يوسا يطلق صرخة فزع أمام زحف التكنولوجيات الحديثة

تهيمن على رواية «الرياح» نغمة حزينة كما لو أنها مرثية لعالم قديم

ماريو فارغاس يوسا
ماريو فارغاس يوسا
TT

يوسا يطلق صرخة فزع أمام زحف التكنولوجيات الحديثة

ماريو فارغاس يوسا
ماريو فارغاس يوسا

في بضع ساعات أتيت على رواية جديدة، صغيرة الحجم للروائي ماريو فارغاس يوسا بعنوان «الرياح». ومثل رواية «جولة» للكاتب السويسري الناطق بالألمانية روبرت فالسر، التي تتحدث عن كاتب يقوم بجولة في مدينته مُستعرضاً ذكرياته وأفكاره ومشاعره، ورواية «ظهيرة للكاتب» للنمساوي بيتر هاندكه التي هي أيضاً عبارة عن جولة طويلة يقوم بها الكاتب في ضواحي باريس، اتخذت رواية «الرياح» شكل جولة في مدريد تبدأ في الظهيرة، وتستمر حتى ساعة مُتقدمة من الليل، وهي عبارة عن مونولوج طويل لعجوز كان صحافياً، يُقيم في غرفة في سطح إحدى العمارات بمدريد، ويعيش القلق والعزلة والخوف من الموت، ومن عالم بات قاسياً وعدوانياً يُشعره في كل لحظة بأنه يتوجّب عليه أن يرحل لأنه بات زائداً عن اللزوم في كرة أرضية تختنق بكثرة عدد سكانها، وبأمراض حضارة بلغت أوجَها، وتجرّدت من القيم الإنسانية لتصبح مُضرّة ومؤذية ومتوحّشة أكثر مما هي نافعة ورحيمة وإنسانية. ومنذ البداية نلاحظ أن هناك تشابهاً بين الصحافي العجوز، والموظف الصغير في رواية دستويفسكي «الرجل الصرصار» التي هي أيضاً قصيرة ومُكثفة جداً مثل «الرياح»، إذ إن كل واحد منهما شخصية قلِقة ومُعذّبة في عالم مادي تسوده الأنانية، ويعيش التحضر الزائف القائم على التقدم العلمي والصناعي. وكان دستويفسكي قد كتب روايته المذكورة ردّاً على المثقفين الروس، من أمثال تشيرنيشفسكي صاحب رواية «ما العمل؟»، المفتونين بالإنجازات الكبيرة التي حققها الغرب في مجالات كثيرة مبشّراً بمستقل مشرق بالنسبة للإنسانية جمعاء. لكن الموظف الصغير، الذي يعيش هو أيضاً في غرفة تشبه القبو في سانت بطرسبورغ، يُعلن، منذ البداية، تبرمه من عالم يعيش أوهام التقدم المادي والعلمي، والحال أنه لا يفعل شيئاً آخر سوى الإعداد لنهايته المأساوية. وأظنُّ أن فارغاس يوسا كتب روايته الصغيرة هذه لينتقد بطريقة لاذعة وساخرة المنبهرين بما حققته التكنولوجيات الحديثة من ابتكارات مذهلة آخرها، وليس آخرها، ما أصبح يسمى «الذكاء الاصطناعي».

غلاف الوراية

تهيمن على الرواية، من البداية إلى النهاية، نغمة حزينة كما لو أنها مرثية لعالم ولّى إلى غير رجعة، وصرخة فزع أمام تحولات خطيرة مُنذرة بمتاعب وكوارث وأزمات مُفسدة ومدمّرة للإنسانية جمعاء. وخلال جولته، لم ينقطع الصحافي العجوز عن إطلاق الريح، بل هو فعلها في سرواله الداخلي، وهو يتجنب الاستفاضة في الحديث عن تفاصيل حياته، بل يقتصر على القول إنه يحتفظ بصورة باهتة لوالديه اللذين لم يكن في وفاق معهما، وهو لا يتذكر إن كان له إخوة أو أخوات، لكنه يتذكر جيداً أنه أحبّ امرأة تُدعى «كارمانسيتا» تزوّجها، ومعها عاش سنوات عدة، ثم انفصل عنها لتتزوج صديقه المفضّل روبرتو سانابريا. وعلى مدى سنوات طويلة لم يرها، ولم يسمع عنها ولو مجرد خبر. لكن لمّا بلغه أنها تُوفيت في حادث سيارة، أصبح يرفع، كل ليلة، قبل النوم، صوته راجياً منها أن تغفر له أخطاءه.

ويُخبرنا الصحافي العجوز أن له صديقاً واحداً يُدعى أوساريو، وهذا الصديق، الذي يعيش وحشة الوحدة مثله، كان مُدرّساً للفلسفة في معهد ثانوي بمدريد. ومعه يلتقي بين وقت وآخر، لكنه أقل منه تشاؤماً بشأن مصير العالم، وهو لا يبدي مثله فزعاً أمام زحف التكنولوجيات الحديثة التي بسطت نفوذها على الناس ليكونوا عبيداً لها. وما يتذكره الصحافي العجوز أيضاً من فصول حياته هو أنه نجا من سرطان الدم. ورغم أنه يعلم أن ذلك تحقّق بفضل التقدم العلمي، فإن هذا التقدم العلمي لا يعني له شيئاً ما دامت البشرية تعيش حروباً مُدمّرة، وما دامت الأديان والمعتقدات القديمة تدفع الناس إلى التقاتل والتناحر، وبينهم تقيم أسواراً من الأحقاد والضغائن، وما دام اليهود والفلسطينيون يتحاربون من دون انقطاع ليبدو السلام بينهما مستحيلاً، خصوصاً أن الدول الكبرى تجد متعة في تواصل هذا الصراع الدموي، لبيع أسلحتها، والحفاظ على مصالحها. ثم ما الفائدة من هذا التقدم العلمي إن كان يهدي الإنسانية بعض المنافع بهذه اليد، ثم يفتك بها باليد الأخرى مُغذّياً التنافس من أجل مزيد من التسلح، وزرع قنابل ذرية شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً. أما أن يكون الناس أكثر حرية من ذي قبل، فإن هذا يثير شكوك الصحافي العجوز؛ لأنه يعتقد، خلافاً لصديقه أوساريو، أن هذا العالم الجديد هو في الحقيقة عالم «عبيد خاضعين راضين عن مصيرهم».

وفي تلك الظهيرة، غادر الصحافي العجوز غرفة السطح ليحضر حفلة جنائزية لقاعة سينما في مدريد تتأهب لغلق أبوابها، بعد أن تقلَّص عدد المقبلين على مشاهدة الأفلام الجديدة التي تَعرضها. وكثير من القاعات فعلت مثلها لأن الناس، خصوصاً الشبان منهم المفتونين بالتكنولوجيات الحديثة، أصبحوا يفضلون مشاهدة الأفلام على الشاشات الصغيرة للموبايل أو لأجهزة الكمبيوتر، كما أن كثيراً من المكتبات أغلقت أبوابها أيضاً لأن عدد القراء أصبح ضئيلاً جداً، أو أن هؤلاء القراء يفضلون القراءة بواسطة أجهزة إلكترونية استُحدثت لهذا الغرض. ومعنى هذا أن هذه الأجهزة الجديدة سوف تقضي على متعة القراءة شيئاً فشيئاً إلى أن تنتفي تماماً، إذ ما معنى أن تقرأ كتاباً من دون أن تُقلّب صفحاته، ومن دون أن تدوّن على حواشيه ملاحظاتك الخاصة، كما أن هذه الأجهزة سوف تقضي على المفهوم الحقيقي للثقافة، التي من بين أهدافها شحذ الخيال والمشاعر والأحاسيس، ومنح المتعة والجمال، وتغذية الفكر النقدي.

التقدم العلمي لا يعني لبطل الرواية شيئاً، ما دامت البشرية تعيش حروباً مُدمّرة، تقيم أسواراً من الأحقاد والضغائن، وما دام اليهود والفلسطينيون يتحاربون من دون انقطاع

أمام قاعة السينما، وجد عدداً قليلاً من الذين يَحنّون للزمن القديم، وجميعهم «أشلاء بشرية»، لذا غادر الصحافي العجوز غير آسفٍ ليَهيم على وجهه في المدينة الكبيرة مواصلاً الثرثرة مع نفسه، مُطلقاً أفكاره حول أمراض وأزمات العالم الحديث من دون أن يسمعها أحد، موقّعاً إيّاها بإطلاق الريح بين وقت وآخر. وفي حديقة صغيرة التقى مجموعات من الشبان والشابات أطلق عليهم اسم «المرتبكون»، وهؤلاء يقاومون العالم الحديث برفض أكل اللحم وكل ما يأتي من الحيوان، مبتكرين أيديولوجيا جديدة سمّوها «الأخوة السلمية العالمية». وبينما يتحدث إليهم، شعر الصحافي العجوز بأن تلك المجموعة الصغيرة تجسد تفاهة البشرية، وسطحيتها، وجبنها، وفقدانها إرادة المقاومة، ففي زمنه كان الشبان في مثل هذه السنّ يخرجون للتظاهر ضدّ الاستبداد والظلم، وضد الأنظمة الديكتاتورية المُعلَنة والخفية، وضد الحروب، مُطلقين شعارات جميلة مثل «انبذوا الحرب ومارسوا الحب»، أو «ما هو مستحيل يصبح ممكناً»، و«الجمال في الشارع»، و«الخيال في السلطة»... أمّا الآن فها هو أمام شبان وشابات تَبين العظام خلف جلودهم بسبب الصوم، بوجوه شاحبة ونظرات زائغة، يهمهمون بكلام غامض، ويطلقون أفكاراً غريبة وعجيبة تثير الامتعاض والنفور... لذا تركهم الصحافي العجوز ليواصل جولته التي طالت بسبب نسيانه عنوان الشارع الذي يُقيم فيه... ظلّ يسير ويسير إلى ساعة متقدمة من الليل. وفي النهاية اهتدى إلى العمارة التي في سطحها غرفته الكئيبة، بعد أن ثقلت قدماه، وثقل رأسه، فما عاد قادراً على الحركة إلّا بصعوبة كبيرة. وبعد أن اغتسل وارتدى ثياباً نظيفة، تمدَّد على الفراش ليشعر بأن النهاية باتت وشيكة. وتنتهي رواية «الرياح» بهذه الفقرة الحزينة: «إنها النهاية، لم أكن لا خائفاً ولا فزِعاً، كنت مُتوجّعاً وحزيناً فقط، وكنت أغرق في شيء لزج ومُلتَبس، وكان واضحاً أن الأمر لا يتعلق بحلم، وإنما بطلائع استقبال الموت».

لقد عوّدنا ماريو فارغاس يوسا على روايات ضخمة، والآن وهو يقترب من سن التسعين، أهدى قراءه هذه الرواية الصغيرة المكثفة المحمّلة بأفكار عظيمة عن عالم اليوم، لكي يثبت مرة أخرى أن الأدب يظل دائماً مضيئاً للبشرية في الأوقات المظلمة والعصيبة، ومُلقّحاً إياها ضد الأوهام والأكاذيب. ولعلّه أراد أن يؤكد أيضاً أنه سيظلّ يكتب، حتى ولو قيّدت الشيخوخة حركاته، وأفقدته كثيراً من حيويته القديمة.


مقالات ذات صلة

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
TT

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة بأنّك حصلت لتوّك على سِفر ثمين من الحكمة السياسيّة وخبرة الإدارة في المنصب التنفيذي الأهم في إحدى دول العالم العظمى، لا سيما أن الرجل جاء إلى فضاء السلطة من الصحافة كاتباً ورئيس تحرير لمجلّة سبيكتاتور الأسبوعيّة العريقة، ومؤرخاً نشر عدّة كتب مهمة - بما فيها سيرة لملهمه وينستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية - قبل أن يُنتخب عمدة للعاصمة لندن ثم رئيساً للوزراء وزعيماً لحزب المحافظين. ولعل مما يرفع وتيرة التوقعات أيضاً أنّه كان في موقع التأثير واتخاذ القرار في مراحل مفصليّة في تاريخ بلاده المعاصر، سواء الأشهر الأخيرة من عصر الملكة الراحلة إليزابيث الثانية، أو خروج المملكة المتحدة من عضويّة الاتحاد الأوروبي، أو وباء «كوفيد 19». أو الحرب في أوكرانيا، ناهيك عن شهرته عبر العالم كنسخة من دونالد ترمب على الجهة الأخرى من المحيط الأطلسي، حتى أنّه ربما يكون السياسي البريطاني الوحيد الذي يعرفه سكان هذا العالم باسمه الأول (بوريس). لكن الحقيقة أن المذكرات ورغم تضمنها مقاطع مهمة هنا وهناك ولحظات صاعقة من الصراحة، فإنها في المحصلة أقرب إلى موجة جارفة من التبرير المقعّر، والإعجاب النرجسي بالذات، وتصفية الحسابات السياسيّة ولوم للجميع لأنهم أضاعوه، ويا ويلهم أي فتى أضاعوا؟

ومع ذلك، فإن «مطلق العنان» قراءة سهلة، يتم سردها بلغة قريبة من لغة الحوار اليومي أكثر منها لغة متعجرفة كما يتوقع من خريجي المدرسة النخبوية في إيتون وجامعة أكسفورد، مع كثير من علامات التعجب، والأصوات الشارعيّة المكتوبة بحروف كبيرة، والصفات المرصوفة كجمل طويلة، والإهانات الشخصيّة لمنافسيه، والأسئلة البلاغيّة عديمة الفائدة، فيما غلب عليها مزاج من السخريّة والهزل حتى في التعاطي مع القضايا التي يفترض أنّه جاد بشأنها.

هذا النّفس الذي اختاره جونسون لسرد مذكراته (والتي قد تدر عليه دخلاً سيتجاوز الثلاثة ملايين جنيه إسترليني وفق تقديرات صناعة النشر) أفقد الكتاب كثيراً من قيمته المتوقعة كوثيقة تاريخيّة، وبدت أجزاء كبيرة منه روايات ربما يتمنى كاتبها لو كانت الحقيقة، أو ربما أعتقد بالفعل أنها كانت الحقيقة كجزء مما يسميه جونسون نفسه التنافر المعرفي الذي يصيب الساسة المغمسين في وظيفتهم القياديّة لدرجة أنهم يصابون بالعمى عن المشاكل السياسية الهائلة التي تتراكم خارج مكاتبهم. هذا سوى بعض الأخطاء التفصيليّة في تسجيل الأحداث أيضاً والتي لا يفترض أن تمرّ على مؤرخ معتّق أو على ناشره المرموق (يقول مثلاً إن حكومة حزب العمال في أسكوتلندا أطلقت سراح الليبي المتهم بتفجيرات لوكربي، فيما الواقع أنها كانت حكومة الحزب القومي الأسكوتلندي).

من الناحية الإيجابيّة فإن جونسون يضمِّن كتابه تعليقات ذكيّة حول مسائل استراتيجيّة تبدو في ميزان اليوم أفضل من أدائه الفعلي رئيساً للوزراء كما مثلاً في رؤيته لأسباب اللامساواة الاقتصاديّة بين الأجيال، وتفسيره للانقسام الاقتصادي العميق بين العاصمة لندن الكبرى وبقيّة المملكة المتحدة، وتصوّراته حول رفع سويّة الأجزاء الأقل حظاً منها من خلال برامج تحديث البنية التحتية وتكنولوجيا الاتصال والاستفادة من أموال الخزينة العامّة لجذب استثمارات القطاع الخاص، وكذلك تحوّله من منكر لتحولات المناخ إلى منذر من مخاطرها ومفسّر للحجج الأخلاقيّة والاقتصاديّة الدّاعية إلى التصدي لجذورها من أجل مصلحة الأجيال المقبلة.

أثناء زيارة لمكتبه في عام 2017 طلب منه نتنياهو استخدام المرحاض بعد ذلك، وجدت أجهزة الأمن جهاز تنصت تم زرعه هناك

يفشل بوريس في تقديم مرافعة كانت متوقعة منه بشأن دوره فيما يعرف بـ«بريكست»، أو القرار بتخلي بريطانيا عن عضوية الاتحاد الأوروبيّ. وهو يعترف بأنّه كان مشتتاً وقتها بين اعتقاده بضرورة أن تتخلص بلاده من سلطة بروكسل عليها (مقر الاتحاد الأوروبي) من ناحية، وتفهمه لمشاعر كثيرين من عائلته وأصدقائه الذين أرادوا منه دعم حملة البقاء في النادي الأوروبيّ، ويقرّ بأنه في المساء الذي أعلن فيه قراره بدعم التوجه إلى الخروج من الاتحاد، كتب نسختين من المقال نفسه، واحدة (مع) وواحدة (ضد) كي يمكنه اختبار حنكة حججه، ليجد في النهاية أن حملة تأييد البقاء افتقدت إلى الحماس، ولم تمتلك أي رسالة إيجابيّة واضحة لتقولها. في المقابل، فإن جونسون يبدو في هذه المذكرات ليس مفتقراً فحسب لأي شعور بالمسؤولية عن الفوضى التي أعقبت التصويت على المغادرة، والإدارة السيئة للمفاوضات التي قادتها حكومات المحافظين وهو فيها مع الاتحاد الأوروبي، بل يبدو غاضباً حتى على مجرد اقتراح مساءلته من حيث المبدأ متسائلاً: «وماذا بحق الجحيم كان من المفترض علينا أن نفعل؟»، بينما يقفز للعب دور البطولة منفرداً فيما يتعلق برد حكومة المملكة المتحدة على حالات التسمم النووي التي نسبت لروسيا في سالزبوري عام 2018. في وقت صار فيه من المعلوم أن تيريزا ماي، رئيسة الوزراء حينها، هي من كانت وراء ذلك الموقف الحازم. ويخلص جونسون للقول إن حزب المحافظين كان سيفوز في انتخابات هذا العام لو بقي على رأس السلطة ولم يتعرّض للخيانة من رفاقه، وهي مسألة يكاد معظم المراقبين يتفقون على استحالتها بالنظر إلى تراكم سلسلة الفضائح وسوء الإدارة وهزالة الطرح الآيديولوجي لحكومات حزب المحافظين خلال الخمسة عشر عاماً الماضية على نحو تسبب للحزب النخبوي بأقسى هزيمة له في مجمل تاريخه العريق. في المذكرات يكتب جونسون عن زيارة قام بها بنيامين نتنياهو إلى مكتبه في عام 2017، طلب خلالها رئيس الوزراء الإسرائيلي استخدام المرحاض. بعد ذلك، وجدت أجهزة الأمن جهاز تنصت قد تم زرعه هناك. وقال جونسون إنه على وفاق مع نتنياهو وإن القراء يجب ألا يستخلصوا استنتاجات أوسع حول الزعيم الإسرائيلي من تلك الحكاية!