مقولة الدروس المُستقاة في الحرب

دبابات إسرائيلية على حدود قطاع غزة الاثنين (أ.ف.ب)
دبابات إسرائيلية على حدود قطاع غزة الاثنين (أ.ف.ب)
TT

مقولة الدروس المُستقاة في الحرب

دبابات إسرائيلية على حدود قطاع غزة الاثنين (أ.ف.ب)
دبابات إسرائيلية على حدود قطاع غزة الاثنين (أ.ف.ب)

الدروس المُستقاة، هي الدروس المستخلصة من التنفيذ العمليّ لاستراتيجيّة ما. والاستراتيجيّة، هي تحضير لسيناريو مستقبليّ، لكن في الحاضر، لتنفيذه في مرحلة لاحقة. وهي، أي الاستراتيجيّة، وهم (Illusion) كما يقول بعض الخبراء. هي خطّة مُتخيّلة. هي خطّة مستقبلية، ترتكز على تجارب الماضي، وما أُخذ منها من عبر ودروس، لكن في واقع ديناميكيّ يتغيّر باستمرار. تُحدّث الاستراتيجيّة نفسها عبر الداتا المتدفّقة على منظومتها من خارج بنيتها، إن كان من العدو مباشرة، أو من خلال المصادر العامة والمفتوحة. لكن التحديث لا يعني مُطلقا صواب ونجاح هذه الاستراتيجيّة. فالاختبار الفعليّ، هو دائماً في مسرح الحرب. هو الوحيد القادر على قياس نجاح هذه الاستراتيجيّة. هو القادر على اختبار عبقريّة القادة، وشجاعة المقاتل أمام أهمّ اختبار له، ألا وهو مواجهة الموت. ويقول الفيلسوف الألماني الكبير جورج فريدريك هيغل عن الموت: «إن مواجهة الموت هي تجربة أساسيّة في تحوّل الإنسان إلى إنسان، وفي انتقاله من كائن حيّ إلى كائن يُدرك ذاته».

لا تتجسّد الدروس المستقاة فعلاً إلا إذا أدخلت في البنى الفكريّة والتنفيذيّة للجيوش. وهنا تتظهّر المعضلة التالية: إذا أخذ الفريق (أ) الدروس المستقاة من حربه ضدّ الفريق (ب). وإذا فعل الفريق (ب) نفس الشيء كما الفريق (أ). ألا يعني هذا الأمر انتفاء أهميّة هذه الدروس؟ ألا يصبح الفريقان بعد إدخالهما لدروسهما المُستقاة في منظومتيهما العسكريّة وكأنهما بدآ من المربّع الأولّ والنقطة صفر؟ ألا يأخذنا هذا التساؤل إلى المفارقة التي تحدّث عنها أرسطو حول الوقت حين قال: «إذا كان الزمن يتكون أساساً من نوعين مختلفين من عدم الوجود (المستقبل - «ليس بعد، والماضي - «لم يعد»)، فماذا يمكن القول عن الحاضر اللحظيّ والمتلاشي»؟ وعليه كيف يتمّ التخطيط للمستقبل؟ فهل يمكن تذكّر الماضي كما هو، أم أنه أيضاً مُتخيّل حتى ولو تمّ تدوينه بالتفصيل من قبل المؤرّخين؟

مقاتلة حربية إسرائيلية في سماء جنوب لبنان الاثنين (أ.ف.ب)

يسأل الفيلسوف والمؤرّخ الأميركي ويل دورانت في كتابه: «دروس التاريخ»، هل حدّد الإنسان أنماطاً تاريخيّة ساعدته على سبر كنه المستقبل وفكّ ألغازه؟ في النهاية، والقول لدورانت، قد يكون التاريخ دون معنى وفائدة، وعلى أنه ذلك التكرار المُرهق للأخطاء في المستقبل. لذلك يسخر منّا التاريخ في كلّ مرّة نحاول حصر تدفّقه في أطر ومفاهيم نظريّة. وهو دائماً يتمرّد على كل تعميم نقوم به، ويخرق قواعدنا باستمرار.

يقول الكاتب الأميركيّ جوزيف ستيب إن أخذ الدروس المُستقاة من التاريخ يجب أن توضع تحت مجهر مبدأين أساسيّين هما: الظروف، واللامتوقّع، أو حالة طوارئ ممكنة الحصول (Context & Contingency). فلكلّ حدث معيّن ظروفه الخاصة، من الاجتماعيّة إلى الاقتصاديّة، مروراً بالسياسيّة، وغيرها من العوامل. إذن، كيف يمكن أخذ الدروس المستقاة من حرب ما حصلت في الماضي، وإسقاطها على حرب نُخطّط لها الآن في ظروف مختلفة؟ في هذا الإطار، يُعرّف المؤرّخ الأميركيّ جون لويس غاديس حالة اللامتوقّع، أو الطوارئ، (Contingency) على أنها تلك الظواهر التي لا تشكّل أنماطاً معيّنة.

أحداث اعتمدت فيها الأنماط التاريخيّة

عندما أراد الأميركيّون تغيير النظام في العراق، انكبّوا على دراسة الاستراتيجيّة التي اعتمدوها عند إعادة بناء اليابان وألمانيا، وذلك بعد هزيمتهما في الحرب العالميّة الثانية. نجح الأميركيّون في ألمانيا، واليابان. لكنهم فشلوا في العراق، فقط لأن الظروف مختلفة كلّيا. فإعادة بناء اليابان وألمانيا حصلت بعد الاستسلام. وبعد موافقة البلدين. كل هذه الظروف لم تكن متوفّرة في حالة العراق.

في الحرب الدائرة اليوم في غزّة، اعتمد الجيش الإسرائيليّ عقيدة قتالية كانت قد ارتكزت على تجربة حرب مع لبنان العام 2006، كما على كلّ نصف الحروب التي خاضها هذا الجيش ضد قطاع غزّة. فبعد الحرب، رسم رئيس الأركان آنذاك أفيف كوخافي عقيدة تحت مُسمّى «الاندفاعة»، (Momentum). بعد كوخافي، رسم رئيس الأركان الحالي هرتسي هاليفي عقيدة عسكريّة جديدة تحت مُسمّى (Maalot) بالعبريّة، أي الصعود. تعتمد هذه العقيدة على القتال الهجين (Hybrid). كل هذه العقائد العسكريّة ارتكزت على التجارب السابقة، وما أُخذ منها من دروس مستقاة للحرب المقبلة. نعايش الآن في قطاع غزّة كل ما أُعد له، إن كان من جهة الجيش الإسرائيليّ، أو من جهّة حركة «حماس» وغيرها من التنظيمات في القطاع. حتى الآن، فشلت كلّ الدروس التاريخيّة للفريقين، وانتقلت الحرب إلى حرب استنزاف بكل أبعادها.

نظرة على الصورة التكتيكية في حرب غزّة

في الحرب عادة، هناك ثلاثة مستويات هي: الاستراتيجيّ، العملانيّ، والتكتيكيّ. تُخاض الحرب عادة على كلّ المستويات، وفي نفس الوقت، حتى ولو تمّ فصلها عن بعضها البعض. لكن مع التقدّم التكنولوجي، بدأنا نلاحظ التماهي أكثر بين المستويات الثلاثة، إلى درجة أنه بدأ الحديث عن ضرورة توفّر ما يُسمّى بالعريف الاستراتيجيّ (Strategic Corporal) على المستوى التكتيكي. بكلام آخر، هذا العريف الذي يقاتل على هذا المستوى عليه أن يكون مثقفاً إلى درجة تجعله ملمّاً بكل المستويات ضمن المستوى الجيوسياسيّ.

في الختام، قد يمكن طرح الأسئلة التالية فيما يخصّ الدروس المستقاة مما يجري في غزّة. إن جوهر الحرب في غزّة هو تكتيكي بامتياز، لكن مع تداعيات إقليميّة، وجيوسياسيّة، وحتى على المستوى الدوليّ. في حرب غزّة كل فريق يُعلّم الآخر كيف عليه أن يقاتله، وذلك كلما طالت مدّة الحرب. قد يُطلق على هذه المرحلة ما يُسمّى بالتنافذ (Osmosis). ولأن الحرب في غزّة تكتيكية بامتياز، فهل عملية استنتاج الدروس المستقاة هي عملية آنية ظرفيّة تفرضها ديناميكيّة الحرب، وعليها يتم التأقلم الفوريّ؟ وهل يرى المقاتل الفرديّ الدروس المستقاة كما يراها قائده المباشر على المستوى العملاني، وكما يراها قائده الأعلى على المستوى الاستراتيجيّ؟ إذن، كيف يمكن الدمج بين كلّ هذه المستويات للتوصّل فعلاً إلى استنتاج الدروس المستقاة؟ أم أن كلّ هذه العملية هي فقط مثل النجم القطبي، الذي لا يمكن لمسه، لكنه على الأقلّ يدّلنا عن بُعد على اتجاه الشمال الجغرافيّ؟ فعلاً، إن الحرب كالحرباء (Chameleon) كما وصفها كلوزفيتز.


مقالات ذات صلة

الغزيون يكابدون الأمطار والبرد

المشرق العربي فلسطينيات يستخدمن طريقاً جافاً لنقل المياه إلى خيمتهن بعد هطول أمطار غزيرة بدير البلح وسط قطاع غزة الأحد (أ.ف.ب)

الغزيون يكابدون الأمطار والبرد

تسبب الانخفاض الجوي الذي تشهده غزة، هذه الأيام، في زيادة معاناة سكان القطاع الذين يعانون أصلاً ويلات الحرب منذ 14 شهراً.

«الشرق الأوسط» (غزة)
الخليج الأمير فيصل بن فرحان خلال مشاركته بالجلسة الموسعة للاجتماع الثاني لوزراء خارجية دول مجموعة السبع في إيطاليا (واس)

السعودية تدعو المجتمع الدولي للتحرك لوقف إطلاق النار في غزة ولبنان

شددت السعودية، الاثنين، خلال الجلسة الموسعة للاجتماع الثاني لوزراء خارجية دول مجموعة السبع (G7)، على ضرورة تحرك المجتمع الدولي لوقف إطلاق النار في غزة ولبنان.

«الشرق الأوسط» (فيوجي)
شؤون إقليمية وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش (أ.ب)

وزير المالية الإسرائيلي يدعو لخفض عدد سكان غزة للنصف

دعا وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، اليوم الاثنين، إلى خفض عدد سكان قطاع غزة إلى النصف من خلال تشجيع الهجرة الطوعية لتسهيل السيطرة على القطاع.

«الشرق الأوسط» (القدس)
المشرق العربي «حماس» تقول إن عرض هدنة في قطاع غزة لمدة 5 أيام هو أمر مرفوض (أ.ف.ب)

قيادي في «حماس»: الحديث عن هدنة 5 أيام في غزة مرفوض

قال القيادي في حركة «حماس» أسامة حمدان اليوم الاثنين إن عرض هدنة في قطاع غزة لمدة 5 أيام هو أمر مرفوض، مؤكدا أن الحركة معنية في الوقت نفسه بوقف الحرب.

«الشرق الأوسط» (غزة)
المشرق العربي إسرائيليون يقفون في ساحة بتل أبيب حيث تم وضع صور وتذكارات للأسرى المحتجزين لدى «حماس» الاثنين (رويترز)

عائلات محتجزين في غزة يتهمون نتنياهو بتضليل ترمب للتهرب من صفقة تبادل

اتهمت عائلات عدد من هؤلاء المحتجزين، رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته، بتقديم معلومات مضللة إلى ترمب حول مصير الأسرى.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)

كندا ترصد أول إصابة بسلالة فرعية من جدري القردة

صورة تحت المجهر الإلكتروني والتي قدمها المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية في عام 2024 لجزيئات فيروس جدري القردة باللون البرتقالي الموجودة داخل الخلايا المصابة باللون الأخضر (أ.ب)
صورة تحت المجهر الإلكتروني والتي قدمها المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية في عام 2024 لجزيئات فيروس جدري القردة باللون البرتقالي الموجودة داخل الخلايا المصابة باللون الأخضر (أ.ب)
TT

كندا ترصد أول إصابة بسلالة فرعية من جدري القردة

صورة تحت المجهر الإلكتروني والتي قدمها المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية في عام 2024 لجزيئات فيروس جدري القردة باللون البرتقالي الموجودة داخل الخلايا المصابة باللون الأخضر (أ.ب)
صورة تحت المجهر الإلكتروني والتي قدمها المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية في عام 2024 لجزيئات فيروس جدري القردة باللون البرتقالي الموجودة داخل الخلايا المصابة باللون الأخضر (أ.ب)

أكدت وكالة الصحة العامة الكندية أمس (الجمعة) رصد أول حالة إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة في كندا لدى شخص في مانيتوبا.

وقالت الوكالة إن هذه الحالة المتعلقة بالسفر مرتبطة بتفشي السلالة الفرعية 1 من المرض في وسط وشرق أفريقيا.

وأضافت الوكالة في بيان «سعى الشخص إلى الحصول على رعاية طبية لأعراض جدري القردة في كندا بعد وقت قصير من عودته ويخضع للعزل في الوقت الراهن».

وقالت منظمة الصحة العالمية أمس (الجمعة) إن تفشي جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة، وأعلنت منظمة الصحة العالمية حالة طوارئ صحية عامة عالمية بسبب جدري القردة للمرة الثانية خلال عامين في أغسطس (آب) بعد انتشار سلالة جديدة من الفيروس، هي السلالة الفرعية 1 بي، من جمهورية الكونغو الديمقراطية إلى الدول المجاورة.

وقالت وكالة الصحة العامة الكندية إنه رغم أن المخاطر التي تهدد السكان في كندا في هذا الوقت لا تزال منخفضة، فإنها تواصل مراقبة الوضع باستمرار. كما قالت إن فحصاً للصحة العامة، بما في ذلك تتبع المخالطين، مستمر.