مايكل كننغهام: كيف يمكن للمرء أن يكتب رواية معاصرة حول البشر دون التطرق إلى الجائحة؟

بعد صمت استمر عقداً عمل جديد لصاحب «بوليتزر»

مايكل كننغهام
مايكل كننغهام
TT

مايكل كننغهام: كيف يمكن للمرء أن يكتب رواية معاصرة حول البشر دون التطرق إلى الجائحة؟

مايكل كننغهام
مايكل كننغهام

من المقرر أن تصدر الرواية الجديدة المعنونة «يوم» للروائي الأميركي مايكل كننغهام، التي تتناول سنوات الجائحة (3 سنوات)، في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.

وتجيء هذه الرواية بعد صمت استمر عقداً، والسبب وراء ذلك يعود إلى أن كننغهام يعاني من شك كبير إزاء كتبه، إذ يرى أنها مملة. وقال الكاتب إنه عاجز عن التخلص من هذا الشعور، حتى بعد مرور 4 عقود، ونشره 8 روايات على امتداد مسيرته المهنية، ورغم فوزه بجائزة «بوليتزر» وبيع ملايين النسخ من رواية «الساعات» (ذي أورز).

يقول بنبرة شبه ساخرة، بينما كان يجلس في مكتبه، وهو إستوديو صغير مملوء بالكتب داخل قرية غرينيتش، بعد ظهر أحد الأيام في أواخر يوليو (تموز): «لا أعرف ما إذا كان هذا أكبر اضطراب عصبي أعاني منه، أم أنه مجرد واحد من بين اضطرابات عصبية أخرى أعاني منها. لديّ هذا الشيء، ومن الصعب عليّ التخلص منه».

وحين كان كاتباً شاباً، دفعه هذا الخوف إلى التخلي عن مشروع كتاب تلو آخر. وقال إنه حتى الآن، ورغم تعلمه كيفية التعامل مع الناقد الذي يعيش بداخله، إن لم يكن إسكاته، ما زال من الممكن أن يخرجه عن مساره، ما يجعله يتجاهل بعض الأمور.

غلاف رواية "يوم"

وقال: «إذا لم تتمكن من طرد الشياطين الصغيرة المرتبطة بالكتابة الخاصة بك، ستتعلم على الأقل التعرف عليها. وعليه، لديّ بعض الكيانات الصغيرة التي تجلس على كتفي الأيسر وتقول أوه، اخرس»، مستخدماً كلمة بذيئة. وأضاف: «هذا الأمر مستمر منذ فترة طويلة للغاية».

واضطر كننغهام (70 عاماً)، الذي يتميز بغابة من الشعر الفضي وابتسامة عريضة يحملها وجهه على نحو متكرر، إلى قمع تلك الشكوك مرة أخرى أثناء كتابة روايته «يوم».

الكتاب، الذي من المقرر أن تنشره دار «راندوم هاوس» في 14 نوفمبر المقبل، عبارة عن قصة حميمة عن أسرة تعيش في نيويورك بالكاد تتغلب على مصاعب الحياة اليومية، عندما تضرب جائحة عالمية المدينة، ما يدفعهم إلى القرب القسري، بعضهم من بعض، بينما يفرقهم أكثر. وتصل الأحداث إلى لحظة غريبة، يظل فيروس «كورونا» عندها يشكل تهديداً حاضراً ودائماً ويجري التسامح إزاءه على مضض، في الوقت الذي تبقى الجائحة وعواقبها غائبة إلى حد كبير عن السينما والتلفزيون والأدب.

ومع أن بعض الكتاب البارزين، بما في ذلك آن باتشيت، وإيان ماكيوان، وغاري شتينغارت، وإليزابيث ستروت، وسيغريد نونيز، قد تناولوا الجائحة في أحدث أعمالهم، لكن يبدو أن معظم الروائيين تجاهلوا الموضوع.

وفيما يخص كننغهام، لم يكن تناول الجائحة خياراً. ورغم أنه لم يستخدم قط كلمات «كوفيد» أو جائحة حتى فيروس في الرواية، فإنه شعر أن فيروس «كورونا» يجب أن يكون جزءاً من نسيج حياة شخصياته.

وفي هذا الصدد، قال الكاتب: «كيف يمكن للمرء أن يكتب رواية معاصرة حول البشر دون التطرق إلى الجائحة؟»

ومن المقرر أن تطرح دار «راندوم هاوس» رواية «يوم» في الأسواق في 14 نوفمبر.

تدور أحداث الرواية على امتداد 3 فصول، ويغطي كل فصل يوماً واحداً من أبريل (نيسان) على مدى 3 سنوات متتالية. تبدأ الرواية في صباح 5 أبريل 2019، في وقت تكافح إيزابيل، التي تعمل بإحدى المجلات، وزوجها دان، مغني الروك الذي أصبح أباً مقيماً في المنزل، من أجل توصيل طفليهما إلى المدرسة. في خضم الفوضى اليومية، يحرص روبي، شقيق إيزابيل، وهو مدرس يعيش معهم ويحب دان سراً، على جمع شمل الأسرة معاً.

يبدأ الفصل الثاني بعد ظهر 5 أبريل 2020، في وقت تصيب الجائحة مدينة نيويورك بالشلل. يجري عزل إيزابيل ودان في المنزل مع طفليهما، حالة من الحبس تتسبب في تفكك زواجهما المتوتر بالفعل. تجلس إيزابيل بمفردها على الدرج، تتصفح هاتفها، بينما ينشر دان أغاني له عبر «يوتيوب»، وينجح في بناء قاعدة جماهيرية كبيرة عبر الإنترنت.

أما ابنتهما، فيوليت (6 سنوات)، فتشعر بالفزع من أن يخترق الفيروس المنزل عبر النوافذ. ونى أن روبي، الذي استقال من عمله في التدريس، قد تقطعت السبل به في آيسلندا وحيداً داخل مقصورة، بينما يحتفظ بشخصية زائفة عبر «إنستغرام» تحت اسم وولف.

وتدور أحداث الفصل الأخير مساء 5 أبريل 2021، في شمال الولاية داخل منزل ريفي متهدم خارج المدينة، حيث تعيش إيزابيل. لقد تحطمت الأسرة تحت وطأة الحزن والخسارة.

تقول الكاتبة سوزان تشوي، وصديقة مقربة لكننغهام عن روايته الجديدة: «لقد كتب واحدة من أفضل الروايات التي طالعتها عن الجائحة، إن لم تكن أفضلها، بجانب كونها رواية عن الحياة اليومية. ما فعله بـ(فكرة اليوم)، واستقطاع يوم من كل سنة من هذه السنوات المحددة، يعكس كيف أننا أهل الكوكب جميعاً ما زلنا نحاول معالجة آثار السنوات الثلاث في حياتنا التي اجتاحتنا فيها الجائحة».

من ناحيته، لم يتمكن كننغهام من معاودة الكتابة من جديد حتى أصبحت اللقاحات متاحة على نطاق واسع عام 2021، وبدأ الإحساس بالمستقبل المحتمل في التبلور.

جدير بالذكر أن الروائية الشهيرة فيرجينيا وولف، التي لطالما خيّم حضورها في أعمال كننغهام مثل القديس الراعي، أطلقت على اللحظات العادية، لكن العميقة التي ترسم ملامح حياة الشخص، اسم «لحظات الوجود». وقد جرى بناء رواية «يوم» بالكامل تقريباً من مثل هذه اللحظات. وعندما سُئل عن كيفية وصوله إلى بنية الرواية، استحضر كننغهام وولف، التي تدور أحداث روايتها «السيدة دالواي» في يوم واحد، وشكلت مصدر إلهام رواية «الساعات».

مع أن بعض الكتاب البارزين، مثل آن باتشيت وإيان ماكيوان وغاري شتينغارت، تناولوا الجائحة في أحدث أعمالهم، لكن يبدو أن معظم الروائيين قد تجاهلوا الموضوع

يقول كننغهام: «يجب أن أشيد بفيرجينيا وولف لمساعدتي في فهم أن الرواية يمكن أن يكون لها نطاق حقيقي دون أن تكون كبيرة في حجمها، ودون أن تمتد لوقت طويل. ثمة معنى في الكون، لكن هناك أيضاً معنى على المستوى الصغير».

وكثيراً ما يحكي كننغهام كيف أنه عندما كان طالباً غير مبالٍ في المدرسة الثانوية في باسادينا بكاليفورنيا، التقط رواية «السيدة دالواي» في المكتبة، ووجد نفسه مسحوراً بجمل وعبارات وولف. وعندما كان طالباً جامعياً في جامعة ستانفورد كان يأمل أن يصبح رساماً، لكنه اكتشف بنفسه ميلًا للكتابة بعد الاشتراك في فصل دراسي عن الأدب الروائي. في العشرينات من عمره، عمل نادلاً وكان يكتب في أوقات فراغه. وحصل على درجة الماجستير في الفنون الجميلة من جامعة أيوا ونشر بعض القصص، وبدأ كتابة 12 رواية، لكن تخلى عنها لاحقاً.

كان يقترب من الثلاثين من عمره، ويعيش في شقة لا توجد بها مدفأة في وسط مانهاتن، عندما حدد لنفسه موعداً نهائياً صارماً لنشر رواية قبل عيد ميلاده. وكانت النتيجة «الولايات الذهبية»، وهي قصة عن بلوغ سن الرشد، عن صبي يبلغ من العمر 12 عاماً في جنوب كاليفورنيا خلال عقد الثمانينات.


مقالات ذات صلة

محمد سمير ندا: أفضّل أن أعيش كالخفاش بعيداً عن الأضواء

ثقافة وفنون محمد سمير ندا

محمد سمير ندا: أفضّل أن أعيش كالخفاش بعيداً عن الأضواء

حوار مطول يجيب فيه الكاتب على الجدل واللغط الذي أثير حول روايته «صلاة القلق» الفائزة بجائزة البوكر، ونفى مهاجمته للرئيس الراحل جمال عبد الناصر

رشا أحمد (القاهرة)
كتب الحب والمعرفة والتعاطف مع الآخرين

الحب والمعرفة والتعاطف مع الآخرين

يشيعُ في الأوساط المهتمّة بتاريخ الفلسفة أنّ لودفيغ فيتغنشتاين Ludwig Wittgenstein هو الشخصية الفلسفية الأهمّ في القرن العشرين رغم قلّة مؤلّفاته.

لطفية الدليمي
كتب «فن الحرب» في ترجمة كاملة عن الصينية

«فن الحرب» في ترجمة كاملة عن الصينية

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة صدرت طبعة جديدة من الكتاب الشهير «فن الحرب» الذي وضعه في القرن السادس قبل الميلاد القائد العسكري الصيني والمفكر الاستراتيجي سون تزو

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب «النقد الأدبي» لأحمد أمين لا يزال صالحاً لإثارة الدهشة

«النقد الأدبي» لأحمد أمين لا يزال صالحاً لإثارة الدهشة

للقاصّ المصري الراحل يحيى الطاهر عبد الله نصّ شهير يحمل عنوان «الحقائق القديمة لا تزال صالحة لإثارة الدهشة»

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون مسارات التجريب في القصة المصرية القصيرة

مسارات التجريب في القصة المصرية القصيرة

يسعى الناقد والروائي المصري سيد الوكيل، في كتابه «علامات وتحولات: في ذاكرة القصة المصرية» إلى الوقوف عند أهم محطات التجريب التقني في كتابة القصة القصيرة

عمر شهريار (القاهرة)

الحب والمعرفة والتعاطف مع الآخرين

الحب والمعرفة والتعاطف مع الآخرين
TT

الحب والمعرفة والتعاطف مع الآخرين

الحب والمعرفة والتعاطف مع الآخرين

يشيعُ في الأوساط المهتمّة بتاريخ الفلسفة أنّ لودفيغ فيتغنشتاين Ludwig Wittgenstein هو الشخصية الفلسفية الأهمّ في القرن العشرين رغم قلّة مؤلّفاته. يسوّغون الأمر لا بكثرة تصانيف الفيلسوف بل بثوريتها، ويرون أنّ كتابَيْ فيتغنشتاين (رسالة منطقية - فلسفية) و(أبحاث فلسفية) هما المثابتان الشاخصتان في فلسفة القرن العشرين. ربما تكون شخصية فيتغنشتاين الإشكالية وما انطوت عليه حياتُهُ من أنماط سلوكية غير سائدة أو متعارف عليها هما ما ساهما في إعلاء شأنه الفلسفي. لا أظنُّ أنّ معظم الفلاسفة مهما بلغت خواصهم الرواقية من مرتبة عليا سيرتضون أن يتخلّوا طواعيّة عن ميراثهم المالي الضخم من إمبراطورية آبائهم، ثمَ يكتفون بالعمل معلّمين في مدرسة ابتدائية على تخوم جبال الألب النمساوية، أو العمل بوّابين في عمارة كما فعل فتغنشتاين.

لو شئتُ الإدلاء بصوتي في تصويت حرّ لصالح مَنْ هي الشخصية الفلسفية الأكثر تأثيراً في القرن العشرين فسأختارُ برتراند راسل Bertrand Russell من غير مُنازع. ليس الأمرُ محض ذائقة شخصية أو انجذاباً فردانياً لسلوك محدّد بقدر ما هو نتيجة منطقية لخصائص انطوت عليها حياة رسل وشخصيته وآراؤه الفلسفية. عاش راسل ما يقاربُ قرناً كاملاً (1872 - 1970)، وتلك مساحة زمنية حفلت بضروب الثورات العلمية والتقنية والفلسفية والاجتماعية، ومن الواضح أنّ مَنْ يعيش طويلاً يرى كثيراً، ولن يكون بالتأكيد كمن عاش قليلاً. تخيّلوا معي بدايات راسل حيث كانت وسيلة النقل السائدة في المشهد اليومي هي حصانٌ يجرّ عربة متثاقلة، ثم مع نهايات حياة راسل وقبل وفاته بسنة يشهد بعينيه كيف وطأت قدم الإنسان تربة القمر لأوّل مرّة. من جانب آخر عمل راسل على أنسنة الاشتغال الفلسفي عبر الانغماس في حياة حسية كاملة جعلته أبعد ما يكون عن الشخوص الفلسفية المتعالية التي تلامس مثال الآلهة الإغريقية. تزوّج راسل غير مرّة، وساهم في التظاهرات التي دفع أثمانها سجناً وإبعاداً من وظيفته الجامعية، كما لم يكتفِ بوظيفة الأستاذ الجامعي المختال في أروقة جامعة كامبريدج الأرستقراطية بل (دسّ أنفه) في كلّ المعضلات العالمية: من الحروب العالمية والأسلحة النووية ومعضلة المجاعة وشبح الشيوعية والنظم السياسية الشمولية. خصيصة أخرى تميّز راسل: لم يكتفِ بالكتابة عن المعضلات الفلسفية التقليدية الممتدّة والمتوارثة منذ العصر الإغريقي حيث صُنِعت الفلسفة؛ بل تناول قضايا كثيرة ومتعدّدة حتى ليصعب على المرء أن يذكر مبحثاً أو اشتغالاً إنسانياً لم يتناوله راسل في كتاباته. أظنّ أنّ هذه الأسباب الثلاثة تكفي للتصويت على أحقّيته في أن يكون الشخصية الفلسفية الأكثر أهمية في القرن العشرين.

لقائي الفكري الأوّل مع برتراند راسل حصل عندما قرأتُ قبل عقود كتاب (صُوَرٌ من الذاكرة ومقالات أخرى Portraits from Memory and Other Essays) الذي نشره الفيلسوف الراحل في بواكير خمسينات القرن الماضي ليكون واحداً من سلسلة كتب تتناول سيرته الذاتية، وبلغت هذه السلسلة خاتمتها بنشر السيرة الذاتية للفيلسوف في كتب ثلاثة (نُشِرت لاحقاً في كتاب واحد عام 1975) تتناول حياته موزّعة على أطوار زمنية ثلاثة. ربما من المفيد أن أذكّر بأنّ القسم الأوّل من هذه السيرة الذاتية قد تُرجِم إلى العربية، وظلّ القسمان الآخران غير مترجمين لوقت طويل رغم أنّ معظم مؤلفات راسل الأخرى قد تُرجِمت إلى العربية.

كتابُ «صورٌ من الذاكرة» واحدٌ من أكثر الكتب التي قرأتها إمتاعاً، وهو ليس كتاباً فلسفياً بالمعنى الدقيق بقدر ما هو مقاربة لهوامش حياتية تمثل التقاطاتٍ ذكية لعقل فلسفي متمرّس في توصيف علاقته بالأفكار والناس والبيئة التي يتفاعل معها، وما شدّني أكثر من سواه لهذا الكتاب ذلك الفصلُ الذي يحكي فيه راسل عن بواكير علاقته بالفيلسوف ألفرد نورث وايتهد Alfred North Whitehead الذي صار أستاذاً لراسل في جامعة كامبريدج ومن ثمّ صار زميله وشاركه كتابة العمل الأشهر (أصول الرياضيات Principia Mathematica) الذي صدر في ثلاثة أجزاء خلال السنوات 1910 - 1913. يروي راسل في هذا الفصل أنه كان في طفولته مهجوساً بإثبات كروية الأرض، ولطالما سعى للحصول على شاهدة تجريبية تؤكّد هذه الحقيقة؛ لذا راح يحفر الأرض على أمل الخروج من الطرف الثاني المقابل لها، ولمّا أخبر والدا راسل طفلهما الصغير أنّ عمله هذا غير ذي جدوى لم يقتنع وظلّ يواظب على مسعاه؛ فلم يكن بوسع والديه سوى الاستعانة بقسّيس البلدة لكي يهدّئ من روعه، ولم يكن هذا القسّيس سوى والد ألفرد نورث وايتهد. يعلّمنا راسل من هذه الأمثولة الخطأ الفادح الذي يقترفه الأهل عندما يعملون على كبح جذوة التفكّر المفارق للأنماط الفكرية السائدة، فضلاً عن تعويق الدهشة الفلسفية التي تدفع الأطفال لمقاربة ذلك النمط من الأسئلة الوجودية الموصوفة بِـ(الأسئلة الكبرى The Big Questions) التي تتناول موضوعات الكون والوعي ومعنى الحياة وغائيتها.

تتناثر نتفٌ من سيرة راسل في كتاباته العامّة؛ غير أنّ القارئ المتفحّص سيكتشف بعد طول مراسٍ في قراءة رسل أنّ سيرته الذاتية يمكن مقاربتها في مؤلفاته الثلاثة: صورٌ من الذاكرة، تطوّري الفلسفي My Philosophical Development، تطوّري العقلي My Mental Development. المشترك الأوّل بينها هو شهادة راسل لطبيعة علاقته في أطوار مختلفة من حياته بعدد من الشخصيات الثقافية اللامعة في الساحة البريطانية؛ أمّا المؤلّفان الآخران فهما أقرب إلى اللغة الفلسفية الصارمة. لن تكون هذه المؤلفات الثلاثة بديلاً بأيّ شكل من الأشكال لسيرة راسل الذاتية التي ارتضى لها أن تحمل توصيفاً صريحاً متمثّلاً في عنوان (سيرتي الذاتية)؛ لذا سيكون من قبيل البديهة العامة أن تحرص الأوساط الثقافية العربية على ترجمة هذه السيرة الذاتية جنباً إلى جنب مع ترجمة كتبه الأخرى التي تُرجِمت ترجمات عديدة وبطبعات كثيرة. الغريب أنّ الجزء الأوّل فقط من سيرة راسل (وهو الجزء الممتد من ولادته عام 1872 حتى انفجار الحرب العالمية الأولى عام 1914) تُرجِم منذ سبعينات القرن الماضي بترجمة تكفّل بها أربعةٌ من أساتذة جامعة القاهرة. لا أعرف السبب الذي جعل أربعة من أساتذة الفلسفة يتشاركون جهد ترجمة عمل سِيريّ ذاتي غير متطلّب لجهد استثنائي ولا يتجاوز بالكاد حاجز الأربعمائة صفحة. أظنّ أنّ الترجمة جهدٌ لا يتناغم مع التشارك ويميلُ بطبيعته الإبداعية إلى الفردانية، وربما كان تعدّد المترجمين سبباً في عدم رواج الجزء الأوّل من سيرة راسل الذاتية. كان الأمر مثلبة بوجهيْن: الاكتفاء بترجمة عربية غير مشجّعة للجزء الأوّل من السيرة، ثمّ غضّ النظر عن ترجمة الجزأين الآخرين منها. ربّما تقدّمُ جهات النشر تسويغاً بثقل المادة الفلسفية في السيرة الذاتية وعدم تناغمها مع أذواق القارئين وتطلعاتهم القرائية، وهنا أقول: سيرة راسل الذاتية أقلّ في صرامتها الفلسفية بكثير من مؤلفات مترجمة لراسل لقيت قراءات موسّعة، ثمّ إنّ الخصيصة النخبوية في مؤلفات راسل معروفة ومشخّصة منذ زمن بعيد، ولن ينغمس أيّ قارئ في قراءة راسل إلّا وهو يعرف مسبقاً طبيعة التضاريس المعرفية التي ستواجهه. نخبويته ليست متقاطعة مع حجم قراءته أبداً مثلما أثبتت مؤلفاته الكثيرة.

الفيلسوف الإنجليزي الشهير تناول قضايا كثيرة ومتعدّدة تمس الإنسان

جهدٌ طيّبٌ يستحقّ كلّ التقدير ذاك الذي نهضت به دار (الرافدين) العراقية عندما نشرت مؤخّراً ترجمة عربية كاملة لسيرة راسل الذاتية في أجزاء ثلاثة، تناول كلّ جزء منها مقطعاً زمنياً ممتداً لبضعة عقود من حياته. أهمّ ما يمكن قولُهُ عن هذه السيرة أنّ من الخطأ أن يستبق القارئ الحقيقة فيظنّ أنّ السيرة هي محض سيرة فكرية أو فلسفية خالصة. الأصحّ وصفُها بأنّها سيرة حياتية مطعّمة بنكهة فلسفية أو فكرية لا يمكن التنصّل من مؤثراتها بعيدة الغور في تشكيل صورة حياة أحد أعظم فلاسفة القرن العشرين.

تناول راسل في الجزء الأوّل موضوعات طفولته وشبابه ودخوله جامعة كامبريدج وخطوبته وزواجه الأوّل وكتابته المؤلف الأشهر(مبادئ الرياضيات) ثم عودته لجامعة كامبريدج ثانية. في الجزء الثاني من السيرة (الممتد بين سنوات 1914- 1944) تناول راسل الحرب العالمية الأولى وتجربته مع روسيا والصين وزواجه الثاني ثم إقامته في أميركا، في حين تناول في الجزء الثالث (الممتد بين سنوات 1944-1967) عودته إلى بريطانيا وانشغالاته السياسية والثقافية (من قبيل تأسيسه مدرسة خاصة عمل مديراً لها). من المفيد الإشارةُ هنا إلى أنّ راسل حاز جائزة نوبل في الأدب عام 1950؛ لذا فإنّ كل قراءة له تعني قراءة نصّ أدبي رفيع فضلاً عن قيمته الفلسفية الدسمة.