«باب الوادي»... بطل جزائري يبحث عن هوية ووطن

«باب الوادي»... بطل جزائري يبحث عن هوية ووطن
TT

«باب الوادي»... بطل جزائري يبحث عن هوية ووطن

«باب الوادي»... بطل جزائري يبحث عن هوية ووطن

يعتني بقص الشارب ولا يكترث بلحية يعالج أحيانا شيبها المبكر ببعض الحناء. ينتمي إلى جيل التائبين من «يوتوبيا دينية» أحرقت البلاد عشر سنوات كاملة وما زال يؤمن بأحقية ما قام به. هكذا تتبدى ملامح «يحيى»، أبرز شخصيات رواية «باب الوادي» التي صدرت مؤخرا عن دار «الشروق» بالقاهرة للكاتب الجزائري أحمد طيباوي.

تموج الرواية بأحداث وأفكار وصراعات لا تخطر ببال. ويمثل يحيى نموذجا لمن استفادوا من قانون «الوئام المدني» بالجزائر نهاية التسعينات وألقوا السلاح ونزلوا من الجبال ليبيعوا المصاحف والسواك وسط أرصفة تغص بشباب يرتدي السراويل الممزقة أو يقص شعره على منوال غريب.

لكن الشخصية الرئيسية في العمل يمثلها «كمال»، الحائر بين موطنه ومدينة ليون الفرنسية، الممزق الوجدان إثر سر كبير أخبرته به أمه وهي على سرير الموت، ليبدأ رحلة بحث قاسية بعد أن عاش حياته يطارد والده في الحقيقة وفي الأحلام بين الجزائر وفرنسا. يحاول تقصي جذوره البعيدة من خلال لقائه مع صديق قديم لوالده لكنه يجد نفسه أمام تساؤلات أكبر تكشف عن مزيد من المفاجآت وكثير من الأسرار.

ورغم تلاحق وتدافع الأفكار والأحداث يتسم النص بنبرة هادئة، لا تخلو من صخب الفكرة أحيانا، يرسم أحمد طيباوي لوحة بانورامية، يضفر فيها قصة حياة بطله ورحلة بحثه عن هويته بالتوازي مع تطور الجزائر ورحلة البلاد في بحثها عن ذاتها. فعبر لغة عذبة لا تخلو من حساسية شعرية يقدم الروائي الحاصل على «جائزة نجيب محفوظ» تشريحا فريدا يطرح على طاولة هموم جيل جديد ورث صراعات الماضي، ويرسم صورة بطل ممزق يسعى لتجاوز حياة مزيفة باحثا عن ولادة أخرى.

ومن أجواء الرواية نقرأ:

«أزاح الستار عن النافذة وتسرب ضوء خفّف من عتمة الغرفة. تمطر دون توقف تام منذ وصوله بالأمس إلى مدينة ليون. حالة الطقس تعزز النزوع نحو الكسل والشارع الجانبي الذي يطل عليه الفندق فارغ من البشر بينما تقف الأشجار العجوز على جانبيه تحت مطر ينزل منهمرا مرة ووديعا مرة أخرى. الوقت مبكر والأحد يوم عطلة هنا. كان الصمت يلف المكان كله كأنها دقيقة حداد على شيء لم يعرف ما هو تماما. صمت يشبه ذاك الذي كان سائدا في الأرض قبل أن تبدأ عليها الحياة وتكسر أبديته.

نزل في فندق متواضع، كل شيء مصنوع من خشب وتحافظ صاحبته على أصالته وطرازه القديم. يقدمون إفطار الصباح فقط وعليه أن يتدبر أمره في بقية اليوم. بدأ يهيئ نفسه للخروج من الغرفة وهو يتمنى ألا تطول به الإقامة فيه. مرّر يده على وجهه. ذقنه شائكة سيحلقها ولن يكتفي بتشذيبها كما تعود أن يفعل دائما. يجب أن يبدو أمام عبد القادر بن صابر بمظهر لائق. سيلتقي بأهم رجل يمكن أن تراه على الإطلاق وهذه فرصته ليفك عقدة حياته. لا يبالغ في تقدير أهميته وسيكون حكمه عليه نهائيا بعد أن يتكلم معه. يزور فرنسا لأول مرة ومدينة ليون رائعة، يعرف هذا من الإنترنت، لكنه لا ينوي أن يكتشف ذلك بنفسه إذ ليس في جيبه ما يخوله لأن يتحول إلى سائح كما أن همه أن يقابل الرجل ليسأل عن أبيه.

استبعد الاحتمال الأسوأ بأن يقضي جزءا آخر من حياته في مسارات وهمية. لن تعبث أمه بمشاعره وهي على سرير الموت ولن يتآمر عليه خاله يحيى ليزيحه من حياته مهما عدّه عبئا ثقيلا. ربما يكون محبطا قليلا لكن لديه من القوة ما يكفي أن يكبت إحباطه، لم يبع له عقله الوهم ولا وقع في الاستسهال ولا يتصور أن بحثه عن جذوره في مدينة لا يعرفها ولا يعرف فيها أحدا سيكون نزهة أو تخفيفا عن الخاطر».


مقالات ذات صلة

معرض الرياض الدولي للكتاب يختتم 10 أيام من الاحتفاء بالكتاب والثقافة

يوميات الشرق جذبت فعاليات المعرض وأنشطته الثرية والمتنوعة أكثر من مليون زائر (هيئة الأدب)

معرض الرياض الدولي للكتاب يختتم 10 أيام من الاحتفاء بالكتاب والثقافة

بحلول مساء يوم (السبت) انقضت الأيام العشرة من فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب 2024، وتم إسدال الستار على المعرض الذي انطلق تحت شعار «الرياض تقرأ».

عمر البدوي (الرياض)
كتب ميشيل فوكو

من «إيخمان في القدس» إلى «من أجل السماء»

حين تكون الضحية نتاجاً لثنائية متضامنة: غياب العقل وعبثية الشر.

شرف الدين ماجدولين
كتب محمد مبوغار صار

القائمة الأولى لـ«الغونكور»... حضور مميّز للكتاب الأفارقة

بعد أيام من انطلاق الموسم الأدبي، كشفت أكاديمية «الغونكور» عن القائمة الأولى للكتاب المرشحين للفوز بالجائزة الأدبية هذه السنة.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب غلاف الرواية

الكاتبة السعودية عائشة مختار في «الريح لا تستثني أحداً»

تقدم الكاتبة السعودية عائشة مختار عملها «الريح لا تستثني أحداً» بوصفه «مُتتالية قصصية»، ينهض معمارها على فن القصة القصيرة المُكثفة

منى أبو النصر (القاهرة)
يوميات الشرق على مدى عشرة أيام تزين فعاليات معرض الكتاب العاصمة السعودية (هيئة الأدب)

علوان: معرض الرياض للكتاب أيقونة ثقافية وأكبر المعارض العربية في مبيعات الكتب

بات معرض الرياض الدولي للكتاب عنواناً للريادة الثقافية للسعودية منذ انطلاقه قبل خمسة عقود وتحقيقه سنوياً لأعلى عوائد مبيعات الكتب بين المعارض العربية.

عمر البدوي (الرياض)

الكاتبة السعودية عائشة مختار في «الريح لا تستثني أحداً»

غلاف الرواية
غلاف الرواية
TT

الكاتبة السعودية عائشة مختار في «الريح لا تستثني أحداً»

غلاف الرواية
غلاف الرواية

تقدم الكاتبة السعودية عائشة مختار عملها «الريح لا تستثني أحداً» بوصفه «مُتتالية قصصية»، ينهض معمارها على فن القصة القصيرة المُكثفة، إلا أن دائرتها السردية لا تكتمل سوى بتوالي الأحداث التي تتشارك فضاء الحدث.

تلعب قصص المجموعة، الصادرة عن دار «حياة»، على رمزية الريح التي تمنحها الكاتبة سلطة غاشمة وسحرية، وفي المقابل يبدو البشر محض هشيم في قبضتها، فتكون «ليلة الريح الأولى» هي الحدث المركزي الذي تظل تبعاته الكابوسية تلاحق أهالي القرية وتجلب معها الأهوال. وأولها أنهم لم يعودوا يتذكرون شيئاً مما جرى ليلتها، في تلميح مبكر لما يحمله تشوّش الذاكرة من لعنة، ثم سرعان ما تستحوذ «الرائحة» بطاقتها الحسيّة على زمام الأمور، فتزيد من غبش الرؤية، بعدما تسود رائحة «طاغية لا مثيل لها» فضاء القرية في أعقاب تلك الليلة، بما لها من خواص غرائبية، فلا تشمها النساء، فيما تُزكم أنوف الرجال، فيكون ظهورها واختفاؤها بعد ذلك دليلاً على ما غيّرته الريح في أجوائها، والسطور التي خطّتها ومحتها، ولا تختفي تلك الرائحة سوى بمولد طفلين بعد 9 أشهر من تلك الليلة، ليكونا طفلي الريح، وحاملي سرّ الأم التي اختفت في سنوات طفولتهما الأولى، وتبدو فصاحتهما المُبكرة وظروف نشأتهما الغريبة كفيلة بأن تجعل أهل القرية يصفونهما بـ«المبروكين»، فيقطعان على مدار المتتالية القصصية دروباً تأملية في اقتفاء الحكمة، وتلمّس النبوءة، وأسرار الكلمات، كما يصبحان قبلة لأهل القرية من «السائلين»، الذين تُخرجهم الريح من رقودهم، لتوقظ داخلهم الألم، والشعور العارِم بالذنب.

قلوب مثقوبة

تتفرع الحكايات عبر 3 فصول رئيسية هي: «الرجل الذي تكلّم ثم صمت» و«الرجل الذي سيُحب التجوال»، و«الفتاة التي لم يعرف أحدٌ اسمها». تواصل الحكايات تقاطعها على مدار المتتالية القصصية مع ثيمات العمل الرئيسية وأبرزها الفقد والانتظار، فـ«الرجل الذي تكلّم ثم صمت» يظّل مع تقدمه في العمر يتوّسل «طيف» أمه التي غابت في طفولته، وتظل حيثيات غيابها مُغبشة ومثيرة لتوالد الحكايات، بما يزيد من عزلته واغترابه، وتظل «الريح» على مدار المُتتالية هي صاحبة السطوة السردية، فالسرد يبدأ بها، ثم تباغت أهل القرية مرة أخرى مع نهاياته، لتترك الحياة بينهما وبعدهما غارقة في الهشاشة، فهي لم تترك البشر عُراة من أسمالهم فحسب، بل كشفت عن ندوبهم الغائرة، لا سيما تلك التي تسكن الأمهات، ويبدو ثمة آصرة بين الرجلين أبناء الريح وبين أمهات القرية المكلومات، الباحثات عن رتق لـ«قلوبهن المثقوبة» بفقد أبنائهن، فتبدو لعنة أمهم الغائبة، أو الأم «الأولى»، وكأنها تُلاحق أمهات القرية من بعدها، متوسلات أن يرشدهم أحد لأبنائهن ويمتص ملوحة قلوبهن. ويصف «الرجل الذي سيُحب التجوال» جرح الأمومة باعتباره الألم الوحيد المستعصي: «أُعد وصفات لأهالي القرية طوال 13 عاماً، وصفات حلّت أحوالهم المعقدة، أعد قلباً صلصالياً، ومسحوقاً للنسيان، ودواءً للحقيقة، أعد أدوية لكل من طلب، لكنه الآن يعجز أمام الأمهات اللاتي أردن استرداد أبنائهن ذوي العيون الرمادية، السوداء، البنية، الزرقاء، الخضراء الصغيرة»، وهي الفكرة التي تتردد على مدار المتتالية، بتراوحات فنية تفيض من رحم الأمومة، وتعود أدراجها له من جديد في قصة أم أخرى.

تشتق المُتتالية القصصية من جماليات اللغة مكونات لبناء مُتخيلها الحكائي الذي ينهل من الحكايات وقوة تأثيرها

اختلاط الزمن

تشتق المُتتالية القصصية، التي حازت جائزة الشارقة للإبداع العربي، من جماليات اللغة مكونات لبناء مُتخيلها الحكائي الذي ينهل من الحكايات، وقوة تأثيرها، واللعب بالكلمات، فنرى رجلاً أصابته لعنة اللغة، ولكنه للمفارقة كلما كان «يفقد حرفاً زادت كلماته وزادت فصاحته»، كما تشتق من مفردات البيئة البدائية دلالات بلاغية، فنجد الكلمات تندفع كـ«العواصف الرملية»، وهو ما يمكن فهمه ضمن اجتراح العمل لإيقاعه وقوانينه الخاصة، فالمكان برغم تأطيره الظاهر بحدود القرية والصحراء فإنه سيّال، يفيض على هامش الواقع وفي عمق المُخيلة، حيث «المنامات» مكان للقاء الأحبة، والصحراء مكان لابتلاعهم، أما الزمن فيُفتته السرد في سعي لتوظيف دلالته وأثره على أبطاله، حيث نجد هناك: «زمن الصمت، زمن الكلام، زمن الانتباه، زمن الانتظار...»، فالزمن يختلط كالكوابيس، ويفقد أفقيته المنطقية وواقعيته وهو يعود أدراجه معكوساً، كما نرى الأبناء الذين يعودون أجنّة، والعيون تتحوّل لحُفر فارغة، وحتى نمش الوجوه يكبر ويصغر، وكأنه يحوم في مدار زمني معزول يخص سيرة أصحابه وحكاياتهم.

وفي حين تنحاز الكاتبة عائشة مختار للنزعة السحرية في بناء عالمها السردي، فإنها في الوقت نفسه تتلمس هُوية ذاتية تتقاطع مع الموروث الشعبي في كثير من محطات المُتتالية، فالشخصيات تنتظر «الكرامات» في مناماتهم، وتقطع المسافات من أجل الحصول على مشروب سحري يضمن لهم الحب، في استثمار لطاقات الغرابة في قواميس الوصفات السحرية الشرقية، التي تفيض برائحة «الأبخرة والأهازيج والتمائم»، في توسّل لأسئلة وجودية مؤرقة لدى أبطال المُتتالية، بداية من الموت، وحتى الحب، والنوم، والأحلام، والاستبدال، وأهوال الخطيئة، وهو الأرق الذي وجد مُتنفسه في طرح الأسئلة التي لا تخلو من غضب، فالراوي يتقمص صوت «الفتاة التي لم يعُد يعرف أحد اسمها»، ويسأل: «أما جمالها فما المغزى منه إذا كان قد حُكِم عليها بالتعاسة؟ والطيور التي حاولت أخذها إلى المجهول لماذا لم تُحاوِل مرّة ثانية؟ والعدل أين اختفى!».