هل يمكن التنبؤ علميّاً بانهيار المجتمعات؟

بيتر تورشين يريد تغيير طريقة قراءة التاريخ

بيتر توشين يقدم كتابه الجديد
بيتر توشين يقدم كتابه الجديد
TT

هل يمكن التنبؤ علميّاً بانهيار المجتمعات؟

بيتر توشين يقدم كتابه الجديد
بيتر توشين يقدم كتابه الجديد

مذ عرفت البشريّة ظاهرة المجتمعات المعقدة في مدن ودول وإمبراطوريّات، كان دائماً ثمة من يتوقع انهيارها، بناء على معطيات وتصورات متفاوتة: دينيّة، واجتماعيّة، وأخلاقيّة، وبيئية. ويبدو أن هذه الصناعة التي طالما وجدت جمهوراً متعطشاً لشراء منتجاتها، ارتبطت في كل وقت بالمناخ الفكري الذي نشأت فيه. وهي لذلك اكتسبت منذ الثّورة الصناعيّة نوعاً من المنهجيّة العلميّة التي نقلتها من إطار التأمل الفلسفي في تقلبات الزمن وتعاقب الدّول -كما عند ابن خلدون وهيغل- إلى نطاق تحليل الظواهر الماديّة المعقدة، كما عند ماركس وإنجلز.

على أن حجم المعطيات والقرائن التي أمكن لهؤلاء المنظرين الاستناد إليها لصياغة تصوراتهم حول تعاقب حالات الأمل والفشل للمجتمعات البشريّة، بقيت محدودة بالطبع، بحكم القِصَر المحزن للأعمار البشرية، وندرة المعلومات الإحصائيّة التي يمكن بناء استنتاجات على أساسها، ما أبقى كل تنبؤ حول اتجاهات المجتمعات مفتقداً لشرعيّة علميّة حاسمة، وغير بعيد كثيراً عن تخرّصات عرّافي العصور الوسطى.

والتساؤل الآن: هل سيكون العرّافون المعاصرون -بحكم التطور المذهل في أدوات جمع وتحليل المعلومات مع ظهور الكومبيوترات الحديثة وطفرة الذكاء الاصطناعي في العقود الأخيرة- أقدر على رصد القوانين التي قد تحكم تتابع الأحداث التاريخيّة، وبالتالي تقديم تنبؤات أكثر واقعيّة ومصداقية بشأن مآلات التجمعات البشريّة، ومنح متخذي القرار أدوات للتفكير بكيفيّة تجنّب الانحطاط والسقوط في الفوضى؟

هل تحل البيانات الكبيرة المعضلة؟

بيتر تورشين، البروفسور الأميركي (من أصل روسيّ) المتخصص في علم التعقيد يرجح ذلك، وهو يزعم أن تفوق عصرنا في القدرة على الاستفادة من قواعد البيانات الضخمة سيمكننا من إعادة النظر بكل طريقة كتابتنا وقراءتنا للتاريخ برمته، وبالتالي اكتشاف الأنماط المتكررة التي يمكن الاستناد إليها للتنبؤ بحالات عدم الاستقرار والأزمات المجتمعيّة الحادة دون انحيازات آيديولوجية، وربما بناء توافق بين الفئات المعنيّة من نخب المجتمعات السياسية والاقتصادية والثقافيّة، لاتخاذ إجراءات احترازيّة قد تمنع وقوع الكوارث.

وأثار تورشين ضجة صغيرة خارج الأوساط الأكاديميّة، عندما تنبأ -في مساهمة له مع آخرين ضمن ملف أعدته مجلة «نيتشر» العلميّة المرموقة عام 2010- بوقوع اضطرابات اجتماعيّة كبيرة في الولايات المتحدة، بدءاً من بداية العقد الثاني للقرن الحادي والعشرين، قد تؤدي -إذا لم تتعامل النخبة الأميركيّة مع مسبباتها- إلى انهيار الدّولة الأميركيّة كما نعرفها، وربما انقسامها إلى ثلاث كتل مستقلة. وكتب حينها يقول: «عندما تعاني أمّة ما، مثل الولايات المتحدة، من ركود أو انخفاض الأجور، واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، والإفراط في إنتاج الخريجين الشباب الحاصلين على درجات علمية متقدمة، وتراجع ثقة الجمهور، وانفجار الدّين العام، فإن هذه المؤشرات الاجتماعية التي تبدو متباينة، تترابط في الواقع بعضها ببعض ديناميكياً».

يُطلق تورشين وفريق عمله على نهجهم المعتمد للوصول إلى مثل هذه الاستنتاجات «الديناميات التاريخيّة»، وهم يعتقدون أنهم من خلال بناء قواعد ضخمة للبيانات حول مختلف جوانب الحياة على هذا الكوكب، يمكنهم اكتشاف أنماط تتكرر عبر تاريخ البشرية كدورات متتابعة من النهوض والتفكك، وصعود الإمبراطوريّات والدّول ومن ثم انهيارها، وبالتالي إكساب توقعاتنا بشأن المستقبل نوعاً من البنية العلميّة التي قد تسمح بتغيير الحتميات وتحويل اتجاهاتها.

أتى تورشين (مواليد 1957) إلى التاريخ من علم الأحياء الذي بدأ في دراسته في جامعة موسكو، قبل طرد عائلته من الاتحاد السوفياتي، ليستكملها لاحقاً بجامعة نيويورك؛ حيث تخصص في دراسة ديناميات مجتمعات الحشرات والفراشات والفئران والغزلان، وحصل تالياً على الدكتوراه في استخدام النماذج الإحصائية لفحص شبكات العلاقات بين الحيوانات المفترسة وفرائسها، من جامعة ديوك في عام 1985. وبعد سنوات قليلة من تخرجه، أحسّ بأن الأسئلة المثيرة للاهتمام بشأن تعقيد المجتمعات الحيوانية قد أجيب عنها، بينما بقيـت معلّقة عندما يتعلّق الأمر بتعقيد المجتمعات البشريّة، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.

نبوءة اضطرابات أميركا

وهكذا، عندما بدأت الإضرابات في الولايات المتحدة في أجواء «كوفيد-19» وغضب المجتمعات السوداء بعد مقتل جورج فلويد على يد الشرطة الأميركيّة، تم النظر إلى تورشين كنبيّ، وأصبح كثير من الناس يأخذون منهجيته على محمل الجدّ، بينما اعتبره آخرون -لا سيما في أوساط المؤرخين التقليديين- أقرب إلى دجّال يسعى إلى التكسّب من مداعبة مخاوف البشر المتأصلة من القيامات الآتية.

يقود تورشين الآن في معهد علوم التعقيد بفيينا (النمسا) عشرات العلماء من تخصصات متنوعة، كالأنثروبولوجيا، والآثار، وعلوم الحاسوب، والإحصاء، إضافة إلى المؤرخين، لبناء أكبر قاعدة من نوعها في العالم للبيانات حول ازدهار وزوال المجتمعات والدّول، من العراق ومصر العصور القديمة، إلى أوضاع الغرب في وقتنا الراهن. وأطلق على هذه القاعدة اسم «سيشات» وهو لقب إلهة الأرشيف عند قدماء المصريين. كما نشر سلسلة من الكتب التي تشرح أفكاره، مثل «الديناميات التاريخيّة: لماذا تصعد الدّول وتنحط– 2018»، و«الحرب والسلام والحرب– 2006»، و«عصور الفتنة– 2016»، وآخرها «نهاية الأزمنة: النخب والنخب المضادة ومسار التفكك السياسي– 2023»، والتي جادل فيها بأن الرياضيات المعقدة لا يمكنها أن تمدنا بأدوات تفسّر الانعطافات التاريخية فحسب؛ بل وقد تساعدنا على تأجيلها أو تجنبها.

ورغم أن التيار الأعرض قد يستصعب إمكان اختصار التاريخ البشري، بكل تعقيده من أزمات وثورات وحروب، في سلسلة من المعادلات الرياضيّة، فإن أفكار تورشين –وزملائه– تكتسب مزيداً من الشّرعية والقبول، مع التوسع المطّرد في حجم قاعدة بياناته، وتضاعف قدرة الحواسيب على إدارة المعلومات، واستخلاص المعطيات الأساسيّة منها.

نظرية أولية ومشروع قيد التطوير

يعترف تورشين بأن مشروعه ما زال قيد الإنجاز، وليس جاهزاً بعد لإطلاق تحليلات دقيقة؛ لكن ما تمّ جمعه إلى الآن مكّنه -وفريقه- من وضع نظريّة أوليّة حول بعض الاتجاهات الدوريّة في صعود المجتمعات المعقدّة وتفككها. فهو يزعم مثلاً بأن اجتماع أربعة عوامل -يمكن نمذجتها رياضيّاً- يجعل من احتمال حدوث انهيار اجتماعي كبير أمراً مرجحاً: التفاوت المتزايد بسرعة في الثروة والأجور، والإفراط في إنتاج النخب من أبناء الأسر الحاكمة الغنية، والخريجين الحاصلين على شهادات عليا، ووفرة المعلقين الاجتماعيين المحبطين، والنمو غير المنضبط في الدّين العام.

وهذه العوامل كما يبدو ليست بالأسرار الخفيّة، وإنما هي على مرأى ومسمع من الجميع، ولذلك فإن تلاقي النخب للتعامل معها وتجنب الانهيار ليس مستحيلاً، أقله على المستوى النظريّ. لكن بحوثه تشير أيضاً إلى انقسام النخب مع صعود المجتمعات إلى مكونات أربعة: عسكريّة، وماليّة، وبيروقراطيّة، وآيديولوجيّة، تتنافس فيما بينها على حجم محدود من الامتيازات والمكانة وبشكل دائم. ومع تصاعد عوامل عدم الاستقرار الأخرى يهتز التوازن الهش لهذه المكونات النخبويّة، وتنشأ بينها سلسلة صراعات على شكل حروب أهليّة أو ثقافيّة، تقود المجتمع للانهيار. أي أن قصر نظر مكونات النخب قد يمنعها من التفاهم على صيغ تعيد التوازن الاجتماعي إلى حد أدنى.

المجتمعات البشرية المعقدة بحاجة إلى النخب كي تتمكن من الازدهار والتقدّم

يجادل تورشين بأن تطبيق هذه المبادئ العامّة بطريقة «موضوعية» عبر جمع البيانات، يسمح بكشف نيات التاريخ، من خلال دمج كافة المعطيات ذات التأثير: ديموغرافية، واقتصادية، واجتماعية، وثقافية، وآيديولوجية، وبالتالي أن يكون مدخلاً معرفياً مهماً لصناع القرار في التعامل مع التهديدات الوجوديّة.

فهل يدعو تورشين بشكل ما إلى الإطاحة بالنخب وقيام دولة للعمال على الصيغة الشيوعيّة؟ للحقيقة، هو لا ينكر استفادته من الأفكار الماركسيّة إلى جانب مدارس أخرى في الفلسفة السياسية والتاريخ؛ لكنه يرى أن المجتمعات البشرية المعقدة بحاجة إلى النخب -الحكام والإداريين وقادة الفكر ورجال الأعمال– كي تتمكن من الازدهار والتقدّم، ولذلك فالتخلّص منهم لا يحقق «اليوتوبيا» الموعودة، والحل الأنجع ربما يكون في تقييدها للعمل لصالح المجتمع كله. أما كيف يمكن تحقيق ذلك، فإن «سيشات» لا تتوفر حتى الآن على معلومات كافية لتعطينا أي استنتاجات محددة، ما يجنّب تورشين -ولو مؤقتاً-غضب المتنفذين عليه.


مقالات ذات صلة

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «جدة تقرأ» عنوان معرض الكتاب 2024 (المركز الإعلامي)

الكتاب الورقي ينتصر على الأجهزة الرقمية في معرض جدة

في ظل التطور التقني والاعتماد المتزايد على الكتب الإلكترونية، حسم زوار معرض جدة للكتاب 2024 الجدل لصالح الكتاب الورقي

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق دور النشر شهدت إقبالاً كبيراً من الزوار من مختلف الأعمار (هيئة الأدب والنشر والترجمة)

«جدة للكتاب»... مزيج غني بالمعرفة والإبداع بأحدث الإصدارات الأدبية

يعايش الزائر لـ«معرض جدة للكتاب 2024» مزيجاً غنياً من المعرفة والإبداع يستكشف عبره أحدث الإصدارات الأدبية، ويشهد العديد من الندوات وورش العمل والجلسات الحوارية.

إبراهيم القرشي (جدة)

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية
TT

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام، ولفت الانتباه؛ لأن رواية المانجا «أنستان» أو «الغريزة» لصاحبها المؤثر أنس بن عزوز، الملقب بـ«إنوكس تاغ» باعت أكثر من 82 ألف نسخة خلال 4 أيام. وهو إنجاز كبير؛ لأن القصّة الموجهة إلى جمهور من القرّاء الشباب قد خطفت المرتبة الأولى في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً من «الحوريات»، الرواية الفائزة بجائزة «الغونكور» لهذه السنة.

ولمن يستغرب هذا الرواج أو اهتمام دور النشر بالكُتاب المبتدئين من صنّاع المحتوى، فإن الظاهرة ليست بالجديدة؛ حيث إن كثيراً من المكتبات والمواقع أصبحت تخصّص رفوفاً كاملة لهذه النوعية من الكتب، كسلسلة «#فولوي مي» التابعة لدار «أشيت»، والتي تضم أعمالاً للمؤثرين تتوزع بين السّير الذاتية والقصص المصوّرة والتنمية البشرية والأسفار، وحتى الطبخ.

في فرنسا، أول تجربة من هذا القبيل كانت عام 2015، بكتاب «إنجوي ماري»، وهو السيرة الذاتية للمؤثرة ماري لوبيز المعروفة بـ«إنجوي فنيكس» (6 ملايين متابع على إنستغرام). وإن كان البعض لا يستوعب أن تكتب فتاة في سن العشرين سيرتها الذاتية، فقد يستغرب أيضاً النجاح التجاري الكبير الذي حصل عليه هذا الكتاب؛ حيث باع أكثر من 250 ألف نسخة، رغم الهجوم الشديد على الأسلوب الكتابي الرديء، حتى لقَّبتها مجلة «لي زنكوريبتبل» الثقافية متهكمة بـ«غوستاف فلوبير الجديد». شدّة النقد لم تمنع زملاءها في المهنة من خوض التجربة نفسها بنجاح؛ المؤثرة ناتو (5 ملايين متابع على يوتيوب) نشرت مع مؤسسة «روبرت لافون» العريقة رواية «أيقونة»، قدمت فيها صورة ساخرة عن عالم المجلات النسوية، وباعت أكثر من 225 ألف نسخة. وتُعدُّ دار نشر «روبرت لافون» بالذات الأكثر تعاوناً مع صناع المحتوى؛ حيث نشرت لكثير منهم.

في هذا السياق، الأكثر نجاحاً حتى اليوم كان كتاب التنمية البشرية «الأكثر دائماً+» لصاحبته لينا محفوف، الملقبة بـ«لينا ستواسيون» (5 ملايين متابع على إنستغرام) وباع أكثر من 400 ألف نسخة.

مجلة «لي زيكو» الفرنسية، تحدثت في موضوع بعنوان «صناع المحتوى؛ الدجاجة التي تبيض ذهباً لدور نشر» عن ظاهرة «عالمية» من خلال تطرقها للتجارب الناجحة لمؤثرين من أوروبا وأميركا، حملوا محتواهم إلى قطاع النشر، فكُلّلت أعمالهم بالنجاح في معظم الحالات. المجلة استشهدت بالتجربة الأولى التي فتحت الطريق في بريطانيا، وكانت بين دار نشر «بانغوين بوكس» والمؤثرة زوي سوغ (9 ملايين متابع على إنستغرام) والتي أثمرت عن روايتها الناجحة «فتاة على الإنترنت» أو «غور أون لاين»؛ حيث شهدت أقوى انطلاقة في المكتبات البريطانية بـ80 ألف نسخة في ظرف أسبوع، متفوقة على سلسلة «هاري بوتر» و«دافنشي كود».

المجلة نقلت بهذه المناسبة حكاية طريفة، مفادها أن توم ويلدون، مدير دار النشر، كان قد تعاقد مع المؤثرة بنصيحة من ابنته البالغة من العمر 12 سنة، والتي كانت متابعة وفيّة لها.

ومما لا شك فيه هو أن اهتمام دور النشر بأعمال المؤثرين يبقى مدفوعاً بالأرباح المادية المتوقعة، وهو ما أكده موضوع بمجلة «لوبوان» بعنوان «المؤثرون آلة لصنع النجاحات التجارية في قطاع النشر». كشف الموضوع عن أن تحويل المحتوى السمعي البصري لصناع المحتوى إلى الكتابي، أصبح بمثابة الورقة الرابحة للناشرين، أولاً لأنه يوفر عليهم عناء الترويج الذي تتكفل به مجتمعات المشتركين والمتابعين، وكل وسائل التواصل التابعة للمؤثرين، والتي تقوم بالعمل بدل الناشر، وهو ما قد يقلّل من خطر الفشل؛ بل قد يضمن الرواج الشعبي للعمل. ثم إنها الورقة التي قد تسمح لهم في الوقت نفسه بالوصول إلى فئات عمرية لم تكن في متناولهم من قبل: فجمهور المراهقين -كما يشرح ستيفان كارير، مدير دار نشر «آن كاريير» في مجلة «ليفر إيبدو»: «لم يكن يوماً أقرب إلى القراءة مما هو عليه اليوم. لقد نشرنا في السابق سِيَراً ذاتية لشخصيات من كل الفضاءات، الفرق هذه المرة هو أن المؤثرين صنعوا شهرتهم بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، ولهم جمهور جاهز ونشيط، وإذا كانت هذه الشخصيات سبباً في تقريب الشباب إلى القراءة، فلمَ لا نشجعهم؟».

شريبر: الكتاب بعيد كل البعد عن مستوى «الغونكور» وبأن كاتبته لم تقرأ في حياتها كتاباً باستثناء الكتاب الذي كتبته

هذه المعطيات الجديدة جعلت الأوضاع تنقلب رأس على عقب، فبينما يسعى الكتاب المبتدئون إلى طرق كل الأبواب أملاً في العثور على ناشر، تأتي دور نشر بنفسها إلى صناع المحتوى، باسطة أمامهم السّجاد الأحمر.

وإن كان اهتمام دور النشر بصنّاع المحتوى لاعتبارات مادية مفهوماً -بما أنها مؤسسات يجب أن تضمن استمراريتها في قطاع النشر- فإن مسألة المصداقية الأدبية تبقى مطروحة بشدّة.

بيار سوفران شريبر، مدير مؤسسة «ليامون» التي أصدرت مذكرات المؤثرة الفرنسية جسيكا تيفنو (6 ملايين متابع على إنستغرام) بجزأيها الأول والثاني، رفض الإفصاح عن كم مبيعات الكتاب، مكتفياً بوصفه بالكبير والكبير جداً؛ لكنه اعترف في الوقت نفسه بلهجة ساخرة بأن الكتاب بعيد كل البعد عن مستوى «الغونكور» وبأن كاتبته لم تقرأ في حياتها كتاباً باستثناء الكتاب الذي كتبته؛ لكنها لم تدَّعِ يوماً أنها تكتب بأسلوب راقٍ، وكل ما كانت تريده هو نقل تجاربها الشخصية إلى الجمهور ليأخذ منها العبَر.

الناقد الأدبي والصحافي فريديك بيغ بيدر، كان أكثر قسوة في انتقاده لكتاب المؤثرة لينا ستواسيون، في عمود بصحيفة «الفيغارو» تحت عنوان: «السيرة الذاتية لمجهولة معروفة»؛ حيث وصف العمل بـ«المقرف» و«الديماغوجية»، مضيفاً: «بين الأنا والفراغ اختارت لينا ستواسيون الخيار الثاني». كما وصف الكاتبة الشابة بـ«بالجاهلة التي تعترف بجهلها»، منهياً العمود بالعبارة التالية: «147 صفحة ليس فيها سوى الفراغ، خسرتُ 19 يورو في لا شيء».

أما الناشر بيار سوفران شريبر، فقد قال في مداخلة لصحيفة «لوبوان»: «اتهمونا بنشر ثقافة الرداءة؛ لكن هذه النوعية من الكتب هي هنا لتلتقي بقرائها. إنهما عالمان بعيدان استطعنا تقريبهما بشيء سحري اسمه الكتاب. فلا داعي للازدراء».