فيلم جدّي يفتح صفحات هنري الثامن الغابرة

السينما اهتمت بحياته العاطفية وليس العسكرية

«فايربراند» (سي سي أ)
«فايربراند» (سي سي أ)
TT

فيلم جدّي يفتح صفحات هنري الثامن الغابرة

«فايربراند» (سي سي أ)
«فايربراند» (سي سي أ)

بعد سنة من عرضه العالمي الأول في الدورة الـ76 من مهرجان «كان» (2023) تنطلق عروض فيلم «فايربراند» (Firebrand) في أميركا خلال الأيام القليلة المقبلة.

الفيلم من إخراج كريم عينوز (والده جزائري وأمه برازيلية) الذي عاد إلى المهرجان نفسه هذا العام بفيلم آخر هو «موتيل دستينو». كلاهما لم يُنجز أي جائزة.

يتعامل «فايربراند» مع حقبة الملك هنري الثامن من خلال حكاية زوجته الخامسة والأخيرة كاثرين پار التي تلعب دورها أليسيا ڤيكاندر. هنري (جود لو)، بذلك، هو السبب وراء تحقيق هذا الفيلم من زاوية زوجته وليس من زاوية تاريخه الشخصي كما درجت على ذلك معظم الأفلام التي تناولته.

«ماري ملكة الأسكتلنديين» (فوكس فيتشرز)

منافسة بين شقيقتين

«فايربراند»، عن رواية إليزابيث فرمنتل، يتضمن أكثر من توجيه الكاميرا للحديث عن الملكة (1512-1548)، وليس عن الملك (1491-1547). هذا تسليط ضوء على المرأة التي شاركت الملك آخر سنوات حياته، وكانت أول امرأة نشرت كتاباً في بريطانيا، حمل عنوان «مزامير أم صلوات» (Psalms or Prayers) وكان الأول بين ثلاثة كتب معروفة وضعتها وأثار بعضها غضب الكنيسة البروتستانتية ضدها.

يجد الفيلم في الملكة كاثرين الفرصة ليتحدّث عن امرأة تطالب بحقوقها النسوية (هناك مشهد خطاب ناري تطلقه بين مجموعة من المستمعات تحفّزهن على انتزاع حقوقهن من مجتمع ذكوري). عملياً، لا مكان للبحث عن الحقيقة الفعلية هنا، فهي ربما كانت رائدة بالنسبة لحقوق المرأة وربما لم تكن، لكن الفيلم سيسعى للاستفادة من هذا الموضوع لتمييز الفيلم عن الأفلام السابقة عن الملك هنري الثامن ومنوال حياته.

«فايربراند» ليس الفيلم الوحيد الذي يتحدّث عن زيجات هنري الثامن بالطبع. على سبيل المثال، هناك فيلمان بعنوان واحد («بولين الأخرى»، The other Boleyn Girl) عن الشقيقتين آن بولين وماري بولين اللتان تنافستا عليه عشيقة أو زوجة. الأول، أخرجته فيليبا لوثروب سنة 2003 من بطولة جودي ماي ونتاشا مكالون (وقام بدور الملك ‪جارد‬ هاريس) والثاني أخرجه جاستن شادويك سنة 2008 من بطولة سكارليت جوهانسون، وناتالي بورتمان، وإريك بانا (في دور الملك). هذا يركّز أكثر على مطامع عائلة بولين لدفع فتاتيهما للوصول إلى فراش الملك.

معظم الأفلام التي دارت حول هنري الثامن تناولت حقبته من زوايا مختلفة. سنجد أن بعضها دار عنه فعلاً بينما توزعت الأفلام الأخرى حول شخصيات أخرى في محيطه.

من أول هذه الأفلام «الحياة الخاصة لهنري الثامن» (The Private Life of Henry VIII) مع تشارلز لوتون في دور الملك وإخراج ألكسندر كوردا (بريطانيا، 1933). بفضل حنكة هذا الممثل وبراعته صُوّر هنري الثامن بوجهين متلازمين، سلبي وإيجابي وبتلقائية.

«ملكة لتسعة أيام» (Nine Days a Queen) من أعمال روبرت ستيڤنسون (بريطانيا، 1936)، وبطولة نوڤا پيلبيم.

كان تراجيدياً عن الملكة جين غراي التي أُعدمت بعد تسعة أيام من زواجها. كُتب التاريخ تتفق على أنها كانت ضحية مؤامرات البلاط، وإنها في الأساس أُجبرت على الزواج من هنري الثامن.

في العام نفسه قدّم المخرج الأميركي جون فورد فيلمه «ماري أوڤ سكوتلاند» (بطولة كاثرين هيبورن) الذي دار في رُحى تلك الفترة، لكنه تحدّث عنها وعن سعيها للاحتفاظ بمنصبها ملكة رغم معارضة عديدين.

سكارليت جوهانسون في «فتاة بولين الأخرى» (كولومبيا بيكتشرز)

أفلام أخرى

مرت سنوات عدّو، وحفنة لا بأس بعددها من الأفلام قبل أن نجد الأميركي فرد زنيمان ينجز من بطولة روبرت شو وبول سكوفيلد «رجل لكل الفصول» (A Man for All Seasons).

هذا فيلم له علاقة بالصراع البروتستانتي- الكاثوليكي، الذي ميّز الطبقة الحاكمة والكنيسة في تلك الحقبة. بطله «سير» توماس مور، الذي عارض لجوء هنري الثامن إلى التخلي عن الكاثوليكية لأجل الطلاق والزواج من جديد.

مثله في هذا الاتجاه صوب تفسير الصراع في البلاط البريطاني في تلك الفترة «ماري، ملكة الأسكوتلنديين» لتشارلز جاروت وبطولة ڤانيسا رديغريف في دور الملكة ماري التي خاضت لنحو عقدين من الزمن انتصاراً للدين الكاثوليكي ضد ملكة إنجلترا آنذك، الملكة إليزابيث.

تحت هذا العنوان نفسه، لعبت ساويرس رونان دور الملكة ماري في فيلم حديث (2018) تمحور حول النزاع الذي دار بينها وبين ابنة عمّها الملكة إليزابيث.

ما يستخلصه المرء من نحو 30 فيلماً عن هذا الموضوع أن الفترة المشهودة امتلأت بالنزاعات السياسية والدينية والعسكرية بين من يطلب السلطة ومن يملكها ولأي غاية.

الملك هنري كان، على الأرجح، القمّة في تلك الصراعات ولو أن الوجه الأكثر تردّداً حين الكتابة عنه، هو أنه كان الرجل المِزواج، علماً أنه كان أيضاً عسكرياً انتصر في بعض حروبه ضد الأسكوتلنديين كما ضد الفرنسيين.

ملكة مرّتين

«فايربراند» ينضم إذن إلى تلك الأعمال السينمائية التي تتلاعب بالحقائق - أو ببعضها على الأقل - في سبيل إثارة الاهتمام بالفيلم وليس بشخصياته.

الممثلة أليسيا ڤيكاندر كانت لعبت دور الملكة مرّة من قبل، عندما أُسند إليها دور كاثرين ماتيلدا، ملكة الدنمارك والنرويج في فيلم «علاقة ملكية» (2012). المخرج كريم عينوز يؤم الموضوع من زاوية تتمثّل في تنفيذ السيناريو وليس في البحث عن مدلولاته أو فرص التعمّق في حياة من فيه.

حياة الملكة كاثرين والملك هنري الثامن، موثّقة في كتب تاريخية عديدة منها كتاب لجيمس موترام ستيوارت سنة 2008 عنوانه «Empire and Nation in Early English Renaissance Literature»، وكان يمكن لها أن تؤسّس لفيلم أفضل ممّا رُسم على الشاشة.


مقالات ذات صلة

دياموند بو عبود: «أرزة» لسانُ نساء في العالم يعانين الحرب والاضطرابات

يوميات الشرق «أرزة» تحمل الفطائر في لقطة من الفيلم اللبناني (إدارة المهرجان)

دياموند بو عبود: «أرزة» لسانُ نساء في العالم يعانين الحرب والاضطرابات

تظهر البطلة بملابس بسيطة تعكس أحوالها، وأداء صادق يعبّر عن امرأة مكافحة لا تقهرها الظروف ولا تهدأ لتستعيد حقّها. لا يقع الفيلم اللبناني في فخّ «الميلودراما».

انتصار دردير (القاهرة)
يوميات الشرق المخرج المصري بسام مرتضى يرفع بجوائز فيلمه «أبو زعبل 89» (إدارة المهرجان)

«القاهرة السينمائي» يوزّع جوائزه: رومانيا وروسيا والبرازيل تحصد «الأهرامات الثلاثة»

أثار الغياب المفاجئ لمدير المهرجان الناقد عصام زكريا عن حضور الحفل تساؤلات، لا سيما في ظلّ حضوره جميع فعاليات المهرجان.

انتصار دردير (القاهرة)
يوميات الشرق معابد الأقصر تحتضن آثار الحضارة القديمة (مكتبة الإسكندرية)

«تسجيلي» مصري يوثّق تاريخ الأقصر «أقوى عواصم العالم القديم»

لم تكن قوة الأقصر ماديةً فحسب، إنما امتدّت إلى أهلها الذين تميّزوا بشخصيتهم المستقلّة ومهاراتهم العسكرية الفريدة، فقد لعبوا دوراً محورياً في توحيد البلاد.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق مشهد من الفيلم السعودي «ثقوب» (القاهرة السينمائي)

المخرج السعودي عبد المحسن الضبعان: تُرعبني فكرة «العنف المكبوت»

تدور الأحداث حول «راكان» الذي خرج إلى العالم بعد فترة قضاها في السجن على خلفية تورّطه في قضية مرتبطة بالتطرُّف الديني، ليحاول بدء حياة جديدة.

أحمد عدلي (القاهرة )
سينما  مندوب الليل (آسيا وورلد فيلم فيستيڤال)

«مندوب الليل» لعلي الكلثمي يفوز في لوس أنجليس

في حين ينشغل الوسط السينمائي بـ«مهرجان القاهرة» وما قدّمه وما نتج عنه من جوائز أو أثمر عنه من نتائج وملاحظات خرج مهرجان «آسيا وورلد فيلم فيستيڤال» بمفاجأة رائعة

محمد رُضا‬ (القاهرة)

غياب مُريب لأفلام التاريخ العربي والإسلامي

«أسد الصحراء» (فالكون إنترناشيونال)
«أسد الصحراء» (فالكون إنترناشيونال)
TT

غياب مُريب لأفلام التاريخ العربي والإسلامي

«أسد الصحراء» (فالكون إنترناشيونال)
«أسد الصحراء» (فالكون إنترناشيونال)

يُقيم «مهرجان القاهرة» الذي بدأ دورته الـ45 يوم أول من أمس، ندوة خاصة عن المخرج والمنتج مصطفى العقاد الذي كان رحل في مثل هذه الأيام ضحية عملية إرهابية في عمّان قبل 19 سنة.

مُخرج «الرسالة»، عن نشأة الإسلام، و«عمر المختار»، عن مناضل في سبيل استقلال بلاده، كانا، ولا يزالان، أكبر إنتاجين عربيين- عالميين عرفته السينما.

المناسبة تستحق الاهتمام أولاً لإعادة التّذكير بمخرج عربي اخترق الجدار الصّامت حول تاريخ العرب والإسلام في فيلميه «الرسالة» (1976)، و«أسد الصحراء» (1980). وثانياً، لأنه المخرج العربي الوحيد الذي نجح في تحويل أحداث تاريخية عربية إلى الشاشة بنظام 70 مللم بانافيجين كما أفلام البريطاني ديڤيد لين، وفي مقدّمتها «لورنس العرب» (1962) الذي جمع ممثلين عالميين (أنطوني كوين، وبيتر أو تول، وأليك غينس، وجاك هوكينز، وكلود رينز) إلى جانب عمر الشريف وجميل راتب من مصر.

بعد عرضه الخاص في «مهرجان القاهرة» سينطلق في عروض عربية عديدة في جدّة، والدوحة، ودبي، والقاهرة والسعي جارٍ لتوسيع الرقعة عربياً وعالمياً.

مصطفى العقاد يتوسط عبد الله غيث وأنطوني كوين خلال تصوير «الرسالة» (فالكون إنترناشيونال)

خبرات ومواهب

لم يكن سهلاً على الممثلين الذين ظهروا في فيلمي العقاد تسليمَ مقادير مهنتهم آنذاك لمخرج عربي غير معروف، كلّ ما كان لديه لتقديمه - لجانب طموحه - أنه اشتغل مساعد إنتاج وإخراج في بعض المحطات التلفزيونية الأميركية. لكن العقاد فاز بالثقة سريعاً مع احتمال أن يكون الموضوعان المثاران في هذين الفيلمين عنصرَي جذب إضافي. الأول دار حول رسالةٍ (عن الدين الإسلامي) لم يتعرّف عليها الغرب في فيلم سابق، بل بقيت مودوعة في دراسات أكاديمية وكتب. الثاني ثورة ليبية ضدّ الاستعمار الإيطالي صاغها العقاد بعناية وتوازن. وراعى فيه جودة التقديم أيضاً.

«الرسالة» تم بنسختين منفصلتين واحدة عربية أمّ تمثيلها بعض أفضل الخبرات المصرية والمغاربية والسورية واللبنانية، وواحدة بالإنجليزية وكلاهما كانا نجاح عمل مدروس رغم صعوبة تنفيذه.

الفيلم الثاني حكى أن هناك ثورات أخرى وقعت خلال احتلال أجزاءٍ من العالم العربي وأن الموت الجماعي حاذى سواه ممّا حول العالم.

ما إن وقّع أنطوني كوين وإيرين باباس على العقد المبرم لهما، حتى تداعى الآخرون أمثال مايكل أنسَارا وداميان تومس ومايكل فورست.

لاحقاً، عندما خرج «الرسالة» إلى عروض عالمية شملت بلداناً عربية وغربية عديدة، حتى صار من الأسهل جذب نجوم آخرين تقدَّمهم، مرّة ثانية، أنطوني كوين في دور عمر المختار. حينها قال كوين لهذا الناقد في مقابلة: «لم أكن أعرف شيئاً عن التاريخ العربي. العقاد فتح عينيّ على هذا التاريخ المجهول بفيلميه، وبرؤية ثاقبة، وكيفية إنتاج مناسب لفيلم تاريخي كبير. بصفتي ممثلاً أرى أن كلّ شيء كان في مكانه الصحيح».

«المسألة الكبرى» (المؤسسة العامة للسينما والمسرح)

محاولات غير مجزية

لا يمكن إغفال حقيقة أن الأفلام التاريخية - الدينية العربية كان لها حضور سابق لـ«الرسالة». نتحدّث عن «واإسلاماه» للأميركي أندرو مارتون الذي أُنتج في مصر سنة 1961 وخاض بطولته كلٌ من لبنى عبد العزيز (في دور شجرة الدر)، وأحمد مظهر ورشدي أباظة ويوسف وهبي ومحمود المليجي وكاريوكا وعماد حمدي وفريد شوقي.

قبله بعشر سنوات أقدم إبراهيم عز الدين على تحقيق «ظهور الإسلام» بإمكانات محدودة مع كوكا وعماد حمدي وأحمد مظهر وسراج منير بين آخرين. ثم بعد 10 سنوات على ظهور «واإسلاماه» أنجز صلاح أبو سيف «فجر الإسلام». الذي استفاد من خبرة أبو سيف ولو أنه في النهاية بقي إنتاجاً محلياً للسوق العربية.

هناك أيضاً «الناصر صلاح الدين» ليوسف شاهين (1963)، الذي وظّف فيه المخرج أفضل طاقاته وطواقمه ما ساهم، بجانب اسمه المعروف، في انضمام هذا الفيلم إلى باقي ما ذُكر في عالمٍ عربيٍّ كان يتطلّع إلى مثل هذه الأفلام الترويجية لموضوعاتها باهتمام كبير يناسب كل ذلك الجهد الذي شهدته هذه الأعمال.

أدركت السينما العراقية أن هناك طريقاً لإنتاجات تصبو للعالمية بموازين ونُظم إنتاج برهن العقاد أنها ممكنة. في هذا الصّدد حقّق المخرج صلاح أبو سيف «القادسية» في عام 1981 بطلب من الحكومة خلال الحرب العراقية الإيرانية. الفيلم جاء كبير الإنتاج كما أُريد له أن يكون، ركيكاً في نواحيه الفنية، ودعائياً فيما تبقى.

مؤسسة السينما العراقية التي أنتجته كانت التفتت سنة 1980 إلى المخرج المصري الآخر توفيق صالح، وأصرّت على أن يُنجِز «الأيام الطويلة»، الذي عاد إلى تاريخٍ أقرب ليسرد جزءاً من سيرة حياة الراحل صدّام حسين.

في عام 1983 حقّق العراقي محمد شكري جميل «المسألة الكبرى» (1983) عن ثورة العراقيين ضد الاحتلال البريطاني. جلب المخرج مدير التصوير جاك هيلديارد، الذي كان عمل مع العقاد على فيلميه، والممثل أوليڤر ريد الذي كان اشترك في بطولة «أسد الصحراء»، لكن هذه الأفلام بقيت محدودة الانتشار ولم تتجاوز حدود العرض في بعض الدول العربية.

ما حدّ من انتشار هذه الأفلام عالمياً هو معضلة إنتاجات عربية كثيرة حينها، هي سطو «القضية» على المعالجة الفنية، هذا إلى جانب أن العقاد فَهِم وهضم قواعد الإنتاجات العالمية أكثر من سواه.