سينما الضحك مؤشراً لرصد التاريخ السياسي والثقافي

كتاب مصري عن مسار فؤاد المهندس في الخمسينات والستينات

سينما الضحك مؤشراً لرصد التاريخ السياسي والثقافي
TT

سينما الضحك مؤشراً لرصد التاريخ السياسي والثقافي

سينما الضحك مؤشراً لرصد التاريخ السياسي والثقافي

يرى الأكاديمي المصري الأستاذ في جامعة «يورك» بكندا وليد الخشاب في كتابه «مهندس البهجة - فؤاد المهندس ولا وعي السينما» الصادر عن دار «المرايا» بالقاهرة، أن دراسة مسار الفنان المصري فؤاد المهندس (1924- 2006) تعكس الكثير من تطورات المجتمع العربي الحديث فيما بعد الحرب العالمية الثانية وميلاد الدولة الوطنية، وأنه بوصفه شخصية سينمائية ومسرحية يجسد الفئات الاجتماعية التي تنامى صعودها للطبقة الوسطى، أو لشرائح أعلى وأعلى في إطار تلك الطبقة، أو التي تنامت وتزايد أبناؤها بفضل سياسات التحديث المركزية التي انتهجتها الدولة في مصر. فهو الموظف «عادة»، والكاتب في مسرحية «حواء الساعة 12»، ومؤلف الأغاني في فيلم «اعترافات زوج»، والمحامي في فيلم ومسرحية «أنا وهو وهي»، والفنان التشكيلي في فيلم «نحن الرجال طيبون». كل هذه الفئات والمهن صعدت بقوة في إطار سياسات التوسع في التوظيف أو توسيع المعاملات القانونية والتجارية في المجتمع أو دعم الدولة المركزية لكافة أشكال الإنتاج الثقافي، وهذه سمة سياسات دول التحرر الوطني في العالم العربي كله، خصوصاً في مصر أثناء الخمسينات والستينات من القرن العشرين. ولعل في هذا ملمحاً من ملامح تعبير فؤاد المهندس عن التغيرات الاجتماعية التي تولدت عن الاستقلال ورحيل الاستعمار.

بشكل عام، ينطلق المؤلف من فرضية أساسية، وهي أن الكوميديا مسألة جادة، وأننا نكسب الكثير في فهمنا للثقافة وتفاعلها مع المجمع والتاريخ السياسي إن أخذناها مأخذ الجد، خصوصاً أن الإنتاج الثقافي للكوميديا يتمتع بحرية نسبية، تسمح بتناول موضوعات ومقاربتها من زوايا وإنتاج خطابات لا تسمح بها الرقابة الرسمية أو الذاتية في حالة الإنتاج الثقافي «الجاد» غير الكوميدي. وإنتاج المهندس على وجه التحديد، مهما نظر البعض له - جزئياً أو كلياً - بوصفه هزلاً وهذراً، يحمل قدراً كبيراً من الجدية في صنعته وفنية كتابته وإخراجه وتنفيذه. ثم إن التوازيات والعلاقات بين أعماله - لا سيما السينمائية منها - وبين الظرف الاجتماعي والسياسي أثناء العقدين الأولين من حياة الجمهورية في مصر هي لا شك أمور غاية في الجدية.

ويلاحظ المؤلف أنه لا تتوافر معلومات كافية لتؤكد وجود مخطط واعٍ لغزو الأسواق بأعمال كوميدية خفيفة بعد حرب 1967 للترفيه عن الناس وإلهائهم كما يشاع كثيراً، لكن المؤكد أن سنة 1968، أي العام التالي على الهزيمة، قد شهد نشاطاً محموماً لفؤاد المهندس. ففي مجال السينما وحدها، قام ببطولة سبعة أفلام هي «مطاردة غرامية» و«عالم مضحك جداً» و«مراتي مجنونة مجنونة» و«المليونير المزيف» و«أرض النفاق» و«السكرتير الفني» و«شنبو في المصيدة». ثلاثة من هذه الأفلام صارت من كلاسيكيات الكوميديا العربية في السينما، وتعد أفلاماً ذات مستوى راقٍ، لكن الأفلام الباقية خفيفة مصنوعة على عجل، ولذلك لم تحظ بالاعتبار الجماهيري والصحافي، ولم يتول التلفزيون عرضها سنوياً، وبالتالي لم تتمتع بالتكريس الذي تحقق لـ«مطاردة غرامية» و«أرض النفاق» و«شنبو في المصيدة».

تبنت الدولة الناصرية مشروعاً شاملاً لدعم التسلية غير المسيسة الهادفة لإثارة الضحك من أجل الضحك، حتى لو اعتمدت السطحية بل التفاهة منهجاً، لإلهاء الجماهير عن مناحي قصور النظام

ويقول الخشاب إن ما يعنيه هو تحليل بعض البنى الدرامية و«الثيمات» المتواترة في أفلام ما بعد النكسة التي قام ببطولتها فؤاد المهندس لتوازيها مع قضايا مجتمعية وهموم سياسية كانت تشغل مصر الناصرية، لا سيما بعد الهزيمة.

ويلفت النظر إلى أن لثيمة «تعدد الأوجه في شخصية الفرد» حضوراً قوياً في هذه الأفلام. والمقصود - بالتعبير العامي – هو قضية التعامل مع الإنسان ذي المائة وجه، أي الإنسان المخادع المتقلب الذي قد يكون منافقاً وقد يكون محتالاً. ويكفي عنوان «أرض النفاق» تأكيداً على نقد النفاق المستشري في المجتمع.، مشيراً إلى تعامل «المهندس» مع الإنتاج الثقافي الغربي بمنطق التفاعل الخلاق في إطار أشهر نموذج لنقل الحداثة إلى العربية: منطق الاقتباس والترجمة. فقد اقتبس المهندس فكرة القرين/ التوأم وطوعها في أفلامه ومسرحياته فصاغت جدل الحداثة والتقليد وجدل الأنا والآخر.

ومرة أخرى، قد يتبادر إلى الذهن أن أفلام المهندس تهريج لا قيمة فكرية له. ويرد الخشاب على هذا بجملة لا يمل من تكرارها: «الكوميديا مسألة جادة. نكسب كثيراً في فهم الثقافات العربية وإنتاجها الثقافي إن أخذنا الكوميديا مأخذ الجد، لا سيما ما بدا لنا (تافها)؛ فالكوميديا - تحديداً لأن المجتمع عادة لا يأخذها مأخذ الجد - تشكل مخزناً للبوح وللإسقاط وللتلميح وللتعبير عن المكبوت والمسكوت عنه، مثلما أن اللعب والقصص المتخيلة هما متنفس الطفل ليعبر عما لا يجرؤ أن يواجه به نفسه أو والديه أو المجتمع».

ويرى المؤلف أنه من المنطقي أن يتساءل المؤرخ السينمائي عن السر في اتجاه فؤاد المهندس إلى جرعة من«كوميديا الفارس» والتهريج في الستينات، رغم أن الرواية الوطنية تجعل منه امتداداً لمدرسة الريحاني البعيدة تمام البعد عن هذا النوع وهذا اللون من الأداء في السينما. أول وأسهل ما يتبادر للذهن من تفسير هو أن الدولة الناصرية كانت تتبنى مشروعاً شاملاً لدعم التسلية غير المسيسة الهادفة لإثارة الضحك من أجل الضحك، حتى لو اعتمدت السطحية بل التفاهة منهجاً، لإلهاء الجماهير عن مناحي قصور النظام في توفير السلع التموينية أو ضمان الحريات.

ويعزز هذه الفرضية أن الحياة الثقافية في الفترة الناصرية كانت تتقاسمها وتتنازعها مؤسسات وزارة الثقافة، ومؤسسات اتحاد الإذاعة والتلفزيون التي صارت بعد عقد من إنشاء التلفزيون جزءاً من وزارة الإعلام. وكان الاتحاد ورجله القوي عبد القادر حاتم هو الداعم للتسلية الفكاهية الجماهيرية غير المسيسة من خلال مسرح التلفزيون، الذي تأسست على خشبته نجومية كل من فؤاد المهندس ممثلاً، وعبد المنعم مدبولي مخرجاً. وفي المقابل كان هناك قطب وزارة الثقافة، الذي يمثله ثروت عكاشة، الذي كان يدعم المسرح الجاد - مثل المسرح القومي - أو الكوميديا الراقية البعيدة عن التهريج، من خلال المسرح الكوميدي التابع للدولة. وقد انعكس هذا في نموذج المهندس/مدبولي في الكوميديا التي تستخدم حبكة من المواقف الفكاهية، لكن مطعمة بأداء هزلي تهكمي بفضل مسرح التلفزيون.


مقالات ذات صلة

روايات رومانسية سريعة الاحتراق

ثقافة وفنون روايات رومانسية سريعة الاحتراق

روايات رومانسية سريعة الاحتراق

تميل الرومانسية إلى بناء نتائج إيجابية من قرارات فظيعة. وتدور رواية «الحقيقة وفقاً لأمبر» التي كتبتها دانيكا نافا حول بطلة تتخذ المزيد من القرارات السيئة

أوليفيا وايت
ثقافة وفنون سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا

سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا

في كتابها «حياتي كما عشتها: ذكريات امرأة سعودية من عنيزة إلى كاليفورنيا»، تطرح الدكتورة ثريا التركي سؤال الهُوية والثقافة

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون «حكايا لبنانية في الأزمة»... وباء وأوجاع وفواجع لكن أيضاً قوارب نجاة

«حكايا لبنانية في الأزمة»... وباء وأوجاع وفواجع لكن أيضاً قوارب نجاة

بدأت الحكاية في أبريل (نيسان) 2020. كان زمن الحَجْر وغلبة العزلة، حين لمحت الصحافية اللبنانية جودي الأسمر تجّاراً في منطقتها يدّعون الالتزام بالإغلاق العام

فاطمة عبد الله (بيروت)
الولايات المتحدة​ وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون على خشبة المسرح في قمة المرأة في العالم بحي مانهاتن في نيويورك 6 أبريل 2017 (رويترز)

هيلاري كلينتون تنتقد نتنياهو وطلاب جامعة كولومبيا في كتاب جديد

في كتابها الجديد، انتقدت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لتَحَمُّله «صفر مسؤولية» عن هجوم 7 أكتوبر.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
كتب مايا ويند

كيف تنخرط الجامعات الإسرائيلية في حرب إلغاء الفلسطينيين؟

ساهمت التظاهرات الطلابيّة التي شهدتها جامعات ومؤسسات تعليمية في دول الغرب احتجاجاً على العدوان المستمر على قطاع غزّة في إلقاء الضوء على نكبة الفلسطينيين

ندى حطيط

جديد «الفيصل»: السعودية تحتفي بعام الإبل.. في الثقافات

جديد «الفيصل»: السعودية تحتفي بعام الإبل.. في الثقافات
TT

جديد «الفيصل»: السعودية تحتفي بعام الإبل.. في الثقافات

جديد «الفيصل»: السعودية تحتفي بعام الإبل.. في الثقافات

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة. وكرست المجلة ملف العدد لتقصي صورة الإبل في الثقافات، يأتي ذلك بمناسبة احتفاء السعودية بعام الإبل 2024. شارك في الملف كل من الناقدة السينمائية عهود حجازي: «آفاق السنام الواحد»، والباحث قصي التركي: «الإبل وعلاقتها بالبيئة البدوية في الكتابات المسمارية»، والباحث حمد صراي: «الإبل في شبه الجزيرة العربية وبلاد الشرق الأدنى القديم»، والباحثة سحر الصمادي: «نحو معجم ألفاظ الحيوانات في اللغات السامية الشمالية الغربية»، والباحث سمير أديب: «الجمل في الحضارة المصرية القديمة»، إضافة إلى شهادات من عدد من الكتاب والباحثين، مثل صبحي موسى ومحمد الشحري وهشام عبد العزيز وفتحي إمبابي.

وتضمن العدد أيضاً حواراً مع الباحث الإسباني خوسيه ميغيل بويرتا عضو الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة بغرناطة، وذلك بمناسبة صدور كتاب «رياض الشعراء في قصر الحمراء» بالاشتراك مع الدكتور عبد العزيز المانع، وبالتعاون بين كل من «جائزة الملك فيصل» و«لجنة إدارة الحمراء»، أجرى الحوار الكاتب والأديب عبد الهادي سعدون. وفي باب ثقافات كتب عزام أحمد جمعة عن الاتجاهات والنزعات واللغة في الأدب الروسي الحديث، وترجمت شيماء مجدي مقال ماريا إنجويكس تيرسيرو: «النسوية والترجمة أبعد من مجرد لغة شاملة». كما ترجم عماد فؤاد مقالاً عن السيرة التي كتبها البلجيكي مارك سخافرز عن حياة الأديب البلجيكي هوغو كلاوس تحت عنوان «حين يحوم فوق الناس كالطير الجارح: أنزع منهم نتفاً لأصنع منها كتباً». وكتب الجزائري أمين الزاوي عن الشاعر العماني سيف الرحبي «هذا الرأسمالي العربي الكبير» بمناسبة مغادرته رئاسة تحرير مجلة «نزوى» العمانية التي أسسها منذ ثلاثين عاماً.

وفي باب السينما حاورت «الفيصل» المخرج السعودي على الكلثمي، صاحب فيلم «مندوب الليل»، وذهب فيه إلى أن السينمائيين السعوديين يعيشون عصراً ذهبياً، تتوفر به كل سبل الدعم كي يعمل المخرجون على قصص سعودية. وفي باب بروتريه يكتب الشاعر والمترجم فاضل السلطاني عن الشاعر الأميركي فرانك أوهارا: جماليات الأشياء الصغيرة. وحاورت هدى الدغفق الدكتور زياد الدريس حول مركز الأديب عبد الله ابن إدريس والجائزة التي تحمل اسمه أيضاً. وتكتب هناء المكتوم عن الفراغ العمراني بصفته حضناً للتفاعل الثقافي.

واشتمل العدد على مقالات ومواد أخرى، منها: موسى برهومة: ضوء لإنارة مدينتنا العربية، نبيل سليمان: بيوت في البودي وربما نيبالين، نادر الصمعاني: الهوامش الفلسفية في التراث الشرعي، سيف الرحبي: صمت جثة الغريبة بين الغرباء، غسان على عثمان: السودان نحو عقد اجتماعي جديد، فاطمة واياو: الوريث أو رحلة أيوب المضنية إلى اللايقين، تشن جينغ: «رهمانج» و«لا نا ما» حامل المعرفة البحرية وتبادل الثقافات على طريق الحرير البحري، سلطان المعاني: ثلاثية الهزائم والكرامة والانتصار، كاظم الخليفة: الأدب والفلسفة.. جدلية العلاقة وتنافس الحضور، راما وهبة: غابرييل مونتر.. تعرية روح الأشياء.

وشمل العدد مواد: حمادي تقوا - محمد الساهل: في مديح البريكولاج، يوسف ضمرة: هند أبو الشعر.. بالون البدايات، فيصل دراج: انكسار الأحلام والصداقات. زكي الميلاد: لولا أينشتين لما كان كارل بوبر، سعادة الله الحسيني: نظرية «الهندوتفا» وأسسها الفكرية، نبيل منصر: على المازمي ينحني على جراحه الوجودية، لنا عبد الرحمن: سر الزعفرانة لبدرية البشير، حسن حميد: هل انتهت الفلسفة في زمن الإسلام؟، محمد سليم شوشة: «بصورة مفاجئة» لمنتصر القفاش، ومجدي دعبيس: «الآن في العراء» لحسام الرشيد، وعلى عطا: «شجو الهديل» لجار النبي الحلو، وعبده منصور المحمودي: مقاربة نقدية في «روايات لا تطير»، وحكمت النوايسة: «فلسطينيا ذا» لعلي العامري، ووداد سلوم: «الفراشات البيضاء» لباسم سليمان.

وفي باب نصوص نطالع نصوصاً لكل من إيفان بولاند: مختارات شعرية ترجمة غسان الخنيزي. إيفلين أرثر: مدير الكرملين ترجمة عبد المقصود عبد الكريم، محي الدين جرمة: أكسجين البحر، لحسن باكور: أبي صانع السعادة. ويكتب سامر إسماعيل عن كتاب «احك منامك حتى أراك» حول تجربة المخرج السوري محمد ملص. وفي باب تشكيل: بادية حسن: سعد يكن.. وراء الفراشة بألوانها تختبئ الفاجعة السورية.