ماذا لو كانت «كليوباترا» سمراء... ماذا لو كان المسيح أسود؟

كل شيء في السرد، في التخييل والتاريخ على السواء، يعتمد على موقف السارد

أديل جيمس
أديل جيمس
TT

ماذا لو كانت «كليوباترا» سمراء... ماذا لو كان المسيح أسود؟

أديل جيمس
أديل جيمس

إذا كان التاريخ يكتبه المنتصرون دائماً، فهنالك إذن تواريخ لم تكتب.

بسبب الزوبعة والضجة الاحتجاجية اللتين ثارتا حول المسلسل الوثائقي الدرامي «الملكة كليوباترا» قبل أن تعرضه «نتفليكس»، تولّد فيَّ التشوق والفضول لمشاهدته، فانتظرت بدء عرضه في العاشر من مايو (أيار) الماضي. وخلال انتظاري لإطلالة الملكة كليوباترا بوجهٍ أسود، تردد في ذهني طوال الوقت التساؤل عمّا إذا كان تمثيلها «representation» في المسلسل الجديد سيكون مختلفاً عمّا تراكم حول اسمها من كتابات وتمثيلات قدمتها كنموذج لما تُعرف بـ(فَمْ فاتال/femme fatale)، أو جاء امتداداً لما قبله، بغض النظر عن لون بشرتها وأحاديتها أو ثنائيتها العرقية، المسألة التي يكتنفها الغموض.

لم يكن غريباً أن أتذكر خلال الانتظار ما قرأت قبل سنوات عدة، عمّا حدث في إحدى المدن الأميركية في أحد الأيام من أربعينات القرن العشرين؛ ما فعله الصبي أرون/ هارون كروفورد الطالب في مدرسة من مدارس الملونين في مدينة كولمبس في ولاية جورجيا.

كان هارون، حسب ما قرأت، أذكى طالب في المدرسة؛ حقيقة يعرفها كل من له علاقة بالمدرسة، من قريب أو من بعيد. يقال إن مُعَلمته كانت تنطق اسمه بتلذذ، ولا تنسى التذكير دائماً بأنه طالب مثالي، وبأنه سيصبح رئيساً للولايات المتحدة لو أنه أبيض. لكنه لن يصبح رئيساً فلونه أسود جداً إلى درجة اللمعان. وكان متعدد المواهب إلى درجة جعلت زملاءه ينظرون إليه بمزيج من الغيرة والحسد.

شالوم برون فرانكلين

كان شغوفاً بالرسم، وقد اعتاد كلما اقترب عيد الشكر أن يرسم، على السبورة، دِيَكَّةً روميةً ويقطينات، ويحرص في يوم ميلاد الرئيس جورج واشنطن على رسم علم أميركا كبيراً ومحاطاً ببلطات. هذه الروائع الفنية الصغيرة جعلته مثار إعجاب وحديث من حوله.

ذات يوم، في يوم ميلاد مُعَلِّمَتِه، دخل هارون الفصل يحمل شيئاً، إطاراً ملفوفاً بصحف قديمة. تابعته العيون في تقدمه نحو المعلمة، والجميع في حالة فضول لمعرفة ذلك الشيء الغامض الملفوف بالصحف. وضع هارون الشيء أمام المعلمة وبدأ في تمزيق الصحف، فانضمت إليه المعلمة لتساعده في كشف المخبوء. تسمرت في مكانها، وعيناها مفتوحتان في أقصى اتساعهما من الدهشة التي أخرستها، بينما الطلبة يتمنون لو أن عيونهم تخرج من محاجرها لتتمدد في اتجاه ذلك الشيء الذي حوّلَ المعلمة إلى كتلة من اندهاش.

ما وقع عليه بصر المعلمة وأثار دهشتها: صورة المسيح مرسوماً وملوناً بالأسود. خرجت الدهشة الممزوجة بالاستغراب من الفصل لتسري في كل أرجاء المدرسة. في بداية الفصل التالي، كانت صورة المسيح الأسود معروضة مع معروضات أخرى في احتفال أقامته المدرسة، وكان ذلك هو الاحتفال أو الاحتفاء الأخير بالصورة وبراسمها، وآخر أيام مدير المدرسة الأسود الذي دافع أمام المسؤول عن المدارس في المدينة عن حق هارون في التعبير عن رأيه. غضب المسؤول غضباً شديداً، ووبَّخ مدير المدرسة على سماحه بالتجديف والتدنيس للمقدس، ليغادر المدير بعد ذلك إلى مدرسة أخرى يرافقه هارون الذي أصر أبوه على عدم بقائه في تلك المدرسة.

الحقيقة التي أخفيتها لحد الآن هي أن كل ما ذكرته أعلاه لم يحدث على الإطلاق؛ فهارون كروفورد ومدرسته وكل من فيها لم يوجدوا خارج العالم الصغير المتخيل في القصة القصيرة للكاتب الأميركي الأسود جون هنرِك كلارك: «الصبي الذي رسم المسيحَ أسودَ».

لقد حاولت الإيهام في سردي لقصة هارون ومسيحه الأسود بأن ما حدث حقيقة، بينما هو محض خيال أو تخييل (fiction)، وليس ثمة ما هو جديد سواء في القول إن بعض، أو ربما كثيراً، مما يُقَدّمُ على أنه أحداث تاريخية وحقيقية هو تخييل (fiction) أيضاً، أم في القول إن تاريخاً لشعب ما تطلّب سردُه محوَ وإخفاءَ أحداثٍ وحقائق معينة. فإذا كان التاريخ يكتبه المنتصرون دائماً، فهنالك إذن تواريخ لم تكتب، تواريخ المهزومين التي هي في حالة انتظار لتكتب. وسيكون التاريخ مختلفاً لو كتبت ذات يوم لأنها ستقدمه من وجهات نظر مختلفة أملى اختلافها آيديولوجيا الكُتّاب والظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شكلت بمجملها سياقات لها تأثيرها على تدوينها. بيد أن «تواريخ» المهزومين لن تختلف عن «تواريخ» المنتصرين من ناحية أن تسريدها وتدوينها لن يتحققا من دون الانتقاء والاختيار وحذف كل ما يعيق سردها وفق وجهات نظر وغايات سُرَّادِها. كل شيء في السرد، في التخييل والتاريخ على السواء، يعتمد ويتوقف على وجهة النظر وموقف السارد.

ذكر هارون لمدير التعليم في المدينة أنه رسم المسيح أسود لأن الأخير لا يمكن أن يكون أبيض؛ فالمسيح طيب وعطوف ومتسامح، يختلف تماماً عن البيض الذين يعرفهم ويلتقي بهم؛ كما أنه ليس مؤكداً سواء أكان المسيح أبيض أم أسود، فضلاً عن أنه من منطقة فيها الكثير من الملونين حسب عمه الذي يُدَرِّسُ تاريخ الزنوج في نيويورك. رسم هارون المسيح بصورة أبيه ومنحه عيونه على أساس من تجربته، فاتحاً الباب أمام صور للمسيح بألوان أخرى؛ فقد يرسمه طفل كوري أو فلبيني بملامح أهله.

تسويد المسيح للأسباب التي ذكرها هارون تضع سواده على محمل الاحتمال والمقبولية، على النقيض من تسويد الملكة كليوباترا، مثلاً، لمجرد أن جدة أحدهم ذكرت له أنها سوداء. لكن على الرغم من ضعف المبرر الأخير، فإن سواد كليوباترا محتمل، والمقصود بسوادها امتزاج قطرات من «الدم الأسود» بدمها «الأبيض» وليس بالضرورة أن يكون لونها كلون الممثلة أديل جيمس.

إن احتمالية حدوث هذا الامتزاج وبأي مقدار، وفي أي لحظة، هو ما سبب عند البعض ما أسميه «ذعر الدم الأسود» قياساً على «الذعر الأحمر the red scare»، حالة الهستيريا والبارانويا، «رهاب الشيوعية والشيوعيين»، التي خيمت على الولايات المتحدة إبان المكارِثِيّة واشتدت أثناء الحرب الباردة.

لكن ضعف مبرر الجدة لسواد كليوباترا لا يقفل الباب أمام ظهورها سوداء، لأنها ظهرت، من قبل، بعيون إليزابيث تايلور الزرقاء في الفيلم (كليوباترا، 1963)، وربما تظهر بـ«ألوان» أخرى. أو كما قالت عالمة الآثار المصرية مونيكا حنّا لـ«سي بي إس نيوز»: «لا نعرف على وجه اليقين ما إذا كانت كليوباترا سوداء أم بيضاء أم حتى حمراء، ولا نعرف إذا كانت تعتقد أنها مصرية أم لا... لم نكتشف قبرها. لم يتبق لنا أي توصيفات معاصرة لها. لا نعرف من كانت أمها ولا من كانت جدتها... يمكننا أن نتجادل حول لون بشرتها، وحول ما إذا كانت تُعَرّف نفسها بأنها مصرية أم لا... لكن على الأرجح، لن نجد إجابة حقيقية، لأنه ربما لم توجد الإجابة الحقيقية بعد».

لكن الأهم من لون بشرتها، هو تمثيل كليوباترا، وكيف سيقدمها المسلسل، والصورة التي ستظهر بها. هل ستكون مختلفة أو تكراراً وترسيخاً لصورة المرأة القاتلة (la femme fatale)، الخطيرة، المغوية والمغرية، المثيرة لرغبة وخوف الآخر الذكر معاً؟ وتقود الرجال إلى حتفهم أو دمارهم، في الأسطورة والتاريخ والثقافة الشعبية والأدب والفيلم، من سالومي، التي رقصت مقابل رأس يوحنا المعمدان، مثلاً، إلى نظيرتها في قصيدة جون كيتس «السيدة الجميلة بلا رحمة»، إلى المرأة القاتلة/ الخطيرة التي شكلت إحدى الملامح المميزة لنوع الفيلم الهوليودي الذي سمّاه الناقد الفرنسي نينو فرانك «فيلم نوار- Film Noir» في 1946، وصولاً إلى «لا فَمْ فاتال المعاصرة» في السينما الأميركية. كما ذكرت، كيفية تمثيل كليوباترا في المسلسل الأخير هو الموضوع الأهم، أهم بكثير من الضجة حوله ومن المطالبة المليارية ضد «نتفليكس» والتي تبَيّن أنها ستكون مجرد «مطاردةِ أوزٍ بري» - موضوع لا متسع لتناوله في هذه المقالة.

المثير، أن مسلسل الملكة كليوباترا السوداء سبقه بشهرين تقريباً عرض قناة «بي بي سي» مسلسل «آمال عظيمة»، وهو ترجمة درامية جديدة لرواية تشارلز ديكنز. يشكل «التسويد» نقطة التقاء بين المسلسلين، فاستيلا، إحدى الشخصيات الرئيسة والـ«فَمْ فاتال» في الرواية، تؤدي دورها الممثلة الإنجليزية - الأسترالية السوداء شالوم برون - فرانكلين. تمثل استيلا، حسب هيثر بروان، المرأة القاتلة كمثال مستحيل، شكلتها قوى انتقامية خارجية، متجسدة في الآنسة هافيشام التي لقنتها دروساً في فن الثأر الأنثوي. لم يُثر مسلسل استيلا السوداء صخباً وغضباً كمسلسل «الملكة كليوباترا» لأنه «تخييل في تخييل»، لكن من يستطيع فصل الحقيقي عن التخييلي في «تاريخ» كليوباترا، من يضمن نقاء سيرتها؟


مقالات ذات صلة

علماء يفجّرون صدمة: حجر المذبح الضخم نُقل من أسكوتلندا إلى ستونهنج

يوميات الشرق أصلُه ظلَّ لغزاً (إ.ب.أ)

علماء يفجّرون صدمة: حجر المذبح الضخم نُقل من أسكوتلندا إلى ستونهنج

أظهرت معطيات جديدة أنّ حجر المذبح الذي يزن 6 أطنان، الواقع في قلب ستونهنج، جاء من أقصى شمال أسكوتلندا، وليس من جنوب غربي ويلز، كما اعتُقد.

«الشرق الأوسط» (لندن)
العالم رئيس بلدية مدينة ناغازاكي اليابانية شيرو سوزوكي يتحدث إلى وسائل الإعلام في مبنى البلدية في ناغازاكي في 8 أغسطس 2024 قبل يوم واحد من إحياء الذكرى التاسعة والسبعين للقصف الذري للمدينة (أ.ف.ب)

سفراء مجموعة السبع يمتنعون عن حضور ذكرى قصف ناغازاكي لعدم دعوة إسرائيل

قال شيرو سوزوكي رئيس بلدية ناغازاكي اليابانية، إنه متمسك بقراره عدم دعوة السفير الإسرائيلي لحضور فعالية مقررة غداً (الجمعة) لإحياء ذكرى القصف النووي على المدينة

«الشرق الأوسط» (ناغازاكي (اليابان))
يوميات الشرق وجه «مومياء المرأة الصارخة» التي اكتشفت عام 1935 في الدير البحري بالقرب من الأقصر ويرجع تاريخها لنحو 1500 قبل الميلاد خلال فترة المملكة الحديثة في مصر القديمة تظهر بالمتحف المصري في القاهرة - 18 يناير 2023 (رويترز)

تفاصيل جديدة عن حياة وموت «المومياء الصارخة» في مصر

رجّح علماء آثار أن مومياء امرأة مصرية دُفنت منذ نحو 3500 عام، وتبدو على وجهها علامات صراخ، «ماتت وهي تتألّم».

شادي عبد الساتر (بيروت)
يوميات الشرق تجربة استثنائية يجدها الزائر في جناح وزارة الثقافة بمنطقة «سيتي ووك» بجدة (الشرق الأوسط)

«عام الإبل»... مبادرة سعودية تعزز القيم الثقافية الفريدة لأبناء الجزيرة العربية

تحتفي السعودية في كل عام بعنصر مميز من العناصر الثقافية وتعرّف بقيمته ودلالته عبر مبادرات وبرامج متنوعة.

إبراهيم القرشي (جدة)
يوميات الشرق شكلت القرى التراثية مرتكزاً سياحياً في عسير التي تحتضن أكثر من 4275 قرية تراثية (واس) play-circle 02:08

4 آلاف قرية تاريخية في عسير تعكس التراث الثقافي والإنساني للمرتفعات السعودية

أكثر من 4 آلاف قرية تاريخية ما زالت قائمة بمنطقة عسير منذ مئات السنين، وربما أبعد، من ذلك تتفاوت في أحجامها ونمطها العمراني وتتفق على ما تعكسه من إرث إنساني.

عمر البدوي (أبها)

شاشة الناقد: فيلمان عن الأرض

«جَنين جِنين» شهادات (بكري ستديوز)
«جَنين جِنين» شهادات (بكري ستديوز)
TT

شاشة الناقد: فيلمان عن الأرض

«جَنين جِنين» شهادات (بكري ستديوز)
«جَنين جِنين» شهادات (بكري ستديوز)

جَنين جِنين ★★★

* تسجيلي: محمد بكري يعود إلى مذبحة جِنين | فلسطين (2024)

* عروض: خاصّة

«حي الدّمج صمد أمام الجيش الذي لا يُقهر أكثر ممّا صمدت الجيوش العربية سنة 1967». ملاحظة يطلقها أحد المتحدّثين في فيلم محمد بكري الجديد «جَنين جِنين»، تفضي إلى بعض تلك الحروب التي شهدها تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي، كما إلى قيام الجيش الإسرائيلي باقتحام مخيم جِنين قبل 31 سنة.

إنه الاقتحام الذي أدى إلى مجزرة والذي أخرج عنه محمد بكري فيلمه السابق «جَنين جِنين» سنة 2002. ذلك الفيلم شهد اهتماماً عربياً (بطبيعة الحال)، وعالمياً متناولاً شهادات بعض سكان المخيم وبعض الجنود الإسرائيليين الذين وصفوا ما شهدوه وشاركوا فيه من عنف وإرهاب.

كذلك هو الفيلم الذي دفع الإسرائيليين لشن هجوم إعلامي ضد محمد بكري وتقديمه إلى المحاكمة بتهمة الإساءة إلى الجيش الإسرائيلي بهدف تشويه سمعته. بعد تلك المحاكمة نظرت محكمة الاستئناف في القضية وخلُصت إلى النتيجة نفسها، وقضت عليه باستمرار منع الفيلم من العرض، وتغريم المخرج مادياً. آخر تلك المحاكمات وقعت في العام الماضي ونتج عنها استمرار منع الفيلم من التداول.

كلّ ذلك لم يمنع بكري من العودة إلى بلدة جِنين بعد واحدة من عمليات الجيش الإسرائيلي في العام الماضي. في البداية يعرض المخرج مشاهد من فيلمه السابق يصاحبه تعليق بصوته يوفر خلفيات ما جرى قبل 31 سنة. بعد ذلك ينطلق ليقابل بعض من كان التقى بهم، وسجل أحاديثهم في ذلك الفيلم الأول. يتجنّب بكري هذه المرّة مقابلة إسرائيليين كونه لا يودّ خوض مرافعات ودعاوى جديدة ضده، ويعمد فقط إلى الصوت الفلسطيني لوصف العملية العسكرية الجديدة والحديث عن تلك السنوات الفاصلة.

الفيلم جهد في مكانه. منفّذ برويّة ومن دون تحديّات. يكفيه أنه مستمد من الواقع ومؤثر على صعيد أحداث قضية تشهد هذه الأيام حرباً جديدة. أحد العناوين الفرعية للفيلم هو «ما قبل غزة»، وهو عنوان مستخدم للإيحاء بأن الاعتداءات لا تتوقف حتى تبدأ من جديد.

لكن الفيلم أقل حدّة من سابقه. أقل حتمية إذا ما استثنينا أنه فيلم لم ينوِ أساساً أكثر من تقديم شهادات جديدة لمن سبق له مقابلتهم ليسردوا ما عايشوه وشاهدوه خلال الهجوم الأخير وما خرجوا به من تجربة الهجوم الأول. هو فيلم شهادات توثيقية بالتأكيد، يزيّنه صوت المخرج وهو يعلّق على ما يقوم به. تأثير ما يعرضه من أحوال وما يسمعه من مواقف وشهادات يبقى مؤثراً كما حال الوضع الفلسطيني بأسره. منفّذ جيد ضمن ما هو متاح وهذا في خضمّ الأحداث، إنجاز بحد ذاته.

THE PROMISED LAND ★★★☆

* دراما دنماركية من بطولة الموهوب مادس ميكلسن | الدنمارك (2023)

* عروض: منصّات.

‫لودڤيغ (مادس ميكلسن) هو ابن خادمة كانت تعمل في بعض قصور الطبقة العليا ووضعته. عنوان الفيلم الأصلي «ابن عاهرة» لتأكيد وضعية طبقته. في شبابه انضم للجيش الألماني في بعض تلك الحروب الأوروبية وأمضى 25 سنة بعيداً عن بلده.‬ مع عودته بات يسعى للحصول على إذن لحرث أرض تُمنح له. حين يواجه لودڤيغ اللورد المسؤول ومستشاريه يسخرون منه ومن طبقته ويقضون أن الأرض بور لا تصلح لشيء. يرد على ذلك بأن كل أرض صالحة للزرع. حين يجد أن طلبه سيرفض يتطوّع بأن يموّل مشروعه بنفسه مقابل منحه، إذا ما حقق الحلم، لقب لورد وتخصيصه بما يلزم المكان من عمّال وخدم.

مادس ميكلسن في «الأرض الموعودة» (زنتروبا إنترينمنت)

هنا تبرز قيمة العنوان البديل. إنها أرض موعودة له إذا نجح في ترويضها، وفي هذه الحالة سيمكن سلبها منه بقرار من الذين منحوها له. لا يعرف لودڤيغ هذا الجانب من الخطّة وينهمك في العمل ليثبت أنه سيحوّل تلك الأرض البور إلى مزرعة مثمرة.

هذا واحد من الأفلام الأوروبية التي تنتمي، روحاً وعملاً، إلى تعاليم سينما كلاسيكية جميلة ومنفّذة بإحكام كاف، رغم بعض المشاهد التي تدلف في الفيلم إلى مواقف عاطفية. بذلك يخرج عن نطاق ادعاء التجديد في «الفورم» الروائي أو الانتماء إليه.

يتطوّر ما يسرده المخرج نيكولاي آرسل صوب مواجهات ونزاعات بين حاكم المنطقة والقاضي من جهة وبين لودڤيغ. لا تفضي هذه إلى فيلم مغامرات، بل إلى وصفٍ مثيرٍ ومقنع لما تعرّض له بطل الفيلم من محاولات تقويض نجاحاته لمجرد أنه لا ينتمي إلى الطبقة الأثرى. العواطف العاتية التي تموج في صدر القاضي شينكل (سايمون بنبيرغ) تقوده إلى اختيار مجرمين لمهاجمة لودڤيغ الذي يزداد عناداً وبأساً، محاولاً الحفاظ على أرضه.

أداء ميكلسن محسوب كعادته. يعكس وجهه تلك الصرامة وذلك السعي خافياً مشاعره وراء ستارة رقيقة تعكس أكثر مما تبدي.

★ ضعيف | ★★: وسط| ★★★: جيد | ★★★★ جيد جداً | ★★★★★: ممتاز