مهرجان مراكش في دورته العشرين يؤم بدايات جديدة

ينطلق اليوم وسط توقعات كبيرة

من «كذب أبيض» لأسماء المدير (مهرجان مراكش)
من «كذب أبيض» لأسماء المدير (مهرجان مراكش)
TT

مهرجان مراكش في دورته العشرين يؤم بدايات جديدة

من «كذب أبيض» لأسماء المدير (مهرجان مراكش)
من «كذب أبيض» لأسماء المدير (مهرجان مراكش)

تنطلق اليوم الدورة الـ24 من مهرجان مراكش السينمائي الدّولي تحت رعاية الأمير مولاي رشيد، وبإدارة مجلس من وزراء حاليين وسابقين ومسؤولين في أقسام ومؤسسات حكومية، لجانب عدد من السينمائيين في هيئات ومؤسسات خاصّة.

تنطلق اليوم الدورة الـ24 من مهرجان مراكش السينمائي الدّولي تحت رعاية الأمير مولاي رشيد، وبإدارة مجلس من وزراء حاليين وسابقين ومسؤولين في أقسام ومؤسسات حكومية، لجانب عدد من السينمائيين في هيئات ومؤسسات خاصّة.

الهمّ المشترك هو وضع مهرجان مراكش على السدّة التي يستحقها بين المهرجانات الدّولية. وهو يستند في ذلك إلى الاستقبال الحافل الذي أنجزه عندما انطلق للمرّة الأولى في عام 2001 وإلى النيّة الصادقة في استمرار دوره بالحياة الثقافية والفنية في المغرب.

جاءت ولادته في فترة تكاثرت فيها المهرجانات العربية الكبيرة منها أبو ظبي، ودبي، والدوحة، إلى جانب تلك التي تأسست قبل جميع هذه المهرجانات، واستمرت رغم الصّعوبات، ومنها على الأخص، أيام قرطاج السينمائية و«القاهرة».

«وداعاً طبريا» (مهرجان مراكش)

كون العمل على تلك الدورة الأولى بدأ قبل أحداث سبتمبر (أيلول) 2001 في نيويورك، دفع المعنيين للتساؤل إذا ما كان عليهم التوقف عن إنجاز تلك الدورة الأولى تبعاً لذلك، ومن ثَم قرروا عن صواب، أنه من الأفضل إطلاق الدورة كما كان الهدف الأول، لأنه إذا ما كانت الجهود الفنية عليها أن تتوقف لاعتبارات خارجة عن إرادتها (خصوصاً السياسية منها)، ففي ذلك إذعان مرفوض وسنوات توقف لا تنتهي كون الأحداث السياسية والحروب والفواجع مستمرة سنة وراء أُخرى.

حدث ذات مهرجان

من المثير أن نذكر أن تلك الدورة الأولى كانت حافلة بالنجوم والأسماء الكبيرة. الممثلة شارلوت رامبلينغ قادت لجنة التحكيم. وبصرف النظر عن رأي النّقاد في أفلام كلود ليلوش، فقد تمّ الاحتفاء به جنباً إلى جنب مع الممثل العربي الراحل عمر الشريف.

لافت كذلك أن الجائزة الأولى ذهبت إلى فيلم «إن شاء الله يوم الأحد» للجزائرية يمينة بن قيقي أيام ما كان الوئام سائداً بين الدولتين.

وجدير بالذكر أن المثقفين والسينمائيين آنذاك نظروا بحذر شديد حيال المهرجان على أساس أن التمثيل المغربي محدود، وفاعلياته ونشاطاته تتّبع إدارة فرنسية وليس محليّة.

استمرت هذه الشكوى لسنوات عدّة شهدت إصدار بيانات نقد وشجب. هذا في الوقت الذي كانت فيه الدورة تنتقل تدريجياً من الشهر التاسع من السنة إلى العاشر، ومن العاشر إلى الحادي عشر إلى أن تمركزت وسط مهرجاني القاهرة ودبي، على الرغم من اجتماعات بين كل الأطراف لمنهجة زمنية لا تتضارب فيها المواعيد.

استمر المهرجان بنجاح مطرد حتى توقف سنة 2017 حين قيل إن الإدارة الفرنسية تفكّر في تعديلات من شأنها العودة في العام التالي على نحو أكثر فاعلية. وعندما عاد في العام اللاحق، 2019، بدا كما لو أن الأمور لم تتغير كثيراً. المؤكد أن عودته بعد غياب سنة لم تخلَّ به، بل زادت من حضوره. وعلى الرغم من ذلك، كان لا بدّ أن يغيب لعامين متواليين قبل أن يعاود الإطلال بإدارته الجديدة في عام 2022 التي يمكن النظر إليها كتأسس متجدد للمهرجان ولدورة السنة الحالية.

تنوْع قضايا

الإطلالة العام الحالي بمثابة خطوة أكيدة للأمام بالنسبة لمهرجان المغرب الأول. 14 فيلماً في المسابقة الرسمية. سبعة أفلام في قسم «الاحتفاءات» (Gala Screenings)، 17 فيلماً في قسم «عروض خاصّة» و13 فيلماً في قسم «القارة 11» المخصص «للقاء بين السينما المعاصرة والكلاسيكية»، ومن ثمّ 6 أفلام في قسم «بانوراما مغربية» لمن يرغب في مشاهدة نتاجات هذه السينما مجتمعة، هذا إلى جانب ما يعرض من أفلام مغربية في الأقسام الأخرى.

الفيلم المغربي المتسابق «عصابات» (مهرجان مراكش)

في الواقع، أحد الاثنين المحتفى بهم تكريماً، هو المخرج فوزي بنسعيدي الذي، لإلى جانب ما يرِد في التعريف عنه في أدبيات المهرجان، وهو صحيح، تميّز عن كل أترابه المغربيين بانتهاج سينما تتميّز بحريتها في التعبير، وذلك منذ أفلامه الأولى «ألف شهر» (2003)، و«يا له من عالم رائع» (2006)، و«موت للبيع» (2011).

التكريم الثاني يعود إلى الممثل الدنماركي ماس ميكلسن، بفضل موهبته في الأداء بات وجهاً عالمياً مألوفاً وبنجاح مستحق.

هناك تنوّع كبير في الأفلام المتسابقة السنة الحالية. المشكلة التي تواجه الناقد هي تحديد الدول التي ينبع فيلم ما منها. فمع تكاثر الإنتاجات التي تنطلق من دولة وتصب في أخرى، لم يعد من الممكن الإشارة إلى أن الفيلم السنغالي «بانل وأداما» لرامات-تولاي ساي، هو سنغالي فقط بما أن هناك تمويلاً فرنسياً فيه. كذلك الحال للفيلم الذي يحمل رايات فلسطينية وقطرية وبلجيكية وفرنسية «وداعاً طبريا» للينا سوالم. والنسبة الأكبر من هذه الأفلام التي تحمل أعلام دول مختلفة هو «ديسكو أفريقيا: قصة مالاغاديسية» للوك رازانجونا، فهو يتبع فرنسا ومدغشقر وألمانيا وقطر وجنوب أفريقيا وجزيرة موريشيوس، وعلى نحوه فيلم «مدينة الريح» لخاكفادولام بوريف - أوشير، فهو هولندي وألماني وبرتغالي ومغولي وفرنسي وقطري.

هذه ليست مشكلة مهرجان مراكش، لكنه سيُقدِم على مبادرة رائعة إذا كان يحقق في مصدر الإنتاج الأصلي ويكتفي به.

في مطلق الأحوال تنزع أفلام المسابقة إلى طرح قضايا أساسية عالقة تنهل منها السينما حكاياتها. هي عن الجذور في «وداعاً يا طبريا»، وعن القضايا المعاشة في حاضر الأيام في قرى نائية («بانل وأداما»)، والانقسام بين التقاليد والحداثة في أفلام عدّة مثل «المهجع» للتركي نهير تونا.

أحد الأفلام المغربية المنافس في هذا القسم هو «عصابات» لكمال الأزرق. حكاية مسرودة بطبيعتها القاسية ومواقفها الكوميدية السوداء كما كتبها ووضعها المخرج عن عملية قتل تقود صاحبيها إلى سلسلة من المشاكل كون الضحية مات بالسكتة، وهو لم يكن أصلاً الشخص المرغوب في قتله.

هناك مشاهد خلّابة في هذا الفيلم تكشف عن موهبة جديدة في السينما المغربية.

في المسابقة أيضاً «كذب أبيض» للمخرجة أسماء المدير، التي وفّرت لجمهورها فيلماً تسجيلياً عن موضوع العلاقة بين الأجيال ضمن الأسرة الواحدة.

المهمّة غير مستحيلة

ما يوازي اهتمام هذه الدورة بأفلامها المنتقاة، المجموعة الكبيرة من الشخصيات السينمائية التي ستحضرها. في المقدّمة المخرج الأميركي مارتن سكورسيزي، الذي أعلن عن ترحيبه واستعداده بالعودة مجدداً إلى مهرجان تابع دوراته منذ البداية.

إلى جواره سيحضر الممثل الأميركي ويليم دافو، والممثل الدنماركي ماس ميكلسن ومواطنه فيغو مورتنسن، والممثلة الأسكوتلندية تيلدا سويتن، والمخرج الروسي أندريه زفياغنتسيف، والمخرجة اليابانية ناوومي كاواسي، كما المخرج الهندي أنوراغ كاشياب.

كواسي كانت ترأست لجنة تحكيم الدورة الماضية من مهرجان «القاهرة»، أما لجنة تحكيم مهرجان مراكش فهي للمخرج والممثل الأسترالي الموهوب سيمون بيكر.

المذكورون أعلاه هم أعضاء لجنة التحكيم وهم - على عادة أعضاء لجان التحكيم - متباعدون جغرافياً وفكرياً وثقافياً، مما يجعل من المثير معرفة أي من الأفلام المتسابقة سيقع عليه تصويت الغالبية.

حسبما سبق يتطلع مهرجان مراكش لا إلى مواصلة طريقه في تبوأ التظاهرات السينمائية العربية من موقع الحريص على ذلك الجسر الثقافي بين الشرق والغرب، وبل تعزيزه مستقبلاً أيضاً.

في الواقع أن المهرجان خطا، منذ بداياته، في هذا الاتجاه لكنه مال إلى الاحتفاء بالسينما الفرنسية على الأخص والأوروبية على نحو عام، أكثر مما عالج موضوع الأفلام العربية ووفرتها.

بعض السبب لا يكمن في النيّة لإحداث هذا التباعد، لكنه عاد لأن مجمل الأفلام العربية التي كانت تنتج في العقدين الأول والثاني (2001-2020)، كانت محطّ تنافس مهرجانات دبي وأبو ظبي والدوحة والقاهرة (ومن ثَمّ الجونة لاحقاً) عليها. الجوائز الممنوعة من المجموعة الخليجية المذكورة كانت مغرية لمعظم المخرجين والمنتجين العرب، وتستحق الانتقال بأفلامهم صوبها، مما يجعل المهرجانات العربية الأخرى تتكل على ما تبقى منها أو ما هو متاح وصالح للعرض.

هذا لا ينفي أن الإدارة السابقة مضت أبعد مما يجب في تأمين حضور الجانب الغربي في محاولة تميّز كانت ناجحة في التطبيق، لكن على حساب فعاليات أخرى، وسينمات عديدة كانت تستحق أن تلحق بهذا الجهد الكبير.

الآن تبدو الصورة مختلفة. المهرجان يحتوي على عدد ملحوظ من الأفلام التي حققها مخرجون عرب، مما يُتيح للجمهور المغربي متابعتها، خصوصاً تلك التي شهدت عروضها العالمية الأولى في مهرجان «كان» و«فينيسيا».

عرب فازوا بجوائز مراكشية

2022: المخرجة مريم التوزاني عن «القفطان الأزرق» (المغرب)

2019: المخرج عبد المحسن الضبعان عن «آخر زيارة» (المملكة العربية السعودية)

2015: المخرج مرجان بو شعيا عن «فيلم كتير كبير» (لبنان)

2012: المخرج زياد الدويري عن «الهجوم» (لبنان، قطر)

2003: المخرجة نرجس الجار: «العيون الجافة» (المغرب)

2002: الممثلة كلارا خوري عن دورها في «زواج رنا» لهاني أبو أسعد (فلسطين)

2001: المخرجة يمينة بن قيقي عن «إن شاء الله يوم الأحد» (الجزائر)

2001: الممثلة الشعيبية العداوي عن دورها في «منى صابر» (المغرب)


مقالات ذات صلة

الشيخة جواهر القاسمي لـ«الشرق الأوسط»: الأفلام الخليجية تنمو والطموح يكبُر

يوميات الشرق يشجّع المهرجان الأطفال والشباب في مجال صناعة السينما (الشرق الأوسط)

الشيخة جواهر القاسمي لـ«الشرق الأوسط»: الأفلام الخليجية تنمو والطموح يكبُر

الأثر الأهم هو تشجيع الأطفال والشباب في مجال صناعة السينما، ليس فقط عن طريق الإخراج، وإنما أيضاً التصوير والسيناريو والتمثيل. 

إيمان الخطاف (الدمام)
يوميات الشرق صورة تذكارية لفريق عمل مهرجان «الجونة» (إدارة المهرجان)

فنانون ونقاد لا يرون تعارضاً بين الأنشطة الفنية ومتابعة الاضطرابات الإقليمية

في حين طالب بعضهم بإلغاء المهرجانات الفنية لإظهار الشعور القومي والإنساني، فإن فنانين ونقاد رأوا أهمية استمرار هذه الأنشطة وعدم توقفها كدليل على استمرار الحياة.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق البرنامج يقدم هذا العام 20 فيلماً تمثل نخبة من إبداعات المواهب السعودية الواعدة (مهرجان البحر الأحمر)

«سينما السعودية الجديدة» يعكس ثقافة المجتمع

أطلق مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي برنامج «سينما السعودية الجديدة»؛ لتجسيد التنوع والابتكار في المشهد السينمائي، وتسليط الضوء على قصص محلية أصيلة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
سينما ألفرد هيتشكوك (يونيڤرسال بيكتشرز)

ألفرد هيتشكوك... سيد التشويق وسينما الألغاز

تعرِض منصة «نتفليكس» الأسبوع الحالي فيلمين متميّزين من أفلام المخرج ألفرد هيتشكوك الذي لم يوازِه أحد بعد في مجال الرّعب والتشويق واللعب على الغموض.

محمد رُضا‬ (لندن)
سينما «فراشات سوداء» (مهرجان أنيسي)

شاشة الناقد: أفلام رعب

عندما أقيمت الدورة الأخيرة من مهرجان «أنيسي» للرسوم المتحركة في فرنسا هذا العام، لفتت المشاركات الإسبانية النظر لحجم ما عرضته، وتنوّعه.

محمد رُضا‬ (لندن)

ألفرد هيتشكوك... سيد التشويق وسينما الألغاز

ألفرد هيتشكوك (يونيڤرسال بيكتشرز)
ألفرد هيتشكوك (يونيڤرسال بيكتشرز)
TT

ألفرد هيتشكوك... سيد التشويق وسينما الألغاز

ألفرد هيتشكوك (يونيڤرسال بيكتشرز)
ألفرد هيتشكوك (يونيڤرسال بيكتشرز)

تعرِض منصة «نتفليكس» الأسبوع الحالي فيلمين متميّزين من أفلام المخرج ألفرد هيتشكوك الذي لم يوازِه أحد بعد في مجال الرّعب والتشويق واللعب على الغموض.

الفيلمان هما «سايكو» (1960)، و«الطيور» (1963)، وهما من خيرة أفلام المخرج في السنوات الـ20 الأخيرة من حياته لجانب «دوخان» (Vertigo) (1958)، و«جنون» (Frenzy) الذي كان فيلمه ما قبل الأخير سنة 1972.

لم ينل «فرنزي» حقّه كاملاً من قِبل نقاد جيل السبعينات رغم أنه نضح بكل العناصر التي جعلت من أفلام هذا المخرج أعمالاً مشهودة ورائعة. لعب على حكاية المتهم البريء والقاتل الذي لا يرتاب به أحد إنما بتجديد بديع. بعد مرور نحو 50 سنة عليه، ارتقى الفيلم بين النّقاد (أو هل نقول ارتقوا هم إليه؟) وعدّوه بدوره أحد أفضل أفلامه الأخيرة.

من «الطيور» (يونيڤرسال بيكتشرز)

قيمة فنية

الواقع هو أنه، بعد مرور 90 سنة على أول فيلم نقل ألفرد هيتشكوك إلى الاهتمام العالمي، وهو «The 39 Steps» سنة 1935، لا تزال القيمة الفنية لأعماله كافّة تتحدّث عن نفسها بوضوح. هيتشكوك كان بالفعل سيد من أتقن التشويق، لكن التشويق نفسه، وإتقانه، ليسا فعل سري يدركه سينمائي واحد ويمتنع عن آخرين. ما أضافه المخرج هو الوسيلة التي تجعل من المُشاهد شريكاً فيما يدور. يشعر بالخطر ويتلصّص على شخصيات الأفلام كما لو أنه يراقبها في الحياة العادية.

ما جعل هيتشكوك منفرداً ومميّزاً، هو الكيفية الخالصة التي عالج بها المخرج ذلك التشويق وما احتوته أفلامه من مفادات ومضامين لم يوفّرها آخرون على نحو عميق ومتواصل خلال سنوات عمله الممتدة ما بين 1922 (عندما كان في الـ23 من العمر)، و1976 (قبل 4 سنوات من وفاته).

لم تكن تلك القيمة ظاهرة لكثيرين، إلى أن تدخل نقاد فرنسيون اكتشفوا في أفلام هيتشكوك ميزات لا يمكن نكرانها.

انتبه إلى هذه الميزات في البداية، المنظّر أندريه بازان في عام 1951 عندما بدأ يُعاين أعمال هيتشكوك من وجهة نظره. ليس أن بازان كان معجباً بكل ما شاهده من أفلامه حتى ذلك الحين، لكنه من أوائل الذين انتبهوا إلى فاعلية أسلوبه التشويقي ومنحاه في استخراج ما هو أكثر من المشهد الماثل.

التبنّي النقدي الكامل لسينما هيتشكوك تم عندما أعلن كلٌ من فرنسوا تروفو، وكلود شابرو، وإريك رومير إعجابهم غير المنقوص بأفلام المخرج، في منتصف الخمسينات وبذلك ضمّوا هيتشكوك إلى سينما المؤلّفين قبل سواهم.

البريء والمجرم في «جنون» (يونيڤرسال بيكتشرز)

نبرة ساخرة

اختيار «سايكو»، و«الطيور» لعروض «نتفليكس» سيهضم حق فيلمه الثالث بين أعماله الأهم وهو «ڤرتيغو». لكن من سينتهز الفرصة للتعرّف، من جديد أو للمرّة الأولى، على إبداعات مخرج قلّ نظيره من حيث إنه صاغ من كل فيلم له حالة دامجة من الرعب والتشويق والملاحظات الإنسانية. «سايكو» بحد ذاته يحمل في طيّاته العميقة سخرية يدركها البعض منا كوننا واجهنا هذه النبرة الساخرة في الكثير من أفلامه.

«سايكو» في الوقت ذاته فيلم رعب نفسي داكن. هذا أكثر أفلام المخرج عنفاً، ونُشر كثير عن مشهد القتل في الحمّام. كيف صُوّر ووُلّف بحيث لا ظهور للعري كاملاً، ولا للطعنات تدخل الجسد، ولا دماء تنزف منه. بعض المحلّلين كتبوا أن هذا المشهد لم يكن من إخراج هيتشكوك بل من إخراج سواه (وفي فيلم Hitchcock لساشا جرڤازي، 2012)، ادعاءُ آخر بأن زوجة هيتشكوك، ألما رَڤيل، هي التي أخرجت هذا المشهد فعلاً. إنه كما لو أن هيتشكوك وقف محتاراً كيف سيُنجزه، واعتمد على آخرين ليدلوه أو يحقّقوه عوضاً عنه.

لكن المهم هنا هو التدرّج صوب المفاجأة. مادلين تبتسم لنفسها وقد قررت أن تعود صباح يوم غد وتعيد الثروة المسروقة. تخلع ثيابها وتدخل الحمّام. فجأة شبح امرأة عجوز تقتحم الشقة (وكان نورمَن اقترحها على مادلين لأنه يستطيع التلصّص عليها من ثقب في الجدار) وفي يدها سكين وتبدأ بطعن مادلين.

طيور الجريمة

أما «الطيور» فهو نوع مختلف من أفلام الرعب، ومختلف بالنسبة لما سبق أن حققه هيتشكوك قبل ذلك. مثل «سايكو» استمد هيتشكوك هذا الفيلم من حادثة حقيقية وقعت عام 1961 عندما هاجمت طيور النورس أهالي بلدة سانتا كروز في كاليفورنيا. لا يزال سبب الهجوم هذا غامض، لكن هيتشكوك قرأ الحادثة في رواية للكاتبة البوليسية دافني دو مورييه، التي كانت وضعتها قبل حادثة سانتا كروز ببضع سنوات وأعجب بها.

شاشة الفيلم هذا، تترجم لحظات الهجوم بقوّة غير منظورة. لا شكّ أن هناك مؤثرات بصرية، لكنها لا تُقاس بما وصلت إليه حالياً. على ذلك، مشاهد هجوم الطيور على تيبي هيدرن، ورود تايلور، وعدد كبير من الأولاد والبنات الصغار لا يُفوّت، كذلك مشهد هجوم أكبر التقطه هيتشكوك من الجو للطيور البيضاء والسوداء وهي تُغير على المدينة متسببة بحريق هائل.

لكن لا «سايكو»، ولا «الطيور» كانا فيلمَي رعب فقط. في عمق كلٍّ منهما ناحية حرِص المخرج على توفيرها أكثر من مرّة وهي الجانب العائلي وتحديداً العلاقة بين الرجل والأم.

في «سايكو» المجرم قتل والدته التي كانت تسيطر عليه، لكنه احتفظ بجثتها محنّطة ووجد نفسه، بلا وعي، يقوم بدورها كونها كانت تمنعه من التعرّف على أنثى سواها.

في «الطيور» نجد الأم (جيسيكا تاندي) تحرص على إفساد علاقة ابنها (رود تايلور) في أي مناسبة غرامية متوقعة بسبب خوفها من خروج ابنها من حياتها وبقائها وحيدة.