الفيلسوف الذي قبض على «الهراء»

رحيل هاري فرانكفورت الذي اشتهر بسبب مقالة قصيرة

هاري فرانكفورت
هاري فرانكفورت
TT

الفيلسوف الذي قبض على «الهراء»

هاري فرانكفورت
هاري فرانكفورت

لم يكن هنري فرانكفورت، الفيلسوف الأميركي والأستاذ المتقاعد من جامعة «برينستون» الذي رحل عن عالمنا قبل أيّام، قد لحق بعالم وسائل التواصل الاجتماعي عندما اكتسب شهرة مفاجئة في عام 2005 بصفته أوّل فيلسوف قبض على مفهوم «الهراء (بالإنجليزيّة Bullshit)» وذلك عندما أعادت دار النشر الملحقة بجامعة «برينستون» طبع مقالة قصيرة له من الثمانينات بنسخة مجلَّدة بعنوان «عن الهراء On Bullshit» قفزت سريعاً إلى أعلى قوائم الكتب الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة. ربما كانت الأجواء مناسبة ذلك الحين، عندما كان رئيس الولايات المتحدة وقتها جورج دبليو بوش.

الكتاب - المقالة أخرج فرانكفورت (1929 – 2023) من عزلة تقاعده ليصبح ضيفاً مألوفاً في برامج المقابلات الرئيسية على المحطات التلفزيونية الكبرى، ويكسب منحة من ستة أرقام من أحد كبار الأثرياء الأميركيين لاستكمال التدقيق في ماهية هذا الهراء، أنتج على أثرها عام 2006 آخر أعماله الرئيسيّة «بشأن الحقيقة» أو «On Truth»، الذي حقق نجاحاً وانتشاراً أقل من كتابه «عن الهراء».

الثيمة المركزيّة لمقالة «عن الهراء» بعد البحث في ماهيته -كتعابير يلقيها البعض للترويج المزيّف لأن ثمة شيئاً إيجابياً وجيداً يحدث، على الرغم من أنه ليس كذلك- كانت عن ضرورة التمييز بين الهراء والكذب. إذ على عكس الكذب الذي يجب أن يضع الحقيقة في الاعتبار من أجل تلفيق نقيضها التام، جادل فرانكفورت بأن الهراء غير مبالٍ مطلقاً بالحقيقة، ومعنيّ أساساً بترك انطباع معيّن في ذهن المتلقي لا أكثر، ودون أي اهتمام حقيقي بالحقائق الأساسية. ولذلك فإن الهراء «ليس نتاج خطأ، بقدر ما هو عمل تزييف متعمّد».

غلاف" حول الهراء"

لقد حقق فرانكفورت شهرة واسعة لا شك يحسده عليها كثير من الأكاديميين بفضل مقالة قديمة قصيرة لا تزيد عدد صفحاتها على سبع وستين. وإذا كان ذلك دلالة على شيء، فسيكون حتماً ذلك الإحساس المتزايد عند عدد كبير من الناس في أيّامه بغلبة الهراء على الشأن العام، وتحوله إلى إحدى أبرز سمات ثقافة مجتمعات عصر ما بعد الحداثة. ولعله لو طال به العمر لوسّع كتابه عدة مئات من الصفحات، بعدما أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي بمثابة أكواريوم هائلٍ لاستعراض قدرات البشر في التنافس على إنتاج الهراء المدّون، والمسجّل، والمصوّر.

هاري جوردون فرانكفورت، الذي توفي في دار للمسنين في سانتا مونيكا بكاليفورنيا إثر أزمة قلبيّة عن عمر يناهز 94 عاماً، كان اسمه لدى ولادته في ولاية بنسلفانيا عام 1929 ديفيد برنارد ستيرن، لكنّه ولأسباب غامضة انتقل سريعاً لعهدة عائلة يهوديّة أخرى بلا أولاد، ليصبح الطفل الوحيد لناثان وبيرثا فرانكفورت، اللذين أعادا تسميته ومنحاه لقبهما.

غلاف "حول الحقيقة"

خسر ناثان -والده بالتبني- وظيفته كمحاسب خلال مرحلة الكساد الكبير في الولايات المتحدة وانهيار سوق الأسهم عام 1929، وهو ما أورث هاري نوعاً من قلق مزمن بشأن المال. وعندما بلغ رشده كانت الخيارات الطبيعيّة لأولاد الفقراء مثله؛ إما أن يصبح عازف بيانو مثل والدته أو حاخاماً عند تخرجه في المدرسة الثانوية العبريّة. ويبدو أنّه لم يمتلك الموهبة للعزف، وأحس بالاختناق من «الهراء الصاخب» الذي كان يختلط في مدرسته العبريّة مع الهواء، فانتهى إلى دراسة الفلسفة في جامعة «جونز هوبكنز» في بالتيمور، حيث حصل على الإجازة الجامعيّة الأولى منها في 1949، قبل أن تمنحه ذات الجامعة درجة الدكتوراه عام 1954.

ولعل من الشخصيّات التي تركت على تفكيره أثراً لا يُنسى، كان الفيلسوف النمساوي الكبير لودفيغ فيتجنشتاين، الذي التقاه لفترة وجيزة في جامعة «كورنيل» وكانت إحدى قلاع الفلسفة الغربيّة الأهم ذلك الحين بينما كان يُجري أبحاثاً للدراسات العليا. ويرتكز فرانكفورت في مقاربته للهراء على مقطع شعري قيل إن فيتجنشتاين كان يتخذه شعاراً شخصيّاً له حول الإتقان البالغ الذي كان يشعر به معماريو الكاتدرائيات القديمة الهائلة والذي كان سرّه الإحساس الدائم بأن الربّ «موجود في كل مكان». عند فرانكفورت، فإن عالم أولئك البنائين العظام مُقاس بدقّة ومحميٌّ بضمير فلا مكان فيه للهراء أبداً.

خدم فرانكفورت بالجيش الأميركي لعامين خلال الحرب الكوريّة قبل أن يحصل على وظيفته الأولى مدرساً للفلسفة في جامعة ولاية أوهايو. وهناك بدأ بدراسة أعمال الفيلسوف الفرنسي من القرن السابع عشر رينيه ديكارت، وعنه نشر كتابه الأول، «الشياطين والحالمون والمجانين - 1970». وقد انتقل بعدها إلى جامعة «روكفلر» في نيويورك، وهناك أنجز أهم أعماله عبر أوراق مترابطة مهمة نشرها بين ستينات وتسعينات القرن العشرين حول المسؤولية الأخلاقية، وحرية الإرادة، جعلته مرجعاً يُقتبس عنه في رفضه مبدأ الاحتمالات البديلة الذي يكون الشخص وفقه مسؤولاً عن فعله من الناحية الأخلاقيّة حصراً عندما تتوفر له بدائل للتصرّف بشكل مغاير، فجادل بكون الشخص المسؤول أخلاقيّاً عندما يقْدم على فعلٍ ما يقوم بذلك لأنّه يريد القيام به بغضّ النظر عن توفر البدائل من عدمه، معتبراً فعل الإرادة، أكثر من العقل أو الأخلاق، هو الجانب المحدِّد للحالة الإنسانية. والنتيجة الأنيقة لنظريّته هذه في الحريّة الشخصيّة هي أن الشخص عندما يأتي بفعل ما، فإنه لا يكشف فقط عن الطّريقة التي أراد أن يتصرف بها، ولكن أيضاً عن نوع الشّخص الذي يطمح إلى أن يكونه.

واصل فرانكفورت استكشاف العلاقة بين القيم الشخصية والإرادة الإنسانية خلال أبحاثه في الثمانينات من القرن الماضي فنشر ورقة بحثية مفصليّة بعنوان «أهمية ما نهتم به»، جادل فيها بأن رغباتنا الأكثر أهمية هي تلك التي لا يسعنا إلا أن نتحرك للعمل عليها، بغضّ النظر عن الظروف المانعة، لأنها تحدد ما نقدر أو نطمح أن نكون عليه. ومن المفارقات، كما كتب، أن هذا الافتقار إلى الحرية بسبب الظروف المانعة هو الذي يعطي حياتنا معنى من خلال نضالنا لتحديها.

بعد جامعة «روكفلر»، انتقل فرانكفورت في عام 1976 إلى جامعة «ييل»، ثم إلى جامعة «برينستون» بدايةً من عام 1990، ليحال هناك إلى التقاعد في 2002 ويعيَّن أستاذاً فخريّاً مدى الحياة. وكان قد تزوج مرتين، وترك ابنة من كل زواج وثلاثة أحفاد.

كان فرانكفورت نموذجاً للصدق وظل طوال حياته الأكاديمية معنياً بقضايا الحريّة والمسؤوليّة الأخلاقية وعدواً للخداع والتزييف

ومع أهمية إنتاج فرانكفورت في فضاء الفلسفة الأكاديمية العاجيّ، فإن تحليله القصير -لكن العميق- لماهية ظاهرة الهراء نبّه الملايين من واقع أن هذا النوع من المخاتلة والخداع هو العدو الأكبر للحقيقة من الكذب. وقد قرّع بلا رحمة نزوع كثير من الأشخاص في المجتمعات (الديمقراطيّة) إلى إبداء الرأي في كل ما يمر بهم، دون خبرة، أو إعداد مسبق، لا سيّما في فضاءات السياسة والإعلام والإعلان والعلاقات العامّة، حيث تكاد تقترب مساحات واسعة من ممارسة هذه المهن إلى نوع من تصنيع مستمر للهراء دون توقف عن أو اكتراث لكيفية سير الأمور على أرض الواقع.

لقد كان فرانكفورت نموذجاً للصدق في مساعيه الفلسفية، وظل طوال حياته الأكاديمية معنياً بقضايا الحريّة والمسؤوليّة الأخلاقية والإرادة، وعدواً للرداءة والخداع والتزييف، ليس فقط كبروفسور يلقّن تلاميذه أفكاراً مجردة، بل أيضاً «كإنسان يحاول التعامل بطريقة منهجية بسيطة مع الصعوبات العادية لحياة يريدها أن تكون ذات معنى»، وفق ما قال في مقابلة صحافية.


مقالات ذات صلة

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «جدة تقرأ» عنوان معرض الكتاب 2024 (المركز الإعلامي)

الكتاب الورقي ينتصر على الأجهزة الرقمية في معرض جدة

في ظل التطور التقني والاعتماد المتزايد على الكتب الإلكترونية، حسم زوار معرض جدة للكتاب 2024 الجدل لصالح الكتاب الورقي

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق دور النشر شهدت إقبالاً كبيراً من الزوار من مختلف الأعمار (هيئة الأدب والنشر والترجمة)

«جدة للكتاب»... مزيج غني بالمعرفة والإبداع بأحدث الإصدارات الأدبية

يعايش الزائر لـ«معرض جدة للكتاب 2024» مزيجاً غنياً من المعرفة والإبداع يستكشف عبره أحدث الإصدارات الأدبية، ويشهد العديد من الندوات وورش العمل والجلسات الحوارية.

إبراهيم القرشي (جدة)

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية
TT

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام، ولفت الانتباه؛ لأن رواية المانجا «أنستان» أو «الغريزة» لصاحبها المؤثر أنس بن عزوز، الملقب بـ«إنوكس تاغ» باعت أكثر من 82 ألف نسخة خلال 4 أيام. وهو إنجاز كبير؛ لأن القصّة الموجهة إلى جمهور من القرّاء الشباب قد خطفت المرتبة الأولى في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً من «الحوريات»، الرواية الفائزة بجائزة «الغونكور» لهذه السنة.

ولمن يستغرب هذا الرواج أو اهتمام دور النشر بالكُتاب المبتدئين من صنّاع المحتوى، فإن الظاهرة ليست بالجديدة؛ حيث إن كثيراً من المكتبات والمواقع أصبحت تخصّص رفوفاً كاملة لهذه النوعية من الكتب، كسلسلة «#فولوي مي» التابعة لدار «أشيت»، والتي تضم أعمالاً للمؤثرين تتوزع بين السّير الذاتية والقصص المصوّرة والتنمية البشرية والأسفار، وحتى الطبخ.

في فرنسا، أول تجربة من هذا القبيل كانت عام 2015، بكتاب «إنجوي ماري»، وهو السيرة الذاتية للمؤثرة ماري لوبيز المعروفة بـ«إنجوي فنيكس» (6 ملايين متابع على إنستغرام). وإن كان البعض لا يستوعب أن تكتب فتاة في سن العشرين سيرتها الذاتية، فقد يستغرب أيضاً النجاح التجاري الكبير الذي حصل عليه هذا الكتاب؛ حيث باع أكثر من 250 ألف نسخة، رغم الهجوم الشديد على الأسلوب الكتابي الرديء، حتى لقَّبتها مجلة «لي زنكوريبتبل» الثقافية متهكمة بـ«غوستاف فلوبير الجديد». شدّة النقد لم تمنع زملاءها في المهنة من خوض التجربة نفسها بنجاح؛ المؤثرة ناتو (5 ملايين متابع على يوتيوب) نشرت مع مؤسسة «روبرت لافون» العريقة رواية «أيقونة»، قدمت فيها صورة ساخرة عن عالم المجلات النسوية، وباعت أكثر من 225 ألف نسخة. وتُعدُّ دار نشر «روبرت لافون» بالذات الأكثر تعاوناً مع صناع المحتوى؛ حيث نشرت لكثير منهم.

في هذا السياق، الأكثر نجاحاً حتى اليوم كان كتاب التنمية البشرية «الأكثر دائماً+» لصاحبته لينا محفوف، الملقبة بـ«لينا ستواسيون» (5 ملايين متابع على إنستغرام) وباع أكثر من 400 ألف نسخة.

مجلة «لي زيكو» الفرنسية، تحدثت في موضوع بعنوان «صناع المحتوى؛ الدجاجة التي تبيض ذهباً لدور نشر» عن ظاهرة «عالمية» من خلال تطرقها للتجارب الناجحة لمؤثرين من أوروبا وأميركا، حملوا محتواهم إلى قطاع النشر، فكُلّلت أعمالهم بالنجاح في معظم الحالات. المجلة استشهدت بالتجربة الأولى التي فتحت الطريق في بريطانيا، وكانت بين دار نشر «بانغوين بوكس» والمؤثرة زوي سوغ (9 ملايين متابع على إنستغرام) والتي أثمرت عن روايتها الناجحة «فتاة على الإنترنت» أو «غور أون لاين»؛ حيث شهدت أقوى انطلاقة في المكتبات البريطانية بـ80 ألف نسخة في ظرف أسبوع، متفوقة على سلسلة «هاري بوتر» و«دافنشي كود».

المجلة نقلت بهذه المناسبة حكاية طريفة، مفادها أن توم ويلدون، مدير دار النشر، كان قد تعاقد مع المؤثرة بنصيحة من ابنته البالغة من العمر 12 سنة، والتي كانت متابعة وفيّة لها.

ومما لا شك فيه هو أن اهتمام دور النشر بأعمال المؤثرين يبقى مدفوعاً بالأرباح المادية المتوقعة، وهو ما أكده موضوع بمجلة «لوبوان» بعنوان «المؤثرون آلة لصنع النجاحات التجارية في قطاع النشر». كشف الموضوع عن أن تحويل المحتوى السمعي البصري لصناع المحتوى إلى الكتابي، أصبح بمثابة الورقة الرابحة للناشرين، أولاً لأنه يوفر عليهم عناء الترويج الذي تتكفل به مجتمعات المشتركين والمتابعين، وكل وسائل التواصل التابعة للمؤثرين، والتي تقوم بالعمل بدل الناشر، وهو ما قد يقلّل من خطر الفشل؛ بل قد يضمن الرواج الشعبي للعمل. ثم إنها الورقة التي قد تسمح لهم في الوقت نفسه بالوصول إلى فئات عمرية لم تكن في متناولهم من قبل: فجمهور المراهقين -كما يشرح ستيفان كارير، مدير دار نشر «آن كاريير» في مجلة «ليفر إيبدو»: «لم يكن يوماً أقرب إلى القراءة مما هو عليه اليوم. لقد نشرنا في السابق سِيَراً ذاتية لشخصيات من كل الفضاءات، الفرق هذه المرة هو أن المؤثرين صنعوا شهرتهم بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، ولهم جمهور جاهز ونشيط، وإذا كانت هذه الشخصيات سبباً في تقريب الشباب إلى القراءة، فلمَ لا نشجعهم؟».

شريبر: الكتاب بعيد كل البعد عن مستوى «الغونكور» وبأن كاتبته لم تقرأ في حياتها كتاباً باستثناء الكتاب الذي كتبته

هذه المعطيات الجديدة جعلت الأوضاع تنقلب رأس على عقب، فبينما يسعى الكتاب المبتدئون إلى طرق كل الأبواب أملاً في العثور على ناشر، تأتي دور نشر بنفسها إلى صناع المحتوى، باسطة أمامهم السّجاد الأحمر.

وإن كان اهتمام دور النشر بصنّاع المحتوى لاعتبارات مادية مفهوماً -بما أنها مؤسسات يجب أن تضمن استمراريتها في قطاع النشر- فإن مسألة المصداقية الأدبية تبقى مطروحة بشدّة.

بيار سوفران شريبر، مدير مؤسسة «ليامون» التي أصدرت مذكرات المؤثرة الفرنسية جسيكا تيفنو (6 ملايين متابع على إنستغرام) بجزأيها الأول والثاني، رفض الإفصاح عن كم مبيعات الكتاب، مكتفياً بوصفه بالكبير والكبير جداً؛ لكنه اعترف في الوقت نفسه بلهجة ساخرة بأن الكتاب بعيد كل البعد عن مستوى «الغونكور» وبأن كاتبته لم تقرأ في حياتها كتاباً باستثناء الكتاب الذي كتبته؛ لكنها لم تدَّعِ يوماً أنها تكتب بأسلوب راقٍ، وكل ما كانت تريده هو نقل تجاربها الشخصية إلى الجمهور ليأخذ منها العبَر.

الناقد الأدبي والصحافي فريديك بيغ بيدر، كان أكثر قسوة في انتقاده لكتاب المؤثرة لينا ستواسيون، في عمود بصحيفة «الفيغارو» تحت عنوان: «السيرة الذاتية لمجهولة معروفة»؛ حيث وصف العمل بـ«المقرف» و«الديماغوجية»، مضيفاً: «بين الأنا والفراغ اختارت لينا ستواسيون الخيار الثاني». كما وصف الكاتبة الشابة بـ«بالجاهلة التي تعترف بجهلها»، منهياً العمود بالعبارة التالية: «147 صفحة ليس فيها سوى الفراغ، خسرتُ 19 يورو في لا شيء».

أما الناشر بيار سوفران شريبر، فقد قال في مداخلة لصحيفة «لوبوان»: «اتهمونا بنشر ثقافة الرداءة؛ لكن هذه النوعية من الكتب هي هنا لتلتقي بقرائها. إنهما عالمان بعيدان استطعنا تقريبهما بشيء سحري اسمه الكتاب. فلا داعي للازدراء».