الفيلسوف لوك فيري يتساءل: أين هو الانحطاط الفرنسي؟

قارنوا بلدان العالم الثالث بأوروبا قبل قرنين أو 3 قرون وليس بأوروبا الحالية

الفيلسوف لوك فيري يتساءل: أين هو الانحطاط الفرنسي؟
TT

الفيلسوف لوك فيري يتساءل: أين هو الانحطاط الفرنسي؟

الفيلسوف لوك فيري يتساءل: أين هو الانحطاط الفرنسي؟

لم يعد لوك فيري بحاجة إلى تعريف. فهو أحد أهم فلاسفة فرنسا المعدودين حالياً. كان من آخر ما نشره كتاب ضخم بعنوان «قاموس عاشق للفلسفة» (1500 صفحة فقط!). ومن لا يعشق الفلسفة؟ من لا يهيم بها؟ عمَّ يتحدث هذا الكتاب الذي يتجاوز 400 صفحة من القطع الكبير؟ باختصار شديد... عن وضع العالم حاضراً ومستقبلاً. فالمستقبل قد يكون حكيماً عاقلاً سعيداً، وقد يكون متهوراً مجنوناً. كل شيء يتوقف على كيفية تحضيرنا واستعدادنا له منذ الوقت الحاضر. الكتاب موجه ضد فلاسفة التشاؤم في الساحة الباريسية من أمثال ميشيل أونفري وآلان فنكيلكروت وآخرين.

يطرح الكتاب الذي بين أيدينا اليوم تساؤلات من نوع؛ لماذا يغرق كثير من المثقفين الباريسيين في نزعة التشاؤم السوداء هذه الأيام؟ لماذا يستمتعون بذلك كل الاستمتاع؟ ألا يرون إلى حجم التقدم الهائل الذي حققته أوروبا الغربية قياساً إلى الماضي البعيد، وقياساً إلى بقية النطاقات الجغرافية والحضارية الأخرى؟ هل يعلمون أنه حتى القرن التاسع عشر كان الإنسان الفرنسي أو الأوروبي يموت في الأربعين أو الخامسة والأربعين على أحسن تقدير؟ هكذا كان متوسط العمر آنذاك. أما الآن فأصبح متوسط العمر 82 سنة. يقول المؤلف: «بمعنى أننا ربحنا 40 سنة قياساً إلى أجدادنا أو أجداد أجدادنا. هل هذا قليل؟ هل يعلمون أن الإنسان عندما كان يعاني من وجع الأضراس مثلاً كان مضطراً لتحمل هول ذلك والابتهال إلى الله عز وجل لكي يخفف عنه هذا الألم الذي لا يحتمل ولا يطاق.

أما الآن فيكفي أن يذهب الإنسان الفرنسي أو الإنجليزي إلى أقرب طبيب أسنان في حيه أو شارعه لكي يحل له مشكلته خلال ساعة زمان! هل هذا قليل يا جماعة؟ ولكن هذا الوجع المضني للأسنان لا يزال يصيب الناس في البلدان الفقيرة، أو قل يصيب شرائح واسعة غير قادرة على التداوي ودفع أجور الطبيب. لاحظوا أسنان الفقراء في بلدان الجنوب؛ والله شيء يوجع القلب! بدءاً من الثلاثين تكون أسنانهم قد اصفرت وتدهورت وخربت لأنهم لم يضعوا قدمهم عند طبيب أسنان واحد في حياتهم كلها. ولا يستطيعون ذلك أصلاً. وبالتالي فقارنوا بلدان العالم الثالث ببلدان أوروبا قبل قرنين أو 3 قرون، وليس ببلدان أوروبا الحالية. مستحيل. والدليل على ذلك أن البلدان الأوروبية المتقدمة تؤمن لجميع سكانها الضمان الصحي والضمان الاجتماعي، في حين أن ذلك معدوم في بلدان الجنوب الفقيرة (ما عدا البلدان العربية الغنية في الخليج). لا يوجد فرنسي أو ألماني أو هولندي أو إنجليزي... إلخ إلا وهو يتمتع بالضمان الصحي الذي يؤمن له المعالجة والاستشفاء مجاناً في أفضل المشافي والعيادات الطبية. فلماذا يتشاكى إذن مثقفو فرنسا ويتباكون على أحوالهم ويتحدثون عن الانحطاط الداهم أو القريب العاجل للغرب، ألا يستحيون على أنفسهم؟ ألا يخجلون؟ بأي حق يحق لهم ذلك، وسكان بلدان الجنوب يتضورون فقراً وجوعاً وحرماناً؟ والله عيب! العمى وصلنا إلى آخر الزمن؛ أصبح الغني المرفه هو الذي يتشاكى ويتباكى ويندب حظه، وليس الفقير المدقع! لقد انقلبت الدنيا عاليها سافلها. أين نحن؟ قليلاً من الخجل أيها المثقفون الفرنسيون! في القرن التاسع عشر ما كان الفرنسي كما قلنا يعيش في المتوسط أكثر من 40 سنة، وبعد أن يكون قد دفن 4 أو 5 من أطفاله، وربما أصبح أرملاً أو امرأته هي التي أصبحت أرملة. وذلك لأن الطب ما كان متطوراً وما كان متوافراً للجميع».

الكفر بالتقدم

كان العلاج مقصوراً على الأغنياء فقط. وبالتالي فملايين الأطفال كانوا يموتون من أمراض عادية بسيطة بسبب عدم وجود علاجات. أما الآن فموت الأطفال في الدول المتقدمة أصبح نادراً، وربما معدوماً نتيجة تقدم الطب والعلاجات والعيادات المتخصصة والمستشفيات الحديثة المزودة بأفضل التجهيزات. وهل هناك أصعب من موت طفل؟ معظم الأمراض التي كان الناس يموتون منها قبل قرن أو قرنين بسبب عدم وجود أي علاج لها أصبحت الآن عبارة عن مزحة بسيطة. أليس هذا تقدماً؟ فلماذا تكفرون بالتقدم إذن يا فلاسفة فرنسا؟ لماذا تحنون إلى الزمن الماضي؛ زمن آبائكم وأجدادكم؟ لماذا تتحسرون عليه؟ من قال بأن التقدم ليس له معنى؟ لم تعد هناك مجاعات في الغرب، في حين أنها كان تحصد الناس بالملايين في القرون الوسطى، حتى القرن السابع عشر في عهد لويس الرابع عشر. ولكنها لا تزال تحصد الناس بالملايين في بلدان أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وعموم العالم الفقير. العامل البسيط الآن يعيش بشكل مرفه أكثر من ملك فرنسا في القرن السابع عشر! من يصدق ذلك؟ ثم يضيف الفيلسوف الفرنسي الشهير قائلاً:

«لم يعد هناك شخص واحد في أوروبا يخشى على نفسه لأسباب دينية أو طائفية. لم يعد يخجل من حاله أو على حاله إذا لم يكن ينتمي إلى طائفة الأغلبية أو الأكثرية الكاثوليكية. في الماضي، كان الكاثوليكي الأكثري يحتقر الأقلي البروتستانتي ويكفره بل يدعو إلى ذبحه واستئصاله باعتباره رجساً من عمل الشيطان. انظروا إلى المجازر الطائفية في فرنسا قبل أن تستنير وينتصر فولتير على الظلامية الدينية. أليس هذا تقدماً تحسدنا عليه البلدان التي لا تزال غارقة في بحر من الحزازات المذهبية والمجازر الطائفية؟».

لا أستطيع الدخول في كل تفاصيل هذا الكتاب الضخم، وإلا كنت قد دبجت عشرات الصفحات. يقول لنا الفيلسوف لوك فيري: «لقد سافرت إلى كثير من دول العالم وحاضرت في معظم جامعاتها ولكني لم أجد أفضل من قارتنا العجوز (أوروبا). فهي متقدمة على جميع القارات الأخرى من حيث تأمين الحريات والمساواة النسبية والمستوى العالي للمعيشة والحماية الصحية. وهذا الكلام ينطبق على فرنسا وعموم أوروبا الغربية التي تشكل بالفعل منارة البشرية منذ قرون كثيرة». ثم يردف قائلاً:

«على الرغم من الصعود الصاروخي للصين، وعلى الرغم من الهيمنة الأميركية الجبروتية، فإن أوروبا الغربية تبقى فضاء نادراً لا مثيل له من حيث الرفاهية الاقتصادية، والحريات الدينية، والحريات السياسية، والإبداع الأدبي والفني والعلمي والفلسفي. لا مثيل لأوروبا من هذه النواحي، حتى أميركا لا تستطيع أن تضاهيها. وذلك لأن حضارة أوروبا أكثر قدماً وعراقة من الحضارة الأميركية الحديثة العهد. إنها مركز الحضارة منذ 4 قرون وحتى اليوم، أي منذ عصر النهضة في القرن السادس عشر حتى القرن العشرين. وإذا كانت أوروبا مهددة اليوم، فذلك لأن معنوياتها ضعفت، وثقتها بنفسها تلاشت، وما عادت متوجهة بأنظارها نحو المستقبل. فهل تعبت أوروبا وشاخت يا ترى؟ هل أصبحت عاجزة عن رؤية نفسها قوة حقيقية قادرة على التأثير على مجرى العالم؟ على أي حال، فإنها مهددة بأن تتحول إلى مستعمرة للصين أو لأميركا إذا لم ترتفع إلى مستوى التحدي».

لوك فيري

لوك فيري يدافع عن فوكوياما

على عكس ما يزعمه كثير من المثقفين الفرنسيين وغير الفرنسيين، فإن فوكوياما لم يقل بأن التاريخ توقف أو انتهى بعد انهيار الكتلة الشيوعية السوفياتية. لم يقل أبداً بأنه لن يحصل أي شيء بعد ذلك. لم يقل بأن التاريخ الحدثي الوقائعي انتهى نهائياً. هذا غباء، هذا مستحيل. لم يقل بأنه لن تحصل أزمات بعد اليوم، أي بعد أن انتهت الحرب الباردة وانهار جدار برلين والعالم الشيوعي بأكمله. لم يقل بأنه لن تحصل حروب في العالم بعد اليوم، أي بعد انتصار المعسكر الليبرالي الغربي على المعسكر الآخر. وإنما قال إن النظام الديمقراطي الغربي الأوروبي - الأميركي هو أفضل نظام ممكن للعالم. ولولا ذلك لما انتصر على النظام الشيوعي للحزب الواحد والحريات المخنوقة والديماغوجية الغوغائية المملة. علاوة على ذلك فينبغي العلم أن الحضارة الأوروبية هي وحدها التي انتصرت على الظلامية الأصولية وأمنت للبشرية حرية التعبير والتفكير والطبع والنشر، حتى في مجال الدين والمقدسات. وهذا أكبر تحرير يحصل للروح البشرية في التاريخ. وهذا ما قاله فيلسوف الأنوار الأكبر إيمانويل كانط في نصه الشهير: «ما هي الأنوار؟ أو ما معنى التنوير؟» لقد قال إن «التنوير يعني أن البشرية حققت أخيراً نضجها وعقلانيتها وانتقلت من مرحلة القصور العقلي إلى مرحلة سن الرشد. لقد تحررت من وصاية اللاهوت والكهنوت ورجال الدين. هذا هو التنوير. ينبغي أن تعانيه من الداخل. ينبغي أن يتمخض من أعماقك وإلا فلا معنى له. ينبغي أن تتوصل إليه بعد جهد جهيد. ينبغي أن تصارع التنين!». وهذا ما حققته الحداثة الغربية بعد موت كانط بقرن أو أكثر. لقد سُحقت الظلامية المسيحية على يد سبينوزا وبيير بايل وفولتير وديدرو وجان جاك روسو وكانط وفيخته وهيغل وغيرهم من عباقرة الأنوار الكبار. ولم تُسحق إلا بعد معارك طاحنة سجلتها كتب التاريخ بأحرف من نور. فأين هم المثقفون العرب الذين سيصارعون التنين «الإخواني الداعشي» مثلما صارعوا هم التنين الأصولي الكهنوتي ومحاكم التفتيش؟ (بين قوسين... هذا ما كنت قد شرحته مطولاً في كتابي الجديد الصادر عن «دار المدى»، بعنوان «من التنوير الأوروبي إلى التنوير العربي»).


مقالات ذات صلة

إيمانويل تود في «هزيمة الغرب»: أميركا وصلت إلى «العدمية»

كتب إيمانويل تود

إيمانويل تود في «هزيمة الغرب»: أميركا وصلت إلى «العدمية»

كتب عالم الاجتماع الفرنسي إيمانويل تود، عندما كان لا يزال طالباً عام 1976 متوقعاً انهيار الاتحاد السوفياتي، وصدقت نبوءته بعد 15 عاماً.

سوسن الأبطح
كتب شرح الميزان البيئي للأشياء بطريقة علمية مسلية

شرح الميزان البيئي للأشياء بطريقة علمية مسلية

يطرح الكاتب العراقي ماجد الخطيب في السوق كتابه المعنون «البيئة المسلية» في زمن ما عاد فيه الإنسان يشعر بأي تسلية وهو يشاهد الخراب البيئي العظيم

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب معرض لندن للكتاب... التقاطع بين الذكاء الاصطناعي والحقوق الفكرية

معرض لندن للكتاب... التقاطع بين الذكاء الاصطناعي والحقوق الفكرية

بعد بدايات متواضعة من قاعة فندق بيرنرز في وستمنستر عام 1971 أصبح معرض لندن للكتاب (LBF) – الحدث العالمي الأهم في صناعة المحتوى الإبداعي خلال فصل الربيع

ندى حطيط (لندن)
ثقافة وفنون يوسف بكار يعاين بوادر التجديد في الشعر المعاصر

يوسف بكار يعاين بوادر التجديد في الشعر المعاصر

يكشف كتاب «بوادر التجديد في شعرنا المعاصر»، للدكتور يوسف بكار، عن جوانب تجديدية في المضمون الشعري وتشكيلاته الفنية، متناولاً قصيدتين لخليل مطران وإبراهيم طوقان

«الشرق الأوسط» (عمّان)
صحتك التعاطف مع الذات والوعي بما يحتاج إليه جسمكم هما المفتاح لنوم أفضل (متداولة)

8 نصائح بسيطة لنوم أفضل

هل تواجهون صعوبة في النوم؟ إليكم 8 نصائح رئيسية عملية لمساعدتكم على الاسترخاء والاستغراق في النوم.

«الشرق الأوسط» (لندن)

«مشروع 25» وفيلسوف وراء الترمبيّة

روبرت نوزيك
روبرت نوزيك
TT

«مشروع 25» وفيلسوف وراء الترمبيّة

روبرت نوزيك
روبرت نوزيك

لم تعد تصريحات الرئيس الأميركيّ دونالد ترمب ومواقفه تثير القلق الشديد عند نصف مواطنيه أو الحماس الصاخب عند نصفهم الآخر فحسب، بل وتحولت إلى ما يشبه عرضاً يومياً مسرحه العالم برمته.

ولعل تسطّح التغطية الإعلاميّة وطبيعتها الضحلة والقصيرة المدى يفرض على المتابع الانتقال من تصريح للرئيس ترمب هنا أو إجراء باسمه هناك دون تروٍّ للبحث في دوافع محتملة وراء تصريحاته أو خطوط عامّة قد تنتظم تحتها توجهاته السياسيّة، والتي يمكن أن تكوّن بمجموعها نوعاً من نظام مستقر معرفيّاً يساعد على تفسير المواقف السابقة للرئيس وإدارته، وربما أيضاً التنبؤ بنسق محتمل لما قد يبدر عنهما تالياً.

أحاول في هذا المقال القبض على ثلاث مسائل قد يكون كل منها معلوماً في مجاله وفضائه، لكنها تكتسب، حين تجتمع معاً، قدرة مقنعة على وصف النظام الترمبي - إذا صح التعبير -، وتفسير نجاحه في الوصول إلى السلطة، والتحقق من منطلقات الثقافة السياسيّة التي تحكم الحركة لـ«استعادة أميركا العظيمة»، وتتخذ من شخص الرئيس ترمب محور تركيزها.

غلاف مشروع (2025: تكليف بالقيادة، الوعد المحافظ)

إن أولى تلك المسائل هي الفهم الواقعي لحقيقة أن جوهر السياسة – بغض النظر عن كل الشعارات المؤدلجة يميناً أو يساراً – هو في الصراع على السلطة، وأن كل تباينات في الإجراءات والمبادرات السياسيّة في الزّمان والمكان، لا تخرج في محصلتها عن كونها تصبّ إما في الجهود للحفاظ على هيكل وديناميكيات السلطة، أو تغييرها. ولذلك؛ فإن الرئيس ترمب ليس سوى الواجهة العلنيّة لتيار سياسي يميني متجذر في الثقافة السياسية الأميركيّة يسعى إلى تغيير هيكل وديناميكيات السلطة بهدف استعادة نموذج مجتمع يوتوبي نقيّ أخلاقيّاً (وربما عرقيّاً وطائفيّاً أيضاً) يرى أنصاره أنّه قد حان وقته لإنقاذ البلاد من التهتك الذي ما لبثت تغرق فيه منذ بعض الوقت، وأصبح يهدد بانحلالها.

وهذا يأخذنا إلى المسألة الثانية، وهي أن ثمة فلسفة مدونة ومعلنة لهذا التيار من خلال جدول أعمال منشور منذ عام 2023 (مشروع 2025: تكليف بالقيادة، الوعد المحافظ) الذي يجمل خطة عمل متكاملة تستهدف تركيز السلطات الفيدرالية في الولايات المتحدة بأيدي فئة قليلة من النافذين.

روبرت نوزيك وغلاف كتابه" الفوضى والدولة واليوتوبيا"، 1974

نشر هذا المشروع المستوحى من خطط نثرت بذورها الأولى في عقد السبعينات من القرن الماضي من قِبل مؤسسة التراث الليبرتارية التي تعبّر عن تيار يميني محافظ لا يعتذر عن قناعته بأن تحقيق «أميركا العظيمة» – بصفتها يوتوبيا عصر ذهبي – يمر بالضرورة عبر الإطاحة وبلا تردد بجميع الظروف الاجتماعية القائمة من خلال تسليم السلطة إلى نخبة من الأفراد البارزين (أمثال دونالد ترمب وإيلون ماسك وبيتر ثايل، وغيرهم) تقود عملية تفكيك للدولة القائمة واستبدالها بدولة رشيقة لديها الحد الأدنى من الصلاحيات لإنفاذ القانون، وتختص أساساً بحماية حقوق الأفراد، والملكيّة الخاصة للأثرياء.

وتستند هذه الخطة إلى تفسير مثير للجدل للنظرية التنفيذية الموحدة التي ترى أن السلطة التنفيذيّة برمتها تخضع بأكملها لسيطرة الرئيس؛ ما سيمكن ترمب من تفكيك البيروقراطية الحكومية التي يرى مناصرو الليبرتاريين أنها ذات هوى ليبرالي (أقرب إلى الحزب الديمقراطي)، في حين يحذر منتقدوها مما اعتبروه مؤامرة أصولية (قومية مسيحية) ستقود البلاد إلى الاستبداد، وتقوّض سيادة القانون والفصل بين السلطات، والفصل بين الكنيسة والدولة، والحريات المدنيّة.

ووفق الخطة، فإن الرئيس بعد تفكيك البيروقراطية سيتسنى له تنفيذ أجندة «مشروع 2025» التي تتضمن فيما تتضمنه سياسات لخفض الضرائب على الشركات وأرباح رؤوس الأموال، وخفض الرعاية الطبية العامّة، وإزالة التقييدات على استخدام الوقود الأحفوري، وشطب برامج التنوع والإنصاف والشمول، وتشديد القيود على الهجرة، واعتقال المهاجرين غير الشرعيين وترحيلهم، ونشر الجيش لتنفيذ القانون على مستوى الولايات، وفرض اللغة الإنجليزية لغةً رسمية، بالإضافة إلى تبني تعريفات وفق ثقافة اليمين المسيحي بشأن كل ما يتعلق بالجندر والعائلة والإجهاض. وقد وجد تحليل أجرته أسبوعية «تايم» الأميركيّة أن أكثر من ثلثي الأوامر التنفيذية التي أصدرها الرئيس ترمب منذ توليه مهام منصبه في الولاية الثانية تعكس كلياً أو بشكل كبير مقترحات محددة في «مشروع 2025»، كما أن عدداً كبيراً ممن كانوا وراء المشروع التحقوا بحملة ترمب الانتخابيّة، أو استدعوا للخدمة في إدارته.

لقد سمع كثيرون بـ«مشروع 2025»، لكن قلة يعرفون عن الفيلسوف الذي تمثل أعماله مصدر إلهام الحركة الليبرتارية، وهذه المسألة الثالثة التي يمكن أن تعين في فهم نظام ترمب. لقد كان الفيلسوف الأميركي اليهودي من أصول روسيّة روبرت نوزيك (1938 - 2002) مفكراً ثورياً بالمعنى الحقيقي للكلمة، فهو مثل كارل ماركس، لم يكتف بوصف العالم، بل طمح إلى تغييره، وقد أصبح كتابه في الفلسفة السياسية «الفوضى والدّولة واليوتوبيا» – 1974، بمثابة المرجع الفكري الأول للجناح اليميني في الإمبراطورية الأميركيّة الذي يسعى الآن من خلال «مشروع 2025» إلى تطبيق فلسفته حول مفهوم الحريّة وعلاقة الفرد بالدولة على أرض الواقع.

أفكار نوزيك الفلسفية لا بدّ منها لفهم الترمبيّة التي بحكم ارتباطها بمشروع سياسي فلسفي متكامل قد لا تنتهي بولاية ترمب الثانية بل تستمر بعده

لم يخترع نوزيك الآيديولوجيا اليمينية الليبرتارية، لكنّه منحها المرجعية النظريّة، على الرغم من أن فلاسفة السياسة شككوا في الأساس الفكري الذي بنيت عليه نظرياته، واعتبروا حجج صاحبها غير صحيحة، ومنفصلة عن العالم الحقيقي.

منجز نوزيك الفلسفي كان نقداً لمفهوم العدالة عند الفيلسوف الأميركيّ جون رولز الذي جادل بأن المجتمع ينبغي أن يتأسس على التنفيذ العقلاني والعادل للخير بغض النظر عن الانقسامات الهرمية، وأن الخيار المنطقي الوحيد للبشر هو مجتمع يضمن العدالة المتساوية بموجب القانون للجميع. وبينما وافق نوزيك على مبدأ العدالة، فإنه اعترض على منطق المساواة، واعتبر أنّه ليس من واجب الأثرياء الالتزام بمساعدة الآخرين من أجل تحسين المجتمع، ونادى بمبدأ الحريّة الإيجابيّة بمعنى أن من حق الأفراد أن يفعلوا ما يريدون ما داموا قادرين على دفع تعويض عن الضرر الذي قد يلحق بالآخرين، مبرراً بذلك أن يقبل الضعفاء بـ«العبوديّة» مقابل تعويض مناسب من الأثرياء.

ويطرح نوزيك نسخة معدلة أكثر صرامة من العقد الاجتماعي لجون لوك، وفي رؤيته أن الدور الوحيد للدولة هو الدفاع عن حقوق الأفراد وممتلكاتهم وأموالهم، وما قد يريدون فعله بتلك الممتلكات والأموال، ويرفض كل أفكار الرعاية الاجتماعية، ويساوي الضرائب بالسرقة، بل ويستهجن الجهود غير الحكومية لتعزيز قدر أكبر من المساواة الاجتماعية.

إن وضع هذه المسائل الثلاث في إطار واحد: فهم جوهر السياسة بصفتها صراعاً على السلطة، وخطط عمل مؤسسة التراث وفق «مشروع 2025»، وأفكار نوزيك الفلسفية يبدو ممراً لا بدّ منه لفهم الترمبيّة، التي يرجح أنّها بحكم ارتباطها بمشروع سياسي فلسفي متكامل لا تنتهي بولاية الرئيس ترمب الثانية، بل ربما ستستمر بعده، ربما من خلال نائبه الحالي جي دي فانس، الذي سيكون جاهزاً لخوض انتخابات الرئاسة خلفاً له بعدما اكتسب خبرة في استعادة يوتوبيا «أميركا العظيمة» يداً بيد مع الرئيس طوال أربع سنوات.