الأدب والرياضيات... مَنْبَعا الخيال والجمال

الأستاذة المختصة في جامعة لندن تكتب عن الروابط المدهشة بينهما

الأدب والرياضيات... مَنْبَعا الخيال والجمال
TT

الأدب والرياضيات... مَنْبَعا الخيال والجمال

الأدب والرياضيات... مَنْبَعا الخيال والجمال

 

طالما نشط الإنسان في حقل ما على المستوى الفكري، يكون لزاماً عدّ ذلك النشاط عنصراً في الخريطة الثقافية الإنسانية. لا صناديق مقفلة ومعزولة في الثقافة، ولا جزئية في الحياة يمكن عدُّها بعيدة عن إمكانية التناول الثقافي. ربما عضّدت نظُمُنا التعليمية التقليدية عناصر الفصل بين مكوّنات الثقافة الإنسانية؛ لكنْ يبقى الفرد هو المُعَوَّلُ عليه، بجهده الذاتي غالباً، في استكشاف الروابط الواضحة أو الخفية بين مكوّنات الثقافة الإنسانية.

سارة هارت

أذكرُ يوماً بعد منتصف سبعينات القرن الماضي، أنه تسنّت لي معاينة غلاف كتاب عنوانه «بحثاً عن الجمال» لمؤلفه ف. سميلجا. توقّعتُ أن يتناول الكتاب موضوعات الجمال الكلاسيكي في الفن والأدب على الشاكلة التي اعتدناها آنذاك. بعد مطالعة الصفحة الأولى، علمت أنّ المؤلف يحملُ شهادة دكتوراه في العلوم الرياضياتية والفيزيائية، ثم بعد قراءة صفحات أولى من الكتاب تكشّفتْ لي الحقيقة؛ هذا كتابٌ يتناول الجمال المخبوء في الرياضيات «أو بعبارة أكثر دقة؛ في الأنساق الرمزية التي تمثل الرياضيات مثابتها العليا». كان ثمة دافعٌ خفي يحفزني على قراءة الكتاب، وقد فعلت. كم أنا ممتنّة لذلك الكتاب صغير الحجم الذي فتح لي أفقاً جديداً في الثقافة، وكشف تفاصيل كانت مغيّبة في ثقافتنا العامة.

تولستوي

الرياضيات لغة، وهذا أصلُ إشكاليتها المفاهيمية في ثقافتنا العامة. إنها لغة ومنظومة تفكير رمزي، قبل أن تكون مجموعة تقنيات. لم أزل أذكر تلك الحكاية الجميلة في كتاب سميلجا، التي تكشف عن حقيقة أنّ الرياضيات لغة قبل أي شيء. يحكي سميلجا أنّ البروفسور ويلارد غيبس Willard Gibbs، وهو أحد أعاظم الفيزيائيين الأميركيين أوائل القرن العشرين، وكان أستاذاً في جامعة ييل الأميركية المرموقة، سُئِل عن رأيه في تقليل حصص الرياضيات مقابل زيادة حصص اللغات؛ فأجاب باقتضاب: «الرياضيات لغة!».

نلمح في جواب غيبس بعض خصائص الرياضيات، وهي: الاقتصاد في التعبير، والابتعاد عن الإطناب اللغوي الذي لا يعدو أن يكون رغوة لغوية.

الكتاب الثاني الذي طوّر نمط تفكيري وشغفي بطريقة التفكير الرمزية هو كتاب «الرياضيات والبحث عن المعرفة» لمؤلفه البروفسور موريس كلاين Morris Kline، المؤلف الموسوعي، الذي تناول في كتبه الكثيرة عرض الأسس الثقافية للرياضيات، ومناهضة المقاربات القائمة على أساس أنها مجموعة حِيَل لحلّ مسائل تقنية في سياق محدّد. أما الكتاب الثالث فهو ذلك الذي كتبه الفيلسوف الفرنسي آلان باديو Alain Badiau، وعنوانه «في مديح الرياضيات»، قرأته بالإنجليزية، وهو غير مترجم إلى العربية. الرياضيات باختصار هي إحدى المنجزات الحضارية الرائعة للإنسان على الصعيد الرمزي.

الإشارات الرياضياتية إلى الأعمال الأدبية

في كتابٍ صدر حديثاً بداية شهر أبريل (نيسان) الماضي 2023، نشرت سارة هارت Sarah Hart كتاباً عنوانه «حدث ذات عدد أوّلي Once Upon A Prime». الأجمل من عنوان الكتاب الرئيسي «الذي قد يبدو مخاتلاً وغامضاً بعض الشيء» هو عنوانه الثانوي الذي يكشف عن حقيقة مسعى الكاتبة؛ الروابط المدهشة بين الرياضيات والأدب.

تعمل هارت أستاذة مميزة للرياضيات الصرفة في كلية بيربيك بجامعة لندن، وهي إحدى أنشط الكاتبات في ميدان الجوانب الثقافية والحضارية للرياضيات. دَرَسَتْ هارت في جامعة أكسفورد، وحصلت على شهادة الدكتوراه من معهد مانشستر للعلوم والتقنية.

تبدأ المؤلفة كتابها بمقدمة شديدة الإمتاع تحكي جانباً من تاريخها الشخصي مع الأدب؛ فتقول إنها لطالما عرفت أكداساً من الكتب التي يصفها «المعتمد الأدبي السائد» بأنها «كتبٌ يجب أن تُقرَأ»، منها رواية موبي ديك. وتعقّب الكاتبة بأنها ماطلت كثيراً في قراءة هذه الرواية حتى جاء يوم اعتزمت فيه قراءتها من غير نكوص أو تأجيل، فاكتشفت مكامن الجمال الذي لا يخفى لكل عقل شغوف.

جيمس جويس

ترى الكاتبة أنّ موبي ديك «خزّان من الاستعارات الرياضياتية»، وفيها إشارة إلى شكل رياضياتي يسمى الدُوَيْري Cycloid، ثم تخوض الكاتبة في الإشارة إلى روائيين، احتوت أعمالهم تضمينات رياضياتية. من هؤلاء: ليو تولستوي، جيمس جويس، آرثر كونان دويل، تشيماماندا نغوزي أديتشي، مايكل كريكتون (الذي كتب الحديقة الجوراسية Jurassic Park، وحوّلها ستيفن سبيلبرغ لاحقاً إلى فيلم سينمائي). وتؤكّد الكاتبة أنّ الإشارات الرياضياتية إلى الأعمال الأدبية يمكن تتبعها في أحد أعمال أريستوفانيس، المسمّى «الطيور The Birds» المكتوب حوالي عام 414 قبل الميلاد. وتكتب المؤلفة بشأن العلاقة بين الرياضيات والأدب وطبيعة مسعاها اللاحق في الكتاب:

«الروابط الأكثر جوهرية ورِفْعَة بين الرياضيات والأدب لم تلقَ الاهتمام الذي تستحقه. هدفي في هذا الكتاب هو إقناعُك بأنّ الرياضيات والأدب ليسا مترابطين بكيفية وثيقة وأساسية فحسب؛ بل أسعى لما هو أكبر من هذا؛ أنّ فهم هذه الروابط يمكن أن يعزّز منسوب متعتك عند التعامل مع كليهما...».

ثنائية مصطنعة

لطالما صُوّرت الرياضيات في العادة بأنها مسعى منفصل عن الفنون الإبداعية بعامّة؛ لكن الحقيقة أنّ الجدران العازلة بينهما هي فكرة حديثة العهد، لأنّ الرياضيات كانت عبر التاريخ جزءاً أساسياً في العدّة المفاهيمية والثقافية لكلّ إنسان متعلّم Educated. على سبيل المثال، لا نجد في جمهورية أفلاطون تلك الثنائية المصطنعة في تقسيم المنهج الدراسي المثالي إلى «رياضيات» و«آداب». نحن من نكرّس هذا التقسيم المصطنع، ونحن نعيش ثورات العلم والتقنية التي كانت أحلاماً بعيدة المنال لأفلاطون!

توضح الكاتبة العلاقة الأساسية بين الرياضيات والأدب في سياق هذه العبارات الواردة في المقدمة:

«لطالما أحببتُ الأنماط Patterns؛ أنماط الحروف أو الأعداد أو الأشكال. أحببتُ الأنماط قبل أن أعرف أنّ ما كنت أفعله يسمى رياضيات، وشيئاً فشيئاً صار واضحاً لي أنني في طريقي لأكون رياضياتية؛ لكنّ الأمر لم يخلُ من تبعاتٍ غير مرغوبة. تبعاً للنظام التعليمي البريطاني في العقود الأخيرة، باتت الرياضيات تُعامَلُ حصرياً على أساس كونها موضوعاً تختصه العلوم فحسب، وأبعد ما يكون عن الإنسانيات. لو أردتَ دراسة الرياضيات بعد أن تبلغ السادسة عشرة يتوجّبُ عليك اختيارُ الحقل العلمي دون الأدبي...».

أذكرُ في حصّتي الأخيرة في درس اللغة الإنجليزية بمدرستي الثانوية عام 1991 أنّ معلّمتي ناولتني قائمة طويلة، مكتوبة بعناية وخط متقن، تحوي عناوين كتب رأت أنها ربما تتناغم مع ولعي الذي تعرفه. قالت لي المعلّمة بكلمات حزينة: «آسفة لأننا خسرناك، وربحتك الرياضيات!».

بعد المقدّمة الثرية، تنطلق الكاتبة في متن كتابها، الذي وزّعته على 3 أقسام، ضمّت بمجموعها 10 فصول. تناول القسم الأول الرياضيات في سياق الهيكلية والإبداع والمحدوديات، وضمّ عناوين من قبيل؛ أنماط الشعر، هندسة السرد. وتناول القسم الثاني الأنماط السردية في الرياضيات، وضمّ فصولاً، هاكم بعض عناوينها: الرمزية العددية في الرواية، الاستعارات الرياضياتية في الرواية، رياضيات الأسطورة. تناولت الكاتبة في القسم الثالث أعمالاً أدبية محدّدة، صارت فيها الرياضيات هي الحكاية الإطارية الأساسية.

ويروقني في نهاية هذه المراجعة الموجزة لكتاب هارت أن أشير لمقالة كتبتُها قبل نحو 5 أو 6 سنوات، عنوانها: «أنا روائي؛ إذن أنا أكره الرياضيات!»، أشرت فيها إلى أننا غالباً ما نسمع تصريحات لبعض الشعراء أو الروائيين أو المشتغلين بالحقول الأدبية عموماً، تعلن كراهيتهم للرياضيات حد التفاخر بهذه الكراهية، وأنهم يرون الرياضيات متطلّباً تحليلياً معقداً لا يتّفق مع الاشتغالات الأدبية ومَلكة التخييل التي تتطلبها صنعة الأدب.

الرياضيات والأدب منبعان لا ينضبان للفتنة والجمال والخيال الممتد بلا حدود. هذه الحقيقة هي بعضُ ما يتلمّسُ قارئ هارت مصداقية الشواهد الرفيعة التي حفل بها كتابها المدهش.

«حدث ذات عدد أوّلي... الروابط المدهشة بين الأدب والرياضيات»

Once Upon a Prime: The Wondrous Connections Between Mathematics and Literature

المؤلفة: سارة هارت

الناشر: فلاتيرون بوكس

304 صفحة

2023


مقالات ذات صلة

ملتقى دولي في الرياض يعزز التبادل الفكري بين قراء العالم

يوميات الشرق يجمع «ملتقى لقراءة» محبي أندية القراءة والمهتمين بها لتعزيز العادات والممارسات القرائية (هيئة المكتبات)

ملتقى دولي في الرياض يعزز التبادل الفكري بين قراء العالم

تنظم هيئة المكتبات «ملتقى القراءة الدولي» الهادف لتعزيز العادات القرائية، من 19 إلى 21 ديسمبر (كانون الأول) بقاعة المؤتمرات في «مركز الملك عبد الله المالي».

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»
TT

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة أو أن تُحسب دراسته، على الرغم من التفصيل والإسهاب في مادة البحث، أحدَ الإسهامات في حقل النسوية والجندر، قدر ما يكشف فيها عن الآليات الآيديولوجية العامة المتحكمة في العالمَين القديم والجديد على حد سواء، أو كما تابع المؤلف عبر أبحاثه السابقة خلال أطروحته النظرية «العالم... الحيز الدائري» الذي يشتمل على أعراف وتقاليد وحقائق متواصلة منذ عصور قديمة وحديثة مشتركة ومتداخلة، وتأتي في عداد اليقين؛ لكنها لا تعدو في النهاية أوهاماً متنقلة من حقبة إلى أخرى، وقابلة للنبذ والنقض والتجدد ضمن حَيِّزَيها التاريخي والاجتماعي، من مرحلة الصيد إلى مرحلة الرعي، ومنهما إلى العصرَين الزراعي والصناعي؛ من الكهف إلى البيت، ومن القبيلة إلى الدولة، ومن الوحشية إلى البربرية، ومنهما إلى المجهول وغبار التاريخ.

ويشترك الكتاب، الصادر حديثاً عن دار «الياسمين» بالقاهرة، مع أصداء ما تطرحه الدراسات الحديثة في بناء السلام وحقوق الإنسان والعلوم الإنسانية المتجاورة التي تنشد قطيعة معرفية مع ثقافة العصور الحداثية السابقة، وتنشئ تصوراتها الجديدة في المعرفة.

لم يكن اختيار الباحث فالح مهدي إحدى الظواهر الإنسانية، وهي «المرأة»، ورصد أدوارها في وادي الرافدين ومصر وأفريقيا في العالمَين القديم والجديد، سوى تعبير عن استكمال وتعزيز أطروحته النظرية لما يمكن أن يسمَى «التنافذ الحقوقي والسياسي والقانوني والسكاني بين العصور»، وتتبع المعطيات العامة في تأسس النظم العائلية الأبوية، والأُمّوية أو الذرية، وما ينجم عن فضائها التاريخي من قرارات حاكمة لها طابع تواصلي بين السابق واللاحق من طرائق الأحياز المكانية والزمانية والإنسانية.

إن هذه الآليات تعمل، في ما يدرسه الكتاب، بوصفها موجِّهاً في مسيرة بشرية نحو المجهول، ومبتغى الباحث هو الكشف عن هذا المجهول عبر ما سماه «بين غبار التاريخ وصورة الحاضر المتقدم».

كان الباحث فالح مهدي معنياً بالدرجة الأساسية، عبر تناول مسهب لـ«المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ، بأن يؤكد أن كل ما ابتكره العالم من قيم وأعراف هو من صنع هيمنة واستقطاب الآليات الآيديولوجية، وما يعنيه بشكل مباشر أن نفهم ونفسر طبيعةَ وتَشكُّلَ هذه الآيديولوجيا تاريخياً ودورها التحويلي في جميع الظواهر؛ لأنها تعيد باستمرار بناء الحيز الدائري (مفهوم الباحث كما قلت في المقدمة) ومركزة السلطة وربطها بالأرباب لتتخذ طابعاً عمودياً، ويغدو معها العالم القديم مشتركاً ومتوافقاً مع الجديد.

إن مهدي يحاول أن يستقرئ صور «غبار التاريخ» كما يراها في مرحلتَي الصيد والرعي القديمتين، ويحللها تبعاً لمسارها في العهد الحداثي الزراعي الذي أنتج النظم العائلية، وبدورها أسفرت عن استقرار الدول والإمبراطوريات والعالم الجديد.

يرصد الكتاب عبر تناول مسهب «المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ في ظل استقطاب آيديولوجيات زائفة أثرت عليها بأشكال شتى

ويخلص إلى أن العصر الزراعي هو جوهر الوجود الإنساني، وأن «كل المعطيات العظيمة التي رسمت مسيرة الإنسان، من دين وفلسفة وعلوم وآداب وثقافة، كانت من نتاج هذا العصر»، ولكن هذا الجوهر الوجودي نفسه قد تضافر مع المرحلة السابقة في عملية بناء النظم العائلية، وأدى إليها بواسطة البيئة وعوامل الجغرافيا، بمعنى أن ما اضطلع به الإنسان من سعي نحو ارتقائه في مرحلتَي الصيد والرعي، آتى أكله في مرحلة الزراعة اللاحقة، ومن ثم ما استُنْبِتَ في الحيز الزراعي نضج في الحيز الصناعي بمسار جديد نحو حيز آخر.

ومن الحتم أن تضطلع المعطيات العظيمة التي أشار إليها المؤلف؛ من دين وفلسفة وعلوم وآداب زراعية؛ أي التي أنتجها العالم الزراعي، بدورها الآخر نحو المجهول وتكشف عن غبارها التاريخي في العصرَين الصناعي والإلكتروني.

إن «غبار التاريخ» يبحث عن جلاء «الحيز الدائري» في تقفي البؤس الأنثوي عبر العصور، سواء أكان، في بداية القرن العشرين، عن طريق سلوك المرأة العادية المسنّة التي قالت إنه «لا أحد يندم على إعطاء وتزويج المرأة بكلب»، أم كان لدى الباحثة المتعلمة التي تصدر كتاباً باللغة الإنجليزية وتؤكد فيه على نحو علمي، كما تعتقد، أن ختان الإناث «تأكيد على هويتهن».

وفي السياق نفسه، تتراسل دلالياً العلوم والفلسفات والكهنوت والقوانين في قاسم عضوي مشترك واحد للنظر في الظواهر الإنسانية؛ لأنها من آليات إنتاج العصر الزراعي؛ إذ تغدو الفرويدية جزءاً من المركزية الأبوية، والديكارتية غير منفصلة عن إقصاء الجسد عن الفكر، كما في الكهنوت والأرسطية في مدار التسلط والطغيان... وهي الغبار والرماد اللذان ينجليان بوصفهما صوراً مشتركة بين نظام العبودية والاسترقاق القديم، وتجدده على نحو «تَسْلِيع الإنسان» في العالم الرأسمالي الحديث.

إن مسار البؤس التاريخي للمرأة هو نتيجة مترتبة، وفقاً لهذا التواصل، على ما دقّ من الرماد التاريخي بين الثقافة والطبيعة، والمكتسب والمتوارث... حتى كان ما تؤكده الفلسفة في سياق التواصل مع العصر الزراعي، وتنفيه الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا في كشف صورة الغبار في غمار نهاية العصر الصناعي.