من ينقذ «الحلم الأميركي» من اعتلالات الديمقراطية؟

سياح قرب الكابيتول مقر الكونغرس الأميركي في واشنطن (أ.ف.ب)
سياح قرب الكابيتول مقر الكونغرس الأميركي في واشنطن (أ.ف.ب)
TT

من ينقذ «الحلم الأميركي» من اعتلالات الديمقراطية؟

سياح قرب الكابيتول مقر الكونغرس الأميركي في واشنطن (أ.ف.ب)
سياح قرب الكابيتول مقر الكونغرس الأميركي في واشنطن (أ.ف.ب)

بعد أن يهدأ الغبار الذي أثارته الانتخابات البرلمانية البريطانية والفرنسية والانتخابات الرئاسية الإيرانية، ستتركز الأنظار على الولايات المتحدة التي ستختار في 5 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل رئيساً يقيم في البيت الأبيض أربع سنوات، وحتى الآن ينحصر السباق بين المقيم الحالي والمقيم السابق، اي الديمقراطي جو بايدن والجمهوري دونالد ترمب (بدأ جمهورياً عام 1997 وانتقل في 2001 إلى الحزب الديمقراطي قبل أن يعود جمهورياً في 2009 مع فترة سنتين انضم فيها إلى حزب الاستقلال في نيويورك).

وستشهد الأشهر السابقة ليوم الاقتراع استمراراً للسجال حول أهلية بايدن الذهنية وأهلية ترمب الخُلُقية لمواصلة قيادة أقوى دولة في العالم. الأول يزداد ضياعاً وتلعثماً، والثاني لا يستطيع إزالة غيوم المتاعب القانونية والإدانات القضائية من سمائه السياسية.

الشعب الأميركي مدعوّ للاختيار بين هذين «الحدّين»، أو بتعبير آخر ممارسة حقه السياسي في إطار يقال إنه ديمقراطي بامتياز...

الرئيس الأميركي جو بايدن (أ.ف.ب)

لا يمنع هذا النظام الديمقراطي نظرياً نشوء أحزاب متعددة، لكنه عملياً وبفعل عوامل ومؤثرات عديدة يحصر الحياة السياسية بحزبين يتبادلان إدارة البلاد عبر البيت الأبيض والكونغرس بمجلسَيه. ولطالما أنتج هذا النظام مشكلات في الإدارة على المستوى الفدرالي ليس أقلها التعثر المتكرر في إقرار الموازنة السنوية، وما يتطلبه ذلك من مفاوضات وضغوط وتسويات بين الرئيس ومجلسي النواب والشيوخ، خصوصاً إذا كانت الأكثرية في المجلسين أو في أحدهما من الحزب الآخر، أي غير حزب الرئيس...

ولعل أسوأ نتيجة لهذا الاعتلال هي التوتر المتعاظم بين الأميركيين الموزعين بين الولاءين الحزبيين، والمتفقة غالبيتهم في المقابل على التشكيك في السياسة والقائمين على إدارة شؤونهم.

تلخّص الباحثة السياسة كيلي بورن الوضع بقولها: «إن عدم ثقة الأميركيين بالانتخابات وعدم ثقتهم بعضهم ببعض هما من نتائج المشاكل الثقافية والبنيوية والمؤسسية العميقة الجذور. وإلى أن تُحل هذه المشاكل، فإن أزمة الديمقراطية الأميركية سوف تستمر، وسوف يستمر الناخبون في المطالبة بأنواع جديدة من الحلول، سواء كانت ديمقراطية، تكنوقراطية، أو سلطوية».

وتضيف الأكاديمية التي تدير «مؤسسة ديفيد ولوسيل باكارد» البحثية، أن العالم يعيش منذ قرابة 20 عاما في خضم «ركود ديمقراطي»، مع تنامي شعبية الحركات غير الليبرالية والشعبوية والمعادية للمهاجرين. وتسجل أن «أقل من 8% من سكان العالم يعيشون الآن في ظل الديمقراطية الكاملة. وفي حين أن أربعة من كل عشرة أشخاص تحكمهم أنظمة استبدادية، فإن ما يقرب من 38% يعيشون في ديمقراطيات منقوصة، وهي الفئة التي تشمل الآن الولايات المتحدة».

ومن هنا يمكن بالتالي فهم السبب الذي أوصل ثقة الأميركيين بعضهم ببعض إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق. فمنذ عام 1994، تضاعفت ثلاث مرات نسبة الأميركيين الذين لديهم رأي سلبي للغاية في الحزب السياسي الذي يعارضونه، وهو ما يعكس زيادة حادة في ما سمته كيلي بورن «الاستقطاب العاطفي» الذي لا يقوم على الاختلافات السياسية، بل على الكراهية العميقة للجانب الآخر. ووفقاً لـ«مركز بيو للأبحاث» في واشنطن، فإن نسبة متزايدة من الناخبين من كلا الحزبين الرئيسيين «يصفون أولئك الذين ينتمون إلى الحزب الآخر بأنهم أكثر انغلاقاً، وغير صادقين، وغير أخلاقيين، وأقل ذكاء من الأميركيين الآخرين».

ما ينطبق على علاقات الأفراد ينسحب على المؤسسات، فنسبة الأميركيين الذين يثقون بحكومتهم لا تتجاوز 30% منذ عام 2007، وهو ما يوازي مستويات الثقة الموجودة الآن في أرمينيا، وكرواتيا، ونيجيريا، وأقل من نصف الثقة المسجَّلة في بلدان الشمال الأوروبي على سبيل المثال. وتوسعت حالة التشكيك لتشمل العملية الانتخابية نفسها، إذ يعتقد أربعة من كل عشرة أميركيين، ونحو سبعة من كل عشرة جمهوريين، أن الانتخابات الرئاسية لعام 2020 «سُرقت» من ترمب لمصلحة بايدن.

المرشح الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترمب (أ.ب)

أسباب الأزمة

يعيد خبير الاجتماع السياسي الأميركي لاري دايموند أزمة الديمقراطية الأميركية إلى خلل في تمويل الحملات الانتخابية ويطالب بإصلاح جذري لهذه المسألة بهدف إبعاد المصالح الاقتصادية عن الخيار السياسي. ويقرّ بأن المهمة صعبة وتتطلب توافقاً بين طيف واسع من الساسة المنتمين إلى الحزبين الجمهوري والديمقراطي لحماية الإصلاحيين من «انتقام» أصحاب المصالح الاقتصادية الكبرى.

ويرفض دايموند كون بعض الولايات تجري الانتخابات على أنواعها من دون استخدام أي مستند ورقي، لأن ذلك يؤجج نار مزاعم التزوير لأن التكنولوجيا الرقمية قابلة دائماً للاختراق.

ويرى أن الديمقراطية الأميركية «ليست أثينية لأن الجمهور ليس على دراية كافية بالقضايا ليتمكن من إبداء رأيه فيها. لذا فإن كل مسألة مطروحة تتحول إلى شعارات، وأحياناً تشويهات، في حملات مشحونة للغاية».

من جهتها، ترى الباحثة السياسية فانيسا وليامسون من «مؤسسة بروكنغز» أن الديمقراطية الأميركية ضعفت لسببين: التلاعب بالانتخابات وتعاظم قوة السلطة التنفيذية.

وتشرح «أنه بعد الانتخابات الرئاسية 2020، حاول الرئيس (ترمب)، على الرغم من اعترافه سرًا بخسارته، تخريب النتائج والبقاء في منصبه. لكن التآكل الديمقراطي في الولايات المتحدة ليس مرادفا لدونالد ترمب. فمنذ العام 2010 سُنّت قوانين تهدف إلى الحد من وصول الناخبين إلى صناديق الاقتراع، وتسييس إدارة الانتخابات، ومنع المنافسة الانتخابية من خلال التلاعب بالدوائر. وشهدت الولايات المتحدة أيضًا توسيعاً كبيراً في السلطة التنفيذية وجهودًا لتقويض استقلال الأجهزة الحكومية».

وتضيف أنه «في مواجهة هذه الضغوط، يبدو الكونغرس الذي يعاني من الجمود والحزبية المفرطة غير مجهز بشكل جيد لتوفير الرقابة والمساءلة غير المنحازة للسلطة التنفيذية، كما أن هناك تساؤلات جدية حول نزاهة السلطة القضائية».

وتلفت وليامسون إلى أن ما يخدع الناس هو أن عملية الانتخاب تشكل ستاراً يخفي تآكل الديمقراطية على مستوى العالم، ففي حين أن عدد المستبدين الذين يصلون إلى الحكم بوسائل عنفية يتراجع، يمسك بالسلطة عدد لا بأس به منهم عبر انتخابات يشوبها الكثير من العيوب. ويستخدم علماء السياسة مجموعة من المصطلحات لوصف هذه الظاهرة، بما في ذلك «تآكل الديمقراطية»، و«التراجع الديمقراطي»، و«الانحدار الديمقراطي».

جذور الأزمة

تتفق فانيسا وليامسون وكيلي بورن على أن السبب الحقيقي لأزمة الديمقراطية تاريخي ويعود إلى نشأة البلاد، فالنظام وُضع لحماية المتنفذين والعائلات الثرية (في العقد التاسع من القرن الثامن عشر كان يحق لـ6% من الأميركيين التصويت!)، شأنه في ذلك شأن الأنظمة في الدول الأوروبية، لكن الفرق أن الأخيرة طورت أنظمتها على مر العقود والقرون لجعل ديمقراطياتها شعبية قدر الإمكان، فيما بقى النظام الأميركي جامداً إلى حد كبير.

على سبيل المثال، لم تضمن السلطات الفدرالية حق المواطنين ذوي الأصول الأفريقية من سكان ولايات جنوبية («ملعب» العنصرية) في التصويت إلا عام 1965.

متظاهرون في واشنطن يوم 6 يناير (كانون الثاني) 2021 يزعمون أن ترمب فاز بالانتخابات التي «سُرقت» منه (أ.ب)

كذلك، مما يضرب سلامة العملية الانتخابية التلاعب بحدود الدوائر الانتخابية، إذ يرسم المسؤولون المنتخبون حدود المقاطعات لمصلحة الحزب الذي ينتمون إليه. وهذا من شأنه أن يُنتج دوائر انتخابية آمنة معروفة نتائج الانتخابات فيها سلفاً، فتصير الانتخابات العامة ـ إلى جانب معدلات المشاركة المنخفضة للغاية في الانتخابات التمهيدية ـ غير ذات أهمية. وبسبب التلاعب بحدود الدوائر الانتخابية، لم تعد ما يقرب من 90% من الدوائر تنافسية، وهذا يعني أنه أياً يكن الفائز في الانتخابات التمهيدية فإنه سيفوز حتماً في الانتخابات العامة.

الخلاصة أن الدولة العظمى التي تقول إن رحابها تتيح لكل امرئ أن يطارد «الحلم الأميركي» ويحققه، تحتاج إلى عملية إصلاح لديمقراطيتها ترأب الصدوع العميقة، وتعالج الثقة المتدنية للشعب بالنظام السياسي، وتفعّل إنتاجية المؤسسات الحكومية الفدرالية، وتنظم بيئة الإعلام والتكنولوجيا الرقمية الفوضوية التي تساهم حكماً في التضليل عن قصد أو غير قصد. وكل هذا يتطلب قيادة شجاعة لا أحد يعلم في الوقت الراهن من أين ستخرج...


مقالات ذات صلة

إردوغان «قلق» من تعيينات إدارة ترمب الجديدة

شؤون إقليمية ترمب مستمعاً إلى مرشحه لوزارة الخارجية السيناتور ماركو روبيرو خلال حملته لانتخابات الرئاسة الأميركية (رويترز)

إردوغان «قلق» من تعيينات إدارة ترمب الجديدة

لم يُخفِ الرئيس التركي رجب طيب إردوغان قلق حكومته بشأن بعض الأسماء التي أعلن الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب ضمها إلى إدارته.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الاقتصاد مارك روان يشارك في حلقة نقاشية في بيفرلي هيلز بكاليفورنيا (رويترز)

مارك روان مرشح جديد بارز لمنصب وزير الخزانة في إدارة ترمب

برز الملياردير مارك روان، صاحب رأس المال الخاص، كأحد أبرز المرشحين لمنصب وزير الخزانة في إدارة دونالد ترمب، وسيلتقي الرئيس المنتخب اليوم (الأربعاء).

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (رويترز)

مدعون: يجب تعليق قضية شراء الصمت ضد ترمب

قال ممثلو ادعاء في نيويورك إن القضية التي أدين فيها دونالد ترمب باتهامات جنائية تتعلق بدفع أموال لممثلة أفلام إباحية مقابل شراء صمتها يجب أن تتوقف.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
الولايات المتحدة​ مرشح الرئيس المنتخب لمنصب وزير الصحة روبرت كيندي يتحدث مع النائب الأميركي السابق مات غايتس الذي رشحه ترمب لمنصب وزير العدل وزوجته جينجر لوكي غايتس في حفل معهد أميركا أولاً للسياسة الذي أقيم بمارالاغو ببالم بيتش بفلوريدا (أ.ف.ب)

ترمب يضغط على مجلس الشيوخ لتمرير تعييناته... رغم الفضائح

دفع الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب للمصادقة على مرشحيه للمناصب العليا في إدارته المقبلة وبينهم مرشحه لوزارة العدل مات غايتس الذي تلاحقه فضائح أخلاقية

علي بردى (واشنطن)
الولايات المتحدة​ القائم بأعمال مدير هيئة الهجرة والجمارك توماس هومان الذي رشحه الرئيس المنتخب دونالد ترمب ليعمل مثل «قيصر حدود» (أ.ب)

ترمب في يومه الأول ينشر الجيش لترحيل المهاجرين جماعياً

جدد الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب تعهده بأنه سيبدأ اليوم الأول من عهده بعمليات الترحيل الجماعي للمهاجرين غير المسجلين بإعلان حالة الطوارئ ونشر الجيش.

علي بردى (واشنطن)

ترمب يتعهد مجدداً برفع السرية عن وثائق اغتيال جون كينيدي

الرئيس الأميركي آنذاك جون كينيدي يلوح بيده من سيارته في موكب سيارات قبل دقيقة واحدة تقريباً من إطلاق النار عليه، في 22 نوفمبر 1963 في دالاس، الولايات المتحدة (أ.ب)
الرئيس الأميركي آنذاك جون كينيدي يلوح بيده من سيارته في موكب سيارات قبل دقيقة واحدة تقريباً من إطلاق النار عليه، في 22 نوفمبر 1963 في دالاس، الولايات المتحدة (أ.ب)
TT

ترمب يتعهد مجدداً برفع السرية عن وثائق اغتيال جون كينيدي

الرئيس الأميركي آنذاك جون كينيدي يلوح بيده من سيارته في موكب سيارات قبل دقيقة واحدة تقريباً من إطلاق النار عليه، في 22 نوفمبر 1963 في دالاس، الولايات المتحدة (أ.ب)
الرئيس الأميركي آنذاك جون كينيدي يلوح بيده من سيارته في موكب سيارات قبل دقيقة واحدة تقريباً من إطلاق النار عليه، في 22 نوفمبر 1963 في دالاس، الولايات المتحدة (أ.ب)

ينصح أولئك الذين فحصوا سجلات ملف اغتيال كينيدي التي تم الكشف عنها حتى الآن، بعدم توقع أي كشف صادم، حتى لو تم رفع السرية عن الملفات المتبقية.

لا تزال نظريات المؤامرة منتشرة على نطاق واسع بعد أكثر من 60 عاماً من اغتيال الرئيس الأميركي جون كينيدي، ولا تزال أي معلومات جديدة عن يوم 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1963 في دالاس تجذب الاهتمام.

وخلال حملة إعادة انتخابه، تعهَّد الرئيس المنتخَب دونالد ترمب برفع السرية عن جميع الوثائق الحكومية المتبقية المتعلقة بالاغتيال، إذا ما أعيد انتخابه.

وخلال فترة ولايته الأولى، قدم ترمب التزاماً مماثلاً، لكنه استسلم في النهاية للضغوط من مكتب التحقيقات الاتحادي (إف بي آي) ووكالة الاستخبارات المركزية (سي آي ايه) لحجب بعض المعلومات، وفق وكالة «أسوشييتد برس».

ولم يكشف حتى الآن سوى عن بضعة آلاف من ملايين الوثائق الحكومية المتعلقة بالاغتيال، وينصح أولئك الذين فحصوا السجلات التي تم الكشف عنها حتى الآن بعدم توقع أي كشف صادم، حتى لو تم رفع السرية عن الملفات المتبقية.

وقال جيرالد بوسنر، مؤلف كتاب «القضية مغلقة»، الذي توصل فيه إلى استنتاج مفاده أن القاتل لي هارفي أوزوالد تصرف بمفرده: «إن أي شخص ينتظر دليلاً دامغاً يقلب هذه القضية رأساً على عقب سيشعر بخيبة أمل شديدة».

ومن المتوقَّع أن يتم إحياء الذكرى الحادية والستين للاغتيال، اليوم (الجمعة)، بدقيقة صمت في الساعة 12:30 ظهراً بديلي بلازا؛ حيث قُتِل كينيدي بالرصاص أثناء مرور موكبه.

وعلى مدار هذا الأسبوع، جرى تنظيم عدد من الفعاليات لإحياء الذكرى.