«الأرشيف المفقود»... أوراق الخلافة التي أطاحت «الاستبداد الشرقي»

باحثة بجامعة برينستون تنفي الرواية الغربية حول غياب التوثيق في العالم الإسلامي

«الأرشيف المفقود»... أوراق الخلافة التي أطاحت «الاستبداد الشرقي»
TT

«الأرشيف المفقود»... أوراق الخلافة التي أطاحت «الاستبداد الشرقي»

«الأرشيف المفقود»... أوراق الخلافة التي أطاحت «الاستبداد الشرقي»

عندما نشر البارون دي مونتسكيو كتابه الأشهر «روح القوانين» في عام 1740 وظّف مفهوماً كان متداولاً بين بعض المثقفين الأوروبيين لوصف الحكم العثماني، وهو «الاستبداد» وذلك بهدف توفير ذريعة لنقد وإصلاح النظام الفرنسي الذي عاش في ظله. لكنّ تفسيره للاستبداد الشرقي أصبح تدريجياً بمثابة حكم تاريخي مبرم على طبيعة المجتمعات «الشرقية» لأجيال من مؤلفي الكتب والدارسين ورواد الرحلات في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. كان هذا المصطلح يعني مجتمعا ثابتاً وخانعاً، وحكومة متخلفة وفاسدة، مع حكام تعسفيين وديكتاتوريين، يمتلكون رعايا أذلاء ومهمشين.وقد انسحب مفهوم استبداد القوى «الشرقية» ذلك تالياً على التصور الأوروبي حول تطور الاقتصاد العالمي بصيغته الحاليّة، والذي تمحور عبر معظم القرن الماضي ضمن مرحلة تراكم كمي متسارع ومن ثم انقلاب نوعي حدثت في أجزاء من أوروبا الغربيّة والغربيّة الجنوبيّة في القرن السادس عشر، فيما اعتبرت العصور الوسطى السابقة مرحلة من الظلام الطويل الذي ساد العالم القديم منذ انهيار روما.وبالطبع فإن إدوارد سعيد (الاستشراق – 1976)، وجانيت أبو لغد (ما قبل الهيمنة الأوروبيّة – 1991)، ووجوان باو روبيس (إثنوغرافيات العصور الوسطى: تصور الأوروبيين عن العالم – 2009) وغيرهم، جادلوا لاحقاً بأن هذه الرؤية المعممة عن الشرق محض خيال ومواقف مسبقة، تم تسويقها لإضفاء الشرعية بشكل أو بآخر على التوسع الإمبريالي الأوروبي وتبرير جرائمه، وأن حضارات العالم الإسلامي كانت مشعة ومضيئة وجذراً للتقدم الذي انتقل إلى أوروبا وانتشلها من الظلام. لكنّ المؤرخين احتفظوا مع ذلك بشكوكهم بسبب افتراضهم أن دول الخلافة الإسلامية في الشرق الأوسط لم تترك وراءها وثائق يعتدّ بها، وأن تفسير ذلك يكمن تحديداً في طبيعة الحكم الشرقي المستبدّ القائم على الأهواء الفرديّة اللا - مؤسسيّة والأحكام اللحظيّة التعسفيّة، مقارنةً بما أنتجته الدّول الأوروبيّة الأولى من جبال الوثائق واللقى الماديّة لمؤسسات الحكم وآلياتها البيروقراطيّة: خطابات التنصيب، والشكاوى المقدمة من المواطنين، والإعلانات الرسميّة، وإيصالات الضرائب، والأحكام القضائيّة، وسجلات الزواج، وما إلى ذلك مما كان تأسيساً للمسيرة نحو الحكومات البيروقراطيّة المعاصرة.لكنّ مارينا راستو، البروفسورة في دراسات الشرق الأدنى بجامعة برينستون (الولايات المتحدة)، في كتابها المفصليّ «الأرشيف المفقود: آثار دولة الخلافة في كنيس القاهرة»، تنفي بشدة كل شكوك المؤرخين، وتقدّم الدليل المادي الملموس على أن دول الخلافة الإسلاميّة في الشرق الأوسط امتلكت بالفعل أنظمة بيروقراطيّة الطابع، وسجلات مؤسسيّة تنفي كل تصور أوروبي مسبق حول غياب التوثيق في العالم الإسلامي قبل عام 1500 بسبب لعنة «الاستبداد» المزعوم الذي ينفي الحاجة إلى القوانين والنظم والإجراءات، ويجعل من ممارسة السلطة أمراً شخصياً وتعسفياً وسريع الزوال لارتباطه حصراً بالأفراد.راستو تعتقد أن ثروةً من وثائق الخلافة الفاطميّة (909 - 1171) كانت موجودة في متناول الباحثين منذ أواخر القرن التاسع عشر فيما تُعرف بـ«وثائق جنيزة ابن عزرا» في الفسطاط القديمة جوار القاهرة، دون أن يكلّف أحدهم عناء التدقيق فيها. إذ عثر وقتها على مخزن ملحق بكنيس يهودي - مصري من العصور الوسطى احتوى أكثر من 400 ألف وثيقة ورقيّة قديمة كان يحتفظ بها لأنها تحوي كتابات مقدسة واسم الربّ فلا يجوز إلقاؤها في القمامة لحين التخلّص منها بالطرق الشرعيّة –أي بالدّفن.وقد انتقلت هذه الوثائق من مصر في ظروف ملتبسة إلى جهات عدّة وإن تركّز أغلبها في النهاية داخل المكتبات بأكسفورد وكامبريدج ونيويورك، وأصبحت مصدراً لا غنى عنه للباحثين في اليهوديات وتاريخ اليهود والعصور الوسطى بشكل عام. لكن المفارقة، أن التركيز على المضمون اليهودي والكتابات العبريّة واليديشيّة أعمى الباحثين عن النّظر في المضمون الآخر الذي احتوته الوثائق: مخاطبات الحكومة الإسلاميّة في مصر. وفق راستو، وبحكم أن الورق كان سلعة ثمينة خلال العصور الوسطى، فإن الكنيس اليهودي - المصري كان يشتري الأوراق المستعملة من أرشيف الدولة، ويعيد استعمالها للأغراض الدينيّة، ولذلك فإن خلف كل نص يهودي تقريباً كان هناك على الجهة الأخرى من الورقة كتابات عربيّة خطّتها أيدي موظفي دواوين الخلافة الفاطميّة، وتتضمن مراسلات بيروقراطيّات الحكم المحلي بكل تفاصيلها. تنتمي النّصوص العربيّة المعاد تدويرها إلى فئة من المستندات تأتي على شكل لفائف ورقية طويلة –معدل طولها في «جنيزة ابن عزرا» كان ثمانية أمتار- يلحظ أنّها تحتوي مسافات واسعة بين السطور بهدف ضمان سهولة قراءتها بصوت عالٍ وعكس صورة مهيبة عن الدّولة. على أنّ هذه الأوراق كانت سرعان ما تستنفد أغراضها الإداريّة ويتم التخلّص منها وإعادة تدويرها للاستعمالات المختلفة وبشكل متكرر –بما في ذلك الكنيس اليهودي- فيما تحتفظ الدواوين الحكوميّة بنسخة أكثر ديمومة من كل وثيقة على ورق أفضل، لتُضمّ إلى أرشيف الدّولة. لكنّ الأقدار اختارت أن تنجو النسخ المؤقتة المخصصة للإتلاف مع انتهاء دورها المباشر، فيما تعرضت نسخ الأرشيف الرّسمي للضياع بسبب الصراعات السياسيّة وتقلبات الدّول والكيد السياسي بين أجنحة النخب الحاكمة، كما الكوارث الطبيعيّة.تتطلب قراءة نصوص «جنيزة ابن عزرا»، سوى الدُّرْبة على التعامل مع وثائق تعرضت لتأثيرات الزمن عبر قرون متتابعة، مهارات لغوية متقدمة للعمل على وثائق تتداخل فيها اللغات العربية والعبرية واليهودية - العربية (أي العربية المكتوبة بالحرف العبري) واليديشية، وهو ما تقوده راستو في مختبر مخصص لدراسة أوراق الجنيزة بجامعة برينستون. لكن التحدي الأهم يتمثل في محاولة إعادة كتابة التاريخ على أساس قصاصات صغيرة متفرقة من المعلومات البيروقراطيّة. وبالطبع، فإن كل وثيقة على حدة تتضمن القليل المرتبط بحالات مؤقتة، لكن عند تجميعها في سياق كلّي تبدو معاً كأنّها لوحة فسيفساء هائلة، يمكن أن يُستقرأ منها الكثير عن الأفراد والمجتمعات والمؤسسات ومجالات الحياة اليومية في الأزمنة السابقة، وهو تاريخ اجتماعي ثري غالباً ما يكون غير مرئي للقارئ المعاصر من المصادر التاريخية الأخرى.يحفل كتاب راستو بنماذج كثيرة من هذه الوثائق المذهلة رغم أن ما تم تحقيقه لا يصل بعد إلى 1 في المائة من مجموع أرشيف الجنيزة. على سبيل المثال هناك نسخة بحالة ممتازة لنص من الشريعة اليهوديّة كان يعدّه الحاخام الأكبر في الكنيس (توفي في حدود عام 1055) ربما كتحضير لخطبة كان سيلقيها على أتباعه. وقد نسخ الحاخام النص على ظهر مرسوم رسمي فاطمي كان مخصصاً في الأصل لمراسلة من المركز بالقاهرة إلى أحد المسؤولين في الأقاليم.وتقول راستو إن أمر هذا الأرشيف الكنز لا يتعلّق فقط بأعمال الدّولة الفاطميّة والدورة المستنديّة لدوائرها فحسب، بل تكشف أيضاً عن ثقافة موظفي الحكومة الذين دوّنوها. وتلفت النظر مثلاً إلى أن الخلاف العقائدي بين الخلافة العباسيّة في بغداد التي كانت تتبع المذهب السني والخلافة الفاطميّة الشيعيّة لم تمنع تأثر موظفي الدّولة بالقاهرة بأساليب إداريّة متقدمة ونماذج مخاطبات وخطوط كتابة منقولة عن غرمائهم الآيديولوجيين في العراق. وتقول راستو إن هذه التأثيرات جليّة، ومنحت الوثائق الفاطميّة شكلها ومظهرها وهيكلية نصوصها المميزة.كتاب «الأرشيف المفقود» كتاب أكاديمي صارم، ويتعلّق بتفاصيل تقنيّة وبيروقراطيّة، لكنّه مع ذلك ممتع للقراءة بفضل أسلوب راستو الرّشيق والمرح والمشاكس أحياناً. وهو يؤسس بما لا يدع مجالاً للشك لحقيقة أنّ الفاطميين –كنموذج لدولة الخلافة الإسلاميّة في العصور الوسطى– أداروا دولة حقيقيّة ذات أذرعة بيروقراطيّة مؤسسيّة، يتولاها مسؤولون حكوميون من طراز مثقّف ومطّلع، وتتبع نظماً إدارية وقوانين وإجراءات وروتيناً يحكم مختلف جوانب الحياة المجتمعيّة. ويمكننا دائماً القياس على وثائق الجنيزة للزعم بأن حواضر الإسلام الأخرى في دمشق وبغداد وقرطبة وغيرها امتلكت بدورها أنظمة حكوميّة لا تقل تعقيداً عن تلك الفاطميّة التي نقرأها في خلفيّة كتابات الكنيس المصري.لقد حان الوقت لكي نضع الصورة الكاريكاتورية المتخيّلة عن «الاستبداد الشرقي» جانباً، ونشرع في قراءة جديدة جادّة للتاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للعصور الوسطى كمرحلة لا يجوز إسقاطها من تاريخ تطوّر الحضارة البشريّة لمجرّد أن السادة الأوروبيين كانوا وقتها يعيشون في عهود تفسخ وظلام وبربرية. فهنا، في الشرق، كما أرتنا راستو، كانت لنا دول وحضارة عظيمة فيما قبل الحداثة الأوروبيّة، ومساهمتنا تاريخياً في بناء العالم المعاصر ليست هامشيّة، ولا عابرة بأي شكل من الأشكال.الأرشيف المفقود: آثار دولة الخلافة في كنيس القاهرةThe Lost Archive: Traces of a Caliphate in a Cairo Synagogueالمؤلفة: مارينا راستوالناشر: مطبعة جامعة برينستون


مقالات ذات صلة

قصص من بلاد سومر

ثقافة وفنون قصص من بلاد سومر

قصص من بلاد سومر

صدر حديثاً عن منشورات «رامينا» بلندن كتاب «مدن الكلمات الصادقة» للقاصّ السوريّ عبد الرزّاق دحنون الذي يروي فيه قصصاً من بلاد سومر.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق السفير السعودي في بريطانيا الأمير خالد بن بندر بن سلطان مفتتحاً الندوة

«حكايا عربي أنغلوفوني» في رابطة المؤلفين البريطانية

شهدت رابطة المؤلفين البريطانية في لندن، ندوة حول العلاقات العربية - البريطانية، خلال إطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني» للزميل فيصل عباس.

ثقافة وفنون حنا مينه

الرواية وأسلوب «ما بعد اليفاعة»

يمكن تفسير أسلوب ما بعد اليفاعة بوصفه صيغة تواؤم مع الحياة والكتابة بعد انقشاع أوهام البدايات، وإيناع الشكوك حول اختيارات «وهج الإنجاز السريع»،

شرف الدين ماجدولين
ثقافة وفنون أراغون وإلزا

فارس يواكيم يُعرّب «عيون إلزا» ويقرأ مقاصد العاشق لويس أراغون

أول ما يتبادر إلى الذهن عندما تقع عيناك على كتاب معرّب، وله سابق ترجمة، هو: ما جدوى الجهد المبذول لمرة جديدة؟

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون «جيل 68» العراقي الذي لم يكتمل ضياعه حتى اليوم

«جيل 68» العراقي الذي لم يكتمل ضياعه حتى اليوم

ربما تأخر صدور روية فاضل خضير «الضحايا» (دار سطور، بغداد) كثيراً إلا أنّ كتابتها تعدُّ درساً خاصاً في مراجعة القطوعات التاريخية في العراق الحديث

محمد خضير

إعادة اختراع علم الاقتصاد

جوين دوين فارمير
جوين دوين فارمير
TT

إعادة اختراع علم الاقتصاد

جوين دوين فارمير
جوين دوين فارمير

قدّم كارل ماركس، في أهم أعماله المنشورة «رأس المال – 1867» أفضل نموذج نظري نمتلكه اليوم لفهم ديناميكية عمل النظام الرأسمالي منطلقاً في توصيفه من موقف فلسفي مادي يرى في الصراع الطبقي محركاً للتاريخ. وفسّر التقلبات الاقتصادية بالجدليّة بين قوى الإنتاج وعلائق الإنتاج مستنداً في ذلك إلى مجموعة متقدّمة – بمقاييس عصره - من الإحصاءات والدراسات والوثائق، التي قضى ورفيقه الجليل فريدريك إنجلز سنوات طوالاً في تتبعها، ودراستها، واستخلاص الاستنتاجات منها. وعلى الرّغم من أن نظريات الاقتصاد الماركسيّ أصبحت جزءاً من الصراع بين الشرق والغرب بعد قيام الاتحاد السوفياتي في 1917، وأن النخب الغربيّة بذلت جهوداً مكثفة للتعمية عليها وتجاوزها لمصلحة نظريات أحدث، فإن الأزمات البنيوية المتلاحقة التي وكأنّها لازمة للنظام الرأسماليّ لا بدّ منها في كل جيل، فرضت دائماً تساؤلاً صار موسمياً على عناوين الصحف وأغلفة المجلات المؤثرة: هل كان كارل ماركس على حق؟

إن الواقع العمليّ يظهر أن (علم) الاقتصاد التقليدي – بما في ذلك الاقتصاد الماركسيّ – لا يزال بشكل عام متخلفاً عن التقدّم الهائل الذي حققه البشر في مجالات معرفية مختلفة، وعاجزاً عن توظيف الإمكانات اللانهائيّة لتكنولوجيا المعلومات الحديثة، وما زالت افتراضاته الأساسية سهلة الدّحض، وقدرته على التنبؤ محدودة للغاية، ما يجعله أقرب لعلم زائف، رغم كل المعادلات والصيغ الرياضيّة التي يرطن بها دهاقنته.

البروفيسور جوين دوين فارمير، الذي يدير برنامج الاقتصادات المعقدة في معهد الفكر الاقتصادي الجديد بجامعة أكسفورد (المملكة المتحدة)، يعتقد أنه قد حان الوقت لنقل الاقتصاد إلى مساحة العلم الحقيقي عبر تجاوز الأساليب الاقتصادية التقليديّة، والانتقال إلى ما يسميه في كتابه الجديد «فهم الفوضى: علم اقتصاد أفضل من أجل عالم أفضل – 2024» باقتصاديات التعقيد التي تنظر إلى النظام الرأسمالي الكليّ كما الأنظمة الشبيهة بالنظم الأيكولوجيّة الطبيعيّة التي تتحكم بمناخ كوكب الأرض، ومن ثم تأمل بالاستفادة من المحاكاة الحاسوبيّة العملاقة وأحدث أدوات الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بمسار الاقتصاد العالميّ ورصد كيفيّة تفاعل مليارات الأشخاص داخله، تماماً كما نبدع اليوم في التنبؤ الفعال بالطقس، ومتابعة التغيرات اللّحظية التي تطرأ عليه.

يرى فارمير أن إحدى مثالب علم الاقتصاد التقليديّ تكمن في ذلك التنوع المتناحر أحياناً في الآراء تجاه القضايا الأساسيّة في الاقتصاد، الأمر الذي يعني أن مجتمعاتنا ما زالت تتخذ القرارات الفاصلة بناء على المشاعر والمعتقدات الغريزية بدلا من موضوعيّة العلم، وهو يزعم أن اقتصاديات التعقيد توفر إمكانية لعلم اقتصاد أكثر موضوعية، حيث لا تولد الإجابات من خلال الافتراضات السابقة، بل من معطيات الواقع. ويفترض الاقتصاد القياسي أيضاً أن الأنظمة الاقتصاديّة تستقرّ وتصل على المدى الطويل إلى التوازن، لكن ذلك ليس – وفق فارمير دائماً - سوى تعميم مخل لا يعمل إلا في حالات بسيطة ومعزولة، إذ إنّه من الجليّ أن العقلانية ليست مرجعيّة حاكمة للسلوك البشري، ومن دونها، فإن الإطار الرياضي الذي يحكم النموذج الاقتصادي الحالي سينهار بكليته.

يستند فارمير في طروحاته إلى التقدّم النظريّ الهائل الذي تحقق في العقود الأخيرة ضمن فضاء نظريّة الفوضى ونمذجة الأنظمة المعقدة – أي تلك التي تتقاطع فيها العديد من الظواهر ما يخلق كلاً يختلف نوعياً عن مجموع أجزائه متفرقة - مثل الدماغ البشري، والمناخ، والنظام الرأسمالي. وبالطبع، فإن عمليّة النمذجة ليست مثالية، بمعنى أن معطياتها تعتمد أساساً على العوامل التي ستؤخذ بعين الاعتبار، وكمية ودقة البيانات المتوفرة عنها، والفترة الزمنية التي تغطيها تلك البيانات. ومع أن معظم هذه الأدوات النظريّة متوفرة منذ ستينات القرن الماضي، إلا أن البروفيسور فارمير يقول إن قوة الحوسبة في وقتنا الرّاهن أقوى بمليار مرّة مما كانت عليه في القرن العشرين، وهو ما يمنح العلماء قدرات متفوقة على التنبؤ بسلوكيات الأنظمة المعقدة عموماً والاستمرار في تحسين دقة تلك التنبؤات مع مرور الوقت.

ويعطي المؤلف في «فهم الفوضى» أمثلة واقعية من خبرته الشخصيّة المديدة عن إمكانات اقتصادات التعقيد تبدأ من عام 1975 عندما ترك كليّة الدراسات العليا وتفرّغ للتنبؤ بلعبة الروليت في دور المقامرة في لاس فيغاس، وهو أمر لم يكن متوقعاً. لكنّه نجح في بناء نموذج يتنبأ بالنتائج واستخدم أرباحه لتأسيس تعاونية مع رفاقه نجحت في بناء أول جهاز كمبيوتر يمكن ارتداؤه، كان يخفيه تحت معطفه، وينقل الحسابات إلى شريكة له كان ترتدي جهاز استشعار مخفياً لتراهن على الأرقام الفائزة. ولاحقاً – عام 1991 – أسس مستغلاً قدرته على بناء نماذج التنبؤ شركة للتداول الإلكتروني بالأوراق المالية يفوق أداؤها معدلات السوق في 19 عاماً من أصل عشرين، قبل أن يبيعها لإحدى الشركات الكبرى مقابل مائة مليون دولار في 2006.

وفي 2010، نشر مقالة له في مجلة مرموقة تنبأ فيها بأن الطاقة الشمسية ستكون أرخص من الكهرباء التي تعمل بالفحم بحلول عام 2020 مخالفاً بذلك عدداً من الاقتصاديين. وبالفعل انخفضت التكلفة وفق توقعاته، وأصبحت الطاقة الشمسية الآن أرخص من الكهرباء التي تعمل بالفحم، وتتجه تكلفتها إلى مزيد من الانخفاض.

وفي أجواء «كوفيد - 19» توقع فارمير وزملاؤه أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد البريطاني للربع الثاني من عام 2020 بنسبة 21.5 في المائة بسبب سياسات الإغلاق التي تبنتها الحكومة في ذلك الحين، في حين تنبأ بنك إنجلترا (المركزي) بانكماش للفترة نفسها بنسبة 30 في المائة. ولكن رقم فارمير وزملائه كان أقرب بشكل لافت للرقم الفعلي الذي انتهى إلى 22.1 في المائة.

ويقود البروفيسور فارمير مختبراً لسياسات المناخ، يحلل ويقيّم أساليب ومنهجيات اقتصاديّة للتعامل مع تغيرات المناخ، بما في ذلك أنجع السبل لضمان الانتقال السلس نحو اقتصاد صديق للبيئة في إطار عالمي يأخذ بعين الاعتبار الفروقات البنيوية في اقتصادات مختلف الدول.

فإذا كانت هذه القدرات متوفرة فعلاً، فما الذي يمنع الدّول من توظيفها بشكل مباشر في تفكيك أسس الاقتصاد العالمي وفهم سبل بناء تنمية مستدامة والبحث عن حلول للفقر، وانعدام المساواة، والطبقيّة السافرة؟!

يلمّح البروفيسور فارمير إلى مسألة تتعلق بنظرة الطبقات المهيمنة على الاقتصاد العالمي، التي في أغلب الأحوال لا تجد مصلحة لها في فهم جمعيّ أفضل لطريقة عمل النظام الرأسمالي، ومن ثم استخلاص سياسات قد تنهي انعدام المساواة مثلاً – سواء بين الدول – أو حتى على صعيد الطبقات في المجتمع نزولاً عند مصالح مجموعة من الأفراد المفرطي الثراء، لكنه يتوارى وراء نص ينقله عن الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور الذي يذهب فيه إلى القول إن التناقض الأساسي للنظام (الرأسمالي) مستمر لأنه لا يوجد عدد كاف من المنتفعين الذين يقبلون بالتضحية بمصالحهم على المدى القصير لمصلحة غد أفضل للجميع. على أن البروفيسور فارمير يجرؤ على الإشارة إلى أن مصلحة الحضارة الإنسانية وصيانة مستقبلها على هذا الكوكب تحتّمان أن تنتقل البشرية من التخبط في اتخاذ القرارات الاقتصادية إلى استخدام اقتصاديات التعقيد، التي دون شك تتطلب إلى جانب التزام النخبة بتنفيذ معطياتها توفير الاستثمارات الهائلة اللازمة والكوادر لمدّ النمذجة بأكبر كميّة ممكنة من البيانات من المصادر المختلفة، وهو أمر أصبح في الثورة التكنولوجية أقرب إلى الواقع منه إلى الخيال.