واقع الإعلام الإسباني... ملكيات أجنبية ومنافسة وديون تؤثر أحياناً على استقلالية الخط التحريري

نهاية حقبة فرنكو أطلقت مرحلة جديدة في تطورها

مقر صحيفة "إلباييس" (رويترز)
مقر صحيفة "إلباييس" (رويترز)
TT

واقع الإعلام الإسباني... ملكيات أجنبية ومنافسة وديون تؤثر أحياناً على استقلالية الخط التحريري

مقر صحيفة "إلباييس" (رويترز)
مقر صحيفة "إلباييس" (رويترز)

ثمّة فترة مفصلية في تاريخ الإعلام الإسباني ومؤسساته الكبرى تتزامن مع نهاية النظام الديكتاتوري الذي أسّسه الجنرال فرنشيسكو فرنكو في أعقاب الحرب الأهلية عام 1939، وامتدّ حتى وفاته في خريف عام 1975.

هذه الفترة، شهدت واحداً من أهم الإنجازات السياسية الإسبانية، الذي أصبح مادة تدرّس في المعاهد الكبرى للعلوم السياسية كتجربة فريدة وناجحة للانتقال السلمي من نظام الحزب الواحد الذي ألغى الحريات العامة طيلة عقود، إلى النظام التعددي السائد في الدول الغربية.

لقد عرفت تلك الفترة، إلى جانب إطلاق الحريات السياسية والنقابية، تحولاً جذرياً وسريعاً في نمط النشاط الإعلامي الذي كان يخضع لتوجيهات أجهزة النظام ورقابتها الصارمة على محتوياته. إذ ظهرت مجموعة من الصحف الحرة والمستقلة التي لعبت دوراً أساسياً في تشكيل معالم المرحلة الانتقالية وإرساء المعادلات السياسية الرئيسية، التي ما زالت قائمة إلى اليوم، قبل أن يصبح بعضها نواة للمؤسسات الكبرى في المشهد الإعلامي الإسباني بتشعباته الأوروبية والأميركية اللاتينية.

«إلباييس»

أبرز الصحف التي نشأت في تلك الفترة كانت «إلباييس»، التي سرعان ما تحولّت إلى رمز المرحلة الديمقراطية الجديدة واحتلّت المركز الأول، الذي ما زالت تحافظ عليه إلى اليوم، من حيث انتشارها وتأثيرها في الرأي العام، لتصبح مرجعاً في عالم الصحافة الناطقة بالإسبانية.

المجموعة المؤسِسة لـ«إلباييس» كانت قد تقدّمت بطلب ترخيصها في عام 1973، عندما بدأت تظهر التباشير الأولى لنهاية عهد الجنرال فرنكو، إذ كانت حالته الصحية قد بدأت تتدهور من دون أن يعيّن أي «وريث» له. إلا أن السلطات المتوجّسة خيفة من التوجهات السياسية للمجموعة، ماطلت في بت الطلب. وحقاً، لم توافق على الترخيص إلا بعد وفاة فرنكو، وصدر العدد الأول من الصحيفة يوم 4 مايو (أيار) 1976.

لقد ضمّت المجموعة المؤسسة للصحيفة المرموقة عدداً من رجال الأعمال والأساتذة الجامعيين وكبار الموظفين الرسميين الذين كانوا ينتمون إلى المعارضة المعتدلة والتيّار المنفتح على التغيير داخل النظام. واختير لرئاسة تحريرها الصحافي خوان لويس ثيبريان، الذي كان تولّى إدارة قسم الأخبار في التلفزيون الرسمي قبل ذلك بسنتين، واستمرّ في رئاسة تحريرها حتى عام 1988.

مقر ميدياسي في إحدى ضواحي ميلانو (رويترز)

يوم 23 فبراير (شباط) 1981، وعندما وقعت المحاولة الانقلابية التي كادت تطيح النظام الديمقراطي اليافع. وبينما كانت إسبانيا تحبس أنفاسها في انتظار معرفة موقف القيادات العسكرية والملك الشاب خوان كارلوس الأول من اقتحام أحد ضباط الحرس المدني مبنى البرلمان واحتجازه النواب وأعضاء الحكومة، كانت «إلباييس» الصحيفة الوحيدة التي صدرت فجر اليوم التالي. وكان عنوانها ذلك اليوم «إلباييس مع الدستور»، مكرّسة بذلك رمزيتها الديمقراطية، ومعزّزة موقعها في المشهد الإعلامي الإسباني بعد فشل المحاولة الانقلابية.

وفي عام 1981، شاركت «إلباييس» في إنشاء شبكة مشتركة للموارد الإعلامية مع صحيفتي «لوموند» الفرنسية، و«ريبوبليكا» الإيطالية، ثم أطلقت طبعة بالبرتغالية من مدينة ساو باولو في البرازيل، وطبعة خاصة بالمكسيك بعدما كانت أصدرت طبعة باللغة الكاتالونية وأخرى بالإنجليزية بالتعاون مع «إنترناشيونال هيرالد تريبيون». وفي عام 2016، بدأت إصدارها الرقمي لتغدو الصحيفة الرقمية الناطقة بالإسبانية الأوسع انتشاراً في العالم.

توسّع مطّرد... وديون متراكمة

بعدما رسخّت «إلباييس» موقعها، وبمناسبة الذكرى السنوية العاشرة لتأسيسها، أعلنت عن شرائها «سير»، وهي إحدى الشبكات الإذاعية الرائدة في إسبانيا. ثم أبرمت عقداً مع شركة «كنال بلوس» (قناة) الفرنسية، وبدأت تبثّ أولى القنوات التلفزيونية الخاصة في إسبانيا.

وبعد حيازة مجموعتها القابضة «بريسا» كلاً من كبرى دور النشر المدرسية «سانتيانا»، ثم صحيفة «آس» الرياضية، وصحيفة «ثينكو ديّاس» الاقتصادية، صارت «بريسا» المؤسسة الأولى في الدول الناطقة بالإسبانية والبرتغالية في مجال توزيع المحتويات التربوية والإعلامية والترفيهية. بل، وبدأت توسّع دائرة حضورها في سوق الولايات المتحدة الموجهة للجاليات الناطقة بالإسبانية.

الصفحات الأولى من بعض كبريات صحف إسيانيا

ولكن، في المقابل، ترزح «بريسا» منذ سنوات، تحت وطأة ديون متراكمة بلغت 800 مليون يورو نهاية العام الماضي، وهذا على الرغم من أنه أسهم في تخفيفها دخول مجموعة «فيفندي» الفرنسية في رأسمالها بنسبة 10 في المائة. وفعلاً، أعلنت «بريسا» عن قرب بيعها دار النشر «سانتيانا»، المقدّرة قيمتها بمليار ونصف المليار يورو، بأمل التخلّص نهائياً من عبء الديون التي يرى فيها المحللون سبب انحراف الصحيفة عن خطها المستقل خلال السنوات الأخيرة تحت الضغوط التي تتعرّض لها من المصارف الدائنة.

مع هذا، لا بد من الإشارة إلى أن «بريسا»، كغيرها من المؤسسات الإعلامية الإسبانية الكبرى، هي في قبضة صناديق الاستثمار الدولية مثل «آمبير إنترناشيونال» الأميركي - البريطاني الذي يملك غالبية أسهمها. واللافت أن جوزيف أوغورليان، الرئيس التنفيذي لهذا الصندوق ولمجلس إدارة «إلباييس»، قال أخيراً: «لقد حاولت (إلباييس) انتهاج خط يميني، لكنها فشلت وستعود اليوم إلى الخط اليساري»، ما يعني أن أهم الصحف الإسبانية ليست فقط بيد رأس المال الأميركي، بل هي تعترف بأنها تغيّر وجهتها السياسية وفقاً لمقتضيات المرحلة أو الوضع المالي.

مجموعة «بلانيتا» وأذرعها

بالتوازي، اللافت أيضاً أن مجموعة «بلانيتا» الإعلامية، وهي أيضاً من كبريات المجموعات الإسبانية، تملك عبر «إتريس ميديا»، قناة «لا سكستا» أكثر قنوات التلفزيون يسارية، وصحيفة «لا راثون» المعروفة بخطها اليميني المتشدد، فضلاً عن قناة «آنتينا 3» المحافظة وشبكة إذاعية واسعة، ودار للنشر هي الأكبر في إسبانيا. ولكن أكثر من 40 في المائة من أسهم «إتريس ميديا» تملكها مجموعة «دي آغوستيني» الإيطالية التي أسست مطلع القرن الماضي، وتنشط حالياً في قطاعات النشر والإعلام وألعاب الميسر والخدمات المالية، وملكيتها هي حصراً بيد عائلتي بورولي ودراغو عبر مجموعة «بي آند دي» القابضة.

كثير من المؤسسات الإعلامية الإسبانية الكبرى في قبضة صناديق الاستثمار الدولية

"فيفندي" (رويترز)

«ميدياست»... و«غودو»

ثم هناك «ميدياست»، المجموعة الإيطالية العملاقة التي كانت منصة الانطلاقة السياسية لمؤسسها سيلفيو برلوسكوني، ويديرها اليوم بعد وفاته ابنه البكر بيير سيلفيو برلوسكوني. وهذه حاضرة أيضاً بقوة في المشهد الإعلامي الإسباني، حيث تملك قناة «تيلي 5» التلفزيونية و5 قنوات منوّعة أخرى، فضلاً عن منصة رقمية للخدمات الإعلامية والترفيهية، وشركة للإنتاج السينمائي والتلفزيوني.

ومن المؤسسات الإعلامية الرائدة في إسبانيا كذلك مجموعة «غودو» الكاتالونية، التي تملك الحصة الكبرى فيها عائلة مؤسسها الملياردير الكونت كارلوس دي غودو، وهو سليل واحدة من أعرق العائلات الكاتالونية الناشطة في عالم السياسة والمال منذ أواخر القرن الثامن عشر. وتملك هذه المؤسسة اثنتين من أقدم الصحف الإسبانية هما «لا فانغوارديا» و«عالم الرياضة»، بالإضافة إلى عدد من المجلات الأسبوعية والشهرية، ودار للنشر، وشبكة إذاعية ومنصات إعلامية رقمية. ولا تزال هذه المؤسسة على خطها المحافظ منذ تأسيسها.

وتفيد دراسة صدرت في الآونة الأخيرة عن كلية علوم الإعلام في جامعة مدريد المستقلة، بأنه منذ أزمة عام 2008، المالية دخلت المصارف وصناديق الاستثمار الأجنبية بقوة على خط ملكية حصص وازنة في المؤسسات الإعلامية الإسبانية. وتابعت الدراسة أن «ذلك كان في معظم الحالات على حساب استقلالية هذه المؤسسات في تحديد محتوى المواد التي تنشرها». وتفيد الدراسة أيضاً بأن 80 في المائة من الصحافيين العاملين في هذه المؤسسات اعترفوا بأنهم تعرّضوا، مرة في الأقل، لضغوط من أجل تغيير بعض العناصر المهمة في المواد التي يعدّونها، وأن الغالبية الساحقة من القرّاء لا يكترثون أبداً لمعرفة الجهات المالكة لوسائل الإعلام التي يستهلكون موادها.


مقالات ذات صلة

«امسك مزيّف»... استنفار مصري لمواجهة «الشائعات»

العالم العربي ندوة «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» بمصر

«امسك مزيّف»... استنفار مصري لمواجهة «الشائعات»

حالة استنفار تشهدها مصر أخيراً لمواجهة انتشار «الشائعات»، تصاعدت مع إعلان «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام»، الثلاثاء، عزمه إطلاق موقع «امسك مزيف».

فتحية الدخاخني (القاهرة)
إعلام إدمون ساسين (إنستغرام)

استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

تلعب وسائل الإعلام المرئية المحلية دورها في تغطية الحرب الدائرة اليوم على لبنان.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق وزير الإعلام سلمان الدوسري التقى رئيسة الإدارة الوطنية للإذاعة والتلفزيون الصينية كاو شومين (واس)

شراكة إعلامية سعودية صينية تطلق برامج تنفيذية مع القطاعين العام والخاص

اختتم وزير الإعلام السعودي، اليوم، أعمال برنامج الشراكة الإعلامية السعودية الصينية، وشهدت الزيارة إبرام اتفاقيات وبرامج تنفيذية وورش عمل بين الجانبين.

«الشرق الأوسط» (بكين)
إعلام توقيع مذكرة تفاهم للتعاون بين منصة سعوديبيديا وجامعة بكين للغات والثقافة (الخارجية السعودية)

مباحثات سعودية - صينية في بكين لتطوير التعاون الإعلامي

التقى سلمان الدوسري وزير الإعلام السعودي، في بكين، اليوم الخميس، مدير مكتب الإعلام بمجلس الدولة الصيني مو قاو يي.

«الشرق الأوسط» (بكين)
إعلام ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)

فوز ترمب «يُحطم» البنية الإعلامية التقليدية للديمقراطيين

قد يكون من الواجب المهني الاعتراف بأن الجميع أخطأ في قراءة مجريات المعركة الانتخابية، والمؤشرات التي كانت كلها تقود إلى أن دونالد ترمب في طريقه للعودة مرة ثانية

إيلي يوسف (واشنطن)

استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

إدمون ساسين (إنستغرام)
إدمون ساسين (إنستغرام)
TT

استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

إدمون ساسين (إنستغرام)
إدمون ساسين (إنستغرام)

تلعب وسائل الإعلام المرئية المحلية دورها في تغطية الحرب الدائرة اليوم على لبنان.

نوع من «التجنيد الإجباري» فرضته هذه الحالة على المحطات التلفزيونية وموظفيها ومراسليها، فغالبيتهم يمضون نحو 20 ساعة من يومهم في ممارسة مهامهم. وبعضهم يَصِلون ليلهم بنهارهم في نقل مباشر وموضوعي، وآخرون يضعون دمهم على كفّ يدهم وهم يتنقلون بين مناطق وطرقات تتعرّض للقصف. أما رؤساء التحرير ومقدِّمو البرامج الحوارية اليومية، فهم عندما يحوزون على ساعات راحة قليلة، أو يوم إجازة، فإنهم يشعرون كما السمك خارج المياه. ومن باب مواقعهم ومسؤولياتهم الإعلامية، تراهم يفضلون البقاء في قلب الحرب، وفي مراكز عملهم؛ كي يرووا عطشهم وشهيّتهم للقيام بمهامهم.

المشهدية الإعلامية برمّتها اختلفت هذه عن سابقاتها. فهي محفوفة بالمخاطر ومليئة بالصدمات والمفاجآت من أحداث سياسية وميدانية، وبالتالي، تحقن العاملين تلقائياً بما يشبه بهرمون «الأدرينالين». فكيف تماهت تلك المحطات مع الحدث الأبرز اليوم في الشرق الأوسط؟

الدكتورة سهير هاشم (إنستغرام)

لم نتفاجأ بالحرب

يصف وليد عبود، رئيس تحرير الأخبار في تلفزيون «إم تي في» المحلي، لـ«الشرق الأوسط»، حالة الإعلام اللبناني اليوم بـ«الاستثنائية». ويضيف: «إنها كذلك لأننا في لبنان وليس عندنا محطات إخبارية. وهي، بالتالي، غير مهيأة بالمطلق للانخراط ببث مباشر يستغرق ما بين 18 و20 ساعة في اليوم. بيد أن خبراتنا المتراكمة في المجال الإعلامي أسهمت في تكيّفنا مع الحدث. وما شهدناه في حراك 17 أكتوبر (تشرين الأول) الشعبي، وفي انفجار مرفأ بيروت، يندرج تحت (الاستنفار الإعلامي) ذاته الذي نعيشه اليوم».

هذا «المراس» - كما يسميه عبود - «زوّد الفريق الإخباري بالخبرة، فدخل المواكبة الإعلامية للحرب براحة أكبر، وصار يعرف الأدوات اللازمة لهذا النوع من المراحل». وتابع: «لم نتفاجأ باندلاع الحرب بعد 11 شهراً من المناوشات والقتال في جنوب لبنان، ضمن ما عرف بحرب المساندة. لقد توقعنا توسعها كما غيرنا من محللين سياسيين. ومن كان يتابع إعلام إسرائيل لا بد أن يستشفّ منه هذا الأمر».

جورج صليبي (إنستغرام)

المشهد سوريالي

«يختلف تماماً مشهد الحرب الدائرة في لبنان اليوم عن سابقاته». بهذه الكلمات استهل الإعلامي جورج صليبي، مقدّم البرامج السياسية ونشرات الأخبار في محطة «الجديد» كلامه لـ«الشرق الأوسط». وأردف من ثم: «ما نشهده اليوم يشبه ما يحصل في الأفلام العلمية. كنا عندما نشاهدها في الصالات السينمائية نقول إنها نوع من الخيال، ولا يمكنها أن تتحقق. الحقيقة أن المشهد سوريالي بامتياز حتى إننا لم نستوعب بسرعة ما يحصل على الأرض... انفجارات متتالية وعمليات اغتيال ودمار شامل... أحداث متسارعة تفوق التصور، وجميعها وضعتنا للحظات بحالة صدمة. ومن هناك انطلقنا بمشوار إعلامي مرهق وصعب».

وليد عبود (إنستغرام)

المحطات وضغوط تنظيم المهام

وبالفعل، منذ توسع الحرب الحالية، يتابع اللبنانيون أخبارها أولاً بأول عبر محطات التلفزيون... فيتسمّرون أمام الشاشة الصغيرة، يقلّبون بين القنوات للتزوّد بكل جديد.

وصحيحٌ أن غالبية اللبنانيين يفضّلون محطة على أخرى، لكن هذه القناعة عندهم تتبدّل في ظروف الحرب. وهذا الأمر ولّد تنافساً بين تلك المحطات؛ كي تحقق أكبر نسبة متابعة، فراحت تستضيف محللين سياسيين ورؤساء أحزاب وإعلاميين وغيرهم؛ كي تخرج بأفكار عن آرائهم حول هذه الحرب والنتيجة التي يتوقعونها منها. وفي الوقت نفسه، وضعت المحطات جميع إمكاناتها بمراسلين يتابعون المستجدات على مدار الساعات، فيُطلعون المشاهد على آخر الأخبار؛ من خرق الطيران الحربي المعادي جدار الصوت، إلى الانفجارات وجرائم الاغتيال لحظة بلحظة. وفي المقابل، يُمسك المتفرجون بالـ«ريموت كونترول»، وكأنه سلاحهم الوحيد في هذه المعركة التنافسية، ويتوقفون عند خبر عاجل أو صورة ومقطع فيديو تمرره محطة تلفزيونية قبل غيرها.

كثيرون تساءلوا: كيف استطاعت تلك المحطات تأمين هذا الكمّ من المراسلين على جميع الأراضي اللبنانية بين ليلة وضحاها؟

يقول وليد عبود: «هؤلاء المراسلون لطالما أطلوا عبر الشاشة في الأزمنة العادية. ولكن المشاهد عادة لا يعيرهم الاهتمام الكبير. ولكن في زمن الحرب تبدّلت هذه المعادلة وتكرار إطلالاتهم وضعهم أكثر أمام الضوء».

ولكن، ما المبدأ العام الذي تُلزم به المحطات مراسليها؟ هنا يوضح عبود في سياق حديثه أن «سلامة المراسل والمصور تبقى المبدأ الأساسي في هذه المعادلة. نحن نوصيهم بضرورة تقديم سلامتهم على أي أمر آخر، كما أن جميعهم خضعوا لتدريبات وتوجيهات وتعليمات في هذا الشأن... وينبغي عليهم الالتزام بها».

من ناحيته، يشير صليبي إلى أن المراسلين يبذلون الجهد الأكبر في هذه الحرب. ويوضح: «عملهم مرهق ومتعب ومحفوف بالمخاطر. لذلك نخاف على سلامتهم بشكل كبير».

محمد فرحات (إنستغرام)

«إنها مرحلة التحديات»

وبمناسبة الكلام عن المراسلين، يُعد إدمون ساسين، مراسل قناة «إل بي سي آي»، من الأقدم والأشهر في هذه المحطة. وهو لا يتوانى عن التنقل خلال يوم واحد بين جنوب لبنان وشماله. ويصف مهمّته خلال المرحلة الراهنة بـ«الأكثر خطراً». ويشرح من ثم قائلاً: «لم تعُد هناك خطوط حمراء أو نقاط قتال محددة في هذه الحرب. لذا تحمل مهمتنا التحدّي بشكل عام. وهي محفوفة بخطر كبير، لا سيما أن العدو الإسرائيلي لا يفرّق بين طريق ومبنى ومركز حزب وغيره، ويمكنه بين لحظة وأخرى أن يختار أهدافه ويفاجئ الجميع... وهذا ما وضع الفرق الصحافية في خطر دائم، ونحن علينا بالتالي تأمين المعلومة من قلب الحدث بدقة».

وفق ساسين، فإن أصعب المعلومات هي تلك المتعلقة بالتوغّل البرّي للجيش الإسرائيلي، «فحينها لا يمكن للمراسل معرفة ما يجري بشكل سليم وصحيح على الأرض... ولذا نتّكل أحياناً على مصادر لبنانية من جهة (حزب الله)، و(اليونيفيل) (القوات الدولية العاملة بجنوب لبنان) والجيش اللبناني والدفاع المدني، أو أشخاص عاشوا اللحظة. ومع هذا، يبقى نقل الخبر الدقيق مهمة صعبة جداً. ويشمل ما أقوله أخبار الكمائن والأسر، بينما نحن في المقابل نفتقر إلى القدرة على معرفة هذه الأخبار، ولذا نتوخى الحذر بنقلها».

«لبنان يستأهل التضحية»

في هذه الأثناء، يتكلم مراسل تلفزيون «الجديد» محمد فرحات «بصلابة»، عندما يُسأل عن مهمّته الخطرة اليوم.

محمد كان من بين الفريق الإعلامي الذي تعرّض لقصف مباشر في مركز إقامته في بلدة حاصبيا، وخسر يومذاك زملاء له ولامس الموت عن قرب لولا العناية الإلهية، كما يقول. ويتابع: «لقد أُصبت بحالة إنكار للمخاطر التي أتعرّض لها. في تلك اللحظة عشت كابوساً لم أستوعبه في البداية. وعندما فتحت عيني سألت نفسي لبرهة: أين أنا؟»، ويضيف فرحات: «تجربتي الإعلامية ككل في هذه الحرب كانت مفيدة جداً لي على الصعيدين: الشخصي والمهني. من الصعب أن أُشفى من جروح هذه الحرب، ولكني لم أستسلم أو أفكر يوماً بمغادرة الساحة. فلبنان يستأهل منا التضحية».

العلاج النفسي الجماعي ضرورة

أخيراً، في هذه الحرب لا إجازات ولا أيام عطل وراحة. كل الإعلاميين في مراكز عملهم بحالة استنفار. ولكن ماذا بعد انتهاء الحرب؟ وهل سيحملون منها جراحاً لا تُشفى؟

تردّ الاختصاصية النفسية الدكتورة سهير هاشم بالقول: «الإعلاميون يتعرضون لضغوط جمّة، وفي الطليعة منهم المراسلون. هؤلاء قد لا يستطيعون اليوم كشف تأثيرها السلبي على صحتهم النفسية، ولكن عند انتهاء الحرب قد يكون الأمر فادحاً. وهو ما يستوجب الدعم والمساندة بصورة مستمرة من مالكي المحطات التي يعملون بها». وأضافت الدكتورة هاشم: «ثمة ضرورة لإخضاعهم لجلسات علاج نفسية، والأفضل أن تكون جماعية؛ لأن العلاج الموسمي غير كافٍ في حالات مماثلة، خلالها يستطيعون أن يساندوا ويتفهموا بعضهم البعض بشكل أفضل».