«باب الوادي»... بطل جزائري يبحث عن هوية ووطن

«باب الوادي»... بطل جزائري يبحث عن هوية ووطن
TT

«باب الوادي»... بطل جزائري يبحث عن هوية ووطن

«باب الوادي»... بطل جزائري يبحث عن هوية ووطن

يعتني بقص الشارب ولا يكترث بلحية يعالج أحيانا شيبها المبكر ببعض الحناء. ينتمي إلى جيل التائبين من «يوتوبيا دينية» أحرقت البلاد عشر سنوات كاملة وما زال يؤمن بأحقية ما قام به. هكذا تتبدى ملامح «يحيى»، أبرز شخصيات رواية «باب الوادي» التي صدرت مؤخرا عن دار «الشروق» بالقاهرة للكاتب الجزائري أحمد طيباوي.

تموج الرواية بأحداث وأفكار وصراعات لا تخطر ببال. ويمثل يحيى نموذجا لمن استفادوا من قانون «الوئام المدني» بالجزائر نهاية التسعينات وألقوا السلاح ونزلوا من الجبال ليبيعوا المصاحف والسواك وسط أرصفة تغص بشباب يرتدي السراويل الممزقة أو يقص شعره على منوال غريب.

لكن الشخصية الرئيسية في العمل يمثلها «كمال»، الحائر بين موطنه ومدينة ليون الفرنسية، الممزق الوجدان إثر سر كبير أخبرته به أمه وهي على سرير الموت، ليبدأ رحلة بحث قاسية بعد أن عاش حياته يطارد والده في الحقيقة وفي الأحلام بين الجزائر وفرنسا. يحاول تقصي جذوره البعيدة من خلال لقائه مع صديق قديم لوالده لكنه يجد نفسه أمام تساؤلات أكبر تكشف عن مزيد من المفاجآت وكثير من الأسرار.

ورغم تلاحق وتدافع الأفكار والأحداث يتسم النص بنبرة هادئة، لا تخلو من صخب الفكرة أحيانا، يرسم أحمد طيباوي لوحة بانورامية، يضفر فيها قصة حياة بطله ورحلة بحثه عن هويته بالتوازي مع تطور الجزائر ورحلة البلاد في بحثها عن ذاتها. فعبر لغة عذبة لا تخلو من حساسية شعرية يقدم الروائي الحاصل على «جائزة نجيب محفوظ» تشريحا فريدا يطرح على طاولة هموم جيل جديد ورث صراعات الماضي، ويرسم صورة بطل ممزق يسعى لتجاوز حياة مزيفة باحثا عن ولادة أخرى.

ومن أجواء الرواية نقرأ:

«أزاح الستار عن النافذة وتسرب ضوء خفّف من عتمة الغرفة. تمطر دون توقف تام منذ وصوله بالأمس إلى مدينة ليون. حالة الطقس تعزز النزوع نحو الكسل والشارع الجانبي الذي يطل عليه الفندق فارغ من البشر بينما تقف الأشجار العجوز على جانبيه تحت مطر ينزل منهمرا مرة ووديعا مرة أخرى. الوقت مبكر والأحد يوم عطلة هنا. كان الصمت يلف المكان كله كأنها دقيقة حداد على شيء لم يعرف ما هو تماما. صمت يشبه ذاك الذي كان سائدا في الأرض قبل أن تبدأ عليها الحياة وتكسر أبديته.

نزل في فندق متواضع، كل شيء مصنوع من خشب وتحافظ صاحبته على أصالته وطرازه القديم. يقدمون إفطار الصباح فقط وعليه أن يتدبر أمره في بقية اليوم. بدأ يهيئ نفسه للخروج من الغرفة وهو يتمنى ألا تطول به الإقامة فيه. مرّر يده على وجهه. ذقنه شائكة سيحلقها ولن يكتفي بتشذيبها كما تعود أن يفعل دائما. يجب أن يبدو أمام عبد القادر بن صابر بمظهر لائق. سيلتقي بأهم رجل يمكن أن تراه على الإطلاق وهذه فرصته ليفك عقدة حياته. لا يبالغ في تقدير أهميته وسيكون حكمه عليه نهائيا بعد أن يتكلم معه. يزور فرنسا لأول مرة ومدينة ليون رائعة، يعرف هذا من الإنترنت، لكنه لا ينوي أن يكتشف ذلك بنفسه إذ ليس في جيبه ما يخوله لأن يتحول إلى سائح كما أن همه أن يقابل الرجل ليسأل عن أبيه.

استبعد الاحتمال الأسوأ بأن يقضي جزءا آخر من حياته في مسارات وهمية. لن تعبث أمه بمشاعره وهي على سرير الموت ولن يتآمر عليه خاله يحيى ليزيحه من حياته مهما عدّه عبئا ثقيلا. ربما يكون محبطا قليلا لكن لديه من القوة ما يكفي أن يكبت إحباطه، لم يبع له عقله الوهم ولا وقع في الاستسهال ولا يتصور أن بحثه عن جذوره في مدينة لا يعرفها ولا يعرف فيها أحدا سيكون نزهة أو تخفيفا عن الخاطر».


مقالات ذات صلة

لا تظلموا هابرماس أكثر مما يجب!

كتب هابرماس

لا تظلموا هابرماس أكثر مما يجب!

بداية دعونا نسجل الملحوظة الأساسية التالية: معظم مثقفي الغرب إن لم يكن كلهم أدانوا بشدة عملية «حماس» الترويعية التي فاجأت العالم ليلة 7 أكتوبر (تشرين الأول).

هاشم صالح
كتب «ألف ليلة وليلة» تلقي بظلالها على كتّاب عصر النهضة

«ألف ليلة وليلة» تلقي بظلالها على كتّاب عصر النهضة

يتناول الباحث والكاتب المغربي الدكتور مصطفى يُعْلَى في كتابه «سحر الموروث السردي» بعض تجليات تأثير «ألف ليلة وليلة» في الآداب العالمية.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
كتب منير الربيع يبحث عن مكانة العرب في القطار العالمي

منير الربيع يبحث عن مكانة العرب في القطار العالمي

«العالم إلى أين؟ والشرق الأوسط إلى أين على وقع الصراع العالمي؟ على هذين السؤالين الصعبين، يحاول الصحافي والمحلل السياسي منير الربيع الإجابة في كتابه

«الشرق الأوسط» (بيروت )
يوميات الشرق رسم لدير مار سركيس وباخوس بعدسة يوسف شهيد الدويهي (لقطة لغلاف الكتاب)

«سرّ لبنان بعيون كويتية»... 70 عاماً من الوفاء

يجمع الكاتب الكويتي أحمد الصراف 70 عاماً من عشق لبنان، في كتاب «سرّ لبنان بعيون كويتية» الصادر عن دار «سائر المشرق».

فاطمة عبد الله (بيروت)
رياضة عالمية لورين فليشمان خلال تكريمها عقب فوزها بجائزة «أفضل كتاب رياضي لعام 2023» (الشرق الأوسط)

الأميركية فليشمان تفوز بجائزة «أفضل كتاب رياضي»

فاز كتاب ألَّفته عدَّاءة المسافات الطويلة الأميركية السابقة لورين فليشمان بعنوان «قصة فتاة في عالم ألعاب القوى للرجال» بجائزة أفضل كتاب رياضي لعام 2023.

«الشرق الأوسط» (لندن)

لا تظلموا هابرماس أكثر مما يجب!

هابرماس
هابرماس
TT

لا تظلموا هابرماس أكثر مما يجب!

هابرماس
هابرماس

بداية دعونا نسجل الملحوظة الأساسية التالية: معظم مثقفي الغرب إن لم يكن كلهم أدانوا بشدة عملية «حماس» الترويعية التي فاجأت العالم ليلة 7 أكتوبر (تشرين الأول). ومعظم مثقفي العرب (مع بعض الاستثناءات القليلة) أشادوا بها وصفقوا لها وعدّوها نصراً مظفراً. وهنا يكمن انقسام حاد بين المثقفين العرب والمثقفين الغربيين من أميركان وأوروبيين. ولا أعرف كيف يمكن ردم الهوة بيننا وبينهم هذا إذا كان يمكن ردمها يوماً ما... بلى أعرف. أطمئنكم يمكن ردمها. والدليل على هذا ذلك البيان الرائع الذي أصدره أكثر من 100 مثقف أميركي وأوروبي رد فعل على بيان هابرماس وجماعته. فقد عدّوا بيانه متحيزاً أكثر من اللزوم لصالح إسرائيل. وهذا يعني أنه ليس كل مثقفي الغرب كتلة واحدة صماء، بكماء، عمياء. هناك تيارات ونقاشات خلافية ديمقراطية عديدة بينهم. هناك توجهات مختلفة ومشارب شتى. وبما أن حرية التعبير والتفكير متوافرة في بلدانهم فإنهم يستطيعون التعبير عن آرائهم دون أي خوف من التخوين أو التكفير أو حتى الاعتداءات الجسدية. وهذه نعمة كبيرة يتمتعون بها وتحسدهم عليها جميع شعوب الأرض. من المعلوم أن بيان هابرماس وجماعته صدر بتاريخ 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2023. وأما البيان الذي رد عليه فقد صدر بعد عشرة أيام تقريباً، بالتحديد يوم 22 نوفمبر 2023. ماذا قال هؤلاء المثقفون في بيان الرد المهم والمحرج لفيلسوف الألمان الأكبر؟ قالوا ما معناه: إننا متفقون مع هابرماس على إدانة عملية القتل والخطف التي أصابت المدنيين الإسرائيليين من طرف «حماس» يوم 7 أكتوبر. ومتفقون معه كذلك على ضرورة حماية الحياة اليهودية في ألمانيا من موجة معاداة السامية التي أخذت تتصاعد مؤخراً. ونحن متفقون أيضاً على ضرورة حماية الكرامة الإنسانية أو البشرية للجميع باعتبار ذلك أحد المبادئ المركزية والأساسية الأخلاقية الديمقراطية التي تأسست عليها الجمهورية الاتحادية الألمانية. كل هذا نحن متفقون معه عليه.

ولكن ما يقلقنا في «إعلان مبادئ التضامن» الذي أصدره هابرماس وجماعته هو أنه حصر هذا التضامن (ظاهرياً على الأقل) بالإسرائيليين فقط. فالحرص على الكرامة الإنسانية التي عبر عنها البيان وبحق لا يمتد بالشكل الملائم لكي يشمل المدنيين الفلسطينيين في غزة بشكل متساوٍ مع المدنيين الإسرائيليين الذين أصابتهم واختطفتهم «حماس» في غزوتها «الإرهابية» المعروفة. لا ريب في أن بيان هابرماس مهتم بمصير الفلسطينيين، ولكن ليس بالشكل الكافي. فهو فيلسوف تنويري ولا يستطيع أن يخرج على مبادئ التنوير أكثر مما يجب. ينبغي على جميع المثقفين الاعتراف بأن فلسطينيي غزة معرضون الآن للموت والدمار.

ثم يردف البيان المضاد لبيان هابرماس قائلاً:

التضامن في نظرنا يعني أن مبدأ الكرامة البشرية واحد وينبغي أن يشمل الجميع أي سواء كانوا يهوداً أو عرباً، إسرائيليين أو فلسطينيين، لا فرق. كلهم بشر وبالتالي فكلهم متساوون في الحقوق والكرامة الإنسانية. وهذا مبدأ أساسي نصت عليه فلسفة الأنوار التي ترفض بشكل قاطع التمييزات الطائفية والعنصرية بين البشر. وهي الفلسفة التي يعتنقها هابرماس ذاته ويدافع عنها باستمرار. وهذا المبدأ الإنساني يجبرنا على التضامن مع جميع السكان المدنيين الذين تسقط على رأسهم غصباً عنهم كارثة الحروب وويلاتها عندما تندلع فجأة.

ثم يردف البيان قائلاً:

بيان هابرماس وجماعته ينص على ثلاثة مبادئ ينبغي أن تتحكم بالحروب: الأول هو مبدأ الرد بالمثل. وهذا يعني ألا يكون الرد فاحشاً جداً يتجاوز العدوان الأصلي بما لا يقاس. ولكننا نلاحظ أن رد إسرائيل الهمجي تجاوز فعلة «حماس» الهمجية أيضاً بأضعاف مضاعفة. والثاني هو تجنب الخسائر المدنية بقدر الإمكان. لكننا نلاحظ أن الكوارث المدنية التي نزلت على رأس أهل غزة كانت مرعبة بل وأكثر من مرعبة. والثالث هو أن يكون شن الحرب بغية تحقيق السلام في نهاية المطاف، وليس الحرب من أجل الحرب، أو القتل من أجل القتل، أو الانتقام من أجل الانتقام. ونحن متفقون معه على ذلك. ولكن ما يقلقنا هو أنه لا يلح بما فيه الكفاية على ضرورة احترام القانون الدولي الذي يمنع ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية كالعقوبات الجماعية وتدمير البنى التحتية المدنية: كالمدارس، والمشافي، وأماكن العبادة. غزة كلها تحولت إلى أشلاء. من يستطيع أن يشاهد التلفزيون الآن؟ من يستطيع أن يشاهد تلك الأكفان والنعوش الصغيرة والأمهات؟

أكثر من 100 مثقف أميركي وأوروبي: التضامن في نظرنا يعني أن مبدأ الكرامة البشرية واحد وينبغي أن يشمل الجميع أي سواء كانوا يهوداً أو عرباً، إسرائيليين أو فلسطينيين، لا فرق. كلهم بشر

هذه هي المناقشة التي دارت بين هابرماس ومعارضيه من المثقفين الغربيين الآخرين. وأعتقد أن ردودهم عليه كانت أقوى من ردود معظم المثقفين العرب الذين فقدوا أعصابهم وراحوا يعدمونه بجرة قلم أو يكيلون له الشتائم. على هذا النحو نرجو أن نكون قد وضحنا إشكالية هابرماس بما فيه الكفاية. لم يخن الرجل مبادئ التنوير إلى الحد الذي نتصوره. فقد حجم الحملة الإسرائيلية على غزة وفرض عليها الشروط. ولكن ليس بالشكل الكافي. لا ريب في أنه بدا ميالاً أكثر من اللزوم لصالح إسرائيل التي يخشى عليها وحدها من الإبادة. ويعتقد البعض في أوروبا أن فيلسوف الألمان يفكر على النحو التالي: المسلمون كثيرون جداً ولا أحد يستطيع إزالتهم من الوجود على عكس اليهود. من يستطيع أن يبيد ملياراً ونصف المليار شخص؟ والعرب أنفسهم كثيرون: 500 مليون شخص. وبالتالي فهم راسخون رسوخ الجبال والمنطقة كلها لهم من المحيط إلى الخليج ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون. ولكن اليهود قليلون جداً لا يتجاوز عددهم في العالم كله 15 مليون شخص. يضاف إلى ذلك أن هابرماس ملاحق بعقدة النازية. وبالتالي فلا يستطيع أن يكون موضوعياً ولا حيادياً تماماً، كما فعل جيل ديلوز أو مكسيم رودنسون في فرنسا مثلاً. وهذا ما يهمله المثقفون المحترمون الموقعون على البيان المذكور المعنون على النحو التالي: «الرد على بيان مبادئ التضامن لهابرماس وجماعته. نطالب بالكرامة الإنسانية للجميع». وعددهم يبلغ 107 بالضبط. ومعظمهم فلاسفة وأساتذة جامعات كبرى في أميركا وأوروبا كجامعة كولومبيا بنيويورك، وجامعة أكسفورد، وجامعة ييل... إلخ. الشيء الذي يذكر لهابرماس، الذي ينبغي أن نعترف له به هو أنه أدان العنصرية بشكل واضح وصريح في بيانه. لقد أدانها بشكل مطلق. وهذا يعني أنه لم يدن العنصرية الممارسة ضد اليهود فقط والمدعوة بمعاداة السامية. وإنما يعني كلامه ضمناً إدانة العنصرية الممارسة ضد جميع البشر الآخرين المقيمين في ألمانيا، ومن بينهم العرب والأتراك بطبيعة الحال. هابرماس لم يشرع العنصرية ضد العرب! ولا التمييز ضد المسلمين! هذا شيء لا يمكن أن يصدر عن فيلسوف تنويري كبير مثله. إنه ضد التشهير أو التشنيع بأي شخص لأسباب عنصرية أو طائفية. وكيف يمكنه ألا يكون كذلك؟ أليس هو فيلسوف التنوير الأول في هذا العصر؟ ومعلوم أن معركة التنوير الكبرى كانت ضد التمييز العنصري والطائفي بين البشر. قبل انتصار التنوير في أوروبا كانت الطائفية مشتعلة حتى داخل المسيحيين أنفسهم وليس فقط ضد الآخرين. كانت الأمور على النحو التالي: ويلٌ للبروتستانتي في البلدان الكاثوليكية، وويلٌ للكاثوليكي في البلدان البروتستانتية. أصلاً التنوير ظهر رد فعل على المجازر الطائفية التي كانت تحظى برضا ومباركة وتشجيع الأصوليين والإخوان المسيحيين. كان التكفير والتكفير المضاد في أوجه آنذاك بين المذهبين الأساسيين للمسيحية الأوروبية. وكان يشعل النفوس بالحساسيات المذهبية ويهيجهم على بعضهم البعض. هذه نقطة أساسية لا ينبغي أن تغيب عن بالنا. التنوير حسم مشكلة الطائفية في أوروبا وقضى عليها. وهذا الإنجاز العظيم هو الذي أتاح تشكيل الوحدة الوطنية المتراصة في فرنسا وإنجلترا وألمانيا إلخ. التنوير قدم أكبر خدمة للشعوب الأوروبية. التنوير أنقذها من براثن الحروب الأهلية والطائفية. وهو الذي أدى إلى تفوق أوروبا على جميع شعوب الأرض. التنوير ليس كلمة مجانية تلقى هكذا في الفراغ... التنوير ليس تسلية أو مزحة. التنوير حل مشكلة حقيقية وفتح الآفاق المسدودة المستعصية. التنوير أنقذ أوروبا من براثن المفهوم الظلامي والطائفي للدين. هل هذا قليل؟ وبالتالي فلا ينبغي أن نقسو على هابرماس أكثر من اللزوم. ويرى البعض أن هابرماس يفكر على النحو التالي:

هناك طبيعة خاصة جداً لتاريخ الشعب اليهودي تميزه عن جميع شعوب الأرض. وذلك لأنه كان دائماً مهدداً بالإبادة والمجازر على مدار التاريخ. كان دائماً أقلية محتقرة ومهانة تعيش في الغيتوهات المغلقة على ذاتها سواء في البلدان الأوروبية المسيحية أو في البلدان العربية الإسلامية. لهذا السبب يتوجس هابرماس ومعظم مثقفي الغرب خيفة من «حماس»، لأنها ليست فقط حركة مقاومة وإنما هي أيضاً وبالدرجة الأولى جماعة دينية تابعة للإخوان المسلمين. وهابرماس كمعظم مثقفي الغرب يعتقدون أن هذه الحركات تريد إبادة اليهود لأسباب دينية. هناك فتاوى لاهوتية عديدة تكفر اليهود وتبيح دمهم. لهذا السبب أيضاً لم يستطع هابرماس التضامن مع الشعب الفلسطيني بالشكل الذي كان مرجواً ومطلوباً من فيلسوف كبير مثله. وينبغي الاعتراف بأن قضية فلسطين التي هي قضية حق وعدل، وظلم وقهر، دفعت ثمناً باهظاً لكل التفجيرات التي ارتكبها الأصوليون منذ ضربة 11 سبتمبر (أيلول) الإجرامية الكبرى حتى اليوم.


«ألف ليلة وليلة» تلقي بظلالها على كتّاب عصر النهضة

«ألف ليلة وليلة» تلقي بظلالها على كتّاب عصر النهضة
TT

«ألف ليلة وليلة» تلقي بظلالها على كتّاب عصر النهضة

«ألف ليلة وليلة» تلقي بظلالها على كتّاب عصر النهضة

يتناول الباحث والكاتب المغربي الدكتور مصطفى يُعْلَى في كتابه «سحر الموروث السردي» الصادر أخيراً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بعض تجليات تأثير «ألف ليلة وليلة» في الآداب العالمية، لا سيما في عصر النهضة بأوروبا. ويتوقف بشكل خاص أمام تأثير قصة «المتلمس وزوجته» في «ألف ليلة» على قصص «الديكاميرون» التي ألفها الشاعر الإيطالي جيوفاني بوكاشيو (1313-1375م)، والذي يعدّ أحد أعلام عصر النهضة في أوروبا. ويروي العمل الإيطالي على غرار «الليالي العربية» مائة حكاية على لسان 7 فتيات و3 شبان يلوذون بمنزل معزول خارج مدينة فلورنسا هرباً من لعنة الموت التي أصابت المدينة.

في «الليالي» تقول شهرزاد: «يُحكى أن المتلمس هرب من الملك النعمان بن المنذر وغاب غيبة طويلة حتى ظنوا أنه مات. وكانت له زوجة جميلة تسمى أميمة، فأشار عليها أهلها بالزواج، فأبت؛ فألحّوا عليها لكثرة خطابها وغصبوها على الزواج؛ فأجابتهم على ذلك وهي كارهة، فزوجوها رجلاً من قومها وكانت تحب زوجها المتلمس محبة عظيمة. فلما كانت ليلة زفافها على ذلك الرجل الذي غصبوها على الزواج به قدِم المتلمس في تلك الليلة فسمع في الحي المزامير والدفوف ورأى علامات الفرح؛ فسأل بعض الصبيان عن هذا الفرح، فقالوا له: إن أميمة زوجة المتلمس زوجوها لفلان، وها هي تزف في هذه الليلة. فلما سمع المتلمس ذلك الكلام تحيّل في الدخول مع جملة النساء فوجدهما على منصتهما فتنفست أميمة الصعداء وبكت وأنشدت هذا البيت:

أيا ليت شعري والحوادث جمة

بأي بلاد أنت يا متلمسُ

وكان زوجها المتلمس من الشعراء المشهورين؛ فأجابها بقوله:

بأقرب دار يا أميمة فاعلمي

وما زلت مشتاقاً إذا الركب عُرّسوا

فعند ذلك فطن العريس بهما فخرج من بينهما بسرعة وهو ينشد قوله:

فكنت بخير ثم بت بضده

وضمكما بيت رحيب ومجلسُ

ثم تركها وذهب وعاشت مع زوجها المتلمس في أطيب عيش وأصفاه وأهناه وأرغده حتى فرق بينهما الممات.

يؤكد المؤلف، أن حكاية المتلمس مع زوجته ترسي مبدأً إنسانياً يتعلق بالحب والإخلاص له ومواجهة الصعاب من أجله والتضحية في سبيله، كما تشجب ضمنياً أضداد تلك القيم المتمثلة في الشر والإكراه وانتهاكات قوى الظلم الغاشمة ونتائج استبدادها، لافتاً إلى أن بنية هذه الحكاية بوصفها نمطاً سردياً حظيت بكثير من مبادرات الاستلهام من جانب أدباء غربيين كثيرين، من أبرزهم الشاعر الإنجليزي جيفري تشوسر (1343- 1400م) في عمله الشهير «حكايات كانتربري»، والذي يعدّ من أعلام عصر النهضة أدبياً.

وتبدو الحكاية التاسعة من الليلة الأخيرة في «الديكاميرون» كيف تلقى صلاح الدين وهو متنكر في زي تاجر تكريماً من رجل إيطالي يُدعى السيد توريللو. وفيما بعد ينضم توريللو إلى حملة صليبية على بلاد الشرق وإمارات العرب، ويحدد لزوجته فترة محددة يمكنها أن تتزوج بعدها إذا هو لم يرجع. ويقع أسيراً في الحرب ويُقدّم للسلطان صلاح الدين بوصفه بارعاً في تدريب صقور الصيد؛ فيتعرف السلطان عليه ويعرّفه بنفسه ويكرمه تكريماً عظيماً. يصاب توريللو بالمرض فيُنقل بفنون السحر في ليلة واحدة إلى مدينة بافيا، حيث يصل في أثناء حفل زفاف امرأته إلى زوج جديد فتتعرف عليه ويعودان معاً إلى بيتهما.

ويوضح المؤلف أن ما شاب حكاية بوكاشيو من استطراد يمكن عدّه بمثابة فعل استراتيجي جمالي معين في الحكاية مهمته ممارسة مكر التأجيل المراوغ للحظة الحاسمة التي يسترجع فيها الزوج زوجته، إضافة إلى أنه قد أحدث تنويعاً ملحوظا في الإيقاع السردي للحكاية بحيث غطى مدى زمانياً ومكانياً أطول نسبياً شغل 16 صفحة. وهذا على عكس ما ميز نسيج حكاية «المتلمس» الناجز من سرعة سردية ناهضة على التجانس والحذف والمصادفة والتركيز غير المختزل مما مكّنها من صبّ حركة حدثها المكتمل في صفحة واحدة.

ويمضي المؤلف في رصده عدداً من نقاط التشابه والاختلاف بين الحكايتين، مؤكداً أن القصة في «الديكاميرون» قد عمدت إلى إحلال الخاتم محل أبيات الشعر التي ورد ت في «المتلمس» بِعَدّ كل من الخاتم والأبيات علامة على حضور الزوج الحقيقي واكتشاف أمره. وحافظت «الديكاميرون» على العنصر العجائبي المتمثل في انتقال البطل نائماً على سرير سحري من مدينة الإسكندرية المصرية إلى مدينته بافيا الإيطالية في وقت قياسي، بينما خلت حكاية المتلمس من أي عنصر خارق وإن حافظ شكلها على بعض السمات الوظيفية للحكاية العجائبية مثل وجود ملك غاصب وتحولات الحبيبين بين الألم والسعادة ومفارقات القدر في استعادة الهناء القديم. وعلى عادة القصص الشعبي، جاء المكان والزمان في «حكاية المتلمس» غير محددين، في حين دارت أحداث «الديكاميرون» في زمن الحرب الصليبية كما تراوح الكمان بين بافيا في إيطاليا وعكا في فلسطين والإسكندرية بمصر.


منير الربيع يبحث عن مكانة العرب في القطار العالمي

منير الربيع يبحث عن مكانة العرب في القطار العالمي
TT

منير الربيع يبحث عن مكانة العرب في القطار العالمي

منير الربيع يبحث عن مكانة العرب في القطار العالمي

«العالم إلى أين؟ والشرق الأوسط إلى أين على وقع الصراع العالمي؟ على هذين السؤالين الصعبين، يحاول الصحافي والمحلل السياسي منير الربيع الإجابة في كتابه الصادر حديثاً عن «منشورات رياض الريس» في بيروت، تحت عنوان «العرب في قطار النظام العالمي - خرائط مهددة أم عولمة متجددة؟».

وهو عبارة عن نظرة بانورامية على أهم النزاعات الدائرة حالياً في العالم، وبُعدها الاستراتيجي، ومن ثم تأثيراتها التي تبدو مفتوحة على أوضاع منطقتنا التي تعاني هي نفسها مشكلات ذاتية وانقسامات وصراعات.

يشرح الكتاب، أنه من ناحية، هناك ما وصفه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتصحيح مسار التاريخ، وربما الجغرافيا، في محاولة لإحياء عصر الإمبراطورية. ومن ناحية أخرى، هناك ما يستند إلى فكرة توسيع هامش الليبرالية، ما يصوّر العالم وكأنه في صراع بين قطبين، حرّ واستبدادي. وهذا من شأنه إيقاظ الصراع التاريخي المدعّم بالقومية، أو بالعنصر الثقافي أو الديني، وأن يستحضر شياطين كثيرة لدى القوى المستهدفة أيضاً، ومنها النزوع نحو الانعزال أو الانغلاق والتوجّهات اليمينية في شتى أصقاع الكون.

تحضر منطقة الشرق الأوسط، في الكتاب، حيث نجد منجماً للصراعات بين المكوّنات الاجتماعية، وتتماهى النزاعات القومية أو الدينية أو التاريخية أو الثقافية مع النزاعات الجغرافية. وفي المنطقة تسعى كل جماعة للسيطرة على مساحة معينة واقتطاعها لجعلها دولة مستقلة بذاتها. وفي حين تُطرح على مستوى الكوكب الأسئلةُ عن النظام العالمي، تُطرح على مستوى الشرق الأوسط الأسئلةُ عن خريطة الدول ومراكز النفوذ، وممرات التجارة ومصادر الطاقة.

ويتحدث الكتاب عن إمكانية العيش التي أصبحت متاحة في «القرية الكونية» والتفاعل معها وإبداء الرأي في شأنها، إلا أن كل ذلك يصطدم بـ«حدود» كثيرة، وحواجز ماديّة وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، تنتصب بين المحاور العالمية والدول، وحتّى داخل الدولة الواحدة. وهذه الحدود في تزايد وتغيّر مستمرين. فالقرية الكونية الواسعة، ومجتمعها المنفتح بعضه على بعض، ثمة ما يعترضها، في ضوء صراعات كثيرة، ومتكاثرة، سياسية، فكرية، دينية، قومية، مصالحية... ينقسم العالم بموجبها قسمين أو أكثر؛ ما يطرح تساؤلات كثيرة في شأن مصير النظام العالمي، وإذا ما كان يتجه إلى التعددية القطبية أو يستمر أحاديَّ القطبِ، في ضوء ما ينشأ من تكتلات لقوى صاعدة.

هذه الأسئلة عن القرية الكونية والنظام العالمي ومسارات الأحداث، كانت دافعاً أساسياً وراء الشروع في هذا الكتاب، كما يشرح المؤلف، ويعمل لذلك على طرح الأسئلة واستعراض احتمالات الإجابة عليها. كما يرصد متغيّرات الجغرافيا والسياسة، حيث تضيق الحدود أو يُعاد ترسيمها، في ظل صراعات بين الدول الطامحة إلى توسيع أدوارها ونفوذها على الرقعة العالمية، وما تنتجه تلك الصراعات من تأثيرات على دول العالم عموماً، وعلى تلك التي ستجد نفسها مهددة وعرضة للتفكك وتصغير حدودها خصوصاً.

الكتاب من ستة أبواب. يبدأ بباب عن الشباب وتساؤلاتهم، والتحالفات في المنطقة العربية، وحركات التحرر الوطني والعلمانية، كما الثورات الملونة، والشعبوية وما أدت إليه من انحدار سياسي. أما الباب الثاني فيناقش تعقيدات الحرب الأوكرانية، والعلاقات العربية - الصينية، كما نوعية الصلات التي تربط إيران وأميركا. الباب الثالث مخصص لما يسميه المؤلف «مثلث إسرائيل - تركيا إيران». أما الباب الرابع فهو حول يقظة الأمة وذهابها إلى التشظي وتحديات الوحدة والأمة والأمن. الباب الخامس فهو حول إرهاق المشرق العربي وتجدد روح الأقليات. بينما الباب السادس والأخير حول القطار العربي الذي ينطلق من السعودية.


بول لينش: لم أتمكن من الكتابة مباشرة عن سوريا... فنقلت المشكلة إلى آيرلندا كمحاكاة

بول لينش
بول لينش
TT

بول لينش: لم أتمكن من الكتابة مباشرة عن سوريا... فنقلت المشكلة إلى آيرلندا كمحاكاة

بول لينش
بول لينش

هناك ما يكفي من الأعمال الروائيّة التي ينتجها الكتاب الآيرلنديون للإيحاء بأن «الأمّة الخضراء قد اختارت هذا الشكل الأدبي المعقّد كمرآة سوداء تعكس الذات المجتمعيّة لآخر أرض أوروبيّة قبل المحيط الأطلسي فتضيء على زواياها المظلمة وتلتقط في صورتها أسوأ ما فيها». في «أغنية نبي» لبول لينش، التي توّجت للتو بجائزة «بوكر» للرواية في نسختها الأحدث لعام 2023 - استمراريّة صريحة لهذا التقليد. لكن لينش الذي يتلفع في دور نذير يغني محذراً من الاستغراق في الغفلة بينما تهوي بلاده في ظلام الاستبداد ويناشدهم أن يتعظوا من خبرة الشعوب خارج «الحديقة الأوروبّيّة» جاء في وقت تعتمل فيه ديناميّات هذا السقوط بأبعد من شوارع دبلن - فضاء الرواية المكانيّ - لتمتد عبر البرّ الأوروبيّ برمته، حيث يتوّلد الشرر في رماد النّوازع المؤدلجة، ويتمدد تأييد الشعوبيين الإقصائيين ويصعّدون بقدرة قادر إلى مواقع السلطة والتأثير، في حين تتخندق المجموعات الثقافيّة والعرقيّة في معازلها الجغرافيّة والافتراضيّة، وتفرّغ الأحقاد، سواء موهومة أو موروثة، على أرواح الحلقات الأضعف من المهمشين واللاجئين والأقليّات. ولذلك؛ فإن الحكاية في «أغنية نبي» وإن بدأت ذات ليلة غاب القمر فيها عن سماء آيرلندا، لكنّها، بسردها اللاهث والمتوتر، سرعان ما تخرج من يد قارئها لتلتحق بركب أغاني أنبياء الديستوبيات التي شكلت وعي الإنسان المعاصر سليلة شرعيّة لها: «1984» لإريك بلير (الشهير بجورج أورويل)، و«حكاية أَمَة» لمارغريت آتوود، و«الطريق» لكورماك ماكارثي ولتصبح دبلن، بينما تخنقها قبضة التنين، وكأنها كل مدينة غربيّة أو عاصمة يتلاشى فيها منسوب الحريّات وتتعملق الأجهزة الأمنية على خلفيّة الإيقاع اليومي الرتيب لاستمرار متطلبات الحياة الحضريّة من جمع القمامة إلى تنظيم السيّر، وما بينهما.

غلاف الرواية الفائزة

من الجليّ أن لينش بحكم عمله الصحافيّ قد قطّر روايته الخامسة هذه من مادة حاضرنا الحالك الظلمة: أخبار تدفق اللاجئين من مجتمعات الشرق الأوسط بينما بلادهم تغرق في أوحال حروبها الأهليّة، المشهديّة التي رسمها الإعلام الغربيّ حول الصراع في أوكرانيا، ومزاج الاكتئاب المعمم - الأقرب إلى الخيال العلميّ - في لحظة «الكوفيد». لكنّه مع ذلك، رأى أنّه أقدر على وصف ذاك الكابوس العابر للحدود، المنسل كـوباء، بأدوات محليّة آيرلنديّة قريبة من مزاجه الشخصيّ، ومحيطه البيئي، وذاكرته التاريخية. وكان لينش قد أشار في تعليق له نشر على الموقع الإلكتروني لجائزة «بوكر»، إلى أن روايته الفائزة مستوحاة من الحرب السورية وأزمة اللاجئين، وأنها تحاول رصد «الاضطرابات في الديمقراطيات الغربية، وانهيار أمة بأكملها مثل سوريا، وحجم أزمة اللاجئين، ولامبالاة الغرب». وأضاف لينش: «لم أتمكن من الكتابة مباشرة عن سوريا؛ لذلك أحضرت المشكلة إلى آيرلندا كمحاكاة».

في «أغنية نبي» تتسربل آيرلندا المتخيلة تدريجيّاً بضباب الحكم الشموليّ بعدما يصعد تحالف يمينيّ إلى السلطة ما يلبث ويفرض أحكام الطوارئ لمدّ سيطرته الفولاذيّة الكليّة على أنفاس المجتمع بذريعة مواجهة نقابيين يضغطون من أجل زيادة الأجور، فتتآكل الحريات المدنية مع مرور الوقت، ويغلق النظام كل بوابات الاعتراض وإبداء الرأي، قبل أن تندلع حرب أهلية قاسية. وكما ضفادع هانئة في دورق على النار، لا يدرك الناس أن حرياتهم قد سلبت إلا بعد وصول الأمور إلى درجة الغليان، وفوات الأوان لوقف الكارثة: «طوال حياتك كنت غافلاً. بل كلنا كنا غافلين. وكأنه الآن فقط قد حان موعد الاستيقاظ العظيم». إنه وصف تخيليّ منغمس في قلب الحاضر لآليات البناء المتدرجة بروية نحو التأسيس لنظام استبدادي - الاعتقالات، والإخفاء القسريّ، والمراقبة، وخنق الحريّات، والمؤامرات -، في الوقت الذي يواصل فيه المجتمع ببلاهة طقوس عيشه الدنيوي اليوميّ.

لا يُغيّب في دبلن الشموليّة من يوصمون بالعداء للدولة فحسب، بل وينسحب الأمر بالارتباط على أقاربهم ومعارفهم وكل من يمكن أن يُصوّر كمعارض للنظام السياسيّ. المعلمون الذين يخرجون عن النصّ يتعرضون للإذلال العلنيّ، والقضاة سيودعون مهنتهم إن تصرفوا بغير هوى السلطة، فيما يطلق الجنود النار على المتظاهرين العزّل بلا رحمة، ويطفأ رجال المخابرات سجائرهم في أجساد المعتقلين وضحايا التعذيب.

الشخصيّة المركزيّة التي تسرد الأحداث من منظورها هي (إيليش) الباحثة في العلوم، والدة لأربعة أطفال، والتي يستدعى زوجها (لاري) - المدرّس والزعيم النقابيّ - للتحقيق معه من قِبل رجال الشرطة السريّة، قبل اعتقاله دون توجيه تهم محددة له. تجد إيليش نفسها في قلب مواجهة شرسة مع عالم يغرق في مستنقع من البارانويا والخوف وانعدام الثقة المتبادل بين المعارف والجيران. ولا تتورع الأجهزة الأمنية حتى عن استئجار رعاع للتضييق على أسرتها في مناخ منتن من تفسّخ اجتماعي يصبح بمثابة بيئة حاضنة لحكم طغمة عسكريّة ديكتاتوريّة تستمر في ممارساتها القمعية ضد كل من تصنّفهم في مقام المعارضين إلى أن تندلع شرارة حرب أهليّة قذرة يصبح الموت فيها أرخص من التراب.

تُراقب إيليش كل هذا التّردي بذهول، لكنها تُمنّي نفسها وعائلتها بتدخّل «المجتمع الدولي» - ذلك الوهم العقيم المقيم أبداً في قلوب الضعفاء - فتقول لمن حولها: «نحن لا نعيش في زاوية مظلمة من العالم، كما تعلمون. لا بدّ أن المجتمع الدولي سيتوسط للوصول إلى حلّ».

تتطور الأحداث لاحقاً بعد استدعاء زوجها وابنها الأكبر – مارك - لأداء الخدمة العسكريّة الإجباريّة، فيتواريا عن الأنظار. يدفع اليأس بإيليش للسعي إلى تهريب ابنها عبر البحر نحو كندا، حيث تقيم أختها، لكنّه يريد البقاء والالتحاق بجيش المتمردين. الأخت المهاجرة تتوسل إليها أن تهاجر بدورها وتجلب معها أطفالها، لكنّها تتمزق بين خوفها على فقدان زوجها، وحالة والدها الذي يأكل الخرف مع مرور الوقت الثقيل ذاكرته المغمسة بالماضي والمألوف والجميل عن أيّام أفضل.

إعلان فوز «أغنية نبي» بجائزة «بوكر» تزامن مع اندلاع اضطرابات عنصريّة الدّوافع في دبلن ذاتها... فكأنها انتقلت في لحظة من تصنيفها ديستوبيا مستقبليّة متخيلة إلى رواية تسجيليّة واقعية

«أغنية نبي» مرثاة حزينة لكل أولئك الذين تُسفك دماؤهم وتصادر أحلامهم وتفسد أيامهم على مذبح الإقصاء في ظل الآيديولوجيات الإلغائيّة، وأغنية تعاطف تجبر القارئ على تقمّص أدوار أولئك الذين تتقاطع على أرواحهم أزمات مجتمعاتهم مع شظف عيشهم اليوميّ، وقلق النجاة من غول الخارج مع التنانين التي تنهش القلوب من دواخلها، فينتهون بين الأمل والتخلي إلى مغادرة منازل ألفوها، مرّة تحت نيران القناصة بينما تحاول العبور عبر حدود التماس المرسومة بالدّماء، ومرّة أخرى بركوب البحر الغادر والعدائيّ نحو بلاد غريبة، وطقس غير ملائم، وأناس لا تمتلك أدنى مستويات الرغبة في فهم معاناة ضحايا اضطهاد الشموليّات.

يبدع لينش في التقاط علامات الانزلاق من شاطئ الحياة الرتيبة في ظلّ الديمقراطيّة إلى بحر دراما النظام الديكتاتوريّ في أدق التفاصيل المحلية – مكانياً في شوارع وأحياء وبنايات دبلن المألوفة لسكانها اليوم، وزمانياً في قراءة تقلب مشاعر إيليش الداخليّة أثناء حملقتها في تفاصيل ذلك المشهد المسكون بالظلام الدامس وكأن المدينة قد ابتلعها ليل يرخي سدوله استعداداً لإقامة سرمديّة -. على أن إبداعه ذاك لا يقل بحال أيضاً عن مهارته في القبض على نقاط الضوء القليلة التي تخترق الستارة السوداء الهائلة التي تغطي سماء دبلن.

نبض السرد في «أغنية النبي» لا يكلّ في تكثيفه لملامح مناخ خريفيّ تقشعر له الأبدان، فكأن القارئ يتأمل محجوزاً من نافذته في غرفة باردة مرور عاصفة تنفث غضبها ريحاً وأمطاراً ورعوداً دون توقف، بينما يتولى نسق توزيع كلمات النص على الصفحات بشكل مستمر متواتر دون تنظيم ولا علامات ترقيم رسم إطار مناسب لهذه النافذة المطلّة حصراً على قلب سواد العالم.

ولعل المفارقة التي سيتذكرها لينش دائماً، أن إعلان فوزه «أغنية نبي» بجائزة بوكر تزامن مع اندلاع اضطرابات عنصريّة الدّوافع في دبلن ذاتها، فكأنها انتقلت في لحظة من تصنيفها ديستوبيا مستقبليّة متخيلة، إلى رواية تسجيليّة واقعية. لقد سبقت الأحداث النّذير هذه المرّة.


صدور مجلّد رابع من «الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة»

غلاف المجلد
غلاف المجلد
TT

صدور مجلّد رابع من «الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة»

غلاف المجلد
غلاف المجلد

صدر في دار صوفيا (الكويت) المجلّد الرابع من عشريّة الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة التي يُعدّها مشير باسيل عون بمؤازرةِ مجموعة من الباحثين العرب يربو عددهم على المائة. ينطوي هذا المجلّد على خلاصات أبحاث الفلاسفة الفرنسيّين المعاصرين الذين اعتنَوا بتأريخ الأنظومات والأفكار الفلسفيّة، واجتهدوا في الاستدلال على الاتّجاهات التي استرشدها تاريخُ الفلسفة العالميّ منذ زمنِ ما قبل سقراط حتّى الزمن المعاصر.

وجاء التقديم: «إذا أراد المرءُ أن يدرك حركة التاريخ الفلسفيّ، وَجب عليه أن يتحرّى منطقَ التطوّر الذي أصاب النشاط البنائيّ النظريّ في تفاعله الجدليّ والأحداث الثقافيّة الاجتماعيّة السياسيّة الاقتصاديّة. ذلك بأنّ التيّارات والمذاهب الفلسفيّة التي نَشطت على تعاقب العصور لم تنشأ في الفراغ الثقافيّ، بل انغرست في تربة التفاعل المحتدم بين القوى الفكريّة المتصارعة في معترك التاريخ.

لا غرابة، والحال هذه، من أن يُكبّ فلاسفةُ تأريخ الفلسفة الفرنسيّون على استجلاء طبيعة الصلات السببيّة المنعقدة بين هذا المذهب وذاك، بين هذه الفكرة وتلك، بين السبيل الفلسفيّ هذا وذاك. ومن ثمّ، ينفرد كلُّ فيلسوفٍ من هؤلاء الفلاسفة باعتمادِ منهجيّةٍ تأريخيّةٍ تلائم أصلاً الانتماء الفلسفيّ الأرحب الذي إليه يركن وفي أرجائه ينسلك. فإذا بتنوّع المنهجيّات التأريخيّة يضارع اختلاف الأنظومات الفلسفيّة المعتمَدة».


«غرق السلمون» للممثلة السورية واحة الراهب

«غرق السلمون» للممثلة السورية واحة الراهب
TT

«غرق السلمون» للممثلة السورية واحة الراهب

«غرق السلمون» للممثلة السورية واحة الراهب

تصدر قريباً عن دار هاشيت أنطوان/ نوفل، رواية «غرق السلمون» للممثلة والمخرجة السورية واحة الراهب.

وجاء في كلمة الناشر:

«أيّهما يسرد لنا هذه الحكاية؟ وهل هناك فارق حقّاً بين أن تكون الراوية أملاً أو سراباً؟ أيّاً كانت من تروي، فكلتاهما تحكي من الهاوية. وللهاوية هيئاتٌ مختلفةٌ في رواية (غرق السلمون)، القعر هو سِمتها المشتركة التي تظهر كبعدٍ وحيد لسطوة القمع العائليّ والسياسيّ.

ففي العائلة، تبدأ الثورة قبل أوانها ضدّ قبضة الأب الذي يشكّل حكمه العائليّ نموذجاً مصغّراً عمّا هي الحال عليه في سوريا.

في هذه الرواية، تضع الممثّلة والكاتبة السوريّة واحة الراهب شخوص روايتها أمام أسئلة ومآزق مختلفة، أبرزها سؤال الهويّة الذي لا ينفكّ يمتحن إنسانيّتهم، وهم يهمّون بالتحوّل إلى مسوخ... أو يهربون من خياراتهم المحتّمة بالقفز في المجهول. وبموازاة الأحداث الشخصيّة، يمرّ السرد على أحداثٍ عالميةٍ وعربيّة، منها اشتعال برجَي مركز التجارة العالميّ، وولادة الثورة السوريّة بكلّ ما تحمله من أحلامٍ بالحريّة ومن خيباتٍ لاحقة، وصولاً إلى مواجهة الأجساد لمصائرها في البحر خلال هجراتها المحتّمة».

وكان قد صدر لواحة الراهب «صورة المرأة في السينما السوريّة» (2000)، و«مذكّرات روح منحوسة» (2017)، و«الجنون طليقاً» (2019)، و«حاجز لكفن» (2020).


ثلاثة أعمدة لكل معرفة رصينة

ثلاثة أعمدة لكل معرفة رصينة
TT

ثلاثة أعمدة لكل معرفة رصينة

ثلاثة أعمدة لكل معرفة رصينة

ربّما اختبر كثيرون حالة اختبرتُها من عقود عدّة: تقرأ مادّة ما في حقل معرفي ترى نفسك قريباً من عوالمه فيحصل أن تتوقّف كثيراً عند مفردات محدّدة ليست غريبة أو مستحدثة في ذلك الحقل المعرفي. هي غريبة عليك أنت، وحينذاك تضطرُّ لترك الأصل وتذهب لتفحّص تلك المفردة من جوانب تضعها في السياق التاريخي والفلسفي للمادة المقروءة حتى لا تحصل فجوةٌ أو قطيعةٌ مفاهيميةٌ في سياق القراءة. لا أقصدُ بالطبع مفرداتٍ نادرةً ستعترضك بالطبع عند كلّ قراءة غير كلاسيكية لأي موضوع معرفي؛ لكنّي أقصدُ تلك المفردات التي هي بعضُ العُدّة المفاهيمية الراسخة للموضوع. سيكون أمراً طبيعياً أن تَفْحَصَ مفردة أو اثنتيْن أو حتى ثلاثاً؛ لكن عندما تزداد أعداد المفردات وتتقافزُ بطريقة متكاثرة تغدو مواصلة القراءة حينئذ ضرباً من النشاط غير المجدي والمفتقد لكلّ متعة. الأمر حينها سيشبه حال مَنْ يترجمُ نصاً يضطرّه لمراجعة القاموس كلّ بضع كلمات حتى تصبح ترجمته ترحّلاً مستديماً بين نصّ وقاموس. لا أظنّ أنّ حالاً على هذه الشاكلة سيسرُّ أحداً أو سيغريه بمواصلة القراءة أو الترجمة. سينتابه الضجر والملل بعد أن تتحوّل قراءة النص الأصلي إلى مراجعة للهوامش والإحالات، وسيظلّ يعاتبُ نفسه بسبب الفجوات التي كان يتوجب عليه ملؤها قبل ذلك الوقت.

الحالة التي وصفتها أعلاهُ هي عَرَضٌ لنواقص في تنمية الإعدادات المسبّقة التي تتطلبها كلّ قراءة منتجة يُرادُ منها الوثوبُ إلى مستويات معرفية أرقى وأوسع من ذي قبلُ تحقيقاً لمبتغيات أكاديمية أو إيفاءً بنوازع الارتقاء المعرفي الشخصي. سيكون أمراً بديهياً القول: إن الشخص الذي لا يرتضي بالقراءة العابرة من غير تدقيق في التاريخ المفاهيمي والفلسفي للمادة المعرفية هو شخصٌ تؤذيه المعرفة المنقوصة وتَخِزُ ضميرَهُ الفجواتُ المعلوماتية والفلسفية، وهو في العموم مطبوعٌ بشيء من شخصية الساعي إلى الاكتمال (Perfectionist).

علّمتني خبرتي المتراكمة حقيقة أودُّ أن يستفيد منها كلّ من يسعى لمنجز معرفي أكاديمي أو على صعيد الفضاء الثقافي العام: إذا كنتَ تسعى لتحقيق منجز معرفي رصين، فالطريق لتحقيق ذلك يكون بمعرفة سياق التشكّل التاريخي للحقل المعرفي الذي تعمل فيه، ومعرفة سياق المؤثرات الفلسفية التي شكّلته، والاطلاع على السير الذاتية لمَنْ (أو بعض مَنْ) يمكن وصفهم بالآباء المؤسّسين لذلك الحقل المعرفي. هذه هي الأعمدة الثلاثة لكلّ معرفة رصينة لا تكتفي بالمتعة الشخصية الصغيرة العابرة وإنّما تتوسّلُ الرصانة والدقّة والتفاصيل مُرْتقى نحو مثابات معرفية أوسع.

التاريخ

المعرفة البشرية ليست شيئاً نخلقه من الفراغ. هي منشط مشتبك له خصيصة تراكمية، وكلّ انعطافة فيها لها ميزة مُسببة؛ أي أنّ سبباً ما استثارها على الشاكلة والصيغة اللتيْن حصلت في سياقهما تلك الانعطافة. القراءة التاريخية هي التي تجعلنا ندرك تلك السلسلة المتراكمة من الانعطافات، وأظنُّ أنّ الجهل بذلك التاريخ سيكون مثلبة كبرى لأسباب عدّة، أوّلها أنّ المرء سيظلُّ عائماً في فراغ مؤذٍ تسوده ضبابية معرفية مقلقة، وسيظلُّ يسألُ أسئلة سبق لغيره أن سألها، وسيكون مقطوع الجذور عن التيار الدافق لحركة التحديث على صعيد المفاهيم والتطبيقات المستحدثة، وقبل هذا من العبث تصوّرُ أنّ شخصاً مقطوع الصلة بالسياق التاريخي لتطوّر المفاهيم والنظريات في أي حقل معرفي سيكون قادراً على إنتاج معرفة جديدة أو انعطافة مستحدثة تمثلُ نقطة تحوّل مشهودة في ميدانه. هذا النوع من العبقرية المكتفية بذاتها تبدو نمطاً من الملاعبة المتخيّلة مع شياطين «وادي عبقر». وديانُ عبقر لا وجود لها في عالمنا المعاصر.

سأحدّثكم في هذا الشأن عن تجربة شخصية، والتجربة الشخصية هنا خيارُ المضطرّ لأنّ الحديث عن أمرٍ اختبره المرء بذاته له - بالضرورة - مصداقية أكبر من الحديث عن تجارب غير شخصية مقروءة أو منقولة عن آخرين. كنتُ إلى قبل عشر سنوات (بالتقريب) أعرفُ أجزاء متناثرة عن تاريخ الرواية، وقد تراكمت معرفتي هذه من قراءات متفرّقة لا ينتظمها ناظمٌ تاريخيٌّ يجيد ربط أجزاء الصورة مع بعضها، وربما تكون هذه منقصة بعض الكتب السائدة التي تناولت تاريخ الرواية من غير أن تتناول المؤثرات التقنية والمجتمعية والاقتصادية والبيئية في صناعة الرواية. حصل ذات يومٍ أن قرأتُ كتاب البروفسور جيسي ماتز عن تطوّر الرواية الحديثة، ورأيتُ فيه نمطاً من الكتابة التاريخية المخالف لنمط الكتابة التي ترى الأدب أو الرواية جزيرة منعزلة تحكمها قوانين جمالية ونفسية مكتفية بذاتها (الكتب التي ألّفها رينيه ويليك مثلاً رغم انجذابي الكبير لمؤلفاته هو ونظرائه الكلاسيكيين). أعترفُ أنّ كتاب ماتز شكّل انعطافة كبرى في فهمي ومعرفتي للفنّ الروائي، وعندما اعتزمتُ ترجمته وأكملتُ هذه الترجمة صار واضحاً لدي الفرق النوعي الهائل بين الكائن الروائي الذي كنته والذي صرتُهُ عقب تلك القراءة والترجمة.

لو شئتُ اختيار مُصنّف تاريخي كبير في حقل العلم فسأختارُ كتاب «بنية الثورات العلمية» الذي ألّفه توماس كون. هل يمكنُ أن نتخيّل فرداً يتوقُ لبصمة شخصية مميزة في ميدان العلم وهو لم يقرأ كتاب كون؟ تلك استحالة كما أظنّ فضلاً عن أننها مثلبة غير لائقة.

الفلسفة

إذا كان التاريخ (أو السياق التاريخي للأفكار إذا شئنا الدقّة) يكسو جسم المعرفة بالملبس بدل أن يظلّ عارياً؛ فمعرفة الفلسفة (أو السياق الفلسفي للأفكار) تجعلُ الملابس أنيقة (بدلة سموكنغ). هذه هي الفلسفة: الأناقة الفكرية والترحّل في الفضاءات المعرفية العليا.

الفلسفة المقصودة هنا هي في واقع الحال فلسفتان: الفلسفة العامة في تحقيبها المعهود زمنياً أو تبعاً لمناشط محدّدة (فلسفة إغريقية، فلسفة عربية، فلسفة المعرفة، فلسفة المنهج العلمي، فلسفة الأخلاق... إلخ)، ثمّ هناك الفلسفة الخاصة بالحقل المعرفي المحدّد.

المثالُ الأجلى الذي يمكن فيه أن نختبر تأثير الفلسفة هو ميدان الذكاء الاصطناعي الذي هو اليوم خصيصة العصر الرقمي ومفجّرُ الثورات التقنية التي ستعيدُ رسم شكل المستقبل والوجود البشري المادي بكلّ تمظهراته. لو تابعنا منشورات أكابر أعمدة الذكاء الاصطناعي في يومنا لوجدناهم أقرب إلى فلاسفة يتناولون موضوعات فلسفة المعرفة والأبستمولوجيا وثنائية العقل - الجسد، وفي الغالب سيفردون فصولاً تمهيدية لمثل هذه الموضوعات في كتبهم المنشورة حتى لو كانت كتباً منهجية في الذكاء الاصطناعي.

السير الذاتية

السيَرُ الذاتية تؤنسِنُ المعرفة. تجعلها صنيعة بشرٍ مثلنا وإن كانوا يمتلكون ميّزات عقلية متقدّمة؛ غير أنّ هذه الميزات لم تُمنَحْ لهم مجاناً بقدر ما كانت نتاجاً لكفاح صبور وطويل ومتعدد الجبهات.

خذ نيوتن، أو آينشتاين، أو تورنغ (أحد العباقرة المؤسّسين لفكرة الحاسوب والذكاء الاصطناعي)، أو فاينمان، أو هوكنغ، أو برتراند رسل، أو كانْتْ أو سواهم من أدباء أو روائيين أو فلاسفة أو علماء فستراهم أوّل معرفتك بهم صنفاً من المخلوقات التي تتعالى على صنف البشر؛ لكنْ عندما تقرأ سيرهم الذاتية (أو السير المكتوبة عنهم) ستراهم كائنات بشرية عانت كثيراً وارتكبت حماقات وخاضت تجارب وسافرت ورأت وجرّبت وفازت وخسرت وبكت وفرحت... إلخ.

جانب آخر مهم لقراءة السير الذاتية: المرء في هذه السير يتاح له الحديث الحرّ عمّا يشاء من غير قيود أكاديمية أو اعتبارية. سترى الوجه المؤنسن لهؤلاء، وستعرف أنّ من الممكن أن تصنع ما صنعوه بل وقد تتفوّق عليهم. جرّبْ أن تقرأ كتاب «أنت تمزح بالتأكيد سيّد فاينمان» وستندهش لعلوّ شأن الروح المرحة والتوّاقة لصنع المزاح في شخصية فاينمان الذي حاز جائزة نوبل في الفيزياء.

نحنُ نشكو من قلّة الإشارة إلى السياقات التاريخية والفلسفية والسير الذاتية في نظمنا التعليمية (الجامعية بالتحديد)، والمواد المعرفية تشكو فقراً مزمناً في إعداداتها المطلوبة؛ لكن يجب التأكيد على أنّ هذه الأعمدة الثلاثة مرهونة بشغف المرء وموكولة إلى رغبته في التحصيل والاستزادة والبناء التراكمي. ليست ثمّة جامعة في العالم (حتى هارفرد أو كامبردج أو أكسفورد أو MIT...) ستجعلُ دروسها وقفاً حصرياً على هذه الأعمدة الثلاثة. كلّ كتابٍ منهجي أو مرصود للقراءة العامة سيحوي فصولاً تمهيدية تتناول هذه الأركان الثلاثة (أو بعضها) حتى لو جاءت بطريقة مختصرة، وبإمكان المرء قراءتها وعدم تجاوزها طمعاً في المادة التقنية المتخصصة.

الشغف المدفوع بذائقة فلسفية جامحة مقترنة برؤية مستقبلية لما يسعى المرء لتحقيقه هو المعوّل عليه في كلّ معرفة حقيقية ورصينة، وبغير هذا النمط من الشغف لن تكون المعرفة «الرسمية» سوى سويعات من الزمن الضائع وغير المنتج.


«الاستشراق»... تاريخ العيون المغلقة باتساع!

«الاستشراق»... تاريخ العيون المغلقة باتساع!
TT

«الاستشراق»... تاريخ العيون المغلقة باتساع!

«الاستشراق»... تاريخ العيون المغلقة باتساع!

لم يأخذ موضوع «الاستشراق» أهميته في المجالين السياسي والثقافي العربيين؛ إذ يُنظر إليه بوصفه ممارسة جرت في الماضي ينحصر الاهتمام بها في نخبة من الدارسين، حتى كتاب إدوارد سعيد «الاستشراق» رغم وجود ترجمتين عربيتين له عومل كأيقونة، بكل ما في الأيقونة من معاني شهرة العنوان والقداسة والبقاء في مكانة عالية وبعيدة لا يدنّسها التمعن في التفاصيل. وهذا تقصير يصل إلى حد الخطيئة الثقافية والسياسية، لأن الاستشراق فاعل ومؤثر في التوجهات الغربية تجاه المنطقة العربية إلى اليوم، وينبغي أن نفهمه لنفهم جذور التحيز الغربي في أدق وأهم قضايانا كقضية فلسطين.

مناهضة ذهنية الاستشراق، هي ما يحاول المستعرب المرموق بيتر جران أن يحققها من خلال دراساته الأربع المنشورة كلها في مطبعة جامعة «سيراكيوز» بنيويورك والمترجَمة كلها إلى العربية في القاهرة، وأحدثها «الاستشراق هيمنة مستمرة... المؤرخون الأنغلو-أميركيون ومصر الحديثة».

صدر الكتاب عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة في ترجمة رصينة للكاتبة سحر توفيق، ومراجعة المؤرخ عاصم الدسوقي.

لا يبدو أن جران بنزاهته ودأبه العلمي وصبره قد حظي بالاهتمام الذي يستحقه عربياً، ربما نال كتابه «ما بعد المركزية الأوروبية - المجلس الأعلى للثقافة - القاهرة» بعض الاهتمام، لكن كتابيه «صعود أهل النفوذ»، و«الجذور الإسلامية للرأسمالية»، ليسا أقل من ذلك الكتاب، ومع الكتاب الجديد تبدو الكتب الأربعة مشروعاً مناهضاً للنموذج المهيمن في الرؤية الغربية لمصر والمنطقة والعالم.

حتى بعد أن جرت في نهر الدراسات الغربية للشرق مياه كثيرة، تدفقت من عمل إدوارد سعيد، الرائد، إلى أعمال تلاميذه من جيل مؤرخي ومنظِّري ما بعد الاستعمار، لم يزل نموذج «المستبد الشرقي» هو النموذج المسيطر في رؤية الغرب بنخبه الثقافية وصناع القرار السياسي فيه. وبدأبه المعتاد يتتبع بيتر جران أصل هذا النموذج ويحاول عبر فصول الكتاب تفكيكه.

حسبما جاء في العنوان، يرى بيتر جران الاستشراق الإنجليزي والأميركي مدرسة واحدة أسَّسها الإنجليز. لم يستطع المستشرقون الأميركيون التحرك بعيداً عن النموذج البريطاني. يرفض جران الرؤية السائدة لتوقيت بداية الاستشراق الأميركي بتوقيت بداية هذا المجال أكاديمياً بمعناه العلمي قبل الحرب العالمية الثانية، وهي الفترة التي شهدت إنشاء مراكز دراسات الشرق الأوسط. البداية بالنسبة له تسبق هذا بكثير، وكانت مرتبطة بالأهداف الاستعمارية بشكل مباشر، مثل كتاب «وصف مصر» الذي أنجزه باحثون وهواة صاحبوا حملة نابليون على مصر عام 1798، وكتاب «مصر الحديثة» للورد كرومر، الحاكم الإنجليزي بالقاهرة الذي ترك أثراً لا يُمحى على دراسات الاستشراق إلى اليوم. يَعدّ جران «مصر الحديثة» الكتاب المؤسِّس لهذه الدراسات نظراً لاتفاقه مع تقاليد الإمبريالية الإنجليزية والإنجيل في ذات الوقت.

تتداخل العوامل التراثية وأمور الهوية مع العوامل التاريخية في الشرق وفي أميركا ذاتها كما تتداخل مصادر تمويل الدراسات وهوية الكُتَّاب أنفسهم في صناعة الصورة.

ويَعدّ جران «سفر الخروج» النص الأقدم في رسم صورة «المستبد الشرقي» بالدراسات الأنغلو-أميركية كنمط أساسي إسلامي يستعصي على التغيير، وتُقدَّم مصر بوصفها نموذجاً لهذا النمط الذي يرسمه العهد القديم لفرعون مصر. وإلى جانب ذلك هناك الأساس الهيغلي من حيث شمولية الأفكار وأثره في رؤية الشرق.

ولا يفسر هذا الأساس التراثي وحده ثبات الدراسات المتعلقة بمصر، والإصرار على إغلاق العيون على نموذج ثابت دون غيره. يلاحظ جران من قراءاته في الحقبة الكولونيالية بالقرن التاسع عشر وحول قناة السويس أن إنجلترا كانت مهتمة بفكرة الإمبراطورية، مما يعني حاجتها إلى تأمين الطريق إلى الهند وتأمين طريق البترول إلى أوروبا، هكذا يبرز دور مصر كممر يجب أن يكون آمناً. ولم يكن نموذج «المستبد الشرقي» مطلباً أو سياقاً أنجلو- أميركياً فحسب، بل كانت العائلة المالكة المصرية والطبقة المهيمنة في مصر المرتبطة بإنجلترا من أقوى أنصار نموذج الاستبداد الشرقي. في نظر جران كان التفسير الماركسي فرصة لتغيير النظرة، لكنَّ أثره لم يستمر.

بيئة الدراسات في الجانب الأميركي نفسه لها دورها في رسم الصورة؛ ففي نهاية القرن التاسع عشر، الوقت الذي اتجهت فيه دراسات الاستشراق الأميركي إلى التخصص، كانت البلاد لا تزال تعاني من جراح الحرب الأهلية (1861 - 1865) وصعوبات صياغة عقد اجتماعي، وبرزت قضايا النوع والعِرق والطبقة والطائفة. أدى فشل الدولة في صياغة العقد الاجتماعي إلى عقد تحالفات صغيرة للحفاظ على هويتها في فترة تميزت بالعنف الذي وجد صداه في التعليم العالي وتخصصاته المختلفة.

وفي ظل هذا الصراع خسرت النساء والأميركيون من أصل أفريقي أمام الذكور البيض. ويعوّل بيتر جران على خصوصية صوت المرأة الذي سيعود إليه في دراسته للحالة المصرية، ليوضح كيف يتعرض للتغييب في دراسات التاريخ. ويستند جران إلى دراسات المؤرخة المصرية أميرة سنبل الأزهري التي تثبت أن النساء تمتعن بقدر أكبر من المساواة مع الرجال أكثر مما أتيح لهن بصعود الدولة الحديثة عندما تصادف تزامن اعتماد القانون الفرنسي مع مولد السلفية الدينية.

ويلاحظ جران أن الكُتَّاب في موضوع الحداثة المصرية يميلون إلى النخبة الذكورية ويضعون ثقافتها في تضاد مع ثقافة الفلاحين والقبائل وفقراء الحضر، ولا يزال هذا الانحياز قائماً، متشككاً في قدرة دراسات تخضع لهذا الاستقطاب في وصف الواقع.

يفترض نموذج الاستبداد الشرقي وجود فجوة هائلة بين الحاكم والمحكوم، وأن السلطة تتمركز في القاهرة، بينما هي محدودة أو غائبة تماماً على مستوى الأقاليم، والشعب بلا فاعلية كالفلاحين في العصور الإنجيلية، لهذا فالتاريخ المصري راكد، وفي أحسن الأحوال يدور في دوائر، وهكذا يمكن اعتبار عبد الناصر محمد علي جديداً والسادات ومبارك صدى لإسماعيل.

يرفض جران هذه الرؤية ويصل إلى فكرة أن البلدان ليست راكدة، ولكن الركود قد يصيب الدراسات أحياناً. ويدلل على مقولته بأن الصعيد كان مناوئاً لسلطة القاهرة في فترات طويلة، وكانت «جرجا» في قلب الصعيد تتمتع بثقل كبير، ولها أهميتها لدى الباب العالي العثماني بوصفها أحد مصادر الإمبراطورية في القمح.

من بين فرضيات نموذج الاستبداد الشرقي أن التغيير لا يأتي إلا من الخارج، وهذا الاعتقاد الأخير هو ما يجعل المستشرقين وجانباً من مدرسة التاريخ المصرية يصرّون على أن حملة نابليون كانت نقطة النور التي أضاءت التاريخ المصري. وعبر قراءات موسعة لكتب فردية وجماعية ينفي بيتر جران هذه الأسطورة، ويتفق مع الجيل الأحدث من المؤرخين المصريين مثل عاصم الدسوقي ونيللي حنا، على أن الحملة كانت تنبيهاً لكن ما سبقها لم يكن جموداً مطلقاً كما تروّج السردية الاستشراقية. جاء الفرنسيون بأسلحة متطورة شكَّلت صدمة لطبقة الحكم في مصر لكنّ عناصر الحداثة كانت موجودة في المجتمع ذاته، ويمكن تلمسها من ثقافة طبقة وسطى متعلمة تقتني الكتب، كما يمكن تلمسها من عقود البيع والشراء في تلك الفترة.

بعض الأطروحات الحديثة المتأثرة بالنظرية الاجتماعية استطاعت اختراق هذه الرؤية، ويشير جران إلى دراسة ليلى أبو لغد حول نساء قبائل أولاد علي، ورغم تبنيها نموذج الاستبداد الشرقي في البداية، فإن دراستها نماذج النساء وأشعارهن تُثبت سعي النساء إلى المقاومة وحيازة السلطة. المؤرخة زينب أبو المجد، بدورها ترفض اتخاذ الدولة القومية المصرية وحدة تحليل، مؤكدة في دراستها «إمبراطوريات متخيلة» أن الديكتاتور ملمح إمبراطوري وليس ملمح أمة. ويَعد جران كتاب زينب أبو المجد أول دراسة جادة لصعيد مصر الذي فشلت ثلاثة إمبراطوريات: العثمانية، والبريطانية، والأميركية في إخضاعه، وبالطبع فإن تاريخ المقاومة في الصعيد صفحة لا تحبذها الدولة القومية كذلك.

ومن الأميركيين يذكر جران صديقه تيموثي ميتشل، ويَعدّ كتابيه «استعمار مصر» و«حكم الخبراء» نموذجين للرؤية المضادة للنموذج السائد. متأثراً بالفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، يقدم ميتشل مجادلة حول الطبيعة القسرية للدولة المعاصرة بشكل عام وليس في النموذج المصري فحسب، ولا تنفي طبيعة الاستبداد المصري ومساهمة الاستعمار في إعادة صياغة الدولة على هذا النحو، وجود معارضة في كل وقت. لا تقتصر تلك المعارضة على منطقة أو عِرق أو نوع، إذ يتوقف جران أمام ثورة 1919 طويلاً، ويذهب إلى الاستشهاد بفوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للأدب، وهو الرجل الذي عاش يراقب الطبقات الشعبية ويكتب عنها... وهكذا فالحداثة ليست نموذجاً يُفرض من الخارج، وليست تحديث نخبة، وإنما عمل متوازن تتدخل فيه جميع العوامل.

للأسف، لم يزل هذا الفهم بعيداً عن دوائر السياسة الأميركية التي تعتقد أن مصر لديها نظام أبويّ، وقد تحب مساعدتها على أن تصبح ديمقراطية. وعلى مدار سنوات تقدم مساعدات مع فصلٍ تام بين الإيمان بالطبيعة الديكتاتورية للنظام وبين التساؤل حول ما إذا كانت المساعدات تؤثر في الطبيعة التي يعمل بها النظام.

يرى بعض الكُتَّاب أن الديكتاتورية تُنتج الإرهابيين الذين يمثّلون تحدياً للغرب، وبعد ذلك يتفرقون بين جماعة تبحث عن طريقة لتغلغل الغرب في المجتمعات الديكتاتورية بغية إصلاحها وأخرى ترى من الخطأ طرح سؤال التغيير من أساسه، في تجاهل لكتابات قلة مثل الكاتب السياسي جايسون براولي الذي يستند إلى النظرية الاجتماعية الجديدة، ويؤكد في كتاب حديث له أن إفراد مصر لا معنى له، لأن الغالبية العظمى من البلدان التي تحاول التحول إلى الديمقراطية تتعثر عند نقطة ما، وينبغي دراسة تلك النقطة في كل حالة.

ويختتم بيتر جران كتابه بالدعوة إلى مزيد من الدراسات الأميركية في حقول مختلفة تفيد الباحثين في الدراسات المصرية، وعلى سبيل المثال دراسة التاريخ المعرفي الأميركي، إذ يقوم بعض العلوم بدور السدنة في الحفاظ على الأفكار القائمة، وليس بعيداً عن ذلك هندسة رواية التاريخ الأميركي بحيث تكون الولايات المتحدة هي «أميركا الشمالية»، واستبعاد أن يكون الإيروكوا وغيرهم من الأميركيين الأوائل جزءاً من الثقافة الرفيعة. ويلاحَظ أن ما يطبقه حراس البوابات على دراسة مصر تشبه ما يطبقونه على دراسة تاريخ فلسطين، حيث ينبغي على الدارسين تحاشي ذكر الفلسطينيين.


انطلاق معرض «نقطة لقاء» لدعم ممارسات النشر المستقلة

انطلاق معرض «نقطة لقاء» لدعم ممارسات النشر المستقلة
TT

انطلاق معرض «نقطة لقاء» لدعم ممارسات النشر المستقلة

انطلاق معرض «نقطة لقاء» لدعم ممارسات النشر المستقلة

تنطلق غداً فعاليات الدورة السادسة من معرض الكتاب الفني السنوي «نقطة لقاء»، الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون خلال الفترة من 24 إلى 26 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري في بيت عبيد الشامسي التراثي في ساحة الفنون.

يسعى «نقطة لقاء» لدعم ممارسات النشر المستقلة في المنطقة والعالم، وتقديم تجارب نوعية تشمل المطبوعات الفنية وإنتاجات الناشرين المستقلين والمشاريع الثقافية غير الربحية، إلى جانب أعمال الفنانين والمؤسسات، التي تُعرض ضمن ثلاثة أقسام: دولي، ومختارات، ومحلي.

ويستقطب قسم «دولي» دور نشر فنية ومستقلة من جميع أنحاء العالم لعرض وتوزيع كتبها خلال المعرض. أما قسم «مختارات» فيقدم مجموعة من الدوريات والمجلات والكتب الفنية والكوميك وكتب الاهتمامات الخاصة التي لا توزعها المكتبات المحلية. فيما يضمّ قسم «محلي» كتباً من إنتاج مجتمع الفنون المحلي من مؤسسات فنية وثقافية وغاليريهات ودور نشر وهيئات ثقافية حكومية غير ربحية، بالإضافة إلى مجموعة من المطبوعات والتصاوير والمجلات الفنية ومجلات الكوميك والصور الفوتوغرافية والقرطاسية ومطبوعات الشاشة التي أنتجها فنانون مستقلون.

ويتضمن برنامج هذه الدورة مجموعة واسعة من الورش التفاعلية المصمَّمة لجميع الأعمار التي تقدم مقاربات تجريبية في فن صناعة الكتب، وأساليب تجليدها، وتزيينها، وتصميم أغلفتها، وصناعة مفكرة مصورة شخصية وجلسات قراءة. بالإضافة إلى ذلك يحتضن البرنامج مصادر إبداعية متصلة بفلسطين ورمزية النضالات التحرّرية العالمية، إلى جانب محطة طباعة ريزو بالتعاون مع استوديو «فكرة» للتصميم، ومجموعة من روايات الغرافيك والمانغا من مكتبة «كينوكونيا».

كما يصدر خلال المعرض كتابان جديدان عن مؤسسة الشارقة للفنون، الأول بعنوان «بيت الحرمة» ويقدم قصصاً خيالية حول بيت الحرمة اعتماداً على سلسلة من ورش الكتابة المستوحاة من هذا البيت التراثي المشيّد بالشعاب المرجانية في حي المريجة بالشارقة. أما الآخَر فيحمل عنوان «كورنيش» وهو امتداد لسلسة من النسخ السابقة، ويتضمن سرديات وقصص كوميك لفنانين مقيمين في منطقة الخليج، يشاركون إبداعاتهم التي تتناول التراث والخيال العلمي والفانتازيا والميتافيزيقا والأحلام والأساطير.

يشار إلى أن مؤسسة الشارقة للفنون تستقطب طيفاً واسعاً من الفنون المعاصرة والبرامج الثقافية، لتفعيل الحراك الفني في المجتمع المحلي في الشارقة، والإمارات العربية المتحدة، والمنطقة. وتسعى إلى تحفيز الطاقات الإبداعية، وإنتاج الفنون البصرية المغايرة والمأخوذة بهاجس البحث والتجريب والتفرد، وفتح أبواب الحوار مع جميع الهويّات الثقافية والحضارية، بما يعكس ثراء البيئة المحلية وتعدديتها الثقافية. وتضم مؤسسة الشارقة للفنون مجموعة من المبادرات والبرامج الأساسية مثل «بينالي الشارقة» و«لقاء مارس»، وبرنامج «الفنان المقيم»، و«البرنامج التعليمي»، و«برنامج الإنتاج» والمعارض والبحوث والإصدارات، بالإضافة إلى مجموعة من المقتنيات المتنامية. كما تركّز البرامج العامة والتعليمية للمؤسسة على ترسيخ الدّور الأساسي الذي تلعبه الفنون في حياة المجتمع، وذلك من خلال تعزيز التعليم العام والنهج التفاعلي للفن.


10 مفاتيح من أجل بسط الحكمة في حياتنا

10 مفاتيح من أجل بسط الحكمة في حياتنا
TT

10 مفاتيح من أجل بسط الحكمة في حياتنا

10 مفاتيح من أجل بسط الحكمة في حياتنا

في ظل هذا العالم الذي أصبح قرية كونية، حيث بدأت الحدود تتضاءل وتنفتح بين المجتمعات البشرية، بدأ الإنسان المعاصر يشعر أنه يعيش في عالم يتغير باستمرار، وأخذ يتساءل حول مصيره ومصير الجماعة التي ينتمي إليها، كما بدأ يتساءل حول معنى الحياة الفردية في ظل سيطرة البنى الشمولية والأفكار وطرق الحياة والثقافات المختلفة التي تجتاح الكون وتتجاوز الحدود الوطنية بفضل ثورة وسائل التواصل والإعلام. وبالفعل، جعل هذا الواقع حياة الأفراد محكومة بآليات وبأنماط مفروضة من قبل السلطات المسيطرة على إنتاج أنماط العيش المتناسبة مع شروط القوى المسيطرة على الأسواق العالمية. وأمام هذا الوضع الخاضع للتغير بتغير القوى المسيطرة على إنتاج الحياة المادية والاجتماعية، ماذا على الفرد أن يفعل وكيف يستطيع التعايش مع هذا العالم الذي يتغير باستمرار؟ وفي سبيل الإجابة عن هذا السؤال خصصت المجلة الفرنسية «سؤال في الفلسفة» (Question de philo) في عددها الصادر صيف هذا العام 2023 محوراً خاصاً حول هذا الموضوع بعنوان «عشرة مفاتيح من أجل بسط الحكمة في حياتنا». لكن المدخل الأساسي لفتح هذه الطريق يكمن في اليقظة الروحانية، على أنها قد تحدث عند الإنسان في أي مرحلة من حياته. فما هذه المفاتيح العشرة التي تساعدنا على التوفيق بين الحكمة واليقظة الروحانية في حياتنا اليومية؟ سنحاول هنا شرح هذه المفاتيح بإيجاز قدر الإمكان:

المفتاح الأول يكمن في طرح أسئلة لا تنتظر إجابات واضحة وأكيدة. فعندما نلتزم البحث عن يقظة روحانية، فهذا لأننا وجدنا أنفسنا أمام أسئلة ليس لها أي جواب، وذلك يربك طريقة عملنا. وهذه الأسئلة غالباً ما تكون فلسفية أو دينية أو علمية أو نفسية. لذلك هناك أسئلة كبرى يمكن أن تبقى بعيدة المنال، لكنها مع ذلك تبقى جوهرية. على سبيل المثال: «ما الحياة؟» أو «ما الخير والشر؟»، «ما معنى حياتي؟»، و«كيف يمكن ألا أكون مهتماً بالموت؟». الجدير بالذكر هنا، أن الروحانية في زمننا ليست مرتبطة بالدين ولا بالمعتقدات؛ فهناك كثير من الميادين تتقاطع معها، ومنها علم اللاهوت.

المفتاح الثاني يتمثل بمحاولة البحث عن المطلق، وذلك يأخذ أشكالاً مختلفة كلياً. والملاحَظ هنا أن بعض الذين يتخذون هذا المنحى يكونون في مرحلة الشباب. على سبيل المثال: إن الالتزام الديني، مهما كان، هو بالفعل ممكن بالنسبة إلى الشخص الذي يتمتع بهذا الميل.

المفتاح الثالث يتمثل في مبادرة الانفتاح الفكري أو الذهني. فإذا كانت عملية أو مبادرة اليقظة الروحية تصيب كل شخص مهما كانت بيئته ومكانته في المجتمع أو أصوله؛ فمن الواضح أن ذلك يتطلب معرفة معينة بالطريقة التي يتبناها، وكذلك مستوى جيداً من الحس السليم.

المفتاح الرابع يتمثل في عدم التسرع في أخذ الوقت اللازم للقيام بخطوة معينة في الحياة. وذلك لأن الأسئلة المعقدة كتلك المطروحة في هذا المجال يمكن أن تنتظر طويلاً من دون إجابة. من الأفضل إذن الانتظار إلى حين التمكن من الحصول على قدرة استكشاف السبل الممكنة المقترحة، وكذلك استشارة أصدقاء سبق لهم أن اختاروا تلك الطريق. لا شيء يدعو إلى التسرع ولا شيء يضغط لاختيار طريق غير آمنة.

المفتاح الخامس يتمثل في اختيار الطريق السليمة. ومن أصعب الأمور في هذا المجال هو بالطبع اختيار الطريق الصحيحة المفروض تبنيها. وإذا كان ذلك واضحاً بالنسبة إلى البعض منذ البداية، ولكنه غير متوفر للبعض الآخر. إذن، فإن ذلك يأخذ بعض الوقت قبل أن يتمكنوا من تحقيق دخولهم هذا الباب، وخصوصاً إذا لم يكن هناك من يساعدهم في هذا البحث أو المسعى. وفي هذا المجال يبقى الخيار فردياً، ومن الممكن عدم الوصول إلى الطريق الفضلى بشكل مباشر.

المفتاح السادس يتمثل في حرية التغيير. عندما ننطلق في تجربة روحانية لا يجب علينا أن نضع لأنفسنا سقفاً محدداً للوقت الواجب لهذه التجربة، بل علينا أن نتقبل بأن الخيار الأول الذي ننفذه قد لا يتناسب مع ما كنا ننتظره. هنا ليس المطلوب أن نغير من أجل التغيير أو بسبب مجرد فضول ذهني، وذلك لأن الرغبة هنا ليست بالفعل مجرد اغتناء فكري، بل الوصول إلى حالة من الراحة الروحية ومرتبة أفضل في الحياة. إذن، يجب الشعور كلياً بحرية التغيير وبالتراجع من أجل استكشاف مناطق أو مسارات أخرى.

المفتاح السابع يتمثل في عدم فقدان الحس النقدي، وذلك لأن الالتزام في طريق اليقظة الروحانية لا يعني التمسك بإيمان معين وقبول كل ما يقال فيه، بل يجب أن يبقى الحس النقدي لدينا في حالة اليقظة. في هذه الحال يمكن للتجربة وللتربية وللثقافة العامة حماية حرية التفكير، فضلاً عن المساهمة بطريقة ما في إعادة النظر ببعض طرائق التعليم التي تبدو غير قابلة للفهم أو غير متكيفة مع العصر. ولكن المهم في ذلك هو الحفاظ على حرية التفكير واختيار الأشخاص المناسبين لهذه الوظيفة.

المفتاح الثامن يتمثل في الاعتياد والألفة مع التأمل كونهما شرطين أساسيين لنجاح هذه التجربة. ويمكن أن يقتضي الأمر تأملاً خالصاً، أو لحظات تأمل، أو صلاة، أو حتى بعض الرؤى. ولكن المطلوب التصرف بطريقة إرادية والانغماس في هذا التعلم من دون خلفيات فكرية مسبقة، لأن الوصول إلى حالة التأمل يمكن أن يأخذ وقتاً معيناً، ولذلك من الملائم الحفاظ على إيقاع معين، فالتأمل يلعب دوراً مهماً حتى من الناحية الجسدية، كما برهنت على ذلك بعض الأبحاث التي بيّنت دوره في تقوية نظام المناعة، وذلك بشرط ممارسته يومياً.

المفتاح التاسع يتمثل بمسار غير محدود، فعندما تبدأ عملية التوفيق بين اليقظة الروحانية والحكمة، يجب ألّا تتوقف وألّا توضع حدود لها، لأن حالات التقدم في هذا المجال هي ذاتية جداً وفردية. لكن ما يجب أن نعرفه هو أن المسار الروحاني ليس له أي حدود حقيقية؛ إذ إنه يستمر من دون توقف من خلال تقنيات مختلفة وجديدة كالاسترخاء والسوفرولوجيا التي تعزز الصحة الجسدية والنفسية من خلال تحسين النوم، ومعدل التركيز، وتخفيف التوتر. ويبقى أن الهدف الأساسي من كل ذلك هو تحسين الحال والسكينة وتفضيل القيم الإيجابية، ومن أهمها المحبة. وهذه الطريق لا حدود لها، وتكفي المثابرة عليها للحفاظ على جمالية المبادرة.

أما المفتاح العاشر والأخير فيتمثل في التفكير بالجسد. من المعروف أنه في القارة الآسيوية يشارك الجسد في التوازن بين النفس والجسم، وفي الهند هناك تمارين خاصة تساهم في إعادة التوازن بين الجسد وبين ذكرياته، ولكل شخص أسلوبه الخاص فيما يتعلق بالطاقة والحيوية، ويمكن له إذن أن يختار النشاط الجسدي في العملية. وهناك من يفضل التأمل سيراً على الأقدام.

وأخيراً، تجدر الإشارة إلى أن الدخول في عملية أو مبادرة روحانية في سبيل اكتساب مزيد من الحكمة لا يعني أبداً أنه يجب إهمال الجسد؛ ذلك لأن الجسد هو أيضاً يشكل جزءاً أساسياً من كينونتنا؛ فنحن لا يمكننا جميعاً أن نصبح على مثال المتصوف أو الزاهد، أو أن نصوم أربعين يوماً. فاليوغا مثلاً يمكنها تفعيل الجانبين. أضف إلى ذلك أنه ليس هناك أي إلزام للاختيار بينهما. إن من يريد الخوض في هذه التجربة ليس ملزماً أن يختار، بل هو تبعاً لطبيعته ولمزاجه سوف يتمكن من اختيار السبل التي توحّد بين الجسد والروح، بدلاً من أن يلجأ إلى خيارات ذهنية حصراً.