قبل أيام نشرت مجلة «شتيرن» الألمانية حواراً غير اعتيادي. كان مقابلةً مع باولا بيشوتا، النائبة عن حزب «الخضر» البيئي، واستغرق إجراؤها 45 دقيقة. ولكن عندما نُشرت جاءت المقابلة مقتضبة، وتضمّنت العديد من الأسئلة من دون أجوبة. بل نشرت المجلة، مكان الرد المفترض للنائبة الجملة الآتية: «لم يصرَّح بنشر الإجابة».
المجلّة شرحت لاحقاً أن مكتب النائبة حذف عدداً كبيراً من الأجوبة على أسئلتها عندما أرسلت إليه للموافقة عليها قبل نشرها، ولم يُعِد المكتب النص المعدّل إلا بعد مرور أسبوع.
وبالتالي، اعتبرت المجلة هذا التدخل في النصّ بالقدر الذي حصل «رقابة» مرفوضة، ولذا قرّرت نشر الأسئلة التي أزالها مكتب النائبة من دون الأجوبة، مع أن المجلة ليبرالية سياسياً، وتُعدّ مقرّبة من حزب «الخضر» الذي تنتمي إليه بيشوتا.
حجم التدخّل
ما فاجأ الألمان في القصة، لم يكن إرسال الصحافيين نص المقابلة إلى النائبة مُسبقاً، بل حجم التدخل الذي جرى في النص. ذلك أن الصحافة الألمانية بشكل فردي تقريباً تعتمد مبدأ «التصريح بنشر المقابلة»، وهو يستند على إرسال نصوص المقابلات إلى السياسيين قبل نشرها والسماح لهم بإدخال تعديلات وتغيير أجوبة. ولكن هذه الممارسة تعتبر في معظم البلدان الديمقراطية تدخلاً غير مقبول في الصحافة وممارسة قمعية يستحيل القبول بها.
ومن ثم، تسبب نشر «شتيرن» المقابلة بأجزاء مقتطعة في إعادة الجدل حول الموضوع، وطرح تساؤلات حول ما إذا كان القراء يقرأون فعلاً كلمات نطق بها السياسيون أمام الصحافي... أم أنهم يقرأون نصوصاً مدروسة ومُعدّة بعناية دوّنها مساعدون صحافيون.
وبالمناسبة، كتب أحد القراء تعليقاً على المقابلة: «ما الذي تعلمناه؟ كل المقابلات التي لا تُجرى بشكل مباشر ملعوب بها من الطرفين: الصحافة التي تقصّر وتختضر وتعيد التفسير بما يناسبها، والضيوف الذين تُجرى معهم المقابلة ويُسمح لهم بأن يعيدوا التحرير بعد المقابلة».
وعلّق آخر كاتباً: «أنا لست صديقاً لحزب الخضر، ولكن للأسف يجب الملاحظة بأنه غالباً ما نختبر صحافيين لا يكتبون ما الذي قيل... بل حصيلة ترجمتهم الخاصة».
وأيضاً، تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنه تكرّرت في الماضي حالات نشر مجلات وصحف لمقابلات بأجوبة سوداء أو فارغة اعتراضاً على مدى التدخل الحاصل من قبل السياسيين الذين أجريت معهم المقابلة.

... حتى شولتس
هذا، وكان المستشار السابق أولاف شولتس - المنتمي للحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) - أحد الذين نشرت لهم مقابلات شبيهة قبل دخوله مقر المستشارية. ففي عام 2003، نشرت مجلة «تاغس تسايتونغ» مقابلة أجرتها مع شولتس تضمّنت فقط أسئلة الصحافي بأجوبة سوداء تحت عنوان «مقابلة فائقة السرّية».
ويومذاك، شرحت الصحيفة اليسارية بأن شولتس، الذي كان في حينه أمين عام الحزب الديمقراطي الاجتماعي، أدلى بمقالة للصحيفة على هامش أعمال مؤتمر الحزب، لكنه رفض السماح بنشرها لاحقاً. وذكرت الصحيفة أنها قررت، على الأثر، «فضح» القصة لأن هذه الممارسة باتت «عادة سيئة منتشرة» وأنه «لا شيء يُطبع في الصحافة من دون أن يخضع للتجميل». وأضافت أن «عادة» أخذ موافقة الساسة مسبقاً «تقوّض حرية الصحافة، وما بدا كاتفاقية طوعية بينهم وبين الصحافيين بات يُستغَل بشكل متزايد من قِبل الساسة، الذين ما عادوا يكتفون بتعديل الأجوبة، بل باتوا يزيلون أسئلة لا تعجبهم».
هذا، ولا يوافق كثيرون من الصحافيين الألمان على هذه العادة، لكنهم مع ذلك ينصاعون لها ويعتبرونها جزءاً من العمل الصحافي في ألمانيا. وحقاً، نشرت «تسودويتشه تسايتونغ» مقالاً قبل سنوات تطرقت فيه إلى عادة «التصريح بالنشر»، ولكن ليس انتقاداً، بل دفاعاً عنها.
أخذ الصحف موافقة الساسة مسبقاً على مقابلاتهم تُقوّض حقاً حرية الصحافة؟
وقالت الصحيفة العريقة إن هذه العادة يجري استغلالها أحياناً من بعض الأطراف، ولكنها في النهاية تسمح للصحافي، كما لمن أجريت معه المقابلة بالتأكد من صيغة الجمل وتبسيط الأسئلة والأجوبة وتوضيحها. وتابعت أن نقابات الصحافة أصدرت أخيراَ مبادئ توجيهية لمنع استغلال العادة، وإدخال تعديلات كبيرة على المقابلات قبل نشرها، داعية لاعتمادها. ومن توجيهات النقابة أن التعديلات التي يمكن إدخالها يجب أن تقتصر على «دقة الوقائع والمعنى والوضوح اللغوي».
انتقاد الأداء «المسرحي»
ثم إن الصحيفة انتقدت الصحف والمجلات التي تلجأ إلى «أداء مسرحي» بنشر مقابلات مع محو الأجوبة أو بأجوبة مشطوبة بالأسود كاعتراض على مدى التدخل الحاصل في النص. وشدّدت «حجب مقابلات أو طباعة صفحات فارغة لا يجوز أن يصبح عادة جديدة لأن من شأن هذا التقليل من الجوانب الإيجابية لمبدأ التصريح بالنشر. وصحيح أن الصحافة المكتوبة ليست كالتلفزيون، وهذا عيب، ولكنه أيضاً ميزة، إذ يمكن أن تكون المحادثة أكثر انفتاحاً وسرية إذا كان الضيف يعلم مسبقاً أنه يستطيع المراجعة لاحقاً، والتحقق من مدى وضوح كلماته».
وباستثناء الاعتراضات التي تعبّر عنها بعض وسائل الإعلام المكتوبة بين الحين والآخر، فإن معظم المقابلات الصحافية التي تنشر في الإعلام الألماني المكتوب، تنشر من دون أن يعلم القارئ إذا ما كانت معدّلة أو ما هي التعديلات التي أدخلت عليها. ولا تخرج هذه المعلومة إلا إذا قرّرت الصحيفة، أو المجلة المعنية، فضح السياسي في حال لم يتوافق الطرفان على التعديلات.
عدا عن ذلك، فعلى مَن يقرأ مقابلات مكتوبة في الصحافة الألمانية، أن يتساءل فعلاً عما إذا كانت الكلمات حقاً كلمات الضَّيف أم كلمات منقّحة منتقاة بعناية بالغة، وأقرب إلى مقال «علاقات عامة» من مقابلة صحافية وفق المعايير المهنية المتعارف عليها.



