الرواية العربية من أقنعة التراث إلى شرفات التاريخ

دراسة تطبيقية للباحثة د. هويدا صالح

الرواية العربية من أقنعة التراث إلى شرفات التاريخ
TT

الرواية العربية من أقنعة التراث إلى شرفات التاريخ

الرواية العربية من أقنعة التراث إلى شرفات التاريخ

تؤكد الباحثة والكاتبة الروائية المصرية د. هويدا صالح أن الرواية العربية في سعيها إلى الانفتاح على الحقول المعرفية المتعددة، تستلهم التراث بشتى تجلياته وأنواعه، وتتخذه نصاً غائباً تقيم معه جدلاً فكرياً. وربما يعود ذلك إلى ما أحدثته العولمة من هزة في الهوية الثقافية للكاتب العربي؛ مما دفعه إلى أن يعيد التفكير في البِنى الفكرية والسوسيوثقافية التي تجعله يقاوم ذوبان هويته في طوفان ثقافة العولمة التي لا تعترف بحدود وجغرافيا وأنساق ثقافية وهويات قومية.

موقفان متناقضان

تذهب صالح، في كتابها «آليات اشتغال التراث في المدونة الروائية العربية»، الصادر عن «معهد الشارقة للتراث»، إلى أن عودة المبدع العربي للتراث تمثلت في موقفين متناقضين؛ الأول رأى تلك العودة وسيلة من وسائل الدفاع عن الهوية، فوقع في فخ تقديس التراث وعبادته، أما الشكل الثاني فقد ذهب إلى ثقافة أخرى مفارِقة للتراث يستلهمونها، ويتكئون على روافدها وعناصرها الثقافية.

ووفق المؤلفة، ينطلق أصحاب الموقفين، المتحمس للتراث، والرافض له، من وعي مغلوط بأن التراث مضادّ للحداثة، وتتحفظ الباحثة على هذا التصور؛ فتراث كل أمة لا يعني أنه مضادّ للحداثة، كما أن إفادة الروائي من هذا التراث تفترض أن تنزع هالة القداسة عن ذلك التراث، وأن تنظر إليه باعتباره نتاج الوعي البشري في التاريخ والمجتمع، ومن ثم يجب التأصيل للوعي بالتراث وأن يفيد من العناصر الحية فيه، ويدرس علاقته التاريخية بقضايا الماضي في ضوء القضايا والمشكلات والأسئلة التي يطرحها الحاضر.

وتتوقف الباحثة بشكل خاص عند التراث الصوفي الذي يمثل أحد أهم عناصر التراث التي يذهب إليها الروائي؛ ليستلهم متخيله السردي، ومن منطلق انشغاله بإثراء نصه بعناصر التراث القومي من ناحية، ومن ناحية أخرى لأن التجربة الصوفية لها خصوصية فلسفية في الإجابة عن أحد أهم أسئلة الوجود إلحاحاً على الإنسان وهي علاقة الإنسان بـ«الماوراء» المجهول ومدى قدرته على فهم هذا العالم الغامض؛ لذا تمثل التجربة الصوفية حين ذاك فلسفة ورؤية للعالم لها خصوصية وخطاب مختلف ومغاير.

الطاقة الروحية

وتكشف الدراسة عن مساحة من الوعي بالطاقة الروحية الكامنة في تلك التجربة، والاستلهام الأدبي لهذا النوع من التراث، وما ينطوي عليه من شفافية نفسية ورغبة في التحليق، وكأن الروائي يحاول من خلالها أن يقاوم القلق الوجودي الذي ينتاب إنسان هذا العصر الذي يسعى لفتح طاقة من النور تبدِّد عتمة اليأس. وتتسم اللغة الروائية، التي تتمثل الخطاب الصوفي، بالإشراقات الشعرية؛ والإنصات للذات، وتخليصها من شوائب الواقع المادي، كما تتميز رؤية العالم لدى الروائي الذي يتمثل التجربة الصوفية، بالصفاء الروحي والقدرة على التسامح مع جميع المخلوقات.

وتلفت الكاتبة إلى أنه في هذه التجربة يعتمد الفعل الصوفي في الرواية على لغة الكشف والاكتشاف والغوص في المجهول والانخراط في عالم روحي عجائبي، وكأنها رحلة معراجية سردية يعيشها السارد وبقية الشخصيات. ومن أبرز الأمثلة التطبيقية التي تشتغل عليها الباحثة في هذا السياق «كتاب التجليات» للمصري جمال الغيطاني، و«كيميا» للمصري وليد علاء الدين، و«وجدتك في هذا الأرخبيل» للمغربي محمد السرغيني، و«الحجاب» للمغربي حسن نجمي، و«جبل الطير» للمصري عمار علي حسن، و«مجنون الحكم» للمغربي بنسالم حميش، ورواية «جنوب الروح» للمغربي محمد الأشعري.

التاريخي والروائي

وترصد الباحثة العلاقة بين الرواية والتاريخ، والفرق بين الخطاب الروائي والخطاب التاريخي، وترى أن الأخير يُفترض فيه أن يكون خطاباً نفعياً له وظيفة مرجعية في نقل الأحداث وفق تتابعها بأمانة تامة، ولهذا يتوقع من المؤرخ أن يلتزم الصدق في سرد الأحداث، فتأتي حقيقية وشفافة، في حين أن الخطاب الروائي ينبني على التخييل، مع الإفادة من المرجعية الواقعية من ناحية، والمرجعية التاريخية من ناحية ثانية؛ أي أن الرواية لم تتخلَّ نهائياً عن الوظيفة المرجعية عندما قدمت عليها الوظيفة الجمالية. والتماهي بين النص التاريخي والنص الروائي سمة جمالية تميِّز السرد الجديد، فالرواية الجديدة حين تقوم بتوظيف خطاب التاريخ إنما تجعله تكأة جمالية وفنية ليصبح بمثابة المَعبر الذي تقدِّم من خلاله خطابها الروائي، فلا يكون التاريخ مقصوداً لذاته، إنما هو تقنية فنية وله وظيفة جمالية.

وتلاحظ الكاتبة أن السارد في الرواية التي تفيد من النصوص التاريخية هو مؤرخ من نوع خاص يعتني بالثغرات والفجوات والهوامش المنسية والزوايا المعتمة التي تتجاهلها في الغالب الكتابات التاريخية التقليدية، كما أنه يقوم بمحاولة لملء وترميم الثغرات والفجوات التي يهملها التاريخي الرسمي، فالتاريخ يكتبه المنتصرون، فماذا عن المنهزمين، المهمَّشين؟ من يكتب سردياتهم؟ إنه الروائي الذي يبرز الهوامش المنسية، ويضيء المناطق المعتمة بواسطة الفن. والرواية حينما تقوم بتوظيف خطاب التاريخ إنما تجعله تكأة جمالية وفنية ليصبح بمثابة المَعبر الذي تقدم من خلاله خطابها الروائي، فلا يكون التاريخ مقصوداً لذاته، إنما هو تقنية فنية وله وظيفة جمالية. الروائي لا يكتب تاريخاً، بل يوظف بعض أحداث التاريخ التي يرى أنها يمكن أن تكون عناصر فاعلة في نصه الروائي.

يستهدف الروائي إعادة توظيف التاريخ عبر فضاء نصي لمتخيل سردي تتداخل فيه الأحداث والشخصيات التاريخية الواقعية مع المتخيلة، مع الوعي بأهمية تحليل الخطاب التاريخي ونقده.

وترى الباحثة أن إلحاح المدونة الروائية العربية على «العلاقة النصية» بين التاريخ والمتخيل السردي يؤكد وعي الروائي بأن الحاضر، ومن ثم المستقبل، هما ابنان شرعيان للماضي، ومن يجيد قراءة الماضي ويسائله يمكن له أن يصنع حاضراً ومستقبلاً صالحاً للعيش الإنساني فيه. ومن أبرز الأمثلة الروائية التي تستشهد بها الباحثة هنا «دروز بلجراد» للبناني ربيع جابر، و«حوبه ورحلة البحث عن المهدي المنتظر» للجزائري عز الدين جلاوجي، و«ملاك الفرصة الأخيرة» للمصري سعيد نوح.

مأزق الشخصية التراثية

وتؤكد الكاتبة أن الروائي الذي يذهب للتراث، يجد نفسه في مأزق شديد؛ وهو أن الشخصية التراثية التي يريد أن يتناصّ معها، ويجلبها لفضائه النصي، ويقيم من خلالها جدلاً بين الماضي والنص الماثل، تكون شخصية محددة الملامح، لها رصيد معرفي لدى القراءة والمتلقين، ومن ثم فإن أبرز الصعوبات التي تواجه المبدع في النص الأدبي عموماً، والنص الروائي خصوصاً، هو تعامله مع شخصيات تاريخية لها حضورها الحقيقي، حيث تكون جاهزة المعالم، مرسومة الملامح، محددة الاتجاهات، فتكون مرهِقة لكُتاب الرواية؛ حيث تتجلى خطورتها في كونها جاهزة مسبقاً، وقد تُرغِم الكاتب على العودة إلى مرجعيتها.

في هذا السياق تذكر الكاتبة أنه في رواية «مجنون الحكم»، يُلبس المؤلف بنسالم حميش شخوصه مسوح الحكمة ويجعلهم ينطقون بخطاب متجلٍّ، حيث يقول على لسان الحاكم بأمر الله: «ليست الحكمة في مسايرة التكرار والأموات، بل في الفتن المعبأة التي قانونها الفيض والتوجهات». إن حميش يجعل الشخصية الرئيسية (الحاكم) تتلبّسه حالات من الكشف والعرفان، حتى إنه يقول: «أرحل إلى الجوار البراني أو أسيح... وحين أجن بجنوني، تحتدّ بصيرتي وتقوى، وأصير عيناً ترى، وأصير بألف شفةٍ أنطق بالتجليات، وأتلو ما أراه».

ولا يختلف بطل رواية «جنوب الروح» لمحمد الأشعري عن بطل رواية «مجنون الحكم»؛ فكلاهما تلبَّس بلبوس التجليات، وتمثل شطحاتهم العرفانية وعروجهم الروحي، ورحلة صعودهم إلى عالم الأقطاب، فنجد السارد في «جنوب الروح» ينسي عالم الواقع، ويذهب بعيداً حيث «كل ما رسخ في ذاكرته تلك النشوة التي تجعل جسده مثل سحابة (...) فأسكرته النشوة وقفز عالياً حتى رأى خضرة القبة، ورأى السيل العارم للزائرين بأقمصتهم وعماماتهم البيضاء...»، كما يمازج وليد علاء الدين، في روايته «كيميا» بين عوالم واقعية، مثل رحلة السارد إلى تركيا لاستقصاء أحوال مريدي جلال الدين الرومي بمناسبة مئويته، وعوالم أسطورية أثناء البحث عن قبر كيميا؛ لذا وعى الفرق بين الزمنين اللذين يناسبان رحلتيه مختلفتي الطبيعة والتوجه، فالبحث عن مظاهر الاحتفال بجلال الدين الرومي ناسبه الزمن الفيزيقي الواقعي الذي يُقاس بحسابات الساعات والأيام والشهور والسنين، في حين أن الزمن الذي اختاره ليناسب عوالم البحث عن القبر كان زمناً أسطورياً مختلفاً ومغايراً. يقول الراوي: «تخيل شعورَ رجل يسافر نحو عشرين ساعة بين البر والجو، يخرج من قلب الخليج العربي، في الرابعة فجراً، ليصل إلى وجهته في وسط جبال الأناضول مع نهاية الليل، لتكون تلك هديته».

أما اللحظة الزمنية الأسطورية فتغلِّف رحلته الأخرى التي يبحث فيها عن شاهد يليق بأن يوضَع على القبر الذي تخيَّله لكيميا، هنا في مونولوج متخيَّل يقول الراوي: «إنه التخلص والتحرر من قيود الزمن، لتعود إلى مصدر انبعاثك. تدور حول نفسك. تدور في مكانك. تدور حول الآخرين. يدور الآخرون حولك. إنه انجذاب البعض إلى البعض، كدوران الكواكب حول ذاتها وحول الشمس».


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت
TT

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

قبل عشرين عاماً، خاض محرر في دار «بلومزبري للنشر» مخاطرة كبيرة إزاء كتاب غير عادي للغاية. فهي رواية خيالية أولى لسوزانا كلارك، تدور أحداثها في إنجلترا بالقرن التاسع عشر، وتحكي قصة ساحرين متنازعين يحاولان إحياء فنون السحر الإنجليزي المفقود. كانت المخطوطة غير المكتملة مليئة بالهوامش المعقدة التي تشبه في بعض الحالات أطروحةً أكاديميةً حول تاريخ ونظرية السحر. وكانت مؤلفة الكتاب سوزانا كلارك محررة كتب طهي وتكتب الروايات الخيالية في وقت فراغها.

أطلقت «جوناتان سترينج والسيد نوريل»، على الفور، سوزانا كلارك واحدةً من أعظم كُتاب الروايات في جيلها. ووضعها النقاد في مصاف موازٍ لكل من سي. إس. لويس وجيه. أر. أر. تولكين، وقارن البعض ذكاءها الماكر وملاحظاتها الاجتماعية الحادة بتلك التي لدى تشارلز ديكنز وجين أوستن. التهم القراء الرواية التي بِيع منها أكثر من أربعة ملايين نسخة.

تقول ألكساندرا برينغل، المحررة السابقة في «دار بلومزبري»، التي كُلفت بطباعة أولى بلغت 250 ألف نسخة: «لم أقرأ شيئاً مثل رواية (جوناتان سترينج والسيد نوريل) في حياتي. الطريقة التي خلقت بها عالماً منفصلاً عن عالمنا ولكنه متجذر فيه تماماً كانت مقنعة تماماً ومُرسومة بدقة وحساسية شديدتين».

أعادت الرواية تشكيل مشاهد طمست الحدود مع الخيال، مما جعلها في القائمة الطويلة لجائزة «بوكر» وفازت بـ«جائزة هوغو»، وهي جائزة رئيسية للخيال العلمي والفانتازيا. وبسبب نجاح الرواية، نظمت جولات لها عبر الولايات المتحدة وأوروبا، ومنحتها «دار بلومزبري» لاحقاً عقداً ضخماً لرواية ثانية.

ثم اختفت كلارك فجأة كما ظهرت. بعد فترة قصيرة من إصدار الرواية، كانت كلارك وزوجها يتناولان العشاء مع أصدقاء بالقرب من منزلهما في ديربيشاير بإنجلترا. وفي منتصف الأمسية، شعرت كلارك بالغثيان والترنح، ونهضت من الطاولة، وانهارت.

في السنوات التالية، كافحت كلارك لكي تكتب. كانت الأعراض التي تعاني منها؛ الصداع النصفي، والإرهاق، والحساسية للضوء، والضبابية، قد جعلت العمل لفترات طويلة مستحيلاً. كتبت شذرات متناثرة غير متماسكة أبداً؛ في بعض الأحيان لم تستطع إنهاء عبارة واحدة. وفي أدنى حالاتها، كانت طريحة الفراش وغارقة في الاكتئاب.

توقفت كلارك عن اعتبار نفسها كاتبة.

نقول: «تم تشخيص إصابتي لاحقاً بمتلازمة التعب المزمن. وصار عدم تصديقي أنني لا أستطيع الكتابة بعد الآن مشكلة حقيقية. لم أعتقد أن ذلك ممكن. لقد تصورت نفسي امرأة مريضة فحسب».

الآن، بعد عقدين من ظهورها الأول، تعود كلارك إلى العالم السحري لـ«سترينج ونوريل». عملها الأخير، رواية «الغابة في منتصف الشتاء»، يُركز على امرأة شابة غامضة يمكنها التحدث إلى الحيوانات والأشجار وتختفي في الغابة. تمتد الرواية إلى 60 صفحة مصورة فقط، وتبدو مقتصدة وبسيطة بشكل مخادع، وكأنها أقصوصة من أقاصيص للأطفال. لكنها أيضاً لمحة عن عالم خيالي غني لم تتوقف كلارك عن التفكير فيه منذ كتبت رواية «سترينج ونوريل».

القصة التي ترويها كلارك في رواية «الغابة في منتصف الشتاء» هي جزء من روايتها الجديدة قيد التأليف، التي تدور أحداثها في نيوكاسل المعاصرة، التي تقوم مقام عاصمة للملك الغراب، الساحر القوي والغامض الذي وصفته كلارك بأنه «جزء من عقلي الباطن». كانت مترددة في قول المزيد عن الرواية التي تعمل عليها، وحذرة من رفع التوقعات. وقالت: «لا أعرف ما إذا كنت سوف أتمكن من الوفاء بكل هذه الوعود الضمنية. أكبر شيء أكابده الآن هو مقدار الطاقة التي سأحصل عليها للكتابة اليوم».

تكتب كلارك على طريقة «الغراب» الذي يجمع الأشياء اللامعة. وتصل الصور والمشاهد من دون سابق إنذار. تدون كلارك الشذرات المتناثرة، ثم تجمعها سوياً في سردية، أو عدة سرديات. يقول كولين غرينلاند، كاتب الخيال العلمي والفانتازيا، وزوج كلارك: «إنها دائماً ما تكتب عشرات الكتب في رأسها».

غالباً ما يشعر القارئ عند قراءة رواياتها وكأنه يرى جزءاً صغيراً من عالم أكبر بكثير. حتى كلارك نفسها غير متأكدة أحياناً من القصص التي كتبتها والتي لا توجد فقط إلا في خيالها.

تقول بصوت تعلوه علامات الحيرة: «لا أتذكر ما وضعته في رواية (سترينج ونوريل) وما لم أضعه أحب القصص التي تبدو وكأنها خلفية لقصة أخرى، وكأن هناك قصة مختلفة وراء هذه القصة، ونحن نرى مجرد لمحات من تلك القصة. بطريقة ما تعتبر رواية (جوناتان سترينج والسيد نوريل) كخلفية لقصة أخرى، لكنني لا أستطيع أن أقول إنني أعرف بالضبط ما هي تلك القصة الأخرى».

في الحوار معها، كانت كلارك، التي تبلغ من العمر 64 عاماً ولديها شعر أبيض لامع قصير، تجلس في غرفة المعيشة في كوخها الحجري الدافئ، حيث عاشت هي والسيد غرينلاند منذ ما يقرب من 20 عاماً.

ويقع منزلهما على الامتداد الرئيسي لقرية صغيرة في منطقة بيك ديستريكت في دربيشاير، على بعد خطوات قليلة من كنيسة صغيرة مبنية بالحجر، وعلى مسافة قصيرة سيراً على الأقدام من حانة القرية التي يزورونها أحياناً. ويساعد هدوء الريف - حيث لا يكسر الصمت في يوم خريفي سوى زقزقة الطيور وثغاء الأغنام بين الحين والآخر - كلارك على توجيه أي طاقة تستطيع حشدها للكتابة.

في يوم رمادي رطب قليلاً في سبتمبر (أيلول)، كانت كلارك تشعر بأنها على ما يرام إلى حد ما، وكانت قد رفعت قدميها على أريكة جلدية بنية اللون؛ المكان الذي تكتب فيه أغلب أوقات الصباح. كانت تحمل في حضنها خنزيراً محشواً، مع ثعلب محشو يجاورها؛ ويلعب كل كائن من هذه المخلوقات دوراً في رواية «الغابة في منتصف الشتاء». تحب أن تمسك حيواناتها المحشوة أثناء العمل، لمساعدتها على التفكير، وكتعويذة «لدرء شيء ما لا أعرف ما هو. يفعل بعض الناس أشياء كالأطفال، ثم مع التقدم في العمر، يتخلون عن الأشياء الطفولية. أنا لست جيدة للغاية في ذلك».

نظرت إلى الخنزير وأضافت: «لا أرى حقاً جدوى في التقدم بالعمر».

ثم استطردت: «أكبر شيء يقلقني هو كم من الطاقة سأحتاج للكتابة اليوم؟».

وُلدت سوزانا كلارك في نوتنغهام عام 1959، وكانت طفولتها غير مستقرة، إذ كان والدها، وهو قس مسيحي، يغير الكنائس كل بضع سنوات، وانتقلت عائلتها ما بين شمال إنجلترا وأسكوتلندا. في منزلهم البروتستانتي، كان إظهار العواطف غير مرغوب فيه؛ ولذلك نشأت كلارك، الكبرى من بين ثلاثة أبناء، على الاعتقاد بأن التقوى تعني أنه «ليس من المفترض أن تفعل في حياتك ما يجعل منك إنساناً مميزاً»، كما تقول.

*خدمة: «نيويورك تايمز»