في معرض «ابتكارات للبشرية 2025» (Prototypes for Humanity)»، لم تكن المشاريع المعروضة مجرد نماذج أولية واعدة، بل رؤى ملموسة لمستقبل يمكن أن تغيّره أفكار طلابية شغوفة. بين مئات الابتكارات، لفت مشروعان الأنظار، أحدهما قادم من جامعة «هارفارد» الأميركية، والآخر من المعهد التقني الفيدرالي في زيوريخ (ETH Zurich).
وعلى الرغم من اختلاف تخصصيهما واتساع المسافة بينهما، يهدف الأول إلى إنقاذ الأرواح عبر الكشف السريع عن الكوليرا في المياه، والآخر يسعى لتقليل الانبعاثات من الخرسانة التي تُعدّ من أكثر المواد استخداماً في البناء.

مختبر في راحة اليد
أمام جهاز صغير ومضغوط، يشرح الباحث ستيفيك رايني، من برنامج ماجستير الهندسة والتصميم في جامعة هارفارد، الفكرة خلف جهاز «كولاب» (CoLab) الذي يمكنه الكشف عن بكتيريا الكوليرا في المياه خلال دقائق. يقول راني: «إنه جهاز صغير يمكنه اكتشاف بكتيريا الكوليرا في مصدر المياه... ويسمح لجهات الصحة العامة باختبار المياه بسرعة وتحديد ما إذا كانت البكتيريا موجودة، واتخاذ الإجراءات المناسبة لحماية الأرواح».
يعتمد الجهاز على تقنية تضخيم الجينات، حيث يتم تحديد تسلسل الحمض النووي الخاص ببكتيريا «فيبريو كولوراي» (Vibrio cholerae). ويضيف رايني موضحاً: «نستخدم عملية لتضخيم الجينات... نحدّد بها الجينات في الحمض النووي لبكتيريا الكوليرا». ورغم أنه جهاز ميداني بسيط الاستخدام، تصل دقته إلى 94 في المائة، وهي نسبة قريبة من نتائج المختبرات التقليدية التي تُعدّ الأكثر دقة.
وينوّه رايني إلى أنه كما يضع التصميم في الحسبان ظروف المياه في المناطق الريفية «نعرف أن الماء قد يحتوي على أوساخ ورواسب... لذلك أضفنا نظام ترشيح يمنع أي ملوّثات خارجية من التأثير على الاختبار».
السرعة... الاختلاف الحقيقي
ما يجعل جهاز «هارفارد» مميزاً ليس فقط قابلية الحمل، بل السرعة. فبينما تحتاج الفحوص التقليدية من ثلاثة إلى خمسة أيام، يقدّم الجهاز النتائج في 20 دقيقة فقط. كما يعتمد على الهاتف الذكي لتشغيل الاختبار وتحليل النتائج وإرسالها تلقائياً؛ ما يسمح برسم خريطة انتشار فورية بمجرد اتصال الهاتف بالإنترنت. هذه الخطوة تلغي حاجة العاملين في الميدان إلى خبرة تقنية، وتقلّل الأخطاء البشرية.
يتابع رايني: «نقوم بأتمتة عملية القراءة حتى نتفادى أي خطأ قد ينتج من تفسير يدوي للنتيجة»، ويرى الباحث أن مناطق مثل ولاية البنغال الغربية بالهند ستكون من أولى الجهات المستفيدة؛ لما تملكه من بنية تحتية صحية وخطر مرتفع للأمراض المنقولة بالمياه. ويزيد: «الأشخاص الذين يجمعون العينات من المجتمع نفسه... نريد تمكينهم من نقل هذه المعرفة وإنقاذ الأرواح في محيطهم».

خرسانة للمستقبل من سويسرا
على مسافة قصيرة في قاعة العرض، يقدّم لوكاس فالين، الباحث في «ETH Zurich» مشروعاً يختلف جذرياً، لكنه لا يقل أهمية يدعى «إيكو فاست كونكريت» (EcoFast Concrete)، وهو تطوير جديد للخرسانة يهدف إلى خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وتسريع عمليات البناء. يلخص فالين المشروع بوضوح قائلاً: «مهمتنا هي جعل قطاع البناء أكثر خضرة وأسرع».
تستبدل الصيغة المقترحة مواد طبيعية ومخلفات صناعية بـ50 إلى 80 في المائة من الأسمنت، من دون التأثير على الجودة. ويشرح أنه «يمكن دمج الصيغة مع الموارد المحلية... في سويسرا نستخدم الحجر الجيري، لكن يمكن تعديل التقنية حسب المواد المتوفرة». ولأن قوة الخرسانة ترتبط بخصائصها البنيوية، يستخدم الفريق إضافات كيميائية لضبط عملية التصلب ومنح المادة بنية دقيقة وثابتة، ويقول: «بفضل الصيغة الأكثر تفاعلية، يمكننا زيادة القوة مع مرور الوقت».

بناء أسرع... وانبعاثات أقل
يتعامل المشروع أيضاً مع بطء دورة الصب والتشكيل التي تعدّ واحدة من أكبر مشكلات الصناعة. فوفقاً لفالين: «عادةً، يصب العمال الخرسانة صباحاً، وينتظرون 12 ساعة قبل إزالة القالب... نحن نقلص الزمن إلى 6 ساعات». هذا يعني زيادة الإنتاجية بنسبة 50 في المائة، وهو عامل يغيّر ديناميكية مواقع البناء جذرياً. ورغم نجاح التجارب المعملية وصنع نماذج أولية، يعترف فالين بأن التحدي الأكبر هو إقناع قطاع البناء، المعروف ببطء تبنّي التقنيات الجديدة. ويشرح: «الأمر يحتاج إلى إقناع... علينا أن نبرهن أن الخرسانة الجديدة تخفض الانبعاثات وتبقى في الوقت نفسه مجدية اقتصادياً».
ويعد أن النجاح الحقيقي يكمن في حل مشكلتين معاً، البيئة والتكلفة.
فلسفة واحدة... رغم اختلاف التخصصات
على الرغم من أن أحد المشروعين يعالج الأمراض القاتلة، والآخر يواجه أزمة المناخ، فإن الرابط بينهما واضح، وهو أنه ابتكار قابل للاستخدام الحقيقي، وليس مجرد ورقة بحثية. كلا المشروعين يبدأ من مشكلة عالمية، ويُصمَّم لبيئة حقيقية بموارد محدودة، ويركّز على قابلية التطبيق والتوسّع، ويمنح المجتمع دوراً مباشراً في الحل.
يقول راني: «الأمر يتعلق بمساعدة المجتمعات على اكتشاف التلوث قبل أن يتحول تفشياً كبيراً»، بينما يرى فالين أن قطاع البناء في حاجة إلى ثورة: «الخرسانة يجب أن تتغير... ونريد أن نمهد الطريق للمرحلة التالية».




