نهاية الذكريات... مع بدايات الذكاء الاصطناعي التوليدي

تُبدّد أدوات التلاعب بالصور الجديدة من «غوغل» و«أدوبي»، الحدود الفاصلة بين الذكريات الحقيقية وتلك التي يبتكرها الذكاء الاصطناعي.

أفلام مبتكرة

في أواخر مارس (آذار) الماضي، استضافت شركة ذكاء اصطناعي ناشئة ما قيل إنّه أوّل مهرجان لأفلام الذكاء الاصطناعي على مسرح «ألامو درافت هاوس»، في سان فرانسيسكو. تشتهر الشركة الناشئة: «رانوي» Runway، بمشاركتها في ابتكار أداة الذكاء الاصطناعي «ستيبل ديفيوجن» Stable Diffusion التي تحوّل النص إلى صورة والتي أذهلت الناس العام الماضي. وفي فبراير (شباط) الفائت، أطلقت «رانوي» أداة تتيح تغيير مقاطع الفيديو المصوّرة بشكلٍ كامل من خلال طلب، أو حثٍّ بسيط. بعدها، طلبت الشركة من بعض صنّاع الأفلام تجربة هذه الأداة واختارت 10 أفلام قصيرة لعرضها في المهرجان.

تمحورت الأفلام القصيرة بمعظمها حول استعراض التقنية، أي أنّها لم تعكس أي سرديات متينة ومقنعة، حتّى إنّ بعضها كان سوريالياً. ولكنّ آخر فيلم عُرض كان مريعاً وكأنّ صانعه تعمّد سوء فهم المهمّة المطلوبة منه، فقدّم عرضاً من الصور الجامدة بدل الفيديو. حمل الفيلم عنوان «الطفولة الموسّعة» Expanded Childhood وكان عبارة عن عرض شرائح لصور بالكاد صحِبه سردٌ صوتيٌّ.

لاحقاً، أخبرنا مخرج الفيلم سام لاوتن (21 عاماً)، طالبٌ يدرس صناعة الأفلام من نبراسكا، أنّه استخدم أداة «دال - إي» من تطوير مختبرات «أوبن إي آي» التوليفية، وجمع مجموعة من الصور من طفولته، وغذّى أداة الذكاء الاصطناعي بها، وأعطى الأخيرة أوامر عدّة لتوسيع الصور عبر ملء الحواف بالمزيد من الأبقار أو الأشجار، وإضافة أشخاص إلى الإطار، وإعادة تخيّل شكل المطبخ.

عرض لاوتن الصور المصنوعة بالذكاء الاصطناعي على والده وسجّل ردّة فعله المرتبكة ثم أضاف التسجيل الصوتي على الفيلم. يُسمع والد لاوتن خلال الفيلم وهو يقول: «لا، هذا ليس منزلنا. آه، انتظر لحظة. هذا منزلنا. توجد خطبٌ ما. لا أعرف ما هذا. أم أنّني لا أتذكره؟».

إبداعات الذكاء الاصطناعي

أين تنتهي الذكريات الحقيقية وأين يبدأ الذكاء الاصطناعي التوليدي؟ سؤالٌ من عصر الذكاء الاصطناعي، حيث تندمج صورنا المفضّلة مع ذكريات مربكة، وحيث تتحوّل «البيكسلات» إلى مواد جديدة كلياً بمساعدة الذكاء الاصطناعي. أطلقت شركتا «غوغل» و«أدوبي»، اللتان يستخدم أدواتهما المليارات من الأشخاص. وتحدث موقع «وايرد. كوم» عن أحداث الأسابيع القليلة الفائتة، حيث طرحت أدوات توليف مدعومة بالذكاء الاصطناعي قادرة على إحداث تغيير كامل في سياق الصورة، وتوسيع حدود الحقيقة والذاكرة والتصوير المعزّز.

دخلت «غوغل» في هذا المجال عام 2021 بإطلاق أداتها «ماجيك إريزر» Magic Eraser، وها هي اليوم تختبر «ماجيك إديتور» Magic Editor، كميزة على بعض هواتف أندرويد تسمح بتعديل وضعية الأشياء، والتخلّص من مفسدي الصور، وحذف العناصر النافرة، ومن ثمّ تستخدم الذكاء الاصطناعي لملء فجوات «البيكسلات».

* طرحت حديثاً أدوات توليف مدعومة بالذكاء الاصطناعي قادرة على إحداث تغيير كامل في سياق الصورة، وتوسيع حدود الحقيقة والذاكرة والتصوير المعزّز

بدورها، أعلنت شركة «أدوبي» الأشهر في مجال تطوير برمجيات التوليف، في بداية هذا الأسبوع، عن إدخال محرّكها المدعوم بالذكاء الاصطناعي التوليدي «فاير فلاي» Firefly إلى برنامج «أدوبي فوتوشوب» لتشغيل ميزة «جينريتف فيل» المصممة لتعديل الصور وإضافة المحتوى الجديد بالحثِّ النصّي، أي يكفي أن تطبعوا في الخانة المخصصة «أضف كذا» لتجدوه أمامكم.

تصف الشركة ميزتها الجديدة بـ«المرشد المساعد» في أوقات ضغط العمل الذي يحتاج للابتكار، أي السياق نفسه الذي تعيد معظم الشركات، كـ«مايكروسوفت»، صياغته لوصف الذكاء الاصطناعي التوليدي وإشعاركم أنّكم ما زلتم تمسكون بزمام الأمور. تضع هذه الصيغة الذكاء الاصطناعي في إطار المساعد الذي يتولّى القيادة عندما تحتاجون لاستراحة قصيرة، ولكنّ هذا التأطير مضلّل بعض الشيء، خصوصاً عندما يلعب الذكاء الاصطناعي دور راسم الخرائط الذي يعيد رسم خرائط وجودنا.

وفي ردّها على إعلان «غوغل» أنّ أداتها «ماجيك إريزر» قد تصبح متوفّرة على مجموعة أوسع من الهواتف، غرّدت ميريديث ويتاكر، رئيسة جمعية «سيغنال فاونديشن» والموظّفة السابقة في «غوغل» في فبراير: «لعلّ (انعموا بذكريات مثالية) هي الجملة الأكثر أرقاً التي قرأتها في حياتي». وفي معرض ترويجها للأداة، تعرض «غوغل» صورة لفتاة صغيرة قبالة بحرٍ متقلّب، وبالقرب من الساحل، تجلس عائلة من 4 أفراد على الأرجح ليست عائلة الفتاة، فتعمل «ماجيك إريزر» على حذفها.

لنكن واضحين: يمكننا دائماً أن نعدّل الصور سواء باستخدام مقصّ، أو شفرة، أو طلاء، فقد عدّلنا كثيراً عندما كانت الصور الفوتوغرافية التقليدية رائجة. ومع اتساع استخدام الكومبيوتر الشخصي، نما استخدام «الفوتوشوب» الذي غيّر كلّ شيء بكلّ ما للكلمة من معنى.

توليف وتعديل

أبصرت النسخة الأولى من «فوتوشوب» النور عام 1990، فكانت صورة «جينيفر في الجنّة» الصورة الرقمية التي رآها العالم أجمع: تُظهر الصورة زوجة جون كرول، الشريك المؤسس لـ«فوتوشوب»، جالسة على شاطئ في بورا بورا. في استعراضه للأداة، يرسم كرول الخطوط الخارجية لهيئة زوجته وهي تستخدم الأداة ومن ثمّ يستنسخها، ثمّ ينسخ ويلصق ويقلّص ويدمج جزيرة في المسافة الفاصلة بين النسختين. وقال كرول، في فيديو نُشر على قناة «أدوبي» على «يوتيوب» في 2010: «جزيرة منسوخة»! لأنّ الجزيرة ليست موجودة في المكان حقيقة.

ولكن المختلف اليوم هو أنّ الذكاء الاصطناعي التوليدي بات يضغط على الحدود والضوابط ويزيد سرعة هذه التوليفات ويوسّع شريحة الناس القادرة على القيام بها. من جهته، اعتبر شيمريت بن يائير، رئيس تطبيق «غوغل فوتوز»، أنّ «أدوات التوليف والتعديل موجودة منذ زمن ولا شكّ أن (غوغل) زوّدت مستخدميها بأدوات تعديل للصور منذ مدّة طويلة. ومع اتساع قاعدة استخدام هذه المنصّات، تصبح هذه الأدوات أكثر وفرة وسهولة للنّاس، وتصبح الصور المعدّلة بدورها أكثر انتشاراً».

أداة «جينريتف فيل» من "أدوبي"

يظهر العرض الأوّل لأداة «ماجيك إريزر» من «غوغل» ولدين يرتديان بدلات للغطس ويحملان ألواحاً لركب الأمواج وشخصين بالغين يقفان بعيداً في الخلفية. يختلف لون بشرة الولدين عن البالغين، فضلاً عن أنّ المسافة الفاصلة في العرض ترجّح أنّ البالغين ليسا من عائلة الصغيرين. خلال العرض، ترسم أداة «غوغل» الخطوط الخارجية لجسمي الشخصين البالغين ومن ثمّ تحذفهما.

وفي عرض أحدث، حذفت «ماجيك إديتور»، التي ستصبح متاحة للاستخدام في وقتٍ لاحقٍ من هذا العام، حزام الحقيبة من فوق كتف امرأة، وهي تقف أمام شلّال، ومن ثمّ ملأت الفجوات بمادّة السترة التي ترتديها المرأة نفسها. لم نفهم لماذا اعتبر حزام الحقيبة مزعجاً في صورة لممارسة المشي في الطبيعة، ولكنّ هذه القرارات الجمالية اتخذها صانع الصورة، حسبما كشفت شركة «غوغل».

أمّا أداة «جينريتف فيل» Generative Fill من «أدوبي»، فتتميّز بتوليدية أكبر، ففي أحد العروض، يظهر كلب طويل الشعر من نوع «كورغي» وهو يجري في طريق مقفر، ولكنّ أداة «أدوبي» تطيل الطريق، وتحوّل الأشجار العارية إلى أخرى ربيعية مزهرة، وتضيف شاحنة بيضاء تسير باتجاه الكلب، وبركة مياه صغيرة. لقد أظهر الذكاء الاصطناعي الكامن خلف هذه الأداة ذكاءً كافياً حتّى لرسم انعكاس الكلب في مياه البركة. وكلّ هذه الأشياء حصلت في ثوانٍ... نعم، إنه أمر مذهل.