مع اتجاه «غوغل» إلى تبديل ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) لتتبّع نظام الخصوصية الجديد المسمى «ساند بوكس»، أثيرت تساؤلات حول تأثير تغيير إجراءات التتبع على الإعلام. وعدّ خبراء ذلك تغييراً في سياسات «غوغل» التي يعتمد عليها ناشرو الأخبار، عادّين هذه الخطوة «تشكل تعزيزاً لهيمنتها».
«غوغل» كشفت عن نيتها التخلص من سياسة «الطرف الثالث» من متصفح «كروم» الارتباط بنهاية 2024 كجزء من مشروعها الجديد «ساند بوكس» الذي يعد المستخدمين بمزيد من حماية الخصوصية، عبر تقليل الإشارات الرقمية مثل عناوين «الآي بي» ووكلاء المستخدمين وعناوين المواقع. وللعلم، كانت الشركة تعتزم تخفيف إجراءات التتبع في وقت سابق، منذ مارس (آذار) 2021، غير أن هيئة المنافسة والأسواق في بريطانيا (CMA) أوقفت القرار للتحقيق في شكاوى تتهم «غوغل» بالهيمنة على السوق على نحو مجحف بالنسبة لمنافسيها، وألزمت الشركة بحزمة التزامات طوعية يجب الوفاء بها قبل تطبيق سياسة «ساند بوكس».
خلال لقاء مع «الشرق الأوسط»، قالت شذى أرمنازي، المتخصصة في الإعلام الرقمي بمنطقة الشرق الأوسط: «تاريخياً، كان تجميع البيانات حول سلوك واهتمامات المستخدمين وتحليلها إحدى القوى الرئيسية للأعمال على الإنترنت. وفي عالم الصحافة والإعلام تسمح نتائج تحليل بيانات المستخدمين للمؤسسات الإخبارية بتقديم المحتوى المنسجم مع اهتمامات الجمهور». وأضافت أنه «بخصوص المعلنين، فإن تحليل بيانات المستخدمين مهم للغاية، كونه يسمح بعرض الإعلانات للفئة المستهدفة بدقة أكبر، وبالتالي، يضمن احتمال تفاعل أكثر مع الإعلانات، وفائدة أكبر للمعلن».
وعن الفارق بين نظام ملفات تعريف الارتباط وخصوصية «ساند بوكس» التي ستطرحها «غوغل»، أفادت أرمنازي بأن «التقنيات الحالية لجمع بيانات المستخدمين تسمح بالوصول لكثير من التفاصيل الشخصية، مثل البلد والمدينة ومجموعة متنوعة من التفاصيل الفنية الخاصة بالجهاز المستخدم لزيارة الموقع، والمتصفح، وأسلوب الاتصال بالإنترنت، بما في ذلك القدرة على التعرف على العنوان الإلكتروني (IP) الذي يحدد موقع الجهاز على الشبكة بدقة».
وأردفت أن «جمع بيانات المستخدمين، ومتابعة سلوكهم عبر عدة مواقع يسمح ببناء ملف تفصيلي شخصي وفريد لكل مستخدم بدقة متناهية، ومع ازدياد قدرات خوارزميات تحليل البيانات والذكاء الاصطناعي، أصبحت هذه الملفات مدعاة لقلق كثير من المهتمين بخصوصية المستخدمين على الشبكة، لا سيما أن هذه الأدوات تتجاوز الحدود التقليدية لجمع البيانات البسيطة، وتبني تصورات دقيقة عن كل مستخدم». واستطردت شارحة: «سياسة (غوغل) الجديدة للخصوصية (ساند بوكس) تركز بشكل أساسي على حماية خصوصية المستخدمين عبر الحد من إمكانية جمع بيانات سلوكهم لبناء ملفات شخصية فريدة لهم».
ومن ثم، أوضحت أرمنازي: «في حين تحمي سياسة (غوغل) الجديدة بيانات المستخدمين، فإنها تؤمن للشركات والمطورين الحصول على الأدوات اللازمة لبناء أعمال رقمية مزدهرة وناجحة... وتقنياً، تعمل مبادرة خصوصية (ساند بوكس) على تحقيق هدفين رئيسيين، هما: التخلّص من دعم ملفات تعريف الارتباط من الأطراف الثالثة، وتقليل تتبع المواقع والتطبيقات لتفاصيل المستخدمين الشخصية. ومن الناحية الفنية، يُعد (ساند بوكس) بيئة محمية لجمع البيانات مع التركيز على حماية معلومات المستخدم الشخصية».
من جهة ثانية، صحيح أن الكلام عن الخصوصية وحمايتها هو مرتكز «غوغل» في الدفاع عن نظامه الجديد، غير أن مراقبين رأوا أن سياسة الخصوصية الجديدة قد تمنح «غوغل» مزيداً من إحكام السيطرة على سوق الإعلانات. لكن شذى أرمنازي تدحض هنا هذا التصوّر بقولها: «شخصياً لا أتوقع انهياراً كبيراً في الدخل والإعلانات، بل أتوقع استجابة سريعة من شبكات توزيع الإعلانات، وانتقالاً سريعاً للتقنية الجديدة بشكل يضمن استمرار الإعلانات مع تبني آليات الحفاظ على خصوصية المستخدمين الجديدة».
والواقع، أن تعمل خصوصية «ساند بوكس» على تقليص مجموعة من التقنيات المفتوحة والاستعاضة عنها ببروتوكولات مغلقة ومملوكة لشركة «غوغل»، وفق تقرير نشره «بريس غازيت» أخيراً، أشار إلى أنه يمكن لأي شخص يستخدم ملف تعريف الارتباط تبادل تلك المعلومات مع شركائه التجاريين، من دون طلب إذن من شركة أخرى، ضمن خصوصية «ساند بوكس»، بينما تختفي هذه الحرية في اختيار مجموعتك التكنولوجية وشركاء الأعمال. وإذ ذاك - وفق التقرير المذكور - تكون المحصلة أنه «إذا كنت تريد الوصول إلى غالبية مستخدمي الويب الذين يستخدمون (كروم)، يتوجب عليك استخدام تقنيات (غوغل)». ومن ثم، تعمل خصوصية «ساند بوكس» على ترسيخ حالة الاحتكار من خلال إدراج أعمالهم في كل تفاعل إعلاني على «كروم».
«غوغل» نفسها اعترفت بأن بروتوكولات «ساند بوكس» ما زالت تتطور وأنها ليست مستقرة، ولن تحقق مكاسب الإعلانات الحالية التي تعتمد على ملفات تعريف الارتباط. وبحسب مراقبين، من المتوقع تحقيق نجاح بنسبة من 30 إلى 50 بالمائة في الإعلانات الرقمية مقارنة بأساليب التكنولوجيا الحالية. وهنا يرى مستشار الإعلام الرقمي المصري رامي المليجي، أن «سياسة ساند بوكس بقدر ما تحمي بيانات المستخدمين، ستؤثر على الناشرين من حيث دخل الإعلانات، على الأقل في بدايات التطبيق». وتابع المليجي في حوار مع «الشرق الأوسط»، شارحاً: «لقراءة ما يحدث الآن وتبعاته، يمكن استحضار موقف سابق كان قد جمع بين (فيسبوك) و(آبل)، حين قررت الأخيرة تعزيز سياسة الخصوصية. حينذاك تعرضت إعلانات (فيسبوك) لهزة عنيفة، لكنها سرعان ما تداركت الموقف وتكيفت مع السياسة الجديدة ووضعت أدوات لاستعادة مكاسبها، وهذا هو نفسه ما يتحتم على الناشرين فعله».
وعدّ الخبير المصري أن «ثمة مشكلتين تواجهان سوق الإعلانات في المرحلة المقبلة... فـ(غوغل) ستتحكّم في طبيعة المعلومات الجاري الحصول عليها من قبل المعلنين، وثمة قلق حول نجاح النظام الجديد في تحديد الأشخاص المستهدفين من المعلن... وعلى ضوء ذلك ربما لا يتمكن المعلن من الوصول إلى المستهدفين، فيمنى بخسائر، أو ربما تراجع في ميزانية الإنفاق الإعلاني».
وعن حجم الخسائر المتوقعة للناشرين، يفرّق المليجي بين منصات الأخبار التي تعتمد بشكل أساسي على إعلانات «غوغل» مصدراً للدخل، ومنصات أخرى تتمتع بتنوع في مصادر الدخل، موضحاً أن «منصات الأخبار صاحبة الأسماء الرنانة التي نجحت على مدار السنوات الماضية في جذب معلنين بشكل مباشر وشخصي، لديها آلياتها للتكيف وستكون خسائرها محدودة». ورهن نجاح الناشرين في اجتذاب الدخل الإعلاني المناسب بالاستعانة بفريق تقني متطور، قائلاً: «صحيح أن الأخبار هي المنتج الأبرز لدى أي صحيفة أو موقع، لكن التعامل مع التكنولوجيا التي تتطور بوتيرة سريعة للغاية فرض على الناشرين التسلح بفريق تقني قادر على التعاطي مع التغييرات... وفي النهاية، المحتوى هو الجاذب الأول للقارئ والمعلن، حتى إن تغيرت السياسات، وعليه تتمثل مرتكزات البقاء لأي منصة أخبار بتنوع المحتوى وتطويره ودقّته».