كتاب بريطاني: الأمراض صنعت تاريخ البشرية

الجراثيم، لا الرجال العظماء، ولا الأديان

جوناثان كنيدي
جوناثان كنيدي
TT

كتاب بريطاني: الأمراض صنعت تاريخ البشرية

جوناثان كنيدي
جوناثان كنيدي

يستند كل سرد لتاريخ البشرية إلى موقف نظريّ آيديولوجيّ يحكم نظرة المؤرخ لتعاقب الأحداث وتقلبات الأزمنة: فمنهم من يراه تعاقباً لسير الرجال العظماء الذين تسيدوا أقوامهم ودفعوا بهم نحو المجد أو إلى الدّمار، فهذا تاريخ الإسكندر، وتلك أيّام بني عثمان وهكذا، ومنهم من اعتبر أن التاريخ هبة الأفكار، حلقاته تدفعها أساساً تحولات الاعتقاد الكبرى، فهذا تاريخ الطوطميّة، وتلك مرحلة المسيحيّة، وأننا نعيش اليوم عصر الليبرالية الرأسماليّة، فيما قرر آخرون أن تاريخ البشر يحدث على هامش التطور التكنولوجي ونظم الإنتاج المرتبطة بها من استخدام الأدوات الحجريّة إلى الزراعة، ومن استخلاص المعادن إلى الثورات الصناعية المتعاقبة التي غيّرت من الأقدار والأعمار. لكن جوناثان كنيدي، مدير برنامج الصحّة العامة في كليّة الطب بجامعة لندن، يرى أن كل هذه التصورات حول تشكّل التاريخ تغفل النظر إلى فاعل أساس تأتي الشخصيات والأفكار والتكنولوجيات بعده، وربما نتيجة له: الجراثيم والفيروسات، والتي عبر سلسلة من الأمراض والأوبئة صنعت فضاءات تبلور الحالة البشرية، وأدارت مسار تطورها عبر الأيام. فالأمراض المعدية منذ طاعون صور الذي بدأ منه هوميروس إلياذته إلى« كوفيد-19» في راهننا، ليست عنده مجرد حالات من الوهن البشري وسوء الحظ الفرديّ، بل هي جزء أساسي من هويتنا الإنسانية، وبالتالي من تاريخنا الجمعي بوصفنا بشراً.

غلاف الكتاب

يضمّن كيندي في كتابه الصادر حديثاً بالإنجليزية «الأمراض: كيف صنعت الجراثيم التاريخ؟ - 2023» رواية مغايرة للمعتاد حول مسارات التحضر البشري بداية من الإنسان الأوّل، وعبر آلاف السنين لإظهار كيف أن تفشي الأمراض المعدية قد قضى على ملايين الأرواح في المراحل المختلفة فدّمر حضارات بأكملها، وأعاد صياغة المجتمعات التي نجت، فيما توّلت موجات الهجرة الهائلة تغيير النوع العرقي لمنطقة ما بالكامل أو تحصينه، وذلك عندما جلبت قوافل القادمين معها أمراضها المعدية التي لم تعرفها مجموعات السكان الأصليين، ولم تطور أجسامهم مناعة ضدّها إلى حد ما، فقضت عليهم نهائياً، أو أنّ المهاجرين وجدوا أمراضاً لم تختبرها مناعتهم من قبل فمسحوا عن وجه الأرض التي هاجروا إليها، فكأنّهم لم يأتوا يوماً لولا بعضٌ من لقى ماديّة تركوها.

يجادل كينيدي بأن وجودنا ونجاحنا في البقاء كنوع قد حسمته بداية البكتيريا والفيروسات، فيما انقرضت جميع الأنواع الأخرى من البشر. ففي وقت سحيق، شارك الإنسان العاقل المبكر (الهوموسيبيان) الذي انطلق من أفريقيا الأرض (وتزاوج مع) إنسان نياندرتال الأوروبيّ الأقوى ذي العيون الزرقاء والأكبر دماغاً، بالإضافة إلى إنسان دينيسوفان الشبيه بالهوبيت (كما في الرّواية الشهيرة). فماذا حدث لهذه الأنواع الأخرى؟ بعض النظريات تقول إننا قتلناهم جميعاً، أو أنهم كانوا بطريقة ما أقل قدرة على التكيف مع تغيرات كبرى في المناخ. لكن كينيدي يستكشف احتمال أن يكون الإنسان العاقل المتجول من أفريقيا، الذي اكتسب مناعة قوية خلال الرحلات الطويلة، قد أصاب ببساطة إنسان نياندرتال بالفعل في أوروبا بمسببات أمراض جديدة لم تستطع أجسام أولئك المستقرين محاربتها، فانقرضوا تماماً كما قضى المستعمرون الأوروبيّون، بعد عشرات الآلاف من السنين، على سكان الأزتك بنقلهم مرض الجدري لمن نجا من الهلاك بالأسلحة.

وهو يرى أن نقلة نوعيّة لقدرة الأمراض المعدية على صياغة المجتمعات البشرية حدثت عندما تحوّل الصيادون الرّحل إلى الزراعة، حيث كان الاستقرار والعيش في مستوطنات، ولاحقاً في مدن مكتظة، سبباً في تسهيل نقل مسببات الأمراض بين البشر. وهنالك أدلة من المومياوات المصريّة القديمة عن تفشي الجدري، وشلل الأطفال وأيضاً الأمراض التي ينقلها البعوض كالملاريا في التجمعات الحضريّة المصريّة. وهذه الديناميّة تكررت مرات ومرات في التاريخ، ولذلك فـ«الأوروبيون المعاصرون لا يمكن أن يكونوا (أنقياء) وراثياً، ولا هم حتى السكان الأصليين للقارة». ويظهر التحليل الجيني الحديث أن السكان الذين بنوا حضارة ستونهنج في بريطانيا تم القضاء عليهم تماماً، وتم استبدالهم بموجات من المهاجرين.

يمكننا أن نكون أكثر ثقة بالطبع بشأن التأثيرات الجيوسياسية للمرض بمجرد دخولنا عصر التاريخ المكتوب. فيذكر كينيدي أن إلياذة هوميروس - أحد أقدم النصوص التاريخية التي تتوفر لدينا من العصر الإغريقي - تبدأ من لحظة انتشار الطاعون في المعسكر اليوناني خارج طروادة. واجتاح وباء التيفوس أو الجدري أثينا من عام 430 قبل الميلاد، ما قوض قدرة أثينا على القتال ضد الأسبارطيين، وكان له تأثير حاسم على مسار ونتائج الحرب البيلوبونيسية.

كانت روما القديمة مكاناً قذراً على الرغم من حماماتها العامة الشهيرة (حيث كان الآلاف يستخدمون نفس المياه) وعرفت ارتفاعاً في معدلات وفيات الأطفال. ويقول كينيدي: «أي شخص نجا حتى سن الرشد كان سيكتسب مناعة للعيش في روما، لكن الأشخاص الذين جاءوا من الخارج، بمن فيهم أولئك الذين قدموا لغزو المدينة، كانوا معرضين لخطر كبير»، وهذا ما قضى في النهاية على هينبعل وجيشه الذين أنهكتهم الملاريا المتوطنة في إيطاليا. وتعاقبت على عاصمة الإمبراطوريّة سلسلة من الأوبئة التي بدأت في عام 165 بعد الميلاد، ويبدو أنّها انتقلت عبر خطوط التجارة مع الأقاليم، فأضعفت الإمبراطورية الرومانية، وقلّصت قدرتها على التجنيد وأنهكت الاقتصاد، وساهمت إلى حد كبير في سقوطها نهاية المطاف.

وفي عام 541 قبل الميلاد، ضرب طاعون جستنيان فقتل نصف سكان العالم المعروف آنذاك واحتدم لعدة قرون. ويقترح كينيدي أن: «صعود الدين المسيحي يبدو منطقياً لأنه قدم طرقاً أكثر جاذبية للتعامل مع الحياة والموت مقارنة بالديانات الوثنية الرومانية خلال مرحلة الأوبئة المدمرة التي ضربت الإمبراطورية الرومانية في القرنين الثاني والثالث الميلاديين».

الوباء الأكثر فتكاً الذي تم تسجيله على الإطلاق كان الموت الأسود في القرن الرابع عشر، حيث حصد الطاعون أرواحاً تقدّر بمائة مليون نسمة - أي أكثر من 60 في المائة من مجموع سكان القارة الأوروبيّة - وتسبب في نيل العصور الوسطى لقب أزمنة الظلام، إذ انهارت الأعراف الاجتماعية، وجاع الناس، واندثرت المباني، ولوحق اليهود وذبحوا كسبب محتمل للعنة الإلهيّة التي جلبت المرض كعقاب. وقد تكررت جولات الطاعون عدة مرّات بعدها وضربت مراراً وتكراراً في جميع أنحاء أوروبا، فقتلت مثلاً نصف سكان نابولي وجنوة في عام 1656، وسمحت لاحقاً بصعود قبائل العثمانيين، الذين جعلتهم حياتهم البدوية أقل عرضة للخطر من أولئك الذين يعيشون في المدن المكتظة. وعن ذلك يقول كينيدي إنه «من دون الطاعون، لم يكن من المعقول أن يتمكن العثمانيون من فرض سيطرتهم بسرعة على مثل هذه المناطق الشاسعة». وفي بريطانيا الثورة الصناعية، انتشرت الكوليرا في الأحياء الفقيرة المزدحمة، مما أجبر الدّولة على تولي إدارة الصحة العامة. ويجادل بأن تدابير الحجر الصحي وتعميم استخدام المطهرات في تلك المرحلة يمكن أن ينظر إليهما على كونهما علامة فاصلة لبداية الدولة الحديثة التي امتد نفوذها على الحياة البشرية العادية تدريجياً بطرق غير مسبوقة. وفي الوقت نفسه، يزعم أن النقص في العمالة الزراعية الماهرة الناجم عن التكرار في تفشي الطاعون كان مفيداً في انهيار منظومة الإقطاع لصالح نظام للعمالة المرنة لدى مصانع الرأسماليين. في وقت لاحق، فإن قابلية الجنود الشماليين للإصابة بالملاريا خلال الحرب الأهلية الأميركية، «ربما أخرت النصر لأشهر أو حتى سنوات»، ما منح لينكولن الوقت الكافي للتوصل إلى فكرة إلغاء العبودية في 1862، وتجنيد العبيد السابقين في الجيش. وكتب لينكولن لاحقاً: «إن النظرة المجرّدة لخمسين ألفاً من الجنود السود المسلحين والمدربين على ضفاف نهر المسيسيبي ستُنهي التمرد في لحظة واحدة»، وبحلول نهاية عام 1863م، تضمن الجيش 20 فوجاً من السود الذين كان لهم دور حاسم في تحقيق الانتصار النهائي للولايات الشماليّة.

الوباء الكبير التالي بعد «كوفيد-19» سيكون من بكتيريات عصيّة على العلاج بسبب الإفراط في استخدام المضادات الحيوية

ينتهي كتاب كينيدي إلى استنتاجات مهمّة؛ إذ يرى أن الوباء الكبير التالي بعد «كوفيد-19» - الذي قتل سبعة ملايين شخص فقط - سيكون من بكتيريات عصيّة على العلاج بسبب الإفراط في استخدام البشر المضادات الحيوية. وهو يشير إلى أن التحسن الكبير في الصحة العامة لم يأت في التاريخ من «العلاجات» بقدر الاستثمار في أنظمة الصرف الصحي المناسب وتوفير ظروف معيشية أفضل للسكان، ولذا فإن أفضل أمل لنا هو معالجة الأسباب الجذرية لاعتلال الصحة اليوم، والتي ينبع معظمها - مثل السكن السيئ وسوء التغذية وظروف البيئات الملوثة - من الفقر. وكتب أن «الحد من التفاوتات الطبقية الصارخة سيكون بداية ممتازة للغاية لمواجهة الأوبئة المستقبلية».


مقالات ذات صلة

يوميات الشرق أكثر من مجرّد كتب (أ.ف.ب)

مكتبة الكونغرس الأكبر في العالم تكشف بعض كنوزها (صور)

تحتوي مكتبة الكونغرس الأميركية، وهي الأكبر في العالم، على ما هو أكثر من مجرّد كتب، إذ تضمّ ملايين القطع المتنوّعة البالغة الأهمية برمزيّتها.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
كتب العيشُ في عوالم متعدِّدة

العيشُ في عوالم متعدِّدة

كلٌّ منا له عالمه النوعي الخاص. العالم ليس كينونة سكونية نتعاملُ معها برؤية نسقية موحَّدة؛ بل هو نتاج تفاعل معقَّد بين أدمغتنا والمادة التي يتشكَّل منها العالم.

لطفية الدليمي
كتب شيماء الشريف أول سعودية وعربية تحصد «جائزة ابن عربي في أدب الخيال العلمي والفانتازيا» (الشرق الأوسط)

«أنصاف المجانين» أول رواية سعودية تفوز بجائزة «ابن عربي» للأدب المترجم

فازت الدكتورة شيماء الشريف بالجائزة الدولية للأدب العربي المترجم للإسبانية «ابن عربي» عن روايتها «أنصاف المجانين» التي تُرجمت إلى اللغة الإسبانية وحظيت بإشادة

أسماء الغابري (جدة)
كتب «سردية الطاعون»... الواقع والمتخيل الفني

«سردية الطاعون»... الواقع والمتخيل الفني

يطرح كتاب «الطاعون: الصورة والخيال من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة» بحثاً ثقافياً موسعاً في عالم هذا المرض الأكثر فتكاً في تاريخ البشرية

منى أبو النصر (القاهرة)

العيشُ في عوالم متعدِّدة

العيشُ في عوالم متعدِّدة
TT

العيشُ في عوالم متعدِّدة

العيشُ في عوالم متعدِّدة

 

كلٌّ منا له عالمه النوعي الخاص. العالم ليس كينونة سكونية نتعاملُ معها برؤية نسقية موحَّدة؛ بل هو نتاج تفاعل معقَّد بين أدمغتنا والمادة التي يتشكَّل منها العالم. أدمغتنا هي الأخرى ليست كتلة مادية ساكنة. إنها حصيلة التطوُّر المستدام لخبراتنا المستجدة التي نصنعها بجهدنا الذاتي وشغفنا المدفوع برغبة لتغيير العالم، أو -على الأقل- المساهمة في تشكيله.

العالم الفقير تقنياً الذي عاشهُ أسلافنا يتمايز –بالتأكيد- عن العالم المعقَّد تقنياً الذي نعيشه، والعالم الذي يعيشه أحد الأشخاص ممن عاشوا في قلب الغابات الأمازونية المطيرة، أو قريباً من تخوم القطب الشمالي، سيختلف حتماً عن ذاك الذي يعيشه شاب نيويوركي في قلب مانهاتن. كلٌّ منا له عالمه الخاص الذي تؤثر عناصر كثيرة في تشكيله، مثلما أن لنا دورنا الخاص -عندما نرغب- في المساهمة بقدر ما في صناعة العالم.

عاش برتراند رسل، الفيلسوف الإنجليزي الأشهر في القرن العشرين، ما يقارب القرن (من عام 1872 حتى عام 1970). بدأ حياته مع مشهد العربات التي تجرها الخيول، ثم تُوفِّي بعد سنة شهد فيها كيف وطأ الإنسان القمر، عبر صورة منقولة لحظياً بواسطة اتصالات فضائية متقدِّمة. من يعشْ طويلاً في بيئة لا تلبث تتغيَّر تقنياً بكيفية مستدامة، سيكون كمن عاش في عوالم متعدِّدة بدلاً من عالم واحد. ربما أراد رسل من كتابه «صورٌ من الذاكرة» (Portraits from Memory) الذي نشره بداية خمسينات القرن الماضي، الإشارة إلى هذه العوالم المتعددة بطريقة استعارية، بعد أن عاش نحو قرن من الزمان على الأرض. كلُّ صورة من صور الذاكرة التي كتب عنها رسل هي عالم كاملٌ يتمايز عن سواه.

ألبرت آينشتاين، الفيزيائي النظري مبتدعُ النظرية النسبية الخاصة والعامة، كتب هو أيضاً كتاباً عام 1934، سمَّاه «العالم كما أراه» (The World as I See It)، ولعلَّه أراد العالم المادي الذي تتعامل معه الفيزياء بمعادلاتها المثيرة. لم يعش آينشتاين عالماً واحداً؛ بل شهد انتقالات كثيرة في حياته: من ألمانيا القيصرية إلى ألمانيا النازية، ثم الانتقالة المثيرة إلى معهد الدراسات المتقدمة في جامعة برنستون الأميركية.

يبدو أنَّ مثل هذه الأفكار -أو ربما قريباً منها- قد طافت بذهن فاي- فاي لي، Fei-Fei Li، عالمة الحواسيب الأميركية صينية المولد، عندما اختارت لمذكراتها هذا العنوان: «العوالم التي أرى» (The Worlds I See). المذكرات منشورة في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2023، وهي مزيج محبب ومتوازن من سيرة شخصية ومهنية يتداخل فيها الكفاح الشاق لعائلة لي مع شغفها وفضولها العلمي، ورغبتها في وضع بصمتها المميزة والمفيدة في هذا العالم.

السيرة العلمية والتقنية للبروفسورة لي مميزة: ولدت عام 1976 في بلدة صينية فقيرة، ثم استطاعت بجهودها وجهود عائلتها أن تتبوَّأ مواقع مرموقة على الصعيدين الأكاديمي والصناعي. شغلت موقع أستاذة علم الحاسوب في جامعة ستانفورد الأميركية، وأسَّست مع بدايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين موقع البيانات المسمَّى «ImageNet» الذي ساهم في تحقيق تقدُّم سريع في حقل الرؤية الحاسوبية (Computer Vision). إلى جانب هذا عملت لي في مجلس مديري «تويتر»، وساهمت في تأسيس معهد ستانفورد للذكاء الاصطناعي المتمركز على البشر، كما شاركت في إدارة مختبر جامعة ستانفورد للرؤية والتعلُّم الحاسوبي.

يشتمل طيف اهتمامات الدكتورة لي على حقول متعددة: الذكاء الاصطناعي، وتعلُّم الآلة، والتعلُّم العميق، والرؤية الحاسوبية، وعلم الأعصاب الإدراكي (المعرفي).

تشارك لي في مذكراتها القارئ بحكاية الرحلة الملهمة لها، من طفولتها المتواضعة في الصين حتى آخر إنجازاتها المتفوقة في الحقل الأكاديمي وصناعة الذكاء الاصطناعي. تفتتح لي كتاب مذكراتها بسرد عن الساعات المشحونة بالقلق التي سبقت الإدلاء بشهادتها عام 2018، أمام لجنة الكونغرس الأميركي المختصة بشؤون العلم والفضاء والتقنية. كانت لي واحدة من أوائل المختصين الذين دعاهم الكونغرس للإدلاء بشهادتهم حول الذكاء الاصطناعي، وقد جاءت شهادتها بياناً مُعَقلناً حول آفاق تطور الذكاء الاصطناعي، كما كانت هذه الشهادة انطلاقة معقولة شرعت منها لي في سرد مذكراتها المثيرة.

في الفصول اللاحقة للمقدمة التمهيدية، تشرع لي في حكاية رحلتها، ابتداء من سنوات الطفولة وبواكير المراهقة في الصين، عندما أحبَّت الفيزياء وأرادتها أن تكون محور حياتها. عندما بلغت لي الخامسة عشرة سافرت برفقة أمها لتلتحق بأبيها في الولايات المتحدة الأميركية، وكان قد غادر قبل 3 سنوات. استقرَّت العائلة في نيوجيرسي، وعانت كثيراً من مشقات الهجرة المعروفة إلى عالم مختلف عمَّا عهدته العائلة في الصين. وكان اعتلال قلب الأم سبباً إضافياً في تراكم المشقات على الأب والابنة.

التقت لي في دراستها الثانوية بالسيِّد سابيلا، مدرس الرياضيات الذي سيصبح مرشدها وراعيها، ثم ستنعقد بينهما صداقة تستمر حتى اليوم. جاهد سابيلا في تخليص لي من آثار الصدمة الثقافية، وعزَّز الثقة في نفسها، كما عمل على حصولها على مقعد دراسي في جامعة برنستون النخبوية التي كانت مستقراً لبطلها السابق الذي أحبته دوماً، ورأت فيه مثالها الأعلى: ألبرت آينشتاين. اقتنعت لي بأنَّ آينشتاين كان مهاجراً مثلها في أميركا؛ فلِمَ لا تكون مثله؟

بعد أن حصلت لي على شهادتها الجامعية في الفيزياء من جامعة برنستون، غادرتها إلى معهد كاليفورنيا التقني «كالتك» (Caltech)؛ حيث حازت شهادتَي الماجستير والدكتوراه في الهندسة الكهربائية. ركَّزت بحثها في الدكتوراه على العلاقة بين العلم العصبي (Neuroscience) والرؤية الحاسوبية، وكان هذا خياراً غريباً ونادراً حينذاك؛ لكنها تفوقت فيه حتى صارت أحد أعمدته على مستوى العالم. تحكي لي عقب هذا ذكرياتها عن كتابة ورقتها البحثية الأولى، والظروف التي عاشتها عندما قدَّمت هذه الورقة في مؤتمر عالمي للرؤية الحاسوبية.

بموازاة هذا الاستذكار الشخصي، لا تنسى لي تذكير القارئ ببدايات الذكاء الاصطناعي في خمسينات وستينات القرن العشرين، وتأشير مواضع الانتصارات والانكفاءات في هذا الحقل البحثي الذي صار عنوان عصرنا الحالي. نجحت لي -كما أحسب- نجاحاً مبهراً في عرض حكايتها الشخصية في سياق التطوُّر التاريخي للحقل البحثي الذي تحكي عنه؛ لذا لا انفصال بين العالمين، وربما هذه هي الخصيصة المهمة لكلِّ من يبتغي المساهمة في دفع عجلة التقدم العلمي والتقني: ثمة دوماً اشتباكٌ بين الشأن الخاص والعام.

قلت سابقاً إنَّ صحَّة والدة لي المعتلَّة جعلت من حياتها في أميركا سلسلة زيارات للمستشفى، وقد شجَّعها هذا للبدء في تطوير أنظمة حاسوبية خاصة بالعناية الصحية الجماعية. شكَّلت لي، بمعية زملاء لها من الكلية الطبية الخاصة بجامعة ستانفورد، نظاماً حاسوبياً سمُّوه «Ambient Intelligence» قصدوا منه مساعدة الأطباء ومزوِّدي العناية الطبية في مهامهم اليومية. تصف الدكتورة لي هذا المشروع بأنَّه أكثر المشروعات تطلباً بين المشروعات التي عمل مختبرها الحاسوبي في جامعة ستانفورد على جعله حقيقة عملية فعالة.

تحكي لي في أحد فصول الكتاب عن عملها في شركة «غوغل». عام 2016 طلبت لي سنة تفرغ جامعية (Sabbatical) من ستانفورد، لتعمل عالمة قائدة لمشروع «غوغل» في الحوسبة السحابية (Google Cloud). كان هذا أول عمل تشرع فيه لي خارج نطاق الأكاديميا، ورأت فيه وسيلتها وفرصتها المتاحة للمساعدة في «دمقرطة» استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، وإتاحتها لأوسع جمهور ممكن من المستخدمين. كان الذكاء الاصطناعي حتى تلك السنة احتكاراً بحثياً نظرياً في أقسام علم الحاسوب الجامعية؛ لكن حصل عقب عام 2016 ميل عظيم من جانب عمالقة التقنية الرقمية («غوغل» و«مايكروسوفت» بالتحديد) لاستثمار ملايين الدولارات في البحوث وتطوير المنتجات الرقمية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، وهو ما شهدنا بوادره في سنوات لاحقة، مثل تطوير محركات البحث التي يديرها الذكاء الاصطناعي. صار الذكاء الاصطناعي منذ ذلك الحين ميزة (Privilege) نوعية، تتسابق لتوظيفها الشركات الكبرى.

مذكّرات لي تستحقُّ أن تلقى مقروئية واسعة لأسباب كثيرة... منها أنها تحكي لنا قصة الكفاح لخلق عالم جديد في بيئة تنافسية شرسة كالبيئة الأميركية

عقب انتهاء عملها في شركة «غوغل» عادت لي إلى قسم علم الحاسوب في جامعة ستانفورد عام 2018، ومنذ ذلك الحين تركَّز عملها على تطوير فكرة الذكاء الاصطناعي المتمركز على البشر (Human-centered AI).

تحكي لي في الفصول الختامية من مذكراتها، التطورات التي حصلت في حقل الذكاء الاصطناعي منذ تأسيسها برنامج «ImageNet» وحتى أيّامنا هذه التي شهدنا فيها التعامل الحاسوبي المباشر مع نماذج اللغة الواسعة (LLM) والذكاء الاصطناعي التكويني (Generative AI).

تنهي لي مذكراتها بالحديث عن توقعاتها لما يمكن أن تثمر عنه جهودها المستقبلية المكتنفة بطموح لا يهدأ، في السعي للإنجاز وتحقيق انعطافات تقنية مهمة.

أظنُّ أنَّ مذكَّرات لي تستحقُّ أن تلقى مقروئية واسعة لأسباب كثيرة، منها أنها تحكي لنا قصة الكفاح لخلق عالم جديد في بيئة تنافسية شرسة كالبيئة الأميركية، ثم إنها تقدِّمُ لمن يسعى لتحقيق انتقالة جدية علمية ومهنية في حياته، خريطة طريق مقترحة لتحقيق النجاح، في واحد من أكثر الحقول التقنية تسارعاً في العالم، وهو حقل الذكاء الاصطناعي الذي سيجعلنا نرى العالم بعيون جديدة كلَّ بضع سنوات، وربما كل بضعة أشهر في زمن قريب من اليوم.

العوالم التي أراها: الفضول والاستكشاف والاكتشاف في فجر الذكاء الاصطناعي

The Worlds I See: Curiosity, Exploration, and Discovery at the Dawn of AI

مؤلفة الكتاب: Fei-Fei Li

الناشر: Flatiron Books

عدد الصفحات: 324

تاريخ النشر: 2023