قال مدير وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) ويليام بيرنز، في مقال نادر نشرته مجلة «فورين أفيرز» الأميركية بعنوان «فن التجسس وفن الحكم، تحويل وكالة الاستخبارات المركزية لعصر المنافسة»، إنه عمل في الشرق الأوسط وعلى ملفات الشرق الأوسط خلال الأربعين سنة الماضية، و«نادراً ما رأيته أكثر تشابكاً أو انفجاراً».
وحذّر بيرنز من خطورة تخلي الولايات المتحدة عن دعم أوكرانيا في تصديها لطموحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عادّاً أن هذا الدعم دفع الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى «إعادة حساباته ونظرته» في شأن القدرات الأميركية على مواجهة أي غزو لتايوان. ونبّه إلى الأخطار التي تشكلها إيران على الشرق الأوسط؛ لأن نظامها «مستعد للقتال حتى آخر وكيل إقليمي له» لبسط هيمنته على المنطقة.
وكتب مدير الـ«سي آي إيه» في مقالته عن تطور أساليب التجسس التي اعتمدتها الدول المختلفة، ومنها الولايات المتحدة، والتحولات الكبيرة التي شهدها هذا العالم في القرن العشرين والتحديات الماثلة في القرن الحالي، مشيراً إلى تأكيدات الرئيس جو بايدن في شأن ما تواجهه الولايات المتحدة اليوم، والتي «لا تقل أهمية عن فجر الحرب الباردة، أو فترة ما بعد 11 سبتمبر» (أيلول) 2001 حين تعرضت لهجمات إرهابية. وقال: «يفرض صعود الصين والنزعة الانتقامية الروسية تحديات جيو - سياسية هائلة في عالم يتسم بالمنافسة الاستراتيجية الشديدة»، معترفاً بأن بلاده «لم تعد تتمتع بأولوية لا تقبل المنافسة» في ظل تصاعد التهديدات المناخية الوجودية. وأضاف أن «مما يزيد الأمور تعقيداً حدوث ثورة في التكنولوجيا أكثر شمولاً من الثورة الصناعية أو بداية العصر النووي»، في إشارة إلى الرقائق الدقيقة والذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية، حيث «تعمل التقنيات الناشئة على تغيير العالم، بما في ذلك مهنة الذكاء».
«عظمة» بوتين
وقال بيرنز: «وصلت حقبة ما بعد الحرب الباردة إلى نهايتها الحاسمة لحظة غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير (شباط) 2022»، مضيفاً أنه أمضى قسماً كبيراً من العقدين الماضيين في «محاولة فهم المزيج القابل للاشتعال من الظلم والطموح وانعدام الأمن الذي يجسّده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين». واستنتج أنه «من الخطأ دائماً التقليل من اهتمام (بوتين) بالسيطرة على أوكرانيا وخياراتها. ومن دون هذه السيطرة، يعتقد أنه من المستحيل أن تصبح روسيا قوة عظمى أو أن يكون زعيماً روسياً عظيماً». وأكد أن غزو بوتين أظهر «عزيمة مذهلة لدى الشعب الأوكراني»، مؤكداً أن هذه الحرب «كانت بمثابة فشل لروسيا على الكثير من المستويات»، بما في ذلك «مقتل أو جرح ما لا يقل عن 315 ألف جندي روسي»، بالإضافة إلى تدمير ثلثي مخزون الدبابات الروسية قبل الحرب، وإفراغ برنامج التحديث العسكري الذي «تباهى به بوتين لعقود من الزمن». وأضاف: «أدت طموحات بوتين المبالَغ فيها إلى نتائج عكسية بطريقة أخرى أيضاً: دفعت حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى النمو بشكل أكبر وأقوى». ورأى أن حرب بوتين في أوكرانيا «تؤدي بهدوء إلى تآكل سلطته في الداخل»، مشيراً إلى تمرد زعيم مجموعة «فاغنر» للمرتزقة يفغيني بريغوجين في يونيو (حزيران) الماضي. ورجّح أن يكون 2024 «عاماً صعباً على ساحة المعركة في أوكرانيا، وهو اختبار للبقاء في السلطة». ولاحظ أنه «بينما يعمل بوتين على تجديد الإنتاج الدفاعي الروسي - بمكونات بالغة الأهمية من الصين، فضلاً عن الأسلحة والذخائر من إيران وكوريا الشمالية - فإنه يواصل الرهان على أن الوقت في صفه، وأنه قادر على سحق أوكرانيا وإرهاق مؤيديها الغربيين»، مؤكداً أن «مفتاح النجاح يكمن في الحفاظ على المساعدات الغربية لأوكرانيا. فهو يمثل أقل من خمسة في المائة من ميزانية الدفاع الأميركية، وهو استثمار متواضع نسبياً له عوائد جيو - سياسية كبيرة للولايات المتحدة وعوائد ملحوظة للصناعة الأميركية».
«عدوانية» الصين
وعدّ بيرنز أن «لا أحد يراقب الدعم الأميركي لأوكرانيا من كثب أكثر من القادة الصينيين»، مذكراً بأن الصين «تبقى المنافس الوحيد للولايات المتحدة الذي لديه النية في إعادة تشكيل النظام الدولي والقوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية للقيام بذلك»، مؤكداً أن «القضية لا تتعلق بصعود الصين في حد ذاته، بل بالتصرفات التهديدية التي تصاحبه على نحو متزايد»؛ إذ بدأ الزعيم الصيني شي جينبينغ فترة ولايته الرئاسية الثالثة «بسلطة أكبر من أي من أسلافه منذ ماو تسي تونغ. ورأى أنه «بدلاً من استخدام هذه القوة لتعزيز وتنشيط النظام الدولي الذي مكّن تحول الصين، يسعى شي إلى إعادة كتابته». وأضاف: «من المستحيل أن نتجاهل القمع المتزايد الذي يمارسه شي في الداخل وعدوانيته في الخارج، بدءاً من شراكته غير المحدودة مع بوتن، إلى تهديداته للسلام والاستقرار في مضيق تايوان». ونبّه إلى أن الزعيم الصيني «يميل إلى رؤية الولايات المتحدة كقوة تتلاشى»، غير أن القيادة الأميركية في أوكرانيا «كانت مفاجأة بكل تأكيد». وحذر من أن «أحد أفضل الطرق لإشعال التصورات الصينية حول الضعف الأميركي وتأجيج العدوانية الصينية هو التخلي عن دعم أوكرانيا. الدعم المادي المستمر لأوكرانيا لا يأتي على حساب تايوان، فهو يبعث برسالة مهمة مفادها أن الولايات المتحدة عازمة على مساعدة تايوان».
الشرق الأوسط
وقال بيرنز: إن «الأزمة التي عجّلت بها المذبحة التي ارتكبتها (حماس) في إسرائيل في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، هي بمثابة تذكير مؤلم بتعقيد الخيارات التي لا يزال الشرق الأوسط يفرضها على الولايات المتحدة»، مؤكداً أن «المنافسة مع الصين ستظل هي الأولوية القصوى لواشنطن، لكن هذا لا يعني أنها تستطيع التهرب من التحديات الأخرى». وتحدث عن تجربته خلال العقود الأربعة الماضية في الشرق الأوسط، فقال: «نادراً ما رأيته أكثر تشابكاً أو انفجاراً»، عادّاً أن «إنهاء العملية البرية الإسرائيلية المكثفة في قطاع غزة، وتلبية الحاجات الإنسانية العميقة للمدنيين الفلسطينيين الذين يعانون، وتحرير الرهائن، ومنع انتشار الصراع إلى جبهات أخرى في المنطقة، وتشكيل نهج عملي لليوم التالي في غزة، كلها مشكلات صعبة بشكل لا يصدق». وكذلك الأمر بالنسبة إلى «إحياء الأمل في سلام دائم يضمن أمن إسرائيل وكذلك الدولة الفلسطينية، ويستفيد من الفرص التاريخية للتطبيع مع المملكة العربية السعودية ودول عربية أخرى». ولكنه شدد على أنه «على رغم صعوبة تصور هذه الاحتمالات وسط الأزمة الحالية، فمن الأصعب تصور الخروج من الأزمة من دون متابعة هذه الاحتمالات بجدية». وأكد أيضاً أن «مفتاح أمن إسرائيل والمنطقة هو التعامل مع إيران» التي «يبدو أن (نظامها) مستعد للقتال حتى آخر وكيل إقليمي له، كل ذلك مع توسيع برنامجه النووي وتمكين العدوان الروسي»، ملاحظاً أنه «في الأشهر التي تلت 7 أكتوبر، بدأ الحوثيون، الجماعة المتمردة اليمنية المتحالفة مع إيران، في مهاجمة السفن التجارية بالبحر الأحمر، ولا تزال مخاطر التصعيد على جبهات أخرى قائمة».
وإذ أقر بأن الولايات المتحدة «ليست مسؤولة حصرياً عن حل أي من المشكلات الشائكة في الشرق الأوسط. ولكن لا يمكن إدارة أي منها، ناهيك عن حلها، من دون قيادة أميركية نشطة».