كتاب بريطاني: الأمراض صنعت تاريخ البشرية

الجراثيم، لا الرجال العظماء، ولا الأديان

جوناثان كنيدي
جوناثان كنيدي
TT

كتاب بريطاني: الأمراض صنعت تاريخ البشرية

جوناثان كنيدي
جوناثان كنيدي

يستند كل سرد لتاريخ البشرية إلى موقف نظريّ آيديولوجيّ يحكم نظرة المؤرخ لتعاقب الأحداث وتقلبات الأزمنة: فمنهم من يراه تعاقباً لسير الرجال العظماء الذين تسيدوا أقوامهم ودفعوا بهم نحو المجد أو إلى الدّمار، فهذا تاريخ الإسكندر، وتلك أيّام بني عثمان وهكذا، ومنهم من اعتبر أن التاريخ هبة الأفكار، حلقاته تدفعها أساساً تحولات الاعتقاد الكبرى، فهذا تاريخ الطوطميّة، وتلك مرحلة المسيحيّة، وأننا نعيش اليوم عصر الليبرالية الرأسماليّة، فيما قرر آخرون أن تاريخ البشر يحدث على هامش التطور التكنولوجي ونظم الإنتاج المرتبطة بها من استخدام الأدوات الحجريّة إلى الزراعة، ومن استخلاص المعادن إلى الثورات الصناعية المتعاقبة التي غيّرت من الأقدار والأعمار. لكن جوناثان كنيدي، مدير برنامج الصحّة العامة في كليّة الطب بجامعة لندن، يرى أن كل هذه التصورات حول تشكّل التاريخ تغفل النظر إلى فاعل أساس تأتي الشخصيات والأفكار والتكنولوجيات بعده، وربما نتيجة له: الجراثيم والفيروسات، والتي عبر سلسلة من الأمراض والأوبئة صنعت فضاءات تبلور الحالة البشرية، وأدارت مسار تطورها عبر الأيام. فالأمراض المعدية منذ طاعون صور الذي بدأ منه هوميروس إلياذته إلى« كوفيد-19» في راهننا، ليست عنده مجرد حالات من الوهن البشري وسوء الحظ الفرديّ، بل هي جزء أساسي من هويتنا الإنسانية، وبالتالي من تاريخنا الجمعي بوصفنا بشراً.

غلاف الكتاب

يضمّن كيندي في كتابه الصادر حديثاً بالإنجليزية «الأمراض: كيف صنعت الجراثيم التاريخ؟ - 2023» رواية مغايرة للمعتاد حول مسارات التحضر البشري بداية من الإنسان الأوّل، وعبر آلاف السنين لإظهار كيف أن تفشي الأمراض المعدية قد قضى على ملايين الأرواح في المراحل المختلفة فدّمر حضارات بأكملها، وأعاد صياغة المجتمعات التي نجت، فيما توّلت موجات الهجرة الهائلة تغيير النوع العرقي لمنطقة ما بالكامل أو تحصينه، وذلك عندما جلبت قوافل القادمين معها أمراضها المعدية التي لم تعرفها مجموعات السكان الأصليين، ولم تطور أجسامهم مناعة ضدّها إلى حد ما، فقضت عليهم نهائياً، أو أنّ المهاجرين وجدوا أمراضاً لم تختبرها مناعتهم من قبل فمسحوا عن وجه الأرض التي هاجروا إليها، فكأنّهم لم يأتوا يوماً لولا بعضٌ من لقى ماديّة تركوها.

يجادل كينيدي بأن وجودنا ونجاحنا في البقاء كنوع قد حسمته بداية البكتيريا والفيروسات، فيما انقرضت جميع الأنواع الأخرى من البشر. ففي وقت سحيق، شارك الإنسان العاقل المبكر (الهوموسيبيان) الذي انطلق من أفريقيا الأرض (وتزاوج مع) إنسان نياندرتال الأوروبيّ الأقوى ذي العيون الزرقاء والأكبر دماغاً، بالإضافة إلى إنسان دينيسوفان الشبيه بالهوبيت (كما في الرّواية الشهيرة). فماذا حدث لهذه الأنواع الأخرى؟ بعض النظريات تقول إننا قتلناهم جميعاً، أو أنهم كانوا بطريقة ما أقل قدرة على التكيف مع تغيرات كبرى في المناخ. لكن كينيدي يستكشف احتمال أن يكون الإنسان العاقل المتجول من أفريقيا، الذي اكتسب مناعة قوية خلال الرحلات الطويلة، قد أصاب ببساطة إنسان نياندرتال بالفعل في أوروبا بمسببات أمراض جديدة لم تستطع أجسام أولئك المستقرين محاربتها، فانقرضوا تماماً كما قضى المستعمرون الأوروبيّون، بعد عشرات الآلاف من السنين، على سكان الأزتك بنقلهم مرض الجدري لمن نجا من الهلاك بالأسلحة.

وهو يرى أن نقلة نوعيّة لقدرة الأمراض المعدية على صياغة المجتمعات البشرية حدثت عندما تحوّل الصيادون الرّحل إلى الزراعة، حيث كان الاستقرار والعيش في مستوطنات، ولاحقاً في مدن مكتظة، سبباً في تسهيل نقل مسببات الأمراض بين البشر. وهنالك أدلة من المومياوات المصريّة القديمة عن تفشي الجدري، وشلل الأطفال وأيضاً الأمراض التي ينقلها البعوض كالملاريا في التجمعات الحضريّة المصريّة. وهذه الديناميّة تكررت مرات ومرات في التاريخ، ولذلك فـ«الأوروبيون المعاصرون لا يمكن أن يكونوا (أنقياء) وراثياً، ولا هم حتى السكان الأصليين للقارة». ويظهر التحليل الجيني الحديث أن السكان الذين بنوا حضارة ستونهنج في بريطانيا تم القضاء عليهم تماماً، وتم استبدالهم بموجات من المهاجرين.

يمكننا أن نكون أكثر ثقة بالطبع بشأن التأثيرات الجيوسياسية للمرض بمجرد دخولنا عصر التاريخ المكتوب. فيذكر كينيدي أن إلياذة هوميروس - أحد أقدم النصوص التاريخية التي تتوفر لدينا من العصر الإغريقي - تبدأ من لحظة انتشار الطاعون في المعسكر اليوناني خارج طروادة. واجتاح وباء التيفوس أو الجدري أثينا من عام 430 قبل الميلاد، ما قوض قدرة أثينا على القتال ضد الأسبارطيين، وكان له تأثير حاسم على مسار ونتائج الحرب البيلوبونيسية.

كانت روما القديمة مكاناً قذراً على الرغم من حماماتها العامة الشهيرة (حيث كان الآلاف يستخدمون نفس المياه) وعرفت ارتفاعاً في معدلات وفيات الأطفال. ويقول كينيدي: «أي شخص نجا حتى سن الرشد كان سيكتسب مناعة للعيش في روما، لكن الأشخاص الذين جاءوا من الخارج، بمن فيهم أولئك الذين قدموا لغزو المدينة، كانوا معرضين لخطر كبير»، وهذا ما قضى في النهاية على هينبعل وجيشه الذين أنهكتهم الملاريا المتوطنة في إيطاليا. وتعاقبت على عاصمة الإمبراطوريّة سلسلة من الأوبئة التي بدأت في عام 165 بعد الميلاد، ويبدو أنّها انتقلت عبر خطوط التجارة مع الأقاليم، فأضعفت الإمبراطورية الرومانية، وقلّصت قدرتها على التجنيد وأنهكت الاقتصاد، وساهمت إلى حد كبير في سقوطها نهاية المطاف.

وفي عام 541 قبل الميلاد، ضرب طاعون جستنيان فقتل نصف سكان العالم المعروف آنذاك واحتدم لعدة قرون. ويقترح كينيدي أن: «صعود الدين المسيحي يبدو منطقياً لأنه قدم طرقاً أكثر جاذبية للتعامل مع الحياة والموت مقارنة بالديانات الوثنية الرومانية خلال مرحلة الأوبئة المدمرة التي ضربت الإمبراطورية الرومانية في القرنين الثاني والثالث الميلاديين».

الوباء الأكثر فتكاً الذي تم تسجيله على الإطلاق كان الموت الأسود في القرن الرابع عشر، حيث حصد الطاعون أرواحاً تقدّر بمائة مليون نسمة - أي أكثر من 60 في المائة من مجموع سكان القارة الأوروبيّة - وتسبب في نيل العصور الوسطى لقب أزمنة الظلام، إذ انهارت الأعراف الاجتماعية، وجاع الناس، واندثرت المباني، ولوحق اليهود وذبحوا كسبب محتمل للعنة الإلهيّة التي جلبت المرض كعقاب. وقد تكررت جولات الطاعون عدة مرّات بعدها وضربت مراراً وتكراراً في جميع أنحاء أوروبا، فقتلت مثلاً نصف سكان نابولي وجنوة في عام 1656، وسمحت لاحقاً بصعود قبائل العثمانيين، الذين جعلتهم حياتهم البدوية أقل عرضة للخطر من أولئك الذين يعيشون في المدن المكتظة. وعن ذلك يقول كينيدي إنه «من دون الطاعون، لم يكن من المعقول أن يتمكن العثمانيون من فرض سيطرتهم بسرعة على مثل هذه المناطق الشاسعة». وفي بريطانيا الثورة الصناعية، انتشرت الكوليرا في الأحياء الفقيرة المزدحمة، مما أجبر الدّولة على تولي إدارة الصحة العامة. ويجادل بأن تدابير الحجر الصحي وتعميم استخدام المطهرات في تلك المرحلة يمكن أن ينظر إليهما على كونهما علامة فاصلة لبداية الدولة الحديثة التي امتد نفوذها على الحياة البشرية العادية تدريجياً بطرق غير مسبوقة. وفي الوقت نفسه، يزعم أن النقص في العمالة الزراعية الماهرة الناجم عن التكرار في تفشي الطاعون كان مفيداً في انهيار منظومة الإقطاع لصالح نظام للعمالة المرنة لدى مصانع الرأسماليين. في وقت لاحق، فإن قابلية الجنود الشماليين للإصابة بالملاريا خلال الحرب الأهلية الأميركية، «ربما أخرت النصر لأشهر أو حتى سنوات»، ما منح لينكولن الوقت الكافي للتوصل إلى فكرة إلغاء العبودية في 1862، وتجنيد العبيد السابقين في الجيش. وكتب لينكولن لاحقاً: «إن النظرة المجرّدة لخمسين ألفاً من الجنود السود المسلحين والمدربين على ضفاف نهر المسيسيبي ستُنهي التمرد في لحظة واحدة»، وبحلول نهاية عام 1863م، تضمن الجيش 20 فوجاً من السود الذين كان لهم دور حاسم في تحقيق الانتصار النهائي للولايات الشماليّة.

الوباء الكبير التالي بعد «كوفيد-19» سيكون من بكتيريات عصيّة على العلاج بسبب الإفراط في استخدام المضادات الحيوية

ينتهي كتاب كينيدي إلى استنتاجات مهمّة؛ إذ يرى أن الوباء الكبير التالي بعد «كوفيد-19» - الذي قتل سبعة ملايين شخص فقط - سيكون من بكتيريات عصيّة على العلاج بسبب الإفراط في استخدام البشر المضادات الحيوية. وهو يشير إلى أن التحسن الكبير في الصحة العامة لم يأت في التاريخ من «العلاجات» بقدر الاستثمار في أنظمة الصرف الصحي المناسب وتوفير ظروف معيشية أفضل للسكان، ولذا فإن أفضل أمل لنا هو معالجة الأسباب الجذرية لاعتلال الصحة اليوم، والتي ينبع معظمها - مثل السكن السيئ وسوء التغذية وظروف البيئات الملوثة - من الفقر. وكتب أن «الحد من التفاوتات الطبقية الصارخة سيكون بداية ممتازة للغاية لمواجهة الأوبئة المستقبلية».


مقالات ذات صلة

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «جدة تقرأ» عنوان معرض الكتاب 2024 (المركز الإعلامي)

الكتاب الورقي ينتصر على الأجهزة الرقمية في معرض جدة

في ظل التطور التقني والاعتماد المتزايد على الكتب الإلكترونية، حسم زوار معرض جدة للكتاب 2024 الجدل لصالح الكتاب الورقي

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق دور النشر شهدت إقبالاً كبيراً من الزوار من مختلف الأعمار (هيئة الأدب والنشر والترجمة)

«جدة للكتاب»... مزيج غني بالمعرفة والإبداع بأحدث الإصدارات الأدبية

يعايش الزائر لـ«معرض جدة للكتاب 2024» مزيجاً غنياً من المعرفة والإبداع يستكشف عبره أحدث الإصدارات الأدبية، ويشهد العديد من الندوات وورش العمل والجلسات الحوارية.

إبراهيم القرشي (جدة)

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر
TT

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث؛ لكنه يتوقف بشكل مفصَّل عند تجربة نابليون بونابرت في قيادة حملة عسكرية لاحتلال مصر، في إطار صراع فرنسا الأشمل مع إنجلترا، لبسط الهيمنة والنفوذ عبر العالم، قبل نحو قرنين.

ويروي المؤلف كيف وصل الأسطول الحربي لنابليون إلى شواطئ أبي قير بمدينة الإسكندرية، في الأول من يوليو (تموز) 1798، بعد أن أعطى تعليمات واضحة لجنوده بضرورة إظهار الاحترام للشعب المصري وعاداته ودينه.

فور وصول القائد الشهير طلب أن يحضر إليه القنصل الفرنسي أولاً ليستطلع أحوال البلاد قبل عملية الإنزال؛ لكن محمد كُريِّم حاكم الإسكندرية التي كانت ولاية عثمانية مستقلة عن مصر في ذلك الوقت، منع القنصل من الذهاب، ثم عاد وعدل عن رأيه والتقى القنصل الفرنسي بنابليون، ولكن كُريِّم اشترط أن يصاحب القنصل بعض أهل البلد.

تمت المقابلة بين القنصل ونابليون، وطلب الأول من الأخير سرعة إنزال الجنود والعتاد الفرنسي؛ لأن العثمانيين قد يحصنون المدينة، فتمت عملية الإنزال سريعاً، مما دعا محمد كُريِّم إلى الذهاب للوقوف على حقيقة الأمر، فاشتبك مع قوة استطلاع فرنسية، وتمكن من هزيمتها وقتل قائدها.

رغم هذا الانتصار الأولي، ظهر ضعف المماليك الذين كانوا الحكام الفعليين للبلاد حينما تمت عملية الإنزال كاملة للبلاد، كما ظهر ضعف تحصين مدينة الإسكندرية، فسقطت المدينة بسهولة في يد الفرنسيين. طلب نابليون من محمد كُريِّم تأييده ومساعدته في القضاء على المماليك، تحت دعوى أنه -أي نابليون- يريد الحفاظ على سلطة العثمانيين. ورغم تعاون كُريِّم في البداية، فإنه لم يستسلم فيما بعد، وواصل دعوة الأهالي للثورة، مما دفع نابليون إلى محاكمته وقتله رمياً بالرصاص في القاهرة، عقاباً له على هذا التمرد، وليجعله عبرة لأي مصري يفكر في ممانعة أو مقاومة نابليون وجيشه.

وهكذا، بين القسوة والانتقام من جانب، واللين والدهاء من جانب آخر، تراوحت السياسة التي اتبعها نابليون في مصر. كما ادعى أنه لا يعادي الدولة العثمانية، ويريد مساعدتهم للتخلص من المماليك، مع الحرص أيضاً على إظهار الاحترام ومراعاة مشاعر وكرامة المصريين؛ لكنه كان كلما اقتضت الضرورة لجأ إلى الترويع والعنف، أو ما يُسمَّى «إظهار العين الحمراء» بين حين وآخر، كلما لزم الأمر، وهو ما استمر بعد احتلال القاهرة لاحقاً.

ويذكر الكتاب أنه على هذه الخلفية، وجَّه نابليون الجنود إلى احترام سياسة عدم احتساء الخمر، كما هو معمول به في مصر، فاضطر الجنود عِوضاً عن ذلك لتدخين الحشيش الذي حصلوا عليه من بعض أهل البلد. ولكن بعد اكتشاف نابليون مخاطر تأثير الحشيش، قام بمنعه، وقرر أن ينتج بعض أفراد الجيش الفرنسي خموراً محلية الصنع، في ثكناتهم المنعزلة عن الأهالي، لإشباع رغبات الجنود.

وفي حادثة أخرى، وبعد أيام قليلة من نزول القوات الفرنسية إلى الإسكندرية، اكتشف القائد الفرنسي كليبر أن بعض الجنود يبيعون الملابس والسلع التي حملها الأسطول الفرنسي إلى السكان المحليين، وأن آخرين سلبوا بعض بيوت الأهالي؛ بل تورطت مجموعة ثالثة في جريمة قتل سيدة تركية وخادمتها بالإسكندرية، فعوقب كل الجنود المتورطين في هذه الجريمة الأخيرة، بالسجن ثلاثة أشهر فقط.

يكشف الكتاب كثيراً من الوقائع والجرائم التي ارتكبها جنود حملة نابليون بونابرت على مصر، ويفضح كذب شعاراته، وادعاءه الحرص على احترام ومراعاة مشاعر وكرامة المصريين.

لم تعجب هذه العقوبة نابليون، وأعاد المحاكمة، وتم إعدام الجنود المتورطين في هذه الحادثة بالقتل أمام بقية الجنود. وهكذا حاول نابليون فرض سياسة صارمة على جنوده، لعدم استفزاز السكان، وكان هذا جزءاً من خطته للتقرب من المصريين، وإرسال رسائل طمأنة إلى «الباب العالي» في الآستانة.

وكان من أول أعمال نابليون في الإسكندرية، وضع نظام حُكم جديد لها، استند إلى مجموعة من المبادئ، منها حرية الأهالي في ممارسة شعائرهم الدينية، ومنع الجنود الفرنسيين من دخول المساجد، فضلاً عن الحفاظ على نظام المحاكم الشرعية، وعدم تغييرها أو المساس بقوانينها الدينية، وكذلك تأليف مجلس بلدي يتكون من المشايخ والأعيان، وتفويض المجلس بالنظر في احتياجات السكان المحليين.

ورغم أن بعض بنود المرسوم تُعدُّ مغازلة صريحة لمشاعر السكان الدينية، فإن بنوداً أخرى تضمنت إجراءات شديدة القسوة، منها إلزام كل قرية تبعد ثلاث ساعات عن المواضع التي تمر بها القوات الفرنسية، بأن ترسل من أهلها رُسلاً لتأكيد الولاء والطاعة، كما أن كل قرية تنتفض ضد القوات الفرنسية تُحرق بالنار.

وفي مقابل عدم مساس الجنود الفرنسيين بالمشايخ والعلماء والقضاة والأئمة، أثناء تأديتهم لوظائفهم، ينبغي أن يشكر المصريون الله على أنه خلصهم من المماليك، وأن يرددوا في صلاة الجمعة دعاء: «أدام الله إجلال السلطان العثماني، أدام الله إجلال العسكر الفرنساوي، لعن الله المماليك، وأصلح حال الأمة المصرية».