دراسة أوروبية: الإعلام التقليدي محكوم عليه بالزوال

وسط التحديات... وتغيّر الأنماط

شعار مجموعة «ميتا» (رويترز)
شعار مجموعة «ميتا» (رويترز)
TT

دراسة أوروبية: الإعلام التقليدي محكوم عليه بالزوال

شعار مجموعة «ميتا» (رويترز)
شعار مجموعة «ميتا» (رويترز)

شهد العالم خلال العقدين المنصرمين «ثورة» تكنولوجية غير مسبوقة، من حيث سرعتها وعمق التحولات التي أحدثتها في جميع مناحي الحياة العلمية والاقتصادية والاجتماعية. وفتحت هذه «الثورة» عصراً جديداً في عالم التواصل كانت وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة أولى «ضحاياه»، وأيضاً المستفيد الأكبر من الفرص والقدرات التي توفّرها التكنولوجيا الرقمية.

لكن إلى جانب الفرص الهائلة التي أتاحتها التكنولوجيا الرقمية أمام وسائل الإعلام، وضعتها في مواجهة تحديات ضخمة وصعبة لنشر المعلومات أمام منافسة منصات التواصل الاجتماعي، التي تحوّلت بسرعة إلى القنوات الأساسية لنقل الأخبار إلى الجمهور. وهذا الأمر الذي بات يفرض على وسائل الإعلام الرقمية أن تتكيّف باستمرار مع التطورات التكنولوجية، وأن تكون مضامينها على درجة عالية من الجودة، وأن تقدم قيمة إضافية لجمهورها.

من ناحية ثانية، نظراً إلى وفرة المعلومات التي تتناقلها القنوات والمنصات الرقمية كالمواقع والمدونات والشبكات الاجتماعية، ارتفع منسوب المعلومات المضللة والأخبار المثيرة للجدل والمنازعات في أوساط الرأي العام، وتكاثرت المواجهات وازدادت الخلافات حدة.

لا بد من جهد مضاعَف

هذا الواقع الجديد بات يفرض على وسائل الإعلام أن تبذل جهداً مضاعفاً لضمان جودة وصدقية المعلومات التي تنشرها عبر منصاتها للكشف عن الأخبار المزيفة والمعلومات العارية عن الصحة وتفنيدها. وغدت الوسيلة الإعلامية ملزمة بالتكيّف مع مقتضيات المنظومة الرقمية للحفاظ على موقعها ودورها وتأثيرها، ومواكبة المستجدات التكنولوجية مثل الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي، وإضافتها إلى مجموعة الوسائل التي تستخدمها. إذ إن الثورة التكنولوجية، وما نتج عنها من تحولات رقمية واسعة، وعميقة أسهمت في زيادة توقعات المستخدمين بالنسبة إلى تنوع المواد الإعلامية التي يرغبون في استهلاكها. وباتت الوسيلة الإعلامية مضطرة إلى استخدام أنماط وأشكال مختلفة لنقل المعلومات، بما يتيح للجمهور أن يتمتع بقراءة نص مكتوب ومشاهدة الصور والفيديوهات المرفقة به، وأن يحلّل الرسوم البيانية أو الاستماع إلى تسجيلات «البودكاست» ومتابعة الصور المتحركة التي يتضمنها.

غير أن ديمومة وسيلة الإعلام واستمرارية نشاطها في الفضاء الرقمي أصبحتا تعتمدان في هذا الظرف الجديد على أن تكون لديها استراتيجيات تسويقية توفر لها موارد اقتصادية تدعم جهودها وأنشطتها الإعلامية. وهذا العامل، يشكّل تحدياً تكنولوجياً وتجارياً بسبب الوسائل الرقمية الحديثة التي تحجب الإعلانات وتحدّ من فاعليتها ومردودها الاقتصادي.

كل هذه التحديات تستدعي من وسائل الإعلام، وأيضاً من مستهلكي المواد التي تنشرها، مواكبة التطورات التكنولوجية بما يتيح لها أوسع استفادة ممكنة من المنصّات والوسائل والمضامين التي في متناولها. لكنَّ وسائل الإعلام الرقمية هي التي يُفترض بها في المقام الأول أن تضمن لجمهورها جودة المواد التي تتناقلها، وصحة المعلومات المتداولة، مستندةً إلى معارفها وقدراتها وخبرتها وموهبتها انطلاقاً من مبادئ موضوعية المعلومات وصدقيتها.

صحف بريطانية تنتظر مشترين (رويترز)

دراسة «المركز الأوروبي»

آخر الدراسات التي وضعها «المركز الأوروبي لوسائل الإعلام»، التابع للمفوضية الأوروبية، تشير إلى أن التطورات الاجتماعية والسياسية الأخيرة، من جائحة كوفيد-19 إلى صعود القوى اليمينية المتطرفة، مروراً بالحرب في أوكرانيا، أحدثت تغييراً ملحوظاً في نمط استهلاك المعلومات عبر الوسائل التقليدية والرقمية على السواء، وزاد الاهتمام بتلك التي توفر قدراً أكبر من الصدقية وتتمتع بمستوى أعلى من الرصانة. وبينما استطاعت قنوات التلفزيون الإخبارية المحافظة على موقعها وموثوقيتها في بعض البلدان، شهدت الصحف عموماً تراجعاً ملحوظاً، وبخاصة تلك التي لم تتكيّف بالقدر الكافي أو السرعة اللازمة مع مقتضيات العصر الرقمي.

كذلك، تبيّن الدراسة أن السواد الأعظم من وسائل الإعلام الرئيسية في أوروبا لا يعير الاهتمام الكافي لشؤون الشباب والمرأة والأقليات العرقية، وأن الإقبال على شبكات التواصل الاجتماعي يبلغ مستويات عالية بين الشباب وفي أوساط أصحاب المستويات التعليمية المتدنية.

وفي حين يسجّل بعص الدول الغنية ارتفاعاً ملحوظاً في عدد المشتركين مقابل الدفع في المواقع أو الصحف الإلكترونية، ما زالت نسبة المشتركين عموماً في مثل هذه الخدمات متدنية جداً. كذلك تبيّن أن نسبة الذين يستهلّون «نهارهم الإخباري» بالدخول إلى موقع صحيفة أو منصة لا يتجاوز 22 في المائة، وأن «حصة الأسد» من هذه النسبة هي دائماً من نصيب المواقع أو الصحف الكبرى.

وترجّح الدراسة في استنتاجاتها أنه رغم نجاح بعض وسائل الإعلام الكبرى في مواجهة تحديات العصر الرقمي، فإن غالبية الوسائل التقليدية محكوم عليها بالزوال أو بالتراجع الملحوظ في أحسن الأحوال، إنْ لم تسارع إلى التكيّف مع الظروف المستجدة في العالم التكنولوجي، مع التغييرات العميقة التي طرأت على أنماط التواصل الاجتماعي.


مقالات ذات صلة

إلى أين وصلت المفاوضات بين إسرائيل و«حماس»؟

تحليل إخباري فلسطينيون يحملون جثث أقارب قُتلوا في ضربة إسرائيلية في خان يونس جنوب قطاع غزة الثلاثاء (أ.ب)

إلى أين وصلت المفاوضات بين إسرائيل و«حماس»؟

يزداد الحديث الإعلامي الإسرائيلي عن «تقدم كبير» في المفاوضات الرامية للتوصل إلى اتفاق لوقف النار في غزة، لكن مصادر من «حماس» أشارت إلى عدم حدوث «انفراجة» بعد.

«الشرق الأوسط» (غزة)
إعلام اطفال على المنصة

«تيك توك» منصة للإعلام أم «التسّول الافتراضي»؟

في زمن تحولت المنصّات الإعلامية الرقمية إلى نوافذ يطلّ منها العالم على قصص البشر، لم تعد المعاناة تُروى في الخفاء، بل أصبحت «محتوى» يعرض على ذوي القلوب الرحيمة

أنيسة مخالدي (باريس)
إعلام روبوت يعمل بتقنية الذكاء الاصطناعي (أ.ف.ب)

احتجاجات لوس أنجليس تُجدّد جدل «صدقية» الذكاء الاصطناعي

جدّدت الاحتجاجات الأخيرة في مدينة لوس أنجليس الأميركية الجدل حيال مساهمة تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الترويج لـ«معلومات مضللة»،

فتحية الدخاخني (القاهرة)
إعلام شعار  غوغل (رويترز)

ميزة جديدة من «غوغل ديسكوفر» تخيف ناشرين

قدَّم تطبيق «غوغل ديسكوفر» ميزة جديدة للقارئ تعتمد على عرض نقاط موجزة تلخِّص المقالات من دون الحاجة للنقر على الرابط وقراءة تفاصيل،

إيمان مبروك (القاهرة)
يوميات الشرق وزير الإعلام سلمان الدوسري لدى إطلاقه «منصة الصور السعودية» الأربعاء (واس)

«منصة الصور» تُعزِّز الحضور البصري للسعودية عالمياً

دشّن وزير الإعلام سلمان الدوسري «منصة الصور السعودية»، التي طوّرتها وكالة الأنباء الرسمية «واس»، وتتيح الوصول المجاني إلى صور موثّقة، قابلة للاستخدام والمشاركة.

«الشرق الأوسط» (مكة المكرمة)

«تيك توك» منصة للإعلام أم «التسّول الافتراضي»؟

اطفال على المنصة
اطفال على المنصة
TT

«تيك توك» منصة للإعلام أم «التسّول الافتراضي»؟

اطفال على المنصة
اطفال على المنصة

في زمن تحولت المنصّات الإعلامية الرقمية إلى نوافذ يطلّ منها العالم على قصص البشر، لم تعد المعاناة تُروى في الخفاء، بل أصبحت «محتوى» يعرض على ذوي القلوب الرحيمة لإثارة التعاطف وجني الأرباح.

هذه ما تُتهم بعرضه اليوم منصّة «تيك توك» من ممارسات تسول مقنّعة، يقوم بها أفراد، وأحياناً عائلات بكاملها، من أجل الحصول على مساعدات مادية.

انتشار هذه الظاهرة، التي تُعرف بـ«التسّول الافتراضي»، أصبح يثير تساؤلات أخلاقية بشأن الحدود الفاصلة بين التضامن والانتهازية واستغلال الفئات الضعيفة، وخاصة الأطفال.

«المعاناة» كمحتوى

الظاهرة تبدأ غالباً ببث مباشر، يظهر فيه أفراد، ومعظمهم من الأطفال والمسنين، وهم يدّعون الفقر أو المرض في هيئة مثيرة للشفقة، ويستنجدون بالمشاهدين، مطالبين بما يسمى بالهدايا الرقمية التي تتحوّل لاحقاً إلى أرباح مالية.

لكن رغم وجود قصص معاناة حقيقية، فإن هذه المحتويات باتت يصفها البعض بالمسرحيات «المُتقنة» التي تُوظف فيها كل عناصر الدراما المؤثرة، من مشاهد البكاء والموسيقى الحزينة إلى الصوت المتهدج لاستدرار العواطف.

قناة «بي بي سي» البريطانية كانت أول من كشف عن تفشّي ظاهرة التسول الرقمي، عبر تحقيق مطول في مخيمات اللاجئين السوريين، بعنوان «كيف يحصل (تيك توك) على الأموال باستغلال أطفال سوريين فقراء؟». لكن تبين فيه أن العائلات الفقيرة، وبالأخص الأطفال، يتعرضون لاستغلال «وسطاء» يديرون حسابات متخصصة في هذه النوعية من المحتوى... تصل فيها المداخيل إلى ألف دولار في الساعة. ومن هذه الحسابات يأخذون نسبة تتراوح ما بين 20 إلى 27 في المائة، والعائلات الفقيرة تحصل على نسبة ضئيلة، تتراوح ما بين 1 إلى 3 في المائة، أما نصيب الأسد فيعود إلى المنصّة الصينية التي تستحوذ على 70 في المائة من هذه المبالغ.

وفي تحقيق آخر، أشارت صحيفة «الغارديان» البريطانية إلى انتشار هذه الظاهرة في عدة دول أخرى، كأفغانستان وباكستان والهند وإندونيسيا وكينيا. وهذا بعد مراقبة عدة حسابات تحمل علامات تسول منظّم عبر الشبكة، واستشهدت الصحيفة بحساب في إندونيسيا يبّث مقاطع يومية لأطفال يتسولون هدايا افتراضية، وفي اليوم التالي يظهر أطفال مختلفون في الغرفة نفسها، مع الأشخاص البالغين أنفسهم، ولم يُحظر هذا الحساب إلا بعد نشر تقرير الصحيفة البريطانية.

المنظمات الإنسانية ندّدت بهذه الممارسات، واتهمت «تيك توك» باستغلال البؤس الإنساني لجني الأرباح. وفي حوار مع «الغارديان»، عدّ أوليفييه دي شوتير، المفوّض الخاص للأمم المتحدة المعني بالفقر المدقع، النسب الكبيرة التي تفرضها المنصة على هذه التبرعات الافتراضية «افتراساً رقمياً». أما منظمة «هيومان رايتس واتش» فاتهمت «تيك توك» بانتهاك حقوق الأطفال لتقصيرها في حظر الحسابات التي تستغل الأطفال لساعات طويلة من العمل في مشاهد للتسول الافتراضي.

شعار "تيك توك" (رويترز)

مباريات البثّ المباشر

مداخيل الهدايا الافتراضية، التي يمنحها تطبيق البثّ المباشر، استقطبت أيضاً فئة من المؤثرين لا تعاني الفقر المدقع، لكنها تتعرض منذ فترة لتراجع في مداخيلها بسبب القوانين الجديدة التي تنظم ممارسات المؤثرين التجارية.

في فرنسا مثلاً، تلجأ هذه الفئة من «التيك توكرز» إلى نظام «المباريات» كأحد أبرز مصادر للدخل. وهنا الفكرة بسيطة، حيث يتواجه شخصان في مبارزة كلامية على الهواء، ويقوم الجمهور بمنح تبرعات للمؤثر المفضّل لديهم.

التقارير التي نشرت تشير إلى مبالغ ضخمة تبرع بها مستخدمون عبر البثّ المباشر للمنصة الصينية، بلغت في فرنسا، حسب تقرير لمكتب الدراسات «داتا آي»، نحو 81 مليون يورو عام 2023، مقابل مليونين ونصف مليون عام 2020.

وهنا تشرح أودري شييو، الصحافية الفرنسية المتخصصة في منصات التواصل: «المشكلة هي أن هؤلاء المؤثرين، ومعظمهم نجوم سابقون من تلفزيون الواقع، لا يكتفون بتنظيم هذه المباريات، بل يطلبون من الجمهور تشجيعهم بإرسال هدايا افتراضية كالوردة أو الأسد، التي قد تصل قيمتها إلى 400 يورو».

أيضاً يلجأ بعضهم إلى التلاعب النفسي عبر إنشاء روابط شخصية مع المتابعين من المراهقين من خلال الرسائل الخاصّة، أو ذكرهم بالأسماء لضمان استمرار تدفق الهدايا الرقمية، وهو ما تعدّه الإعلامية الفرنسية نوعاً من أنواع الاستغلال والتسول الرقمي المُلبّس بقناع البثّ الترفيهي.

بيد أن المخاطر لا تقتصر على الناحية المالية فحسب، ففي شهادة مؤلمة، نقلتها إذاعة «فرانس إنتير»، تروي أمّ كيف أن ابنها المراهق، البالغ من العمر 14 سنة، أنفق قرابة 4 آلاف يورو من مدّخرات العائلة على الهدايا في «تيك توك» لأنه كان يعدّ نفسه «صديقاً» لبعض المؤثرين.

من جانبها، لا تبدو المنصة الصينية مستعدة لتقييد نشاطات تدرّ عليها أرباحاً طائلة، لكنها رغم ذلك مطالبة اليوم باتخاذ عدد من التدابير الصارمة للقضاء على ظاهرة التسول الرقمي. أهمها؛ وضع قوانين داخلية صارمة تمنع المحتوى الذي يتضمن استجداء صريح أو مبطن للهدايا الافتراضية، وتعزيز الرقابة على البثّ الحيّ لرصد المخالفات.

هذا، وفي تقرير، طالب نائب أوروبي أيضاً «تيك توك» بوضع سقف شهري للأرباح الفردية، ومنع القاصرين من استخدام خاصية الهدايا الافتراضية من أجل حمايتهم والحفاظ على أخلاقيات المنصة.