هل يمكن التنبؤ علميّاً بانهيار المجتمعات؟

بيتر تورشين يريد تغيير طريقة قراءة التاريخ

بيتر توشين يقدم كتابه الجديد
بيتر توشين يقدم كتابه الجديد
TT

هل يمكن التنبؤ علميّاً بانهيار المجتمعات؟

بيتر توشين يقدم كتابه الجديد
بيتر توشين يقدم كتابه الجديد

مذ عرفت البشريّة ظاهرة المجتمعات المعقدة في مدن ودول وإمبراطوريّات، كان دائماً ثمة من يتوقع انهيارها، بناء على معطيات وتصورات متفاوتة: دينيّة، واجتماعيّة، وأخلاقيّة، وبيئية. ويبدو أن هذه الصناعة التي طالما وجدت جمهوراً متعطشاً لشراء منتجاتها، ارتبطت في كل وقت بالمناخ الفكري الذي نشأت فيه. وهي لذلك اكتسبت منذ الثّورة الصناعيّة نوعاً من المنهجيّة العلميّة التي نقلتها من إطار التأمل الفلسفي في تقلبات الزمن وتعاقب الدّول -كما عند ابن خلدون وهيغل- إلى نطاق تحليل الظواهر الماديّة المعقدة، كما عند ماركس وإنجلز.

على أن حجم المعطيات والقرائن التي أمكن لهؤلاء المنظرين الاستناد إليها لصياغة تصوراتهم حول تعاقب حالات الأمل والفشل للمجتمعات البشريّة، بقيت محدودة بالطبع، بحكم القِصَر المحزن للأعمار البشرية، وندرة المعلومات الإحصائيّة التي يمكن بناء استنتاجات على أساسها، ما أبقى كل تنبؤ حول اتجاهات المجتمعات مفتقداً لشرعيّة علميّة حاسمة، وغير بعيد كثيراً عن تخرّصات عرّافي العصور الوسطى.

والتساؤل الآن: هل سيكون العرّافون المعاصرون -بحكم التطور المذهل في أدوات جمع وتحليل المعلومات مع ظهور الكومبيوترات الحديثة وطفرة الذكاء الاصطناعي في العقود الأخيرة- أقدر على رصد القوانين التي قد تحكم تتابع الأحداث التاريخيّة، وبالتالي تقديم تنبؤات أكثر واقعيّة ومصداقية بشأن مآلات التجمعات البشريّة، ومنح متخذي القرار أدوات للتفكير بكيفيّة تجنّب الانحطاط والسقوط في الفوضى؟

هل تحل البيانات الكبيرة المعضلة؟

بيتر تورشين، البروفسور الأميركي (من أصل روسيّ) المتخصص في علم التعقيد يرجح ذلك، وهو يزعم أن تفوق عصرنا في القدرة على الاستفادة من قواعد البيانات الضخمة سيمكننا من إعادة النظر بكل طريقة كتابتنا وقراءتنا للتاريخ برمته، وبالتالي اكتشاف الأنماط المتكررة التي يمكن الاستناد إليها للتنبؤ بحالات عدم الاستقرار والأزمات المجتمعيّة الحادة دون انحيازات آيديولوجية، وربما بناء توافق بين الفئات المعنيّة من نخب المجتمعات السياسية والاقتصادية والثقافيّة، لاتخاذ إجراءات احترازيّة قد تمنع وقوع الكوارث.

وأثار تورشين ضجة صغيرة خارج الأوساط الأكاديميّة، عندما تنبأ -في مساهمة له مع آخرين ضمن ملف أعدته مجلة «نيتشر» العلميّة المرموقة عام 2010- بوقوع اضطرابات اجتماعيّة كبيرة في الولايات المتحدة، بدءاً من بداية العقد الثاني للقرن الحادي والعشرين، قد تؤدي -إذا لم تتعامل النخبة الأميركيّة مع مسبباتها- إلى انهيار الدّولة الأميركيّة كما نعرفها، وربما انقسامها إلى ثلاث كتل مستقلة. وكتب حينها يقول: «عندما تعاني أمّة ما، مثل الولايات المتحدة، من ركود أو انخفاض الأجور، واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، والإفراط في إنتاج الخريجين الشباب الحاصلين على درجات علمية متقدمة، وتراجع ثقة الجمهور، وانفجار الدّين العام، فإن هذه المؤشرات الاجتماعية التي تبدو متباينة، تترابط في الواقع بعضها ببعض ديناميكياً».

يُطلق تورشين وفريق عمله على نهجهم المعتمد للوصول إلى مثل هذه الاستنتاجات «الديناميات التاريخيّة»، وهم يعتقدون أنهم من خلال بناء قواعد ضخمة للبيانات حول مختلف جوانب الحياة على هذا الكوكب، يمكنهم اكتشاف أنماط تتكرر عبر تاريخ البشرية كدورات متتابعة من النهوض والتفكك، وصعود الإمبراطوريّات والدّول ومن ثم انهيارها، وبالتالي إكساب توقعاتنا بشأن المستقبل نوعاً من البنية العلميّة التي قد تسمح بتغيير الحتميات وتحويل اتجاهاتها.

أتى تورشين (مواليد 1957) إلى التاريخ من علم الأحياء الذي بدأ في دراسته في جامعة موسكو، قبل طرد عائلته من الاتحاد السوفياتي، ليستكملها لاحقاً بجامعة نيويورك؛ حيث تخصص في دراسة ديناميات مجتمعات الحشرات والفراشات والفئران والغزلان، وحصل تالياً على الدكتوراه في استخدام النماذج الإحصائية لفحص شبكات العلاقات بين الحيوانات المفترسة وفرائسها، من جامعة ديوك في عام 1985. وبعد سنوات قليلة من تخرجه، أحسّ بأن الأسئلة المثيرة للاهتمام بشأن تعقيد المجتمعات الحيوانية قد أجيب عنها، بينما بقيـت معلّقة عندما يتعلّق الأمر بتعقيد المجتمعات البشريّة، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.

نبوءة اضطرابات أميركا

وهكذا، عندما بدأت الإضرابات في الولايات المتحدة في أجواء «كوفيد-19» وغضب المجتمعات السوداء بعد مقتل جورج فلويد على يد الشرطة الأميركيّة، تم النظر إلى تورشين كنبيّ، وأصبح كثير من الناس يأخذون منهجيته على محمل الجدّ، بينما اعتبره آخرون -لا سيما في أوساط المؤرخين التقليديين- أقرب إلى دجّال يسعى إلى التكسّب من مداعبة مخاوف البشر المتأصلة من القيامات الآتية.

يقود تورشين الآن في معهد علوم التعقيد بفيينا (النمسا) عشرات العلماء من تخصصات متنوعة، كالأنثروبولوجيا، والآثار، وعلوم الحاسوب، والإحصاء، إضافة إلى المؤرخين، لبناء أكبر قاعدة من نوعها في العالم للبيانات حول ازدهار وزوال المجتمعات والدّول، من العراق ومصر العصور القديمة، إلى أوضاع الغرب في وقتنا الراهن. وأطلق على هذه القاعدة اسم «سيشات» وهو لقب إلهة الأرشيف عند قدماء المصريين. كما نشر سلسلة من الكتب التي تشرح أفكاره، مثل «الديناميات التاريخيّة: لماذا تصعد الدّول وتنحط– 2018»، و«الحرب والسلام والحرب– 2006»، و«عصور الفتنة– 2016»، وآخرها «نهاية الأزمنة: النخب والنخب المضادة ومسار التفكك السياسي– 2023»، والتي جادل فيها بأن الرياضيات المعقدة لا يمكنها أن تمدنا بأدوات تفسّر الانعطافات التاريخية فحسب؛ بل وقد تساعدنا على تأجيلها أو تجنبها.

ورغم أن التيار الأعرض قد يستصعب إمكان اختصار التاريخ البشري، بكل تعقيده من أزمات وثورات وحروب، في سلسلة من المعادلات الرياضيّة، فإن أفكار تورشين –وزملائه– تكتسب مزيداً من الشّرعية والقبول، مع التوسع المطّرد في حجم قاعدة بياناته، وتضاعف قدرة الحواسيب على إدارة المعلومات، واستخلاص المعطيات الأساسيّة منها.

نظرية أولية ومشروع قيد التطوير

يعترف تورشين بأن مشروعه ما زال قيد الإنجاز، وليس جاهزاً بعد لإطلاق تحليلات دقيقة؛ لكن ما تمّ جمعه إلى الآن مكّنه -وفريقه- من وضع نظريّة أوليّة حول بعض الاتجاهات الدوريّة في صعود المجتمعات المعقدّة وتفككها. فهو يزعم مثلاً بأن اجتماع أربعة عوامل -يمكن نمذجتها رياضيّاً- يجعل من احتمال حدوث انهيار اجتماعي كبير أمراً مرجحاً: التفاوت المتزايد بسرعة في الثروة والأجور، والإفراط في إنتاج النخب من أبناء الأسر الحاكمة الغنية، والخريجين الحاصلين على شهادات عليا، ووفرة المعلقين الاجتماعيين المحبطين، والنمو غير المنضبط في الدّين العام.

وهذه العوامل كما يبدو ليست بالأسرار الخفيّة، وإنما هي على مرأى ومسمع من الجميع، ولذلك فإن تلاقي النخب للتعامل معها وتجنب الانهيار ليس مستحيلاً، أقله على المستوى النظريّ. لكن بحوثه تشير أيضاً إلى انقسام النخب مع صعود المجتمعات إلى مكونات أربعة: عسكريّة، وماليّة، وبيروقراطيّة، وآيديولوجيّة، تتنافس فيما بينها على حجم محدود من الامتيازات والمكانة وبشكل دائم. ومع تصاعد عوامل عدم الاستقرار الأخرى يهتز التوازن الهش لهذه المكونات النخبويّة، وتنشأ بينها سلسلة صراعات على شكل حروب أهليّة أو ثقافيّة، تقود المجتمع للانهيار. أي أن قصر نظر مكونات النخب قد يمنعها من التفاهم على صيغ تعيد التوازن الاجتماعي إلى حد أدنى.

المجتمعات البشرية المعقدة بحاجة إلى النخب كي تتمكن من الازدهار والتقدّم

يجادل تورشين بأن تطبيق هذه المبادئ العامّة بطريقة «موضوعية» عبر جمع البيانات، يسمح بكشف نيات التاريخ، من خلال دمج كافة المعطيات ذات التأثير: ديموغرافية، واقتصادية، واجتماعية، وثقافية، وآيديولوجية، وبالتالي أن يكون مدخلاً معرفياً مهماً لصناع القرار في التعامل مع التهديدات الوجوديّة.

فهل يدعو تورشين بشكل ما إلى الإطاحة بالنخب وقيام دولة للعمال على الصيغة الشيوعيّة؟ للحقيقة، هو لا ينكر استفادته من الأفكار الماركسيّة إلى جانب مدارس أخرى في الفلسفة السياسية والتاريخ؛ لكنه يرى أن المجتمعات البشرية المعقدة بحاجة إلى النخب -الحكام والإداريين وقادة الفكر ورجال الأعمال– كي تتمكن من الازدهار والتقدّم، ولذلك فالتخلّص منهم لا يحقق «اليوتوبيا» الموعودة، والحل الأنجع ربما يكون في تقييدها للعمل لصالح المجتمع كله. أما كيف يمكن تحقيق ذلك، فإن «سيشات» لا تتوفر حتى الآن على معلومات كافية لتعطينا أي استنتاجات محددة، ما يجنّب تورشين -ولو مؤقتاً-غضب المتنفذين عليه.


مقالات ذات صلة

فارس يواكيم يُعرّب «عيون إلزا» ويقرأ مقاصد العاشق لويس أراغون

ثقافة وفنون أراغون وإلزا

فارس يواكيم يُعرّب «عيون إلزا» ويقرأ مقاصد العاشق لويس أراغون

أول ما يتبادر إلى الذهن عندما تقع عيناك على كتاب معرّب، وله سابق ترجمة، هو: ما جدوى الجهد المبذول لمرة جديدة؟

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون «جيل 68» العراقي الذي لم يكتمل ضياعه حتى اليوم

«جيل 68» العراقي الذي لم يكتمل ضياعه حتى اليوم

ربما تأخر صدور روية فاضل خضير «الضحايا» (دار سطور، بغداد) كثيراً إلا أنّ كتابتها تعدُّ درساً خاصاً في مراجعة القطوعات التاريخية في العراق الحديث

محمد خضير
كتب إعادة اختراع علم الاقتصاد

إعادة اختراع علم الاقتصاد

قدّم كارل ماركس، في أهم أعماله المنشورة «رأس المال – 1867» أفضل نموذج نظري نمتلكه اليوم لفهم ديناميكية عمل النظام الرأسمالي

ندى حطيط
كتب عبد الواحد المشيخص يروي معارك الجراحين لإنقاذ مرضاهم

عبد الواحد المشيخص يروي معارك الجراحين لإنقاذ مرضاهم

«خلال السنوات التطبيقية بالمستشفى؛ كطالب للطب في كلية الجراحين الملكية الآيرلندية بدبلن، لم أكن أحب الجراحين، كنت أعتبرهم مخلوقات متعجرفة

ميرزا الخويلدي (الدمام)
كتب «الانقراض السادس»... أزمة فقدان التنوع الأحيائي في العالم

«الانقراض السادس»... أزمة فقدان التنوع الأحيائي في العالم

«الانقراض السادس بدأ في قريتي» عمل جديد للصحافي البيئي خالد سليمان، وقد صدر بطبعة إلكترونية ضمن مشروع عنوانه «الصحافة البيئية في العراق»

«الشرق الأوسط» (بغداد)

عبد الواحد المشيخص يروي معارك الجراحين لإنقاذ مرضاهم

عبد الواحد المشيخص يروي معارك الجراحين لإنقاذ مرضاهم
TT

عبد الواحد المشيخص يروي معارك الجراحين لإنقاذ مرضاهم

عبد الواحد المشيخص يروي معارك الجراحين لإنقاذ مرضاهم

«خلال السنوات التطبيقية بالمستشفى؛ كطالب للطب في كلية الجراحين الملكية الآيرلندية بدبلن، لم أكن أحب الجراحين، كنت أعتبرهم مخلوقات متعجرفة، متكبرة ومغرورة، مزهوة بنفسها تعتقد أنها قادمة من الفضاء الخارجي، مزاجهم لا يمكن التنبؤ به، فقلما ارتسمت على شفاههم ابتسامة، وإذا ما ابتسموا ضحكوا ساخرين ومتهكمين...».

بهذه الكلمات يبدأ الجراح السعودي الدكتور عبد الواحد نصر المشيخص، استشاري الجراحة العامة والمناظير الجراحية، سرد تجربته عبر 35 عاماً في كتاب «مذكرات جراح».

يحمل الدكتور المشيخص زمالة كلية الجراحين الملكية البريطانية، وزمالة كلية الجراحين الأميركية، وعمل سابقاً رئيساً للأقسام الجراحية بمستشفى الدمام المركزي، كما عمل أيضاً رئيساً لقسم الجراحة بمستشفى الملك فهد التخصصي بالدمام.

في بداية مشواره الطبي، كان يتوجس من الأطباء الجراحين، يصفهم في كتابه بأنهم على خلاف أطباء الباطنية الذين «قلما تنتابهم نوبات غضب عارم كتلك التي تنتاب الجراحين، غضب الجراح لا يطفئه سوى تقزيم وتحقير من هو أمامهم».

بعد تخرجه عمل سنة الامتياز في أحد مستشفيات غرب أسكوتلندا. وهناك، كما في بقية أرجاء المملكة المتحدة، لا بد لطبيب الامتياز أن يعمل ستة أشهر متتالية في قسم الجراحة العامة، وستة أخرى في قسم الباطنة قبل أن يصبح ممارساً مسجلاً تسجيلاً كاملاً لدى المجلس الطبي البريطاني (British General Medical Council)، وخلال سنة الامتياز أمكنه معايشة معاناة الأطباء الجراحين. يقول: «يبلغ القلق ذروته أثناء إجرائهم العمليات الجراحية المعقدة، وترافقهم الكآبة عند حدوث مضاعفة جراحية بعد العملية لأحد مرضاهم، أدركت عندها أنه لا عجب أن يغلب على سمات الجراحين التجهم والقلق وسرعة الغضب، أدركت أن وراء غطاء هذه الغطرسة الزائفة يكمن رجل خائف قلق يكاد يفقد ثقته بنفسه».

بداية عمله جراحاً، استُدعي المشيخص لمساعدة فريق طبي (في أسكوتلندا) في عملية استئصال سرطان بالقولون، بعد قضاء 48 ساعة من المناوبة المضنية في عطلة نهاية الأسبوع، ولم يكن وقتها قد تناول وجبة الإفطار، شعر بعد مضي نصف ساعة من بدء العملية بضيق في التنفس وتعرق ودوران، قبل أن يسقط أرضاً، صرخ الجراح على إحدى الممرضات لتسعفه وتأخذه خارج الغرفة... يقول المشيخص: «منذ ذلك الوقت وبناءً على هذه الحادثة الفريدة، يعتقد الجراح (كان) بأني غير قادر جسدياً أن أكون جراحاً، رغم اعتقاده بأنني من أفضل أطباء الامتياز الذين مروا عليه للتدرب في وحدته...»، وختم نصيحته قائلاً: «إذا ما صممت أن تتخصص في الجراحة، فاختر تخصصاً لا يحتاج إلى جهد بدني مثل جراحة الأنف والأذن والحنجرة!».

طريق التحدي

لكنه لم يستمع إلى نصيحة طبيبه المشرف، فبعد انتهائه من سنة الامتياز، عام 1986، كطبيب مقيم في قسم العظام لمدة ستة أشهر، كجزء من متطلبات التحضير لامتحان زمالة كلية الجراحين الملكية، في مستشفى رودرهام بالقرب من مدينة (Rotherham General Hospital) في شِفيلد (Sheffield) بمقاطعة جنوب يوركشاير. وضعه استشاري جراحة العظام وكان اسمه روبسون (Robson) ويصفه بأنه كان «طيباً وهادئاً وحنوناً على غير ما تعودت عليه من الجراحين»، على قائمة العمليات، وأخبره: «غداً سنكون نحن الاثنين فقط، فمساعدي الأول في إجازة»، كانت العملية عبارة عن تبديل مفصل الورك، وهي من عمليات العظام الصعبة والتي قد تستغرق ساعات عديدة، وكان على الطبيب الشاب أن يكون المساعد الأول في عملية صعبة يجريها لأول مرة في حياته العملية كجراح بعد سنة الامتياز، بدأت الجراحة في الساعة الثامنة صباحاً واستمرت إلى الخامسة مساءً، قاوم تعبه وقلقه وأدى عملاً مميزاً نال عليه إشادة الجراح روبسون... وخلال هذه الفترة أكمل متطلبات تدريب الزمالة كلية الجراحين الملكية، يقول المشيخص: «أذكر ذلك اليوم من أيام ديسمبر (كانون الأول) 1989 جيداً، عندما اجتزت امتحان الزمالة بنجاح، وحالاً صار كل من في المستشفى يدعونني (مستر) بدلاً من (دكتور)، شعور غريب وغامر بالفخر والعظمة»، وهذا تقليد بريطاني غريب ويمثل لغزاً بالنسبة للأطباء القادمين من البلدان الأخرى، حيث يتغير مسمى الجراح من «دكتور» إلى «سيد» بعد اجتياز امتحان زمالة (Fellowship) في إحدى كليات الجراحين الملكية (لندن، إدنبرة، جلاسجو، أو دبلن)، وقد جرت هذه العادة من باب الاحترام والتقدير لمهنة الجراحة».

بين الأمل والألم

في كتابه «مذكرات جراح» يسرد المشيخص قصصاً لمرضى أشرف على علاجهم أثناء مشواره الجراحي الطويل، وقصصاً لمرضى تركوا في نفسه أثراً لا يُنسى، وحفروا لهم «في ذاكرته بصمات لا تزول ولا تمحى»، حيث عايش آلامهم وشاركهم أحزانهم وحاول جاهداً مسح دموعهم وامتصاص غضبهم في فترة زمنية صعبة شحت فيها الموارد وانعدمت حينها الإمدادات. ولم يكن تخصص الجراحة وقتها مفروشاً بالورود ومدعوماً بالخدمات الطبية المساندة.

يقول: «طريق الجراحة ليس مفروشاً بالورود، بل محفوف بالمخاطر، قلق قبل وأثناء إجراء العملية الجراحية، ويستمر شبح القلق إلى ما بعد العملية، خوف مستمر من حدوث مضاعفات كبرى قد تودي بحياة المريض، هذا القلق يسلب الجراح سعادته ويقض مضجعه ويعكر عليه صفو يومه».

من المتعارف عليه علمياً أن كل تدخل جراحي لا يخلو من المضاعفات البسيطة أو المعقدة، ومسببات المضاعفات الجراحية كثيرة، إلا أن الجراح غالباً ما يجنح إلى جلد ذاته ويرمي بالمسؤولية الكبرى على عاتقه، فيستحوذ عليه تأنيب الضمير، هل كان قرار التدخل الجراحي صائباً؟ وهل تم تحضير المريض جيداً قبل العملية؟ وهل كانت الطريقة التي أُجريت بها العملية صحيحة؟ وغيرها من الأسئلة التي تستحوذ على فكره وتتزاحم على مطاردته.

يسرد المشيخص قصصاً جراحية واقعية واجهها أثناء عمله جراحاً خلال الـ35 عاماً الماضية: «بعض هذه القصص تعكس كم هي محفوفة حياة الجرّاح بالمخاطر والتعب والقلق. ساعات طويلة مضنية في غرف العمليات لإجراء عمليات إسعافية طارئة بعد منتصف الليل وفي ساعات الصباح الباكر، ساعات حزينة دامعة مع أقارب المرضى في غرف الانتظار، دموع وصراخ وعويل عند إفشاء الأخبار غير السارة، حزن عميق وكآبة لا توصف لفقد مريض بعد جهد وسباق مع الزمن لإنقاذ حياته. ساعات يأس، غضب وكآبة من عدم التمكن من استئصال ورم مستعصٍ أنشب مخالبه في أعضاء مهمة، ليال يستعصي فيها النوم وتستحوذ فيها الكوابيس بسبب مريض يتأرجح بين الحياة والموت في العناية المركزة بعد عملية جراحية كبرى، والقائمة تطول وتطول».

كل تدخل جراحي لا يخلو من المضاعفات البسيطة أو المعقدة إلا أن الجراح غالباً ما يجنح إلى جلد ذاته ويرمي بالمسؤولية الكبرى على عاتقه

يقول: «تتراءى إلى ذاكرتي صورة الجراح (أوور)، أحد الجراحين الذين تدربت على يديهم في بداية مشواري الجراحي، فهو يمتنع عن الكلام ورؤية الآخرين وتصاحبه الكآبة ويطلق لحيته دون حلاقة أو تهذيب إذا ما حصل للمريض تسرب بعد عملية استئصال ورم بالقولون». ويضيف: «أتذكر أيضاً زميلاً جراحاً بريطانياً من أصل هندي عاصرته في بدايات سِني عملي في مستشفى الدمام المركزي يدعى الدكتور باتيا، كان جراحاً متمرساً ذا خبرة جراحية عالية وسمعة جيدة، عندما أرى شعر رأسه الأشيب قد بدا دون أن يجد وقتاً ليصبغه، أعلم أن مريضاً من مرضاه ليس بخير».

ومن القصص الأخرى: «أذكر أيضاً الجراح جون دوثي الذي تدربت على يديه في مدينة مانشستر، كان يملأ غرفة العمليات بالبهجة والسرور والنكات المضحكة أثناء إجرائه أعقد العمليات الجراحية في البطن وخاصة جراحات الجهاز الهضمي المعقدة التي كان يبدع فيها، إلا أنه يكون متوتراً ساكتاً لا ينبس بكلمة، متعرق اليد والجبين أثناء إجراء عمليات استئصال الغدة النكافية، كنت حينها أقول لنفسي لن أجري مثل هذه العملية مستقبلاً ما دامت تجلب هذا القدر من التوتر والبؤس والقلق، لكنني أخلفت الوعد وأجريتها في مستشفى الدمام المركزي لاحقاً».

لكنه يقول: «الجراحة لا تخلو من ساعات جميلة، ساعات فرح وانتصار... ساعة نجاح اجتثاث سرطان من مريض دبّ اليأس في نفسه واستسلم للموت... ساعة تخليص مريض من مرض جراحي طارئ حوّل حياته جحيماً مثل استئصال عضو ملتهب كالزائدة الدودية أو المرارة، إصلاح فتق مختنق، أو فك انسداد بالأمعاء، وغيره... ساعات من البهجة والفرحة ولحظات امتنان وشكر وعرفان المرضى لإنهاء معاناتهم، هذه الساعات الجميلة تمحو كل ما ذكر من الأوقات البائسة والحزينة المرتبطة بالجراحة، أوقات تجعل الجرّاح يجثو على ركبتيه ساجداً لربه وشاكراً له أن وفقه لخدمة مرضاه الذين يعانون أمراضاً جراحية، شاكراً ربه أن هيأ له السبل وذلل الصعاب ليكون جراحاً».