيال» يضم شتى أطياف التنوع العرقي، وكذلك شخصيات من أصحاب الاحتياجات الخاصة، وكذلك شخصيات تنتمي إلى خلفيات دينية وثقافية متنوعة، وذلك لإقناع الناشرين بأن هذه الأعمال يمكن أن تحرز نجاحاً مدوياً. وتعمل كلايتون حصراً مع كتاب ينتمون إلى مجتمعات تعاني التهميش، وتسعى لأن تمنح المؤلفين العاملين معها نصيباً عادلاً من الربح، وكذلك الأدوات التي تعينهم على بناء مسيرتهم المهنية.

في صناعة طالما كانت تعاني من مشكلة التنوع، كافحت كلايتون لجذب الناشرين. وقوبلت في خضم ذلك بعدد لا يحصى من الردود الرافضة، وسمعت الكثير من من الحجج القائلة بأن الكتب التي تركز على الأشخاص الملونين لا تباع. إلا أنه خلال العقد الماضي، نجحت الشركة الخاصة بها في بيع 57 كتاباً؛ جرى بيع 41 منها منذ عام 2020، وجرى اختيار 9 مشروعات للتلفزيون والسينما. وقالت كلايتون إن الكثير من الكتاب الـ26 الذين عملوا معها وقعوا صفقات لكتب تقوم على أفكار خاصة بهم.

ومن بين من تخرجوا من تحت يد كلايتون، كوامي مباليا الذي بدأ في ترك بصمته الخاصة في «ديزني»، بعد أن حققت سلسلته الخيالية الأولى «تريستان سترونغ»، أفضل مبيعات عام 2019 من بين خريجي «كيك كرييتيف» كذلك نيك بروكس، الذي أبدع «بروميس بويز»، قصة تدور حول جريمة قتل غامضة تقع داخل حرم جامعي، بينما أبطال القصة مجموعة من الطلاب أصحاب البشرة الداكنة القادمين من السلفادور، ويجري اتهامهم عن طريق الخطأ بقتل مديرهم في الجامعة. وتقوم هذه القصة بناءً على فكرة اقترحتها كلايتون.

وقد بيعت هذه القصة، التي صدرت في وقت سابق من العام الحالي، إلى هنري هولت مقابل مبلغ مكون من سبعة أرقام. كما وقع اختيار شركة «نتفليكس» عليها لتنفيذها بالتعاون مع كل من شركتي «تيمبل هيل» و«هاير غراوند»، المملوكة لباراك وميشيل أوباما.

ومثلما الحال مع الكثير من مجالات عالم الترفيه، كان العرق الأبيض، ولا يزال، مهيمناً بأغلبية ساحقة على صناعة الكتب. وكثيراً ما يتقاضى المؤلفون الملونون أجوراً أقل من أقرانهم البيض، ولا يستثمر الناشرون الكثير في تسويق كتبهم، ما يعيق مبيعاتهم.

وعلى الرغم من وجود ضغوط لتغيير ذلك الوضع على مر السنين، كان التقدم بطيئاً بشكل مؤلم. ويمثل البيض 76 في المائة من العاملين صناعة النشر في أكثر من 150 شركة، بما في ذلك دور النشر والوكالات والمجلات الأدبية، حسبما أظهر استطلاع أجرته مؤسسة «لي آند لو بوكس» عام 2019. (من المقرر صدور تقريرهم التالي مطلع عام 2024).

عام 2020، بعد أن أشعل مقتل جورج فلويد الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد، واجه الناشرون ضغوطاً مزدادة لجعل صناعة النشر أكثر شمولاً. وعليه، حرصت دور النشر الكبرى على تعيين وترقية محررين من خلفيات عرقية متنوعة، والاهتمام بأعمال الكتاب الملونين. وسارع المحررون إلى الاشتراك في كتب المؤلفين أصحاب البشرة السمراء، واهتموا بالكتب التي تستكشف العرق والعنصرية، وقد حقق الكثير منها أرباحاً جيدة.

ورغم عدم وجود إحصائيات حالية على مستوى الصناعة حول الخلفيات العرقية للمؤلفين الأميركيين، فإن التقارير الأخيرة الصادرة عن اثنين من أكبر الناشرين في البلاد تكشف خطوات كبيرة في هذا الصدد، مع استمرار وجود اختلالات عنصرية. وفي إطار تقرير التنوع الذي صدر حديثاً، أعلنت دار «بنغوين راندوم هاوس»، أكبر دار نشر بالولايات المتحدة، إن مراجعة برامج النشر الخاصة بها من عام 2019 حتى عام 2021، خلصت إلى أن نحو 75 في المائة من المؤلفين من البيض.

وبالمثل، أعلنت دار «هيشيت بوك غروب»، هذا الربيع، أنه رغم ارتفاع حصة مشاركة المؤلفين والرسامين من غير البيض بمعدل 20 في المائة، بين عامي 2019 و2022، شكل الكتاب والفنانون البيض 76 في المائة من إجمالي الكتب التي اشترت حقوقها الدار عام 2022.

حسب استطلاع من المقرر صدوره 2024: يمثل البيض 76 % من العاملين في صناعة النشر بأكثر من 150 شركة بما في ذلك دور النشر والوكالات والمجلات الأدبية

من جهتها، قالت كلايتون إن بعض الناشرين سارعوا إلى تنويع قوائم المتعاونين معهم، لكن عندما واجهوا مبيعات مثيرة للإحباط لبعض الكتب نكصوا على أعقابهم اليوم وعادوا لحججهم القديمة التي تدعي أن مثل تلك الكتب لا تترك أصداءً واسعة ـ وهو معيار لا يبدو أنه ينطبق على الكتاب البيض!

وأضافت: «يكافح الكثير من الكتاب من أجل إحراز اختراق كبير من جديد». وقد حرصت كلايتون على حفظ كل مذكرة رفض لدراسة الأنماط والاحتفاظ بسجل لديها. وقالت عن ذلك: «أنا أمينة مكتبة، وأمينة أرشيف. كما أن لدي الإيصالات».

نشأت كلايتون في ولاية ميريلاند، وكانت، وفقاً لروايتها الخاصة، «مهووسة بالقراءة، قارئة نهمة ترتدي نظارات سميكة، مثل قطة صغيرة مزعجة». وفي معظم الأوقات، كانت تختبئ تحت طاولة غرفة الطعام وتقرأ - وتلتهم الكلاسيكيات بشكل خاص.

وبدأت كلايتون حياتها المهنية روائيةً، لكنها وجدت أنها لا تستطيع الكتابة بالسرعة الكافية التي تناسب جميع الأفكار التي في جعبتها. وبعد تدريس اللغة الإنجليزية في واشنطن العاصمة وماريلاند، انتقلت عام 2010 إلى نيويورك، حيث التحقت ببرنامج «أدب الأطفال» في المدرسة الجديدة، وعملت أمينة مكتبة في مدرسة مستقلة في هارلم، حيث تعيش الآن. وقد كافحت للعثور على كتب جذابة لطلابها الذين ينتمون في الغالب إلى مجتمعات المهاجرين من منطقة البحر الكاريبي وأمريكا الوسطى والجنوبية وغرب أفريقيا وبنغلاديش. ووجدت أن الكثير من الكتب التي وجدتها والتي تضم شخصيات من خلفيات متنوعة كانت قديمة، وكان الكثير منها يدور حول موضوعات مثل العبودية أو الفصل العنصري.

- خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية
TT

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية

اشتهر كارل فون كلاوزفيتز، كبير فلاسفة الحرب في الغرب، بملاحظته أن الحرب امتداد للسياسة، كما أشار إلى نقطة ثانية، وهي أن الحرب تابعة للسياسة، ومن ثم فهي تتشكّل من خلالها، مما يجعل «تأثيرها ملموساً حتى في أصغر التفاصيل العملياتية».

نحن نرى هذا اليوم في الشرق الأوسط، حيث قد تسترشد محاولات إنقاذ الرهائن الفتاكة، والاغتيالات الكبرى، كتلك التي أودت بحياة حسن نصر الله زعيم «حزب الله»، بنقاط سياسية بقدر ما تسترشد بالرغبة في إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن. وعلى الجانب الآخر من المعادلة، يبدو أن أحدث سرب من الصواريخ الباليستية الإيرانية، التي انفجر معظمها من دون ضرر فوق إسرائيل، كان عملاً من أعمال المسرح السياسي الذي يهدف في المقام الأول إلى رفع المعنويات على الجبهة الداخلية.

من المفيد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وآية الله علي خامنئي من إيران، ناهيكم عن الرئيس الأميركي المقبل، أن يقرأوا كتاب جفري فافرو «حرب فيتنام: تاريخ عسكري» (652 صفحة، دار «بيسك بوكس» للنشر).

إنه يُلقي أفضل نظرة عامة على المغامرة الأميركية في جنوب شرقي آسيا، ومن المؤكد أنه سوف يصبح كتاباً معيارياً عن تلك الحرب، وبينما نتابع المعاناة الجارية في الشرق الأوسط، فإن هذا الكتاب يقدّم لنا أيضاً دروساً قوية بشأن المخاطر المترتبة على شن حرب مفتوحة من دون إستراتيجية حقيقية.

تركّز أغلب كتب التاريخ عن حرب فيتنام على الدبلوماسية والسياسة في الصراع، بالعودة إلى العمليات العسكرية للأحداث الرئيسية فقط، مثل هجوم «تيت» ومعركة مدينة «هوي»؛ إذ يتبع واورو، المؤرخ في جامعة نورث تكساس، نهجاً أكثر تنويراً.

ووفقاً لرأي فافرو، كان التدخل الأميركي في فيتنام بمثابة درس كبير في كيفية تجنّب شنّ الحرب، وقد أدى الاعتقاد الطائش في فاعلية القوة النارية المحضة، إلى حملات القصف الأميركية المدمِّرة التي كما يقول واورو: «أدّت إلى إحراق سُبع أراضي جنوب فيتنام» و«خلقت خمسة ملايين لاجئ داخلي»، على أمل دفع قوات «فيت كونغ» الفيتنامية إلى العراء، ورفض الخصم الشيوعي القتال بهذه الطريقة، بل كانوا يشتبكون سريعاً، ثم ينسحبون عندما يردّ الأميركيون بوابل عنيف من نيران المدفعية والغارات الجوية. في الأثناء ذاتها، كلما حاول الرئيس ليندون جونسون - الذي لم يدرس مبادئ كلاوزفيتز - فصل الحرب عن السياسة، بالكذب بشأن تكاليفها ورفض تعبئة الاحتياطي العسكري؛ صارت الحرب أكثر سياسية، وهيمنت على الخطاب الأميركي، ثم عصفت به خارج الرئاسة.

لم يكن أداء أميركا أفضل مع الهجمات المستهدفة، وكما هو الحال مع أجهزة البيجر المتفجرة التي استخدمتها إسرائيل، فإن برنامج «فينكس» من إعداد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لاغتيال أعضاء «فيت كونغ» قد «ركّز على (القبض أو القتل)»، كما كتب واورو، وأدى إلى سقوط ضحايا أبرياء، كما أنه لم يؤدِّ إلى الاقتراب من نهاية الحرب؛ لأن البرنامج بأكمله كان مبنياً على «أرقام ملفقة»، كما يوضح المؤلف، «وليس على الواقع الحقيقي»، وكان البرنامج عبارة عن طريقة أخرى لقتل الناس من دون فهم الحرب.

جعلتني قراءة التاريخ الرائع الذي كتبه فافرو أفكّر في نتيجة لازمة جديدة لنظريات كلاوزفيتز: كلما كانت الاستراتيجية أقل تماسكاً في الحرب، أصبحت أكثر تسييساً، دخلت الولايات المتحدة الحرب لأسباب سياسية ودبلوماسية غامضة (الظهور بمظهر الصرامة أمام خصوم الحرب الباردة ليس نهاية المطاف). بعد عقدين من الزمان كان الغزو القصير والفوضوي لجنوب «لاوس» من قِبل القوات البرّية الفيتنامية الجنوبية والقوة الجوية الأميركية بمثابة «مسرحية سياسية، وليس حرباً»، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية عام 1972، لم تكن هناك نهاية في الأفق، وكان الدافع وراء الهجوم هو رغبة الرئيس ريتشارد نيكسون في جعل الأمر يبدو وكأن فيتنام الجنوبية تتولّى زمام الأمور في القتال، وبدلاً من ذلك، زاد من زعزعة استقرار المنطقة، ولم يفعل شيئاً يُذكر لقطع خطوط إمداد العدو.

لحسن الحظ، خلال الحرب العالمية الثانية استخدمت الولايات المتحدة السياسة لخدمة المجهود الحربي بدلاً من العكس، وإن لم يكن الجميع يرَون الأمر على هذا النحو. في كتاب «أميركا أولاً: روزفلت ضد ليندبيرغ في ظل الحرب» (444 صفحة، دار «دوبلداي للنشر»)، يُصوّر إتش دبليو براندز، نجم الطيران الشهير تشارلز ليندبيرغ، الذي تحدث عن النزعة الانعزالية في البث الإذاعي الوطني، بوصفها أمراً ساذجاً، ولكن صادقاً، في حين يُصوّر الرئيس فرانكلين روزفلت بأنه مخادع بشكل ملحوظ في جهوده لدفع الولايات المتحدة إلى الحرب.

لكن في الواقع، كان فرانكلين روزفلت هدفاً كبيراً لهذه التهمة؛ إذ تعهد الرئيس أثناء حملته الانتخابية للفوز بولاية ثالثة غير مسبوقة، قائلاً: «لن يُرسَل أبناؤكم إلى أي حروب خارجية»، وكان جيمس، نجل روزفلت، يتساءل عن سبب اتخاذ والده هذا الموقف، فقال والده موضحاً: «جيمي، كنت أعلم أننا ذاهبون إلى الحرب، كنت متأكداً من أنه لا يوجد مخرج من ذلك، كان لزاماً أن أثقّف الناس بشأن الحتمية تدريجياً، خطوة بخطوة»، ربما يكون هذا مخادِعاً، لكن هذه السياسة ساعدت الأميركيين على المشاركة في المجهود الحربي، كان كلاوزفيتز ليفخر بذلك.

في الوقت نفسه، عندما يرفض ليندبيرغ الدعوة إلى هزيمة ألمانيا في أواخر يناير (كانون الثاني) 1941، يُعيد إلى الأذهان رفض دونالد ترمب دعم المعركة الأوكرانية ضد العدوان الروسي، ويلاحظ براندز، وهو مؤرخ في جامعة تكساس فرع أوستن، ليونةَ ليندبيرغ إزاء ألمانيا النازية، ولكن - في رسم صورة متعاطفة للرجل - يستبعد عديداً من التفاصيل التي تظهر في كتب أخرى، مثل السيرة الذاتية تأليف «إيه سكوت بيرغ»، الفائزة بجائزة بوليتزر لعام 1998.

لا يذكر براندز، على سبيل المثال، أن ليندبيرغ رفض في مايو (أيار) 1940 الحديث عن مخاطر انتصار النازية، بوصفه «ثرثرة هستيرية»، أو أنه، في العام نفسه، ألّفت زوجة الطيار آن مورو ليندبيرغ كتاب «موجة المستقبل»، وفيه جادلت بأن العهد الجديد ينتمي إلى أنظمة استبدادية، وكان ذلك الرجل يحمل مثل هذه الولاءات المُرِيبة حتى بعد بيرل هاربر، كما قال ليندبيرغ (في تصريحات أغفلها براندز أيضاً): «إن بريطانيا هي السبب الحقيقي وراء كل المتاعب في العالم اليوم».

إن مثل هذه الإغفالات تجعل كتاب براندز يبدو وكأنه مُوجَز متحيّز إلى ليندبيرغ أكثر من كونه كتاباً تاريخياً نزيهاً. كتب براندز يقول: «لقد أصاب ليندبيرغ كثيراً في حملته ضد الحداثة، لكنه أخطأ في أمر واحد كبير- فهو لم يرَ أن الأميركيين كانوا على استعداد للتدخل في الصراعات الخارجية». وأودّ أن أزعم أن ليندبيرغ كان مخطئاً أكثر من ذلك؛ فقد عبث بمعاداة السامية، وهو شيء ينتقص براندز من أهميته، وعلى نحو مفاجئ بالنسبة لطيار شهير، لم يكن يبدو أن لديه الكثير من البصيرة في دور القوة الجوية في الحرب، وحتى في القراءة الأكثر تعاطفاً، لا بد أن كلاوزفيتز كان ليحتدم غيظاً.

الجنرال البروسي العجوز هو موضوع تحليل جديد لاذع، وربما شديد التحريض من ناحية «أزار غات»، المؤرخ الفكري في جامعة تل أبيب. في كتابه «أسطورة كلاوزفيتز: أو ملابس الإمبراطور الجديدة» (228 صفحة، دار «كرونوس للنشر»)، يزعم غات أن كتاب كلاوزفيتز «عن الحرب» مؤثر بصورة رئيسية؛ لأنه مُحير للغاية. ويَخلُص إلى أن «الكثير من سمعة الكتاب تستند إلى سوء فهم دائم لما يعنيه في الواقع».

هناك في الأساس اثنان من كلاوزفيتز؛ الأول ألّف في وقت مبكر من حياته المهنية الكثير من كتب «عن الحرب»، بينما يسعى إلى فهم انتصارات نابليون السريعة والساحقة على بروسيا، والآخر كان يحاول بعد سنوات رسم مسارٍ لاستعادة بروسيا مكانتها في أوروبا، ولكن بدلاً من تأليف كتاب ثانٍ، كما يقول غات، عاد الضابط البروسي ونقّح كتاب «عن الحرب» بطرق تتناقض على نحو جَلِيّ مع بعض الأجزاء الأسبق من نفس الكتاب. بدأ كلاوزفيتز بكتابة أن النصر يعتمد على هزيمة سريعة للعدوّ في معركة كبيرة واحدة. وفي وقت لاحق أدرك أن العديد من الأطراف الفاعلة، سيما الأضعف منها، قد يكون لديها سبب لإطالة أمد القتال. وشرع في التنقيح، لكنه لم يكن لديه الوقت لعلاج هذا التضادّ قبل وفاته عام 1831.

وبينما كنت أقرأ كتاب غات، ظللتُ أفكّر في أنه لم يدرك النقطة الأكثر أهميةً؛ قد تشوب الأعمال الكلاسيكية حالة من النقص إلى حد بعيد؛ إذ تطرح أسئلة أكثر مما تقدّم من إجابات، وهو ما كان بمثابة طريق أكثر أماناً للاستمرار عبر الزمن. في الواقع، كانت واحدة من أشهر ملاحظات كلاوزفيتز تتعلّق بطرح الأسئلة، وهو يقول إنه قبل أن تتصاعد أعمال العنف يجب على القادة المفكرين أن يسألوا أنفسهم: ما نوع هذه الحرب؟ وما الذي تريد أمّتي تحقيقه؟ وهل يمكن أن تحقّق ذلك فعلاً؟

هذه اعتبارات جيدة. إن مواصلة حرب استنزاف لا نهاية لها، سواء في جنوب شرقي آسيا، أو في الشرق الأوسط، من غير المرجّح أن تؤدي إلا إلى المزيد من الفوضى والموت، وعلى نحو مماثل، لو تعامل قادة أميركا بجدّية مع نهاية المسألة قبل غزو فيتنام، ناهيكم عن العراق أو أفغانستان، ربما كانت حروبهم لتسير على نحو أفضل كثيراً، أو ربما لم تكن لتحدث على الإطلاق.

-------------------

خدمة: «نيويورك تايمز».