جاءت نتيجة الاستفتاء الأسترالي على الاعتراف بالشعوب الأصلية في الدستور، ومنحها مزيداً من الحقوق حاسمة، ومثيرة للانقسامات. وآلمت النتيجة أبناء السكان الأصليين لأستراليا الذين راودتهم الآمال على مدار عقود في أن يفلح توجه قائم على المصالحة في إصلاح أخطاء التاريخ الاستعماري بالبلاد.
وأعلن رئيس الوزراء أنتوني ألبانيزي، بينما بدت عليه علامات التأثر، هذا الشهر: «لحظة الخلاف هذه لا تحدد هويتنا، ولن تفرق صفوفنا»، وذلك بعدما رفض سكان جميع الولايات والمناطق، باستثناء واحدة، التعديل الدستوري المقترح. وشدد على أن «هذه ليست نهاية المصالحة».
ومع ذلك، كان من الصعب قبول هذه الفكرة من جانب قيادات السكان الأصليين، الذين رأوا في النتيجة تصويتاً لصالح وضع مؤلم قائم في بلد يحتلّ مرتبة متأخرة مقارنة بدول استعمارية أخرى، فيما يخص التصالح مع سكانه الأصليين.
غضب السكان الأصليين
ومع أن رفض الناخبين إنشاء هيئة استشارية تمثّل «صوت السكان الأصليين» بالبرلمان الأسترالي كان متوقعاً على نطاق واسع، فإنه جاء بمثابة صفعة قوية للسكان الأصليين، الذين صوتوا في معظمهم لصالحه. ونظراً لأن الكثيرين منهم ينظرون إلى نتيجة التصويت باعتبارها إنكارا لماضيهم ومكانتهم داخل الأمة، فإن رفض تأسيس الهيئة المقترحة يهدد بتقويض مزيد من إجراءات المصالحة، ناهيك عن إطلاق العنان لمقاربة مختلفة إزاء حقوق السكان الأصليين والعلاقات العرقية في أستراليا.
في هذا الصدد، قالت لاريسا بولدوين روبرتس، من السكان الأصليين والرئيسة التنفيذية لمجموعة «غيت أب» التقدمية، والتي نظمت حملات داعمة لهيئة «صوت السكان الأصليين بالبرلمان»: «تنجح المصالحة فقط إذا كان لدى الطرفين استعداد للمصالحة بعد فترة خصام والتحرك قدماً، لكن في وجود طرف لا يعترف بالخلاف من الأساس، كيف يمكن لنا أن نتصالح؟»، وأضافت «علينا الانتقال إلى مساحة ربما ليست على مستوى التهذيب والتصالح نفسه، وألا نهاب أن نخبر الناس القصة الكاملة حول كيف أن الاستلاب والاستعمار لا يزالان مستمرين بهذا البلد». أما مارسيا لانغتون، وهي واحدة من أبرز قيادات السكان الأصليين، فترى أن «المصالحة ماتت».
يذكر أنه على مدار عقود، ظلت لانغتون وآخرون متمسكين بتوجّه معتدل إزاء المطالبة بحقوق السكان الأصليين. وعملوا جميعاً داخل حركة المصالحة الأسترالية، التي ضمت أعضاء الأحزاب البارزة، وسعت لتعزيز العلاقة بين السكان الأصليين وغير الأصليين داخل أستراليا. ومن بين المؤشرات الواضحة على هذه الجهود، رفع أعلام السكان الأصليين بجوار العلم الأسترالي فوق غالبية المنشآت الرسمية.
إلا أن النشطاء لطالما وصفوا مثل هذه الإجراءات بأنها رمزية، وينبهون إلى أن التركيز على وحدة الصف يمكن أن يأتي، بعض الأحيان، على حساب حقوق السكان الأصليين.
انقسامات حادة
وأظهر الاستفتاء الأخير أن انقسامات واسعة لا تزال قائمة حول نظرة الأستراليين إلى ماضيهم الاستعماري، وحول ما إذا كانت الصعوبات التي تواجهها مجتمعات السكان الأصليين ناجمة عن الاستعمار أو تصرفات الناس وثقافتهم وأساليب حياتهم.
من جهتها، قالت هانا ماكغليد، عضو المنتدى الدائم المعني بقضايا السكان الأصليين التابع للأمم المتحدة، وهي من أبناء السكان الأصليين وكانت مؤيدة للهيئة المقترحة: «إننا متخلفون كثيراً عن دول أخرى فيما يتعلق بعلاقتنا مع السكان الأصليين».
في بلدان مثل فنلندا والسويد والنرويج، يتمتع أبناء قومية سامية بحق قانوني في أن تجري استشارتهم بشأن القضايا التي تؤثر على مجتمعاتهم. وقد اعترفت كندا بالحقوق الواردة في «معاهدة الأمم الأولى» في دستورها، كما وقعت نيوزيلندا معاهدة مع «الماوري» أواخر القرن التاسع عشر.
على النقيض، عدّ المستعمرون البريطانيون أستراليا غير مأهولة، ولم توقع البلاد على الإطلاق معاهدة مع سكانها الأصليين، الذين لم يرد ذكرهم في دستورها، الذي جرى إعداده بعد أكثر من قرن من وصول الكابتن جيمس كوك إلى القارة للمرة الأولى.
وسعياً لتصحيح هذا الأمر، اجتمع أكثر من 250 من قادة السكان الأصليين عام 2017، ووضعوا خطة من ثلاث خطوات للمصالحة. تمثلت الخطوة الأولى في إنشاء «هيئة صوت السكان الأصليين بالبرلمان»، المنصوص عليها في الدستور، بحيث يتبعها إقرار معاهدة مع الحكومة. وأخيراً، إطلاق عملية «قول الحقيقة» لكشف النقاب عن تاريخ أستراليا الاستعماري.
من جانبهم، عارض بعض زعماء السكان الأصليين مشروع الهيئة، لكن كشفت استطلاعات الرأي، بشكل عام، أن مجتمع السكان الأصليين يؤيده.
حلول بديلة
في المقابل، رأى كثير من المعارضين أنه «جرى تصوير الأمر على اعتبار أنه استفتاء حول العرق والانقسام والامتيازات العرقية، والامتيازات الخاصة. وأخفق الطرح في فهم أو احترام حقوق السكان الأصليين والتاريخ الصادم للاستعمار، وما له من آثار مدمرة حتى يومنا هذا»، وفق ما ذكرت ماكغليد.
ولعقود من الزمن، ظلت البلاد مترددة إزاء كيفية تحسين ظروف حياة السكان الأصليين. وتكشف الأرقام أن متوسط العمر المتوقع في أوساط السكان الأصليين أقل بثماني سنوات عن المتوسط الوطني، بجانب معاناتهم من معدلات انتحار وسجن أعلى من عامة السكان.
وعلى الرغم من أن كثيراً من قيادات السكان الأصليين والخبراء المعنيين بشؤونهم قالوا إن تداعيات الاستعمار والصدمات الناجمة عنه تشكل السبب الجذري لهذا التراجع، ظلت الحكومات - خاصة المحافظة منها - متشبثة برفض هذه الفكرة. وقال بعض رؤساء الوزراء السابقين إن حل هذه القضية يتمثّل في دمج مجتمعات السكان الأصليين في المجتمع الأسترالي. ورددت جاسينتا نامبيجينبا برايس، السيناتور المنتمية إلى مجتمع السكان الأصليين وكانت من الأصوات البارزة الرافضة للهيئة، هذا الرأي. وعبّرت عن اعتقادها بأن مجتمعات السكان الأصليين «لا يعانون أي آثار سلبية للاستعمار». وقالت إن هذه المجتمعات عانت من العنف «ليس بسبب تداعيات الاستعمار، وإنما لأنه يجري تزويج الفتيات الصغيرات إلى رجال أكبر منهن في العمر في إطار زيجات مدبرة». وأسهمت مثل هذه الحجج في تأجيج المعارضة للهيئة المقترحة.
عن ذلك، قال بول سترانغيو، بروفسور العلوم السياسية بجامعة موناش: «لقد تمكن جزء كبير من الجمهور الأسترالي من أن يجد في هذه المعارضة مصدراً لشرعنة عدم التصالح مع هذا الماضي».
وفي أبريل (نيسان)، قال حزب المعارضة الرئيسي بالبلاد، «الحزب الليبرالي المحافظ»، إنه سيصوت ضد مشروع الهيئة، ما حسم مصير الاستفتاء. فلم يسبق أن نجح تغيير دستوري قط في أستراليا دون دعم من الحزبين الرئيسيين بالبلاد. وزعم قادة الحزب أن الاقتراح مثير للانقسام، ويفتقر إلى التفاصيل.
من جهته، حذر سترانغيو من أن هزيمة مشروع الهيئة تنذر بأننا «في طريقنا نحو جدال استقطابي ومثير للانقسام».
*خدمة صحيفة «نيويورك تايمز»