«سان سباستيان» انطلق لتعزيز دوره أحد أقدم المهرجانات

دورته الجديدة تدفع بقضايا المرأة إلى الصدارة

من «حلم سلطانة» (مهرجان سان سباستيان)
من «حلم سلطانة» (مهرجان سان سباستيان)
TT

«سان سباستيان» انطلق لتعزيز دوره أحد أقدم المهرجانات

من «حلم سلطانة» (مهرجان سان سباستيان)
من «حلم سلطانة» (مهرجان سان سباستيان)

النهر النابع من جبال الباسك في شمال إسبانيا ما زال جارياً. تستطيع عند المساء مشاهدة الأسماك بالعين المجردة وهي تسبح بحرّية تُحسد عليها. ماؤه يصبّ في البحر القريب. ينقلب من حلوٍ إلى مالح. على الجهة اليسرى منه قصر عروض قديم وشامخ. إلى يمينه النصف الثاني من المدينة التي تنتعش في مثل هذا الوقت من كل عام. كيف لا ومهرجانها الكبير مستمر منذ 71 عاماً متحمّلاً المنافسات والمتغيّرات والاتجاهات المختلفة التي عصفت بالسينما وما حولها.

على ذلك، المقارنة بين دورات سابقة وبين هذه الدورة الجديدة التي انطلقت في الـ22 من الشهر الحالي وتنتهي بعد غدٍ السبت، تفيد بأن المهرجان الإسباني أكد حضوره على نحو أفضل خلال السنة الحالية. لم يتقدّم صوب موقع جديد، لكنه ثابت في موقعه بطليعة الصف الثاني من المهرجانات الدولية. الأفلام المعروضة فيه قد لا تكون اقتناصات فرص لأفلام مرصعة بالنجوم أو لإنتاجات هوليوودية كبيرة، لكنها اكتشافات متفاوتة الجودة كحال أي مهرجان آخر.

من «فندق رويال» (مهرجان سان سباستيان)

ميزة بديعة في هذا المهرجان هي خلوّه من سوق تجارية. صحيح أن الناقد ليس مضطراً في مهرجان «صندانس» أو «كان» أو «برلين» التعامل مع رهط المنتجين والموزّعين (والعكس صحيح)، إلا أنه يصطدم دوماً بازدواجية الشأن الأول للمهرجان. بعض المهرجانات تجيد اللعب على حبلي هذه المسألة. «كان» مثلاً يحفل بالأفلام الفنية (أو على الأقل التي تسعى لأن تكون فنية) كما يحفل بأكبر سوق سينمائية في العالم. يشجّع الإقبال على الاثنين؛ واحد للفن والثقافة، والثاني للمال والتجارة.

«سان سباستيان»، أكبر مهرجان إسباني وأحد أقدم مهرجانات العالم لجانب «فينيسيا» و«كان» و«لوكارنو»، يعيش في رفاهية الاهتمام بالسينما كأفكار وأساليب ومعالجات وقضايا بعيداً عن البيع والشراء وأرقام الصفقات.

ثلاثة أنيميشن

تحفل المدينة بالملصقات. بعضها، في طبيعة الحال بمناسبة الدورة نفسها.، وبعضها الآخر احتفاءً بتقليد الممثل الإسباني خافييه باردم «جائزة الإنجاز المهني». صورة مبتسمة له مع عناوين كبيرة... ولكن هذا الاحتفال لم ولن يحدث العام الحالي كما كان مقرراً، بل تم إلغاؤه، فتبعاً لإضراب الممثلين المسجلين في النقابة الأميركية (كما الحال مع باردَم) ممنوع عليه المشاركة في حفل أو احتفاء. على هذا الأساس، ما كان موعده اليوم سيتأخر لدورة العام المقبل.

لا علاقة لهذا بعدم وجود أفلام أميركية كبيرة داخل المسابقة أو خارجها. في تاريخه (في العقدين الأخيرين على الأخص) تحاشى أن تكون تلك المناسبة التي يهرع فيها الحضور لمشاهدة فيلم من بطولة جوليا روبرتس، أو توم كروز، أو توم هانكس. ترك هذه المسائل للمهرجانات الأخرى وخصّ نفسه بالأفلام التي يختلف صداها عن تلك المقبلة من المؤسسات الهوليوودية الكبيرة.

تبعاً للسبب نفسه الذي سحب البساط من تحت خافييه باردم، ليس بين أعضاء لجنة التحكيم من هو نجم أميركي أو حتى مخرج ذي شأن عالمي. رئاسة لجنة التحكيم للمخرجة الفرنسية كلاي نَي وتضم سبعة عناصر من أوروبا. الوحيد من القارة الأميركية الشمالية هو المنتج الكندي روبرت لانتوس.

افتُتح المهرجان بفيلم الأنيميشن الياباني «الصبي ومالك الحزين» (عرضناه هنا قبل أسبوعين). هو نفسه الفيلم الذي عرضه مهرجان «فينيسيا» وافتتح مهرجان «تورنتو» الأخير الذي سينتقل من هنا إلى مهرجان «لوميير» الفرنسي. لا بدّ من تسجيل حقيقة أن «سان سباستيان» سبق له أن تداول ثلاثة من أفلام المخرج الياباني حاياو مايازاكي من قبل، إذ سبق وعرضت له أفلام بديعة «Ponyo وSpirited Away»، و«The Wind Rises»، ودائماً ضمن إقبال حاشد تكرر خلال العام الحالي بفيلم العودة إلى العمل بالنسبة لمخرجه (بعد 10 سنوات انقطاع)؛ «الصبي ومالك الحزين» واحد من ثلاثة أفلام أنيميشن يقدّمها المهرجان في مسابقته.

اشتراكات

عرض المهرجان حتى يوم أمس الخميس، 17 فيلماً من بين 20 فيلماً احتواها قسم العروض الرسمية معظمها في عداد المسابقة التي ستُوزّع جوائزها مساء اليوم (الجمعة).

إلى جانب فيلم ماياكازي الذي مثّل اليابان، هناك 4 أفلام إسبانية هي «القُرن الشعيري» (The Rye Horn) لابنة مدينة سان سباستيان خيون كامبوردا، و«حب» لإيزابل كويشيت، و«المسيح» لخافيير كالفو وخامبيير أمبروزي، وفيلم المخرج (المخضرم) فرناندو تروبا «يقتلون لاعب البيانو» (They Kill the Piano Playeer)، هناك فيلم إسباني خامس، وهو إنتاج مشترك مع ألمانيا للمخرجة إيزابيل هرغويرا بعنوان «حلم السلطانة» (Sultana‪’‬s Dream).

ثلاثة أفلام فرنسية توالى عرضها جميعهاً وسط الاهتمام المعتاد لتلك السينما (وإحباطات معظمها أيضاً) وهي «عمل حقيقي» لتوماس ليلتي، و«الجزيرة الحمراء» لروبِن كامبيلو، و«الخليفة» (Le Successeur).

الأفلام الباقية توزعت بين الأرجنتين، وبريطانيا، وبولندا، وفيلم ياباني آخر («الغياب الكبير» لكي شيكا أورا)، والدنمارك، وتايوان، وفيلمان من الإنتاج الأميركي المستقل هما «كل الأيدي المتسخة ذات طعم مالح» لرافن جاكسن، و«أزواج سابقون» لنوا فريتزكر؛ كلاهما من موجة جديدة ما زالت مجهولة القيمة فنياً.

رُقية البنغلاديشية

واقع الأمر هو أن المهرجان لا يستطيع استيعاب الأسماء الكبيرة لأنها تفضل الذهاب إلى «برلين»، و«كان»، و«فينيسيا». هذا يتركه أمام الأعمال التي إما شوهدت في تلك المهرجانات ولم تُنتخب للعروض فيها، أو التي اختارت «سان سباستيان» محطة عرض أول لها. في كلتا الحالتين هناك عدد غالب من المخرجين الجدد، وهؤلاء لا يصنعون البريق المطلوب؛ جلّ ما يستطيعونه هو طرح ما لديهم وانتظار تحكيم اللجنة.

أكثر الأفلام الإسبانية إثارة للاهتمام وأفضلها على صعيد الطرح، هو «حلم سلطانة» للإسبانية إيزابل هرغويرا، وهو فيلم أنيميشن ثالث في المسابقة.

اكتشفت المخرجة الإسبانية كتاباً وضعته البنغلاديشية رقية حسين سنة 1905. وُلدت رقية سنة 1888 وتوفيت في 1932، وكانت سابقة لأوانها بالنسبة لحركات التحرر النسائيّة وقضاياها. محور الفيلم هو بحث المرأة عن الأرض - الحلم حيث تُصان حريتها؛ بتفعيل الحكاية وتطويرها لتناسب العصر، استحدثت المخرجة هرغويرا شخصية اسمها إيناس، تتعرّض عند زيارتها مدينة أحمد آباد إلى شحنة من الكراهية الذكورية مع قليل من التفهم من النساء. في رحلة تجريها مع صديق لها تجد المعاملة نفسها من الطائفة السيخية في الهند، هذا قبل أن تدخل بنغلاديش (موطن رُقية حسين) حيث يفرد الفيلم مساحة لشخصية الكاتبة وحلمها بمدينة تعيش فيها النساء بحرية.

بما أن النص الأصلي غير متوفر لقراءته، فإن الناتج هنا هو صعوبة المقارنة، لكن من الواضع أن الفيلم سمح لنفسه بإضافات كثيرة في محاولة استعراض وضع المرأة اليوم والأمس. هناك صرخة غير مكتومة في نهاية الفيلم حين تقرر إيناس أن المرأة تواجه العنف والصدّ وسوء المعاملة ليس في تلك المناطق الآسيوية فقط، بل في أوروبا أيضاً.

ضد المرأة

«حلم سلطانة» ليس سوى واحد من الأفلام التي تطرح الموضوع النسائي بحضور واضح في هذه الدورة. يكاد المرء تصوّر أن لجنة الاختيار وضعت هذا الهدف في صدارة قرارها. هذا لأن ما لا يقل عن 6 أفلام في الاختيارات الرسمية تدور حول المرأة في ظروف وطروحات متشابهة في هذا الاتجاه.

أحد أكثر هذه الأفلام حدّة هو الفيلم الأسترالي «فندق رويال» لكيتي غرين. دراما مع أجواء رعب تقع في بعض مناطق أسترالية تصوّر الوضع المعادي للمرأة، كما لو أنه برهان على ما ذهبت إليه المخرجة الإسبانية في «حلم سلطانة». إلى منطقة ما زالت على بعد سنوات ضوئية من المدنية، تصل فتاتان (جوليا غارنر، وجسيكا هنويك) سائحتان إلى فندق معزول يديره (والحانة التي فيه) بيلي (أوغو ويفينغ) المفتن بنفسه، الذي يمثّل لا السُلطة البدنية فقط، بل والسلوكية أيضاً. لم يكن ذلك بخيار الفتاتين، بل بسبب اكتشافهما أنهما باتتا مفلستين وبحاجة إلى العمل.

تستمعان إلى نصيحة أسداها لهما رجل من مدينة سيدني ومفادها، بأن تحتشما لأن الرجال في هذه البلدة الصغيرة ليسوا كرجال المدن. يبتسم المرء عند هذه المقارنة، لأنها النصيحة نفسها، التي قد تسمعها أي فتاة من المدينة الكبيرة عندما تنتقل إلى الريف لأي غرض. مهما يكن، تمتثلان للنصيحة، لكن امتثالهما لا يُفيد كثيراً، فالرجال السكارى غوغائيون، تملأ نفوسهم النوايا الحسيّة، والفتاتان هما هدية السماء لغاية المتعة غير المحدودة.

فوق ذلك، هم معادون وكارهون للمرأة. يفقد الفيلم هنا قدرته على التحكم فيما يريد قوله وكيف، فهو ينتقل من إدانة الرجال لقدر من إدانة الفتاتين معاً، مما يضيّع مفاد الفيلم ويحشره في خانة تبحث عن قرار.

سينما إسبانية غزيرة وبعيدة

عدد الأفلام الإسبانية التي عُرضت داخل البلاد منذ مطلع العام إلى اليوم 67 فيلماً.

هناك 44 فيلماً آخر مدرجة للعرض ما بين شهر أكتوبر (تشرين الأول) وحتى نهاية العام.

آخر فيلم للمخرج الإسباني الممتاز كلود ساورا وهو «الجدران تستطيع أن تتكلم»، عُرض في الشهر نفسه الذي توفي فيه وهو فبراير (شباط).

الفيلم الجديد للمخرج الآخر المعروف عالمياً، فيكتور رايس وهو، «أغمض عينيك» ينجز نجاحاً تجارياً كبيراً في عروضه الحالية داخل إسبانيا.

الدول التي تعرض أفلاماً إسبانية على نحو دائم هي الدول أميركا اللاتينية، وعدد محدود من الأفلام الإسبانية يجد طريقه إلى دول أوروبية.

عربياً إن لم يشترك فيلم إسباني في مهرجان ما فلا احتمال مشاهدته مطلقاً.


مقالات ذات صلة

صالات السينما الصينية تتأهب لاستقبال عروض الأفلام السعودية

يوميات الشرق جانب من تصوير فيلم «طريق الوادي» الذي تجوَّل في 10 مواقع تصوير بالسعودية (الشرق الأوسط)

صالات السينما الصينية تتأهب لاستقبال عروض الأفلام السعودية

تتأهب صالات السينما في الصين لعرض مجموعة متنوعة من الأفلام السعودية منها فيلم «طريق الوادي» و«مطارد النجوم» ضمن فعالية «ليالي الفيلم السعودي».

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق الممثل الأميركي الشهير آل باتشينو (أ.ف.ب)

آل باتشينو: نبضي توقف دقائق إثر إصابتي بـ«كورونا» والجميع اعتقد أنني مت

كشف الممثل الأميركي الشهير آل باتشينو أنه كاد يموت في عام 2020، إثر إصابته بفيروس «كورونا»، قائلاً إنه «لم يكن لديه نبض» عدة دقائق.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
يوميات الشرق لقطة جماعية للفائزين بمسابقة أفلام البحر المتوسط رفقة المخرج يسري نصر الله (إدارة المهرجان)

غياب منة شلبي عن تكريمها بـ«الإسكندرية السينمائي» يثير تساؤلات

اختتم مهرجان الإسكندرية السينمائي دورته الـ40، وهي الدورة التي عدّها نقاد وصناع أفلام «ناجحة» في ظل ظروف صعبة تتعلق بالميزانية الضعيفة والاضطرابات الإقليمية.

انتصار دردير (القاهرة)
يوميات الشرق ‎⁨تضم النسخة الثانية معرضاً يجمع «سلسلة القيمة» في أكثر من 16 مجالاً مختلفاً ومؤتمراً مختصاً يتضمن 30 جلسة حوارية⁩

«منتدى الأفلام السعودي» يجمع خبراء العالم تحت سقف واحد

بعد النجاح الكبير الذي شهده «منتدى الأفلام السعودي» في نسخته الأولى العام الماضي 2023، تستعد العاصمة السعودية الرياض لانطلاقة النسخة الثانية من «المنتدى».

«الشرق الأوسط» (الدمام)
يوميات الشرق ياسمين رئيس مع أسماء جلال في مشهد من الفيلم (حسابها على «فيسبوك»)

فنانون مصريون يتجهون للإنتاج السينمائي والدرامي

انضمت الفنانة المصرية ياسمين رئيس لقائمة الممثلين الذين قرروا خوض تجربة الإنتاج السينمائي من خلال فيلمها الجديد «الفستان الأبيض».

أحمد عدلي (القاهرة )

فيلم «الجوكر2»... مزيد من الجنون يحبس أنفاس الجمهور

يبدأ الجزء الثاني من سجن آرثر فليك.. الصورة من صالة سينما سعودية حيث يُعرض الفيلم حالياً (الشرق الأوسط)
يبدأ الجزء الثاني من سجن آرثر فليك.. الصورة من صالة سينما سعودية حيث يُعرض الفيلم حالياً (الشرق الأوسط)
TT

فيلم «الجوكر2»... مزيد من الجنون يحبس أنفاس الجمهور

يبدأ الجزء الثاني من سجن آرثر فليك.. الصورة من صالة سينما سعودية حيث يُعرض الفيلم حالياً (الشرق الأوسط)
يبدأ الجزء الثاني من سجن آرثر فليك.. الصورة من صالة سينما سعودية حيث يُعرض الفيلم حالياً (الشرق الأوسط)

في أول 10 دقائق من الجزء الثاني من فيلم «الجوكر» (Joker: Folie à Deux)، يخرج آرثر فليك (واكين فينيكس) من زنزانته، عاري الظهر، بعظام مقوّسه، يسحبه السجانون بشراسة وتهكّم، والموسيقى التصويرية المعهودة للفيلم ترافق المشهد، ليرى الجمهور ما حدث له بعد القبض عليه في نهاية الجزء الأول من الفيلم الذي صدر عام 2019.. وتدريجياً، تتكشّف شخصية «الجوكر» الذي يتلبّس المُحطّم آرثر فليك.. فهل اختار هذا القناع العبثي بإرادته أم كان ذلك رغماً عنه نتيجة إصابته بالذهان النفسي؟

هذا السؤال هو ما يقوم عليه الفيلم الذي صدر في صالات السينما مساء الأربعاء، وأشعل حالة من الجدل المبكّر وسط الجمهور الذي انتظر نحو 5 سنوات صدور الجزء الثاني، وحملت الانطباعات الأوّلية مزيجاً من الامتعاض وخيبة الأمل بدت واضحة في الكم الكبير من التقييمات السلبية، مقارنة بما حصده الجزء الأول من استحسان جماهيري بالغ، لم يكن يتوقعه حينها المخرج تود فيليبس، خصوصاً أن الفيلم الجديد تضمن نحو 14 أغنية، ليكون فيلماً موسيقياً اقتسمت الغناء فيه ليدي غاغا مع واكين فينيكس، في مغامرة اختارها صُناع الفيلم لتجعله مختلفاً عن الجزء الأول بشكل كبير.

يُعيد الجزء الثاني إلى ذاكرة المشاهد الجرائم التي اقترفها آرثر فليك في قتله خمسة أشخاص، كان من أهمهم المذيع الشهير موراي فرانكلين (روبرت دي نيرو)، الذي ظهر معه في لقاء تلفزيوني مباشر، ما جعلها جريمة حيّة شاهدها الجمهور من سكان غوثام (مدينة خيالية أميركية) على البث التلفزيوني، ومن هنا تزداد قيمة المحاكمة التي تسيطر على أجواء الجزء الثاني، ويُسميها الفيلم «محاكمة القرن».

ولأنه في الجزء الأول من «الجوكر» تحولت شخصية آرثر فليك من رجل بائس ومكتئب إلى رمز للفوضى والشغب، جاء الجزء الثاني مختلفاً، إذ لا توجد تحولات جديدة في الشخصية، وكأن المخرج تود فليبيس أراد إدخال الجمهور وسط جمجمة هذا المضطرب، ما بين الألم والرقص والغناء والنظرات الصامتة والخيال الجامح، ليعود لفتح الملفات القديمة داخل المحكمة، مع استرجاع ما حدث واستجواب الشهود، للبت في الحكم، فإما أن يُعدم آرثر فليك وإما أن تتأكد إصابته بالمرض النفسي بما يخفف من الحكم عليه.

مشاهد المحاكمة تسيطر على معظم أجواء الجزء الثاني (إنستغرام الفيلم)

حب مشوّش

جاء الفيلم الجديد مليئاً بالأفكار غير المكتملة، من ذلك قصة حب آرثر فليك والشقراء لِي (ليدي غاغا)، فمنذ التقيا في حصة العلاج بالموسيقى لم يكن مفهوماً سر هذا الانجذاب السريع بينهما، وحين تتبيّن حقيقة «لي» يتجه الفيلم إلى مزيد من الألغاز، حيث لم تتضح دوافعها الحقيقية من ملاحقة آرثر، ولم يتأكد المشاهد هل كانت هي الأخرى مجنونة مثله أم كانت تستغله لأمر ما، أو ربما كان معظم المشاهد التي جمعتهما مجرد خيالات في رأس آرثر فليك.

وعلى الرغم من قلة مشاهد ليدي غاغا أو «لي» في الفيلم فإن دورها غيّر نسبياً من شخصية آرثر، حيث كانت تظهر بشكل عابر ومفاجئ في اللحظات الصعبة التي يعيشها، تحاكي جنونه وتمتدح اختلافه وتُظهر إعجابها به، لتصبح منطقة راحته الجديدة، التي يشعر معها بالأمان والثقة، مما سهّل عليه التخلي عن شخصية «الجوكر»، وهي الصدمة التي جعلت معجبيه يتحولون إلى أعداء، ليتجه الفيلم نحو نهاية معبرة جداً عن هذه المشاعر الثائرة ضده.

علاقة مضطربة تجمع في الفيلم بين واكين فينيكس وليدي غاغا (إنستغرام الفيلم)

السجّان والمحامية

شخصية السجّان السادي (بريندان جليسون)، والمشاهد التي جمعته مع آرثر فليك كانت هي الأقوى في الفيلم، ساعة يتهكم عليه، ثم يقدم له بعض اللطف العرضي، وبعدها يُهينه مباشرة، وكأنه يذكره بأن صلاحيات عمله -سجّاناً- تسمح له بأن يعطي ويأخذ دون اكتراث لما يشعر به الطرف الآخر، وهذا النمط من الشخصيات هي التي كان يخضع لها آرثر فليك دون أي مقاومة، لأنه قادر على التلاعب به بشكل مستمر.

على نقيض ذلك، قدمت كاثرين كينر دور المحامية بإتقان وتعاطف شديد، خصوصاً حين قبّلها آرثر بشكل سريع نتيجة نشوة لحظية شعر بها.. كانت الثواني الفاصلة بين ردة فعل المحامية وتصرفها محيّرة، وكأن ما حدث صدمها فعلاً.. هذا الذهول فسّر إيمانها التام بالازدواجية التي كانت تجمع بين الشخصيتين: المحطّم «أرثر فليك» والعبثي «الجوكر». وكأنها تذكرت أن الذي أمامها هو شخص مضطرب، فلا داعي لأخذ تصرفاته بجديّة.

الكثير من الأغنيات قدمها الجزء الثاني مع الأداء الراقص لبعضها (إنستغرام الفيلم)

ويبدو أن المخرج تود فليبيس تنبأ باكراً بأن شريحة كبيرة من الجمهور ستشعر بخيبة الأمل من شخصية آرثر فليك الانهزامية، حيث جسّد ذلك في مشهد نهاية المحاكمة، مع اعتراف الجوكر بفداحة ما فعل حين قتل خمسة أشخاص في الجزء الأول (سادسهم والدته التي كتمها بمخدة المشفى)، كان يعترف بانكسار وألم، مما جعل محبيه المكتظين داخل المحكمة ينسحبون بغضب، فلم يكن هذا الجوكر الذي أعجبوا به وبتمرده، بل شخص آخر خذلهم وخيّب أملهم، وبالتالي فقدوا تأييدهم له، وحتى «لي» التي كانت تدافع عنه، تخلّت عنه محتجة على تصرفه الانهزامي.

ورغم الجهد الكبير الذي بذله واكين فينكس في إنقاص وزنه والعودة إلى تقمّص شخصية المضطرب آرثر فليك، فإن غياب الكثير من عناصر شخصيته في الفيلم الجديد، منها اختفاء الضحك القهري الذي كان يعاني منه آرثر فليك، فبالكاد ضحك مرتين أو ثلاثاً في الجزء الثاني، بطريقة تبدو مؤلمة لكنها ليست متكررة كما هي شخصيته المعهودة. إلى جانب ميله للغناء في عدة مشاهد، فلم يترك المخرج هذه المهمة لليدي غاغا وحدها، بل شاركها فينيكس في الغناء، وهو الذي لم يغن نهائياً في الجزء الأول، مما جعل الأمر يبدو مربكاً لشخصية الجوكر التي عرفها الجمهور.

إلا أن هناك توقعات سينمائية مسبقة بأن يحقق الفيلم إيرادات جيدة في شباك التذاكر، خصوصاً بعد أن حقّق الجزء الأول منه أكثر من مليار دولار، ليصبح أول فيلم مصنف من فئة «أر» (R) -أي لا يصلح سوى للبالغين- الذي استطاع تحقيق هذا المبلغ الكبير.