الذكاء الاصطناعي بحاجة إلى الفلاسفة

يحذرون من الإشكاليات الأخلاقية وتفويض القرار للآلة

دانيال أندلر
دانيال أندلر
TT

الذكاء الاصطناعي بحاجة إلى الفلاسفة

دانيال أندلر
دانيال أندلر

لمن يتساءل عن علاقة الفلسفة بالذكاء الاصطناعي، فلا بأس من التذكير بأن الذكاء هو أول المواضيع التي اهتم بها الفلاسفة، بدءاً بأرسطو وأفلاطون ومروراً ببرغسون، دون أن يتفقوا على تعريفه، ثم جاءت التكنولوجيا وأصبحت منذ قرن على الأقل ذات اهتمام واسع، ولذا فإن الجمع بين الاثنين هو محل نقاش فلسفي مزدوج أكثر من أي وقت مضى، ويتمحور الأمر أساساً حول «الأخلاقيات».

ما أفضل الطرق لاستخدام التكنولوجيا؟ للإجابة عن هذه الإشكاليات فإن جهود الفلاسفة ارتكزت على بُعدين مهمين أولهما البُعد الأبستمولوجي أو المعرفي: مثل التساؤل عن ماهية الذكاء الاصطناعي، وهل هو واع أو قادر فعلاً على محاكاة الفكر البشري؟ في هذا المجال يُعد عمل الفيلسوف الأمريكي هوبرت دروفيس من أهم المراجع. وعلى الرغم من أنه ناقش هذه القضية في أواخر السبعينات في كتاب: «ما لا تزال أجهزة الكومبيوتر غير قادرة على فعله» فإن نظرياته لا تزال صالحة في الوقت الراهن. الفيلسوف الأميركي وصل إلى خلاصة مفادها أن الذكاء الاصطناعي لا يستطيع محاكاة الفكر البشري؛ لأن الآلة لن تكون قادرة على القيام بالوظائف العليا التي يقوم بها البشر على نحو كامل، ما دام أن العنصر البشري هو من يقرر.

في نهاية المطاف، تركيزاً على دور «الجسد» في عملية التفكير، وبعيداً عن أفلام الخيال، حاول فلاسفة آخرون فك لغز «الوعي» عند الآلات الذكية. ديفيد تشالمرز أحد الفلاسفة الأكثر تأثيراً في الحقل البحثي الخاص بطبيعة الوعي، وبتفسيره الخاص لمفهوم الوعي، فاجأ الجميع حين أقر بأن نسبة احتمال ظهور ذكاء اصطناعي «واع» قد تصل إلى 20 في المائة في العشر سنوات المقبلة.

وفي كتاب «الذكاء الاصطناعي، الذكاء البشري، اللغز المزدوج» (دار نشر غاليمار)، الذي صدر في مايو (أيار)، اعترف الفيلسوف وباحث الرياضيات الفرنسي دانيال أندلر، وهو أحد أقطاب البحث في هذا المجال، بأنه كان أول المُرحبين بالذكاء الاصطناعي قبل أن يغير رأيه وبالأخص بسبب الإشكالية «الأخلاقية» وعدم التحكم التّام في «الوحش» الذي صنعناه كما يقول: «بخصوص (وعي الذكاء الاصطناعي) أي دليل نستطيع تقديمه لنبرهن على وجود (وعي) عند الآلة الذكية؟ ليس لدينا مفهوم واضح ومحدد للوعي». ثم يواصل «إذا كانت هناك حكمة من قصّة بلاك لوموان مهندس (غوغل) الذي طُرد من عمله بعد أن أقر بأن روبوت الدردشة (لمدا) يتمتع بوعي وإحساس، فهي أن الآلة الذكية تغير تصورنا للعلاقة بين الإنسان والآلة، وهي من اليوم فصاعداً قادرة على التلاعب بنا، ولذا فإن السؤال الأهم هو كيف نحمي أنفسنا من نفوذها ونفوذ المجموعات التجارية التي تقف وراءها...؟». وفي سياق آخر يهتم الفلاسفة بمناقشة التحديات الاجتماعية والإنسانية والحضارية التي تواجه مجتمعاتنا في المستقبل القريب، وهل يحل الذكاء الاصطناعي بديلاً عن العمل البشري أو يتكامل معه؟

ديفيد تشالمرز

في كتابه «وعظ الروبوتات» (دار نشر فلاماريون) يكتب الفيلسوف من جامعة مونتريال مارتان جيلبر أن دخول الذكاء الاصطناعي أصبح وشيكاً في حياتنا اليومية: من السيارات ذات القيادة الذاتية إلى الروبوتات العسكرية والمساعدين الافتراضيين للأطفال والمسنين كلها مدعوة لاتخاذ قرارات متعلقة بسلامتنا. ولذا فهو يوصي ببساطة بمرافقة التدريب العميق الذي يسمح للخوارزميات بتلقي عدد هائل من المعلومات إلى تدريب «آخر» انطلاقاً من أخلاق وتصرفات بشر «فاضلين» للحصول على «روبوتات متخلّقة». ويستشهد بـ«تاي»، وهي شخصية افتراضية لمراهقة أميركية أطلقتها «مايكروسوفت» عام 2016 لتعليمها تلقائيا حوارات تجريها مع الشباب والمراهقين على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن سرعان ما بدأت بنشر تغريدات عنصرية مؤيدة للنازيين بسبب ما تعلمته من مستخدمي «تويتر» حتى اضطرت «مايكروسوفت» إلى توقيفها. ومع ذلك يعترف الفيلسوف والباحث في جامعة مونتريال بأن «الذكاء الاصطناعي» يبقى علبة سوداء لا نتحكم دائماً في أسرارها ولا نفهم دائماً ردود أفعالها، مستشهداً بحادثة الطائرة التي يقودها الذكاء الاصطناعي والتي تمرّدت على مُشغلها إثر اختبار فقتلته. مثل هذه التصرفات لم يتم تدريب الآلة عليها، وهو الجانب الغامض المعروف باسم «هلوسات الذكاء الاصطناعي»، والتي تتضمن أيضاً الأخبار الزائفة والمعلومات الخاطئة. أما ألكسندر لاكروا مدير تحرير مجلة «فيلوسوفي» الفرنسية فقد وضع نقاط استفهام كثيرة حول «حرية الاختيار والقرار». وفي مقال بعنوان: «هل ستعرف السيارات القيادة بشكل جيد؟» نشر لاكروا مقالا في العدد الخاص بالذكاء الاصطناعي الذي أصدرته المجلة الفلسفية تحدث فيه عن «معضلة عربة الترام»، وهي واحدة من أكثر الإشكاليات مناقشة في الفلسفة الأخلاقية المعاصرة، وقد أعاد طرحها ليناقش مشاريع السيارات الذاتية القيادة التي يريد «غوغل» إطلاقها بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي. كتب لاكروا «إذا كنت سائقاً وعلى وشك الاصطدام لأنك فقدت التحكم في الفرامل وكان عليك أن تختار بين دهس فريق من 5 أشخاص أو شخص واحد فمن تختار؟ الغالبية الساحقة ستجيب الشخص الواحد طبعاً ولكن ماذا لو كان هذا الشخص طفلا؟ أو ابنك؟ أو شخصية محبوبة ككلياني مبابي أو من النساء الحوامل؟ والآن تخيل أن خوارزميات الذكاء الاصطناعي هي من ستتخذ القرار...» في النهاية خلص الفيلسوف الفرنسي إلى استنتاج أن الإنسان يلعب بالنار حين يفوض «حقه في الاختيار» إلى الآلة، فنحن نقرر تحت تأثير اعتبارات ثقافية، وإنسانية، ودينية تختلف من مجتمع لآخر بينما تخضع الآلة لتدريب مجموعات تجارية تحتكر هذه التكنولوجيا، ولا تمثل سوى مصالح ثقافة معينة في وقت معين.

السؤال الأهم هو كيف نحمي أنفسنا من نفوذ الآلة ونفوذ المجموعات التجارية التي تقف وراءها؟

دانيال أندلر

وإن بدت الهوة عميقة بين السباق المجنون الذي دخلته المجموعات التي تحتكر تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لأغراض ربحية ونقاش الفلاسفة الذي يتطلب التأمل والبحث، إلا أن عمالقة التكنولوجيا قد أدركوا بسرعة أهمية هذا الدور. «غوغل» مثلاً يستعين منذ فترة طويلة بالفلاسفة لتطوير أنظمته الذكية، جيمس مانيكا وهو نائب رئيس التكنولوجيا والمجتمع عند «غوغل» شرح في ندوة نظمت في مايو الماضي أن المجموعة تستعين بالفلاسفة «لتتأكد أن يبقى الذكاء الاصطناعي أخلاقياً ويتطور ليصبح جريئاً ومسؤولاً في الوقت نفسه». كما نقلت صحيفة «لي زيكو» الفرنسية خبراً عن المدير العام لـ«مايكروسوفت فرنسا»، الذي أعلن أن أكثر الوظائف المفتوحة في مجموعته في العشر السنوات المقبلة هي لحاملي شهادات في الفلسفة والرياضيات، الفلاسفة بصفة خاصة لأنهم، كما يقول الخبر، «خير من يدعو إلى طرح الأسئلة في بيئة لا تبحث إلا عن أجوبة جاهزة...». لكن الأمور لا تسير بسرعة حسب البعض لأن الذكاء الاصطناعي يتطور كل يوم بخطوات عملاقة. ليتيسيا بوليكونك مديرة مختبر الأفكار «أنبياس أيتيك» حثّت الشركات على تكثيف تعاونها مع الباحثين والفلاسفة، مؤكدة أنه إن لم نرافق تعميم الذكاء الاصطناعي بالتفكير في طبيعة الإنسان فإن المجتمع الإنساني سيغرق في انجرافات خطرة. وتقول بوليكون في حوار نشرته صحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «أمام مجيء الذكاء الاصطناعي ينقصنا الفلاسفة»: «في تقرير (دلفو) الذي قُدم للجنة الأوروبية في 2017 تمّ اقتراح قوانين مثالية وآيديولوجية مثل حماية حقوق الروبوتات أو تحديد شخصية قانونية لهم... كيف يعقل ذلك ولم نحدد بعد معنى الروبوت أو الآلة الذكية؟ هل يمكن عدّ الجوال أو جهاز التحكم مثلاً آلات ذكية؟ ومن المسؤول عن القرارات التي تتخذ؟ هل هي الشركة، المخترع، أم الآلة نفسها؟ مثل هذه النصوص ترتكز على تصور للإنسان والآلة بعيد كل البعد عن واقع، الأخطر من ذلك أن 90 في المائة من الخبراء الذين شاركوا في (دليل أخلاقيات المفوضية الأوروبية حول الذكاء الاصطناعي) هم من عالم التكنولوجيا والأعمال، المعالجة إذن لم تكن إنسانية، بل تجارية بحتة. من الضروري وضع الفلسفة وكذا علم النفس والاجتماع والتربية والسياسة والقانون في قلب النقاش حول الذكاء الاصطناعي».


مقالات ذات صلة

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

كتب لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام.

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «هيئة الكتاب» المصرية تنشر أعمال شكري عياد وشاكر عبد الحميد وعبد الحكيم راضي

«هيئة الكتاب» المصرية تنشر أعمال شكري عياد وشاكر عبد الحميد وعبد الحكيم راضي

تعاقدت «الهيئة المصرية العامة للكتاب» مع أسرة الناقد والأديب الراحل الدكتور شكري عيّاد؛ لإصدار وإتاحة مؤلفاته الكاملة ضمن خطط الهيئة لإحياء التراث النقدي العربي

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «لا مفاتيح هناك»... المدينة حين تتحول إلى مسرح عبثي

«لا مفاتيح هناك»... المدينة حين تتحول إلى مسرح عبثي

تتخذ رواية «لا مفاتيح هناك»، للروائي المصري أشرف الصباغ، من السخرية نهجاً لها، سخرية من الذات ومن العالم، ومن المدينة الكبيرة التي لا ترحم.

عمر شهريار

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية
TT

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام (1931- 1987) والذي يتناول التأثير اللافت لهذا المفكر النمساوي على الفلسفة المعاصرة.

وُلد فتجنشتاين في فيينا لأسرة صناعية ثرية ومثقفة، ثم اتجه إلى دراسة هندسة الطيران في مدينة «مانشستر» الإنجليزية، قبل أن يتخلى عن هذا الاتجاه ويتحول تماماً إلى المنطق والرياضيات في جامعة «كامبريدج» متأثراً بالمفكر البريطاني برتراند راسل الذي أشرف على دراسته للفلسفة. تطوع في جيش بلاده خلال الحرب العالمية الأولى وأمضى فترة معلماً في قرية نمساوية، ثم عاد لاحقاً إلى بريطانيا كأستاذ.

ويعد كتابه «رسالة فلسفية منطقية» أبرز مؤلفاته والذي نُشر لأول مرة عام 1921 ويذهب فيه إلى أن حدود اللغة هي حدود عالمنا، وما لا يمكن التعبير عنه بها يجب الصمت عنه، أما «تحقيقات فلسفية» فنشر بعد وفاته عام 1951 ويؤكد فيه على أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت، وهي الفكرة التي كان لها تأثير بالغ على مجلات أخرى كالأدب وعلم النفس.

ويشير المؤلف إلى أنه حصل على أطروحة الدكتوراه في فلسفة المفكر النمساوي لأن أفكاره كانت نقطة تحول حاسمة في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث ويرجع ذلك إلى أهمية المنهج الذي تبناه، وهو المنهج التحليلي المنطقي، يتناول عبارات اللغة التي نصوغ فيها الأسئلة والمشكلات الفلسفية، حيث أثبت أن معظم هذه المشكلات ليست بمشكلات حقيقية وأنها لم تنتج إلا عن سوء استخدام اللغة.

أصبح إسهام فتجنشتاين أشبه ما يكون بالثورة الهادئة على الفلسفة التقليدية، وذلك لأنها غيرت من مفهومها ومجالها ووظيفتها فأصبحت الفلسفة لديه عبارة عن تحليل للغة وانتقل مجال البحث فيها من البحث في الأشياء في ذاتها كالوجود من حيث هو موجود أو العلة أو المطلق أو الجوهر أو اللامتناهي أو العدم إلى البحث في العبارات والألفاظ التي يقولها الفلاسفة وتحليلها لبيان ما له معنى منها وما لا معنى له، أو لبيان الصحيح منها والخاطئ بناء على اتفاقها أو اختلافها مع قواعد الاستخدام العادي المنطقي. ومن ثم تغيرت مهمة الفلسفة فأصبحت تنصب على تحليل مشكلات الفلسفة بدلاً من إقامة أنساق فكرية أو ميتافيزيقية جديدة. وتأثر بأفكاره بشدة عموم التيار الفكري الوضعي التحليلي.

واعتمد المؤلف في دراسته لفلسفة فتجنشتاين على مؤلفاته نفسها فضلاً عن بعض محاضراته بالجامعة، وكذلك محاضراته الخاصة التي نشرت في الكتابين «الأزرق» و«البني»، وأيضاً ملاحظاته عن المنطق والرياضيات كما رجع كذلك إلى ما نشر من رسائله إلى براترند راسل، ولم يكن ذلك بالمهمة اليسيرة نظراً لصعوبة كتاباته وتعقيداتها حتى إن كثيرين من تلامذته والباحثين عموماً كانوا يصفونه بـ«الفيلسوف المتعب للغاية».

ولد لودفيغ يوهان فتجنشتاين في السادس والعشرين من أبريل (نيسان) 1889 وكان والده مهندساً مرموقاً يشغل منصباً قيادياً في صناعة الحديد والصلب بالنمسا، كما كان لأم فتجنشتين أثر بالغ في خلق الميل الفني القوي في الأسرة، فقد كانت هي وزوجها موسيقيين من الدرجة الأولى حتى لقد أصبح المنزل في وقت ما مركزاً لحياة موسيقية جميلة وخاصة حينما كان يتردد عليهم صديق الأسرة الحميم يوهان برامز، الموسيقار العالمي الشهير.

اهتم فتجنشتاين أثناء دراسته في «كامبريدج» بالفلسفة وبأسس الرياضيات الحديثة اهتماماً كبيراً كما استفاد من النشاط الفكري الضخم الذي كان موجوداً في الجامعة قبيل الحرب العالمية الأولى، إذ كان راسل في أوج تفكيره الفلسفي والمنطقي وأخرج هو وألفريد نورث هوايتهد كتابهما «مبادئ الرياضيات» الذي يعد أحد العلامات المميزة في تاريخ المنطق.

على الرغم من اكتساب فتجنشتاين في إنجلترا للجنسية الإنجليزية، فإنه لم يكن معجباً بأساليب الإنجليز في الحياة كما كان يكره الجو الأكاديمي في كامبريدج في ذلك الوقت وحينما انتهت مدة زمالته في كلية ترينتي عام 1930 فكر في زيارة الاتحاد السوفياتي وزاره بالفعل مع أحد أصدقائه. وحين توفي في 29 أبريل 1951 في منزل الطبيب الذي كان يعالجه في بريطانيا، كانت آخر عبارة قالها لزوجة الطبيب: «قولي لهم إنني قد عشت حياة رائعة».

مال إلى البساطة في كل شيء وكان ذلك واضحاً من ملابسه ومن أثاث حجراته في الجامعة، فلم يكن يتمسك في ملابسه بالطريقة التقليدية مثل الأساتذة بل كان يرتدي دائماً بنطلوناً خفيفاً وقميصاً مفتوح الصدر بلا رباط عنق. وتكشف طريقته في إلقاء محاضراته عن أكثر من جانب من جوانب شخصيته، مثل البساطة والجدية والإخلاص للعمل والحب الشديد للحق وأحياناً الخشونة والجفاء والقسوة.

يؤكد فتجنشتاين أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت

لم تكن محاضراته تأخذ الطابع التقليدي، وإنما كانت أشبه باجتماعات برغم إصراره على تسميتها بالمحاضرات. كان يتكلم بلغة إنجليزية وبلهجة الرجل الإنجليزي المثقف وكان صوته رناناً عالي النبرة، وإن لم يكن منفراً، ولم تكن الكلمات تخرج من فمه متدفقة، بل بعد جهد كبير. وجهه كان سريع الحركة بطريقة ملحوظة كما كان معبراً جداً أثناء الحديث وكانت عيناه عميقتين، وغالباً ما كانتا تحملان شيئاً من القسوة في التعبير.

لم تكن مؤلفات فتجنشتاين كثيرة متعددة حتى إنه لم ينشر في حياته إلا كتاباً واحداً هو «رسالة منطقية فلسفية» ومقالاً له بعنوان «بعض ملاحظات على الصورة المنطقية» وبقية ما نشر عدا ذلك كان كله بعد وفاته.

وأهم ما يلاحظ في كتاباته خلوها تماماً من كل زخرفة أدبية أو رطانة في الأسلوب، فنجدها بسيطة قوية تعتمد على خصوبة الخيال، وهو ما تأثر بها كثير من الأدباء لاحقاً. استخدم التحليل كمنهج في الفلسفة لا كغاية، فهو لا يستهدف التحليل لمجرد تقسيم العالم إلى مجموعة من الوقائع أو رد اللغة إلى عدة قضايا أو رد المعنى إلى طريقة استخدامنا للألفاظ، إنما هو يستخدمه لكي يوصله إلى غاية أبعد من ذلك، وهي توضيح المشكلات الفلسفية التي إذا ما وضع معظمها تحت مجهر التحليل زال عنها كل غموض، واتضح أنها مشكلات زائفة أو أنها ليست بمشكلات أصلاً، على حد تعبيره.

وقد عبر عن هذا المعنى تعبيراً دقيقاً بقوله: «إن معظم القضايا والأسئلة التي كُتبت عن أمور فلسفية ليست كاذبة، بل هي خالية من المعنى، فلسنا نستطيع إذن أن نجيب عن أسئلة من هذا القبيل، وكل ما يسعنا هو أن نقرر عنها أنها خالية من المعنى، فمعظم الأسئلة والقضايا التي يقولها الفلاسفة إنما تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا، فهي أسئلة من نوع السؤال الذي يبحث فيما إذا كان الخير هو نفسه الشيء الجميل على وجه التقريب، وإذن فلا عجب إذا عرفنا أن أعمق المشكلات ليست في حقيقتها مشكلات على الإطلاق».


«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية
TT

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل في حياة ومسيرة عدد من المبدعين والمفكرين والفنانين المؤثرين في مجالاتهم، مستخدماً الصورة القلمية في رسم ملامحهم الثقافية والشخصية، مازجاً المعلومة بالتأويل، ومطوفاً حول عدد من الرموز الثقافية منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهايات القرن العشرين، في مجالات معرفية مختلفة، كنوع من التحية لهم ولمنجزهم وتراثهم، الذي يمثل زاداً ثقافياً مهماً لمن جاء بعدهم من أجيال لاحقة، حتى لو اختلفوا مع تلك المنجزات.

الكتاب الصادر في القاهرة عن «دار المعارف» يبتعد فيه مؤلفه عن الكتابة الأكاديمية والنقدية التي يتوقعها القارئ من ناقد وأكاديمي، مفضلاً أن يقدم أسلافه عبر لغة رشيقة ومكثفة، لا تخلو من التقدير والإعجاب والتأثر بهؤلاء الرموز، لكن دون تقديس، يقول في المقدمة: «لم يتحمس الكتاب للشخصيات وإن لم ينكر محبتها، ولم يرتد ثوب الدفاع عنها، وإن اعترف بوجود مثالب فيها، وتعامل مع العيوب والنقائص بوصفها جزءاً من طبيعتها البشرية، وركز على أبعاد الإنجاز لديها، واعتبرها مكمن التميز وسط أمواج من العاديين»، فقد حاول الجابري رسم صور لشخصيات احتلت في قلوب الأجيال وعقولها مكانة رائقة، لاستكشاف مفتاح كل شخصية.

يقدم الكتاب بورتريهات عن 16 شخصية ثقافية شهيرة، هم: أمينة السعيد، مي زيادة، جمال الدين الأفغاني، رجاء النقاش، سهير القلماوي، عبد الحميد جودة السحار، عبد الرحمن شكري، لطيفة الزيات، أحمد أمين، يحيى حقي، محمد عبده، جورجي زيدان، أسامة أنور عكاشة، سعد الله ونوس، ميخائيل نعيمة، وعاطف الطيب.

يبدأ الكتاب ببورتريه عن الصحافية المصرية الرائدة، والناشطة النسوية، أمينة السعيد، التي كانت ضمن أول دفعة جامعية تضم فتيات، والتي ترأست دار الهلال العريقة، فكانت أول امرأة تترأس مؤسسة صحافية، وتولت رئاسة تحرير مجلة «حواء»، كما كانت وكيلة نقابة الصحافيين في سابقة لا تتكرر كثيراً. وبعيداً عن الصحافة، كتبت القصة القصيرة، وكانت في أعمالها الأدبية تركز على المثالب الاجتماعية ونقد المجتمع ومشكلاته ومناقشة عاداته المتجمدة وعيوبه الداخلية. ويركز المؤلف على علاقتها بأبيها الذي أصر على أن تكمل دراستها الجامعية ولا تتزوج قبل إنهائها، وكان هذا وعدها له، ثم علاقته بزوجها بعد ذلك، ويرى الجابري أنه بسبب هذه العوامل «لا تجد عند أمينة السعيد نزق النسويين الجدد، أو كراهية مخبوءة للرجل دون داع».

وينتقل الكتاب إلى مي زيادة، وأثرها في الحياة الثقافية العربية، رغم محاولة حبسها في الرسائل المتبادلة بينها وبين العديد من المثقفين، ويرى المؤلف أن مي «لم يجن عليها شيء مثل انفتاحها على الآخرين فتعددت صورها، حتى لم يبق إلا ظلال لا تعكس شيئاً قاطعاً، فمي التي رسمها العقاد تختلف عن التي رسمها شبلي شميل، عن صورتها لدى الأب أنستاس الكرملي، عنها لدى الرافعي وطه حسين وسلامة موسى ولطفي السيد وولي الدين يكن وأنطون الجميل وغيرهم. لقد اقتربوا جميعاً منها، وكل منهم رآها من وجهة نظره هو، فظن أن روايته هي الزاوية الفاصلة الحقيقية الوحيدة، حتى كأن الإنسانة ليس لها وجود، وإنما هناك وجود لظلالها، وانعكاسات لرسمها، وأشكال لسطورها على الورق».

ويبدأ بورتريه جمال الدين الأفغاني بمشهد شديد الجدة، وهو مشهد أحفاده وهم يتعلقون بالطائرة الأميركية هرباً مما يخشون منه في بلادهم، ورغبة في الهرب منها فوق طائرة المستعمر، في حين كان جدهم الأفغاني يحمل على عاتقه طوال مسيرته مناهضة الاستعمار، وانتقل بين مصر والهند وعدة دول أخرى منادياً بالتحرر من الاستعمار، ويعرج المؤلف على جهوده في الصحافة والفكر والتجديد، وعلاقته بتلاميذه مثل الإمام محمد عبده وغيره، وكراهية الحكام له، وطرده من أكثر من بلد، لأنه كان مصدر خطر لكثير منهم، ويرتابون في وجوده في بلادهم.

ينتقل الكتاب بعد ذلك للناقد والصحافي المصري رجاء النقاش، المعروف عنه أنه كان مكتشف الأصوات الإبداعية الجديدة، فقد كتب عن الطيب صالح ومحمود درويش في بداياتهما، وكانت كتابته النقدية نموذجاً للتوسط بين الأكاديمية الجافة والتغطية الصحافية السريعة، وكتب عن الشعر والقصة والرواية والمسرح، وقد ترأس مجلتي الهلال والكواكب في مصر، و«الراية» و«الدوحة» في قطر، وتنقل بين صحف ومجلات روزاليوسف والأخبار، وأحيا الصحافة الثقافية بعد ركودها لفترة.

وفي بورتريه عن الأكاديمية والناقدة سهير القلماوي، يرصد الجابري مواطن رياداتها المتعددة وقتالها على جبهات لا تنتهي، فقد كانت أول فتاة تحصل على الماجستير تحت إشراف طه حسين في جامعة القاهرة، فكانت تلميذته النجيبة، وسافرت إلى فرنسا لإعداد رسالتها للدكتوراه عن «ألف ليلة وليلة»، وقد كافحت للاعتراف بالأدب الشعبي إلى جوار الآداب الرسمية، كما كانت أول أستاذة في جامعة القاهرة وأول امرأة تتولى رئاسة قسم اللغة العربية، وأول رئيسة للهيئة العامة للكتاب، وهي التي أطلقت معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1969، كما كانت لها الريادة في أدب الأطفال، والكتابة فيه، والمطالبة بالاهتمام به، فضلاً عن حضورها الثقافي خارج جدران الجامعة، ومحاولة مواكبة أحدث المناهج النقدية التي كانت جديدة آنذاك.

ويرسم الكتاب صورة للكاتبة والمترجمة والمناضلة اليسارية الدكتورة لطيفة الزيات، التي «جسدت حياتها مرحلة من الجهد النسائي، حتى شكلت حضوراً طاغياً لوجوهها المتعددة؛ مناضلة سياسية أو مترجمة أو أستاذة جامعية أو مبدعة سرد من عيار فريد»، ويتوقف عند أهمية عدد من أعمالها الأدبية والسيرية مثل «الباب المفتوح» و«الشيخوخة» و«حملة تفتيش» و«أوراق شخصية» و«صاحبة البيت» و«الرجل الذي عرف تهمته»، وكذلك عند منهجها في النقد.

وعن يحيى حقي، الموظف ذي الأصول التركية والهوى الصعيدي، يقول إنه خرج من تجربة عمله في وزارة الخارجية برؤية أكثر اتساعاً، فزار تركيا وإيطاليا وفرنسا والسعودية، بما أتاح بعداً إنسانياً واضحاً لتجربته، تجاور فيها الغربي مع غيره من التأثيرات، هذا الخليط الذي جمع المتفرقات، فتعلم التركية والألمانية والإيطالية، مضيفاً إلى الموروث المصريٍ نظيره العربي، الذي يحل بالقوة داخل الوعي المصري وظواهره، وكلك أثر الثقافة العربية على سواها.

وتتوالى البورتريهات التي تحاول التقاط ما هو جوهري في كل شخصية من التي يتناولها الكتاب، بعناوين تحاول تلخيص روح كل شخصية، مثل «عبد الحميد جودة السحار... حتمية التقاء السينما بالأدب»، و«عبد الرحمن شكري... الرائد المنسي والمنسحب النبيل»، و«أحمد أمين يسدد الكثير من ديون التراث»، و«الإمام محمد عبده الإصلاحي الذي رحل سريعاً»، و«جورجي زيدان أو الناهض للتحيزات»، و«أسامة أنور عكاشة... سيناريست بدرجة مناضل»، و«سعد الله ونوس... أمواج مسرحية وموسيقار كبير»، و«ميخائيل نعيمة والتمرد على النمط»، و«عاطف الطيب... العزف بالكاميرا».


صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر
TT

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض، عن الغياب والبحث عن الحكايات التي تقال، وتلك التي تظل مدفونة في الحجر والجسد والخرائط القديمة، عبر سرد يمتزج فيه التاريخ بالأسطورة، والسياسة بالروح، والقرية بالميناء، في نسيج سردي نابض بالحياة، ويلامس أسئلة الإنسان الكبرى: عن العدالة والخلاص والمعنى.

في مصر أثناء القرن التاسع عشر، بين انتشار الطاعون، والصراع الخفي بين الإمبراطوريات، يصل الطبيب الإنجليزي كامبل إلى الإسكندرية، باحثاً عن رائحة الأرض الحقيقية، وحقيقة نفسه الممزقة بين الحنين والخسارة، إذ تلاحقه ذكرى ابنته «ليزا» التي اختفت مع أمها، ويقوده قدره إلى أعماق مجتمع مكلوم، تتشابك فيه خرافات الخلاص مع يقين العلم، وتلتبس فيه المعجزة بالداء. وفي قلب هذا العالم، يقف الروزنامجي، كاتب الضرائب الذي يعرف كيف تباع القرى وتوزع الأحلام، ليسجل بأمانة زائفة تقسيم البلاد والعباد.

الرواية حافلة بالشخصيات مختلفة المرجعيات الثقافية والاجتماعية والعرقية والدينية، بما يجعلها ساحة للحوار والجدل الثقافي والسياسي، خصوصاً في لحظات سياسية مأزومة، ووباء يطارد الجميع، فضلاً عن الأزمات الشخصية والوجودية لكل منهم، وتساؤلاته الروحية العميقة، وتتوزع الأحداث على خمسة فصول رئيسة، كل منها له عنوان، وهي: كامبل الإنجليزي، حياة النفوس، دلال الحبشية، المتصاحبون، الروزنامجي. وعلى مدار هذ الفصول يتنامى الصراع على السلطة والوجود والأفكار والمكتسبات، بل على الحياة، إذ تفتتح الرواية أحداثها على الوباء وانتشاره، واحتجاز الناس في محجر صحي انتظاراً للموت الذي يفتك بهم، دون العثور على دواء مناسب يعطي بعضاً من الأمل، وفي ظل هذه الأجواء يتصارع الوعي الخرافي والعقل العلمي.

يذكر أن هشام البواردي روائي مصري، من مواليد 1977 بمحافظة المنصورة، شمال القاهرة، وحاصل على بكالوريوس الصيدلة من جامعة الأزهر عام 2000، وحصل على المركز الأول في مسابقة إحسان عبد القدوس الأدبية عن روايته «الحياة عند عتبات الموت»، كما وصلت روايته «الرجل النملة» للقائمة القصيرة لجائزة ساويرس الأدبية عام 2017.

من أجواء الرواية: «تحولت الأمتعة والملابس إلى كتلة من رماد أسود، يعبث به الهواء ويطير، أمرهم كامبل ألا يدخلوا الدير مرة أخرى، وألا يقربوه، وألا يقيموا حتى صلواتهم على عتباته، وأن يتفرقوا في الأرض لو أحبوا. فزعوا من طلبه، وجُنُّوا حين طالبهم بإحضار الجير والتحاريق حتى يطهر الدير. فتح حقيبته وبحث عن قلم، عن دهان، عن لون يرسم به العلامة النكدة على بابه، وأخبرهم أن المكان موبوء، ويجب فعل هذا حفاظاً على الإنسان والحياة. اندفع الرهبان، جميعهم، ناحية كامبل، وحملوه، وقذفوا به بعيداً عن باب الدير. وتسلح كل واحد منهم بكل ما استطاع من أسلحة للاعتداء عليه لو نهاهم، وقالوا في نفس واحد: من أنت حتى تحظر بيت الرب وتمنع الخراف من دخوله؟! لم تقدر على فعل شيء للخادم أيها العاجز، فلتفعل شيئاً يُذهب الطاعون، لو تقدر».