برهان غليون يتهم النخب العربية بالفشل في «سؤال المصير»

كتابه الجديد يطرح علامات استفهام

برهان غليون يتهم النخب العربية بالفشل في «سؤال المصير»
TT

برهان غليون يتهم النخب العربية بالفشل في «سؤال المصير»

برهان غليون يتهم النخب العربية بالفشل في «سؤال المصير»

تناول الدكتور برهان غليون في كتابه «سؤال المصير... قرنان من صراع العرب من أجل السيادة والحرية»، الصادر حديثاً عن «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات»، أحد الأسباب المُهمة لعدم دُخول مُجْتَمعاتنا عالم الحداثة، المتمثل في «لعنة الجُغْرافيا السياسية»، وهي في أحد جوانبها مشكلة ذات بُعدِ عربي - عربي، حيث تشكل أحد الأسباب المُهمة في الصراعات العلنية والخفية، اقتصادياً وسياسياً وحتى نَهْضوياً، فيُمارس الأشقاءُ الكبار بحق أشقائهم الأصغر منهم حجماً سُكانِياً واقتصادياً ضُغوطاتٍ مُخْتلفة لمنعهم من استثمار ثرواتهم، في الوقت الذي تُفرض عليهم فيه قراراتٌ ومواقفُ لا تصبُّ بالضرورة في مصلحتهم... ويتضح ذلك جلياً من خلال تدخل النظام السُّوري في لبنان، وقضائه على مشروع الحركة الوطنية الذي كان ديمقراطياً ونَهْضوياً. وأما من حيث البعد الدولي لهذه المُشْكلة المُتمثل في القُرْب من أو البُعْد عن «المركز»، الذي هو دول الغرب عموماً، فقد نجحت دولة مثل اليابان في بناء نهضتها الحداثية والصناعية، وذلك بسبب بُعْدها عن المركز.

ويتحدث غليون عمّا قامت به الدول المُسْتعمرة بعد «سايْكِس - بيكو» من عملية تفتيتٍ مُتْقنة لمجتمعات الأطراف من كل النواحي، لكي تبقى مُسَيْطرة عليها، ويكون بمقدورها تسخيرها أولاً وأخيراً لمصالحها، فيقول في (ص 62): «كان تقويض حلم الدولة - الأمة أحد الأهداف الرئيسية للسياسات الأوروبية لتفريغ المنطقة من القوة وخلق الفراغ الاستراتيجي الذي يبرر التدخل الأجنبي الدائم وتحويل الشرق الأوسط إلى منطقة سيطرة مباشرة وحزام أمان، ودوله إلى محميات ومناطق انتداب ومستعمرات...».

لكن يمكن القول إن جُلّ صفحات الكتاب محاكمة للنُّخَب في مُجْتمعاتنا العربية بأطيافها المُختلفة واتجاهاتها المُتعددة مُعْتبراً إيَّاها مُنْفصلة عن شعوبها وطُموحاتهم وآمالهم، وأنها فشلت فشلاً ذَريعاً في إدارة دَفَّة المُجتمعات نحو الحداثة والتغيير... واضِعاً إيَّاها أمام مسؤولياتها التاريخية والإنسانية والوطنية. فالكل بالنسبة إليه مُدانٌ بنسبة وتناسُبٍ، ولكنْ المُثقفون بالدرجة الأولى، وذلك إما بسبب ضيق أفقهم لكون فئة لا بأس بها منهم لا ترى مشروع الحداثة إلا من خلال الارتباط بالغرب، مُركزة كل جُهودها على مسائل الهويَّة والاستقلال الفكري والآيديولوجي، وإما بسبب صراعاتهم فيما بينهم التي هي بلا داعٍ أصلاً، لأنها تنحرف بالبوصلة عن اتجاهاتها الصحيحة، وإما بسبب ترتيبهم للأُسُس والأولويات، ودورانهم بالتالي في حلقاتٍ مُفْرغَة، وإما، أيضاً، بسبب لغتهم الخشبية التي شكَّلت حاجزاً إسمنتياً بينهم وبين الجماهير... وينحاز غليون في نهاية المطاف إلى جُمهور المواطنين المبعدين عن مراكز اتخاذ القرار، وذلك في مُواجهة المُثقفين بأطْيافِهم العلمانية والإسْلامَويَّة والرَّماديين، حيث يُشكل معظم هؤلاء سداً مَنيعاً للدفاع عن الأنظِمَة، مُحَمِّلاً إيَّاهم جميعاً مسؤولية عدم دُخُولنا في عالم الحداثة!

هل لا يزال الدخول

في عالم الحداثة ممكِناً؟

يجيب غليون عن هذا السؤال ومن دون مُواربة بـ«نعمٍ» كبيرة... ولكن بشروطٍ يرى أنها مُتوفرة في مُجْتمعاتنا ولدى شعوبنا، ولكنها تحتاج إلى مَنْ يُحركها من مَرْقدها بناءً على قواعد صحيحة، تأتي في مقدمتها إعادة بناء النُّظم السياسية على أُسُسٍ ديمقراطية حقيقية، والتخلص من كل أشكال الوصاية، إن كانت الوصاية الغربية الاستعمارية على الأنظمة الحاكمة، أو وصاية الدول على شعوبها، والمُثقفين على الفكر والرأي... وكذلك إنهاء وصاية رجال الدين على الدين والمُعْتقدات الدينية، ومن ثم القيام بعملية مُراجعة للتاريخ، بالإضافة إلى وعي وفهمٍ دقيقٍ للأحداث الدائرة ومُحَرِّكاتها، «لكي نُدْرك من خلال كل ذلك حَجْمَ مسؤولياتنا، وأساليب السياسة الواجب اتّباعها، فنصل بالتالي إلى مرحلة التصالح مع الذات على كل المستويات: الإنسانية والعقلانية والدينية والاجتماعية... والأهم من كل ذلك، إدراك أن الغرب كل الغرب، ليس صديقاً لنا كعرب، وليس أُمّنا الحنون، ولا يهمه تقدمنا مطلقاً، بل هو الذي بنى وما زال يبني السدود والعوائق أمام تقدم أمتنا ومجتمعاتنا، وأنه الأصل في معظم مشكلاتنا السياسية والاقتصادية والثقافية والتعليمية، إلخ... وبعبارة أخرى هدم نظام الوصاية الهَرَمي المُركَّب بطريقة مُعَقَّدة، والمرتبطة كل أطرافه بعضها ببعض في عملية دَوْرٍ وتَسلسل، تُدْخل اليأس إلى روح كل من يُحاول أن يضع إصبعه على أي طرفٍ من أطرافها ومُناقشتها وتحليلها...! مع ملاحظة أمرٍ مهمٍّ، وهو أن الحداثة كما يُشير غليون «ليست نموذجاً جاهزاً يكفي لتحقيقها السير على منوال ما عرفته المجتمعات الأوروبية في القرنين الماضيين وتقليدها، بل هي معركة تاريخية يخوضها كل مجتمع لتغيير شروط اندراجه القسري في منظومة الحداثة، أي المنظومات الاقتصادية والتقنية والاستراتيجية والثقافية العالمية...»، (ص 15).

وختاماً، تتولد لدى القارئ وهو يقلّب صفحات هذا الكتاب أسئلة كثيرة، يأتي في مقدمتها السؤال الكبير وهو:

- هل سيأتي ذلك اليوم الذي تضيق فيه المسافة والفجوة بين الشرق (العالم العربي والإسلامي) والغرب، كل الغرب، ويلتقي هذان العالمان في حديقة الحداثة؟

أظن أن الجواب عن ذلك متروكٌ للتاريخ، ولأجيالنا القادمة، وأيضاً لمُفكرينا، ومنهم برهان غليون.

* كاتب لبناني


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية
TT

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية

فضاءات ومحاور بحث معمق، متخصصة في عوالم التعايش والتناغم المتأصلة والمؤتلِقة ضمن مجتمع دولة الإمارات العربية المتحدة، يناقشها ويقاربها كتاب «التسامح في الإمارات... سيرة جديدة وضّاءة للأخوة الإنسانية (شهادات وقصص بطلها الآخر)»، للصحافي والباحث السوري رفعت إسماعيل بوعساف، الصادر، أخيراً، عن دار «ميتافيرس برس» للنشر. ويعرض المؤلِّف أبرز شواهد تآلف وتقارب حضارات وأديان وثقافات، موضحاً أهم المقومات التي امتازت بها وعلى رأسها: تجذّر التواصل والانفتاح في المجتمع، وتمسك قادة الإمارات بالقيم الإنسانية، وسماحة أهلها واتسامهم بالوسطية والاعتدال، والمشروعات والمبادرات النوعية الكفيلة بترسيخ التسامح محلياً وعالمياً (مثل: وثيقة الأخوة الإنسانية، وبيت العائلة الإبراهيمية، ووزارة التسامح، والمعهد الدولي للتسامح، والأعمال والمبادرات الخيرية المتنوعة).

يتضمن الكتاب، الواقع في 411 صفحة، على أربعة أبواب رئيسية، وخاتمة تضم مقترحات وتوصيات. وتناقش فصوله جوانب كثيرة شاملة يُجمل فيها بوعساف، وعبر سير مشاهداته ومعايشاته في الإمارات طوال أكثر من 20 عاماً، وكذا في ضوء خلاصات أبحاثه الخاصة بالدراسة، مصادر وينابيع جدارة وتميز مجتمع الإمارات في مدارات التّسامح، مبيناً في مستهلّ إضاءاته الأبعاد والجذور التاريخية لحكاية التسامح في هذه الأرض، في المحطات والأزمان كافّة، طبقاً لأسانيد وتدوينات تاريخية جليّة، فأهلها لطالما تميزوا بكونهم يحتفون بالآخر المختلف عنهم ويرحبون به ولا يرفضونه أو يعزلون أنفسهم عنه، وهكذا ضمّوا وحضنوا بين ظهرانيهم أفراداً من أعراق ومذاهب شتّى بقوا يبادلونهم الحب ويتأثرون ويؤثّرون بهم، ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً. ويستعرض المؤلف عقبها، حقائق فاعلية وإثمار مساعي وبرامج دولة الإمارات العربية المتحدة، الرامية إلى تعزيز التقارب بين الأديان وأطياف الإنسانية... وكذا إطفاء ألهبة أزمات الهُويات، واستئصال أسباب الصراعات المذهبية وقطع دابر التعصب. ثم يدرس ويحلل ماهيات أعمدة وتجليات التسامح والتعايش في ميادين الحياة بالإمارات: المجتمعية والصحية والتعليمية والثقافية والاقتصادية والقانونية والإعلامية. ويقدم، أيضاً، جملة شهادات وإشادات لأبرز السياسيين ورجالات الدين والبحاثة والكتّاب الأجانب حول ثراء الإمارات بقيم الانفتاح والتعايش والتواصل، ومنهم: الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومسؤولون أمريكيون، ونجم الكرة الأرجنتيني الراحل دييغو مارادونا، والروائي البرازيلي باولو كويلو، ونجم بوليوود شاروخان، وعالم النفس والباحث الكندي البروفسور إدوارد دينر. كما يُفرد الكتاب محطات موسَّعة لشرح طبيعة وقيمة حصاد جهود الدولة ومبادراتها ورؤى قادتها، الضامنة تمكين وتقوية هياكل ومرتكزات التسامح والتآخي الإنساني في مجتمع الإمارات والعالم أجمع، التي تكللها أعمال ومشروعات عمل خيري وإنساني ترصد لها الإمارات ميزانيات ضخمة، تطول أصقاع الأرض قاطبةً ولا تميز فيها بين دين أو إثنية أو طائفة.

ويحفل الباب الرابع في الكتاب، الموسوم «حوارات وسيمفونية»، بحوارات وأحاديث مع رجال دين ومسؤولين ومثقفين وأطباء وإعلاميين ومهندسين ومبدعين، بعضهم يقيم في الدولة منذ أكثر من 60 عاماً، يروون فيها حقائق ومواقف كثيرة، بشأن التسامح وواقع انفتاح المجتمع وقبوله الآخر المختلف ورسوخ التعايش والمحبة فيه. وتضم قائمة هؤلاء المحاورين: أحمد الحَدَّاد، مفتي دبي وعضو «مجلس الإمارات للإفتاء»، وبول هيندر، أسقف الكنيسة الكاثوليكية في جنوب شبه الجزيرة العربية (2004-2022م)، وراجو شروف، رئيس معبد «سندي غورو دربار» الهندوسي، وحمّود الحناوي، شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في سوريا، وسوريندر سينغ كاندهاري، رئيس معبد «غورو ناناك دربار السيخي»، وعشيش بروا، مسؤول «المركز الاجتماعي البوذي» في الشارقة، وإيان فيرسرفيس، الشريك المؤسس ورئيس تحرير «موتيڤيت ميديا غروب»، وزليخة داود، أول طبيبة نسائية في الإمارات (1964م)، وبيتر هارادين، الرئيس السابق لـ«مجلس العمل السويسري»، وراميش شوكلا، أحد أقدم المصورين في الإمارات.