غزة محور اتصال بين بايدن ونتنياهو غداة رفض «الدولة الفلسطينية»

إحباط في واشنطن من استمرار رئيس الوزراء الإسرائيلي في تجاهل النصائح الأميركية

الرئيس بايدن ورئيس الوزراء نتنياهو خلال زيارة الرئيس الأميركي لإسرائيل في 18 أكتوبر الماضي (أ.ف.ب)
الرئيس بايدن ورئيس الوزراء نتنياهو خلال زيارة الرئيس الأميركي لإسرائيل في 18 أكتوبر الماضي (أ.ف.ب)
TT

غزة محور اتصال بين بايدن ونتنياهو غداة رفض «الدولة الفلسطينية»

الرئيس بايدن ورئيس الوزراء نتنياهو خلال زيارة الرئيس الأميركي لإسرائيل في 18 أكتوبر الماضي (أ.ف.ب)
الرئيس بايدن ورئيس الوزراء نتنياهو خلال زيارة الرئيس الأميركي لإسرائيل في 18 أكتوبر الماضي (أ.ف.ب)

أثارت تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو «العلنية»، الخميس، برفض فكرة إنشاء دولة فلسطينية، كثيراً من الاستياء والغضب داخل الإدارة الأميركية، حيث أظهر نتنياهو قدراً من التحدي والعناد، والمعارضة العلنية للموقف الأميركي الذي طالما دعا إلى حل الدولتين بوصفه سبيلاً وحيداً لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وأعرب كبار المسؤولين الأميركيين عن الإحباط من تعنت نتنياهو في الاستماع إلى النصائح الأميركية.

وأعلن البيت الأبيض أن الوضع في غزة وإسرائيل كان موضع اتصال هاتفي بين بايدن ونتنياهو، وهو اتصال يأتي بعد فترة من تقارير عن فتور وتباعد بينهما.

وحث بايدن نتنياهو على الموافقة على إنشاء دولة فلسطينية بعد انتهاء الحرب في قطاع غزة، وأثار خيارات من شأنها أن تحد من السيادة الفلسطينية لجعل الاحتمال أكثر قبولا لإسرائيل.

وعلى أمل التغلب على مقاومة نتنياهو الشديدة، طرح بايدن إمكانية قيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح ولا تهدد أمن إسرائيل، وفقاً لصحيفة «نيويورك تايمز».

وبينما لا يوجد ما يشير إلى أن نتنياهو سيخفف من معارضته، التي تحظى بشعبية في ائتلافه السياسي اليميني الهش، أعرب بايدن عن تفاؤله بأنهما قد يتوصلان إلى توافق في الآراء.

وقال الرئيس للصحافيين في البيت الأبيض بعد عدة ساعات من المكالمة، وهي الأولى منذ ما يقرب من شهر وسط توتر بشأن الحرب: «هناك عدد من أنواع حلول الدولتين... هناك عدد من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة التي لا تزال - ليس لديها جيوشها الخاصة. عدد من الدول التي لديها قيود».

وأضاف بايدن: «ولذلك أعتقد أن هناك طرقاً يمكن أن ينجح بها هذا الأمر».

وأوضح الرئيس الأميركي إن إنشاء دولة فلسطينية تضمن أمن إسرائيل هو الحل الوحيد القابل للتطبيق وطويل الأمد للصراع المستمر منذ عقود، مكرراً الموقف الذي تبناه معظم الرؤساء الأميركيين والزعماء الأوروبيين في التاريخ الحديث. في غضون ذلك، اقترح بايدن أن تتولى نسخة «مُعاد تنشيطها» من السلطة الفلسطينية، التي تحكم الضفة الغربية جزئياً، السيطرة على غزة أيضاً، بمجرد إزالة «حماس» من السلطة هناك - وهي فكرة أخرى رفضها نتنياهو.

وردا على سؤال عما كان نتنياهو منفتحا عليه، قال بايدن: «سأخبركم بذلك»، لكنه رفض فكرة أن حل الدولتين مستحيل ما دام نتنياهو في السلطة، وأفاد: «أعتقد أننا سنكون قادرين على التوصل إلى شيء ما».

وكانت آخر مرة تحدث فيها الزعيمان في 23 ديسمبر (كانون الأول)، في مكالمة وُصفت لاحقاً بأنها متوترة بشكل خاص.

بيان البيت الأبيض

وأعلن البيت الأبيض أمس في بيان: «تحدث الرئيس جو بايدن صباح مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لمناقشة الجهود القائمة لضمان الإفراج عن بقية الرهائن الذين تحتجزهم حركة (حماس)».

وأشار إلى أن الجانبين استعرضا الوضع في غزة والتحول إلى عمليات محددة الأهداف، ما يتيح تدفق كميات متزايدة من المساعدات الإنسانية ويحافظ في الوقت عينه على الضغط العسكري على «حماس» وقادتها.

ورحب الرئيس بايدن بقرار حكومة إسرائيل السماح بشحن الطحين إلى الشعب الفلسطيني بشكل مباشر عبر ميناء أسدود، فيما «تعمل فرقنا بشكل منفصل على حلول تتيح تسليم المساعدات الإنسانية إلى غزة بشكل مباشر عبر البحر»، بحسب البيان.

وتناول الرئيس الأميركي أيضا التقدم المحرز مؤخرا لناحية ضمان توافر إيرادات السلطة الفلسطينية لدفع الرواتب، بما في ذلك رواتب قوات الأمن الفلسطينية في الضفة الغربية، وأشار إلى مسؤولية إسرائيل عن التخفيف من الضرر اللاحق بالمدنيين وحماية الأبرياء حتى فيما تواصل الضغط العسكري على «حماس».

وفي إجابته عن أسئلة الصحافيين حول تصريحات نتنياهو، قال جون كيربي، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي، خلال إفادة على متن طائرة الرئاسة، الخميس، إن هذه التصريحات لم تغير أي شيء في موقف ورغبة الرئيس بايدن في إقامة دولة فلسطينية. وقلل كيربي من تصريحات نتنياهو وقال: «هذا ليس تعليقاً جديداً لرئيس الوزراء نتنياهو، ولن نتوقف عن العمل لتحقيق هدف إقامة دولة فلسطينية».

من جانبه، أكد ماثيو ميلر، المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، الخميس، أنه «لا توجد طريقة لحل التحديات طويلة المدى التي تواجهها إسرائيل لتحقيق الأمن بشكل دائم، ولا توجد طريقة لحل التحديات قصيرة المدى في إعادة بناء غزة وتحديد شكل الحكم في القطاع وتوفير الأمن، دون إقامة دولة فلسطينية».

الرئيس الأميركي جو بايدن (رويترز)

وقال مسؤولون أميركيون، مساء الخميس، إنهم لن يسمحوا لرفض نتنياهو قيام دولة فلسطينية، أن يمنعهم من الضغط على نظرائهم الإسرائيليين للمضي في هذا المسار. وقال مسؤول كبير بالإدارة الأميركية للصحافيين: «لن نأخذ هذه التصريحات باعتبارها الكلمة الأخيرة، وإلا فسيكون هناك عراقيل كثيرة لإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة، وسيكون هناك عراقيل في عملية إطلاق سراح الرهائن المحتجزين لدى (حماس)». وأضاف: «إن إدارة بايدن ستواصل العمل في هذه القضية وغيرها من القضايا الأخرى؛ للوصول إلى النتيجة الصحيحة خاصة في القضايا التي نختلف فيها بشدة».

اشتعال التوترات

وتأتي تصريحات نتنياهو لتزيد من اشتعال الموقف مع إدارة الرئيس بايدن، على خلفية التوترات المتزايدة بين الرجلين مع رفض نتنياهو الاستماع إلى النصائح الأميركية لتفادي الخسائر في صفوف المدنيين، والخلاف حول مستقبل غزة والفلسطينيين بعد انتهاء الحرب.

وقد تزايدت التوترات في الفترة الأخيرة بين بايدن ونتنياهو، ونقل موقع «أكسيوس» أن بايدن بدأ صبره ينفد مع حكومة نتنياهو، وظهر ذلك جلياً مع توقف المحادثات الهاتفية بين الرجلين منذ الثالث والعشرين من ديسمبر الماضي، بعد أن كانت تلك الاتصالات متواصلة عقب هجمات «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول).

وتشير تسريبات إلى أن الرئيس بايدن غضب وأغلق الهاتف في وجه نتنياهو وقال له: «هذه المحادثة انتهت».

ويتحمل بايدن تكلفة شديدة ثقيلة لدعمه إسرائيل في مواجهة ضغوط سياسية داخلية متزايدة، ومظاهرات مستمرة مؤيدة للفلسطينيين، ومطالبات بالدعوة لوقف إطلاق النار، وزيادة الضغط على إسرائيل لإنهاء الحملة العسكرية، وقد تؤدي تلك التكلفة السياسية الثقيلة إلى تراجع حظوظ بايدن في الفوز بإعادة انتخابه لولاية ثانية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 ما لم يقم بتحرك يؤدي إلى تهدئة الغضب الداخلي، وفرض مسار لحل الدولتين الذي دعا إليه مراراً.

خطة بلينكن

وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن يتحدث أمام المنتدى الاقتصادي في دافوس بسويسرا (أ.ب)

وقد قدم وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بعد جولته لعدة عواصم عربية بالمنطقة، خطة من ثلاث مراحل لوقف القتال في غزة وإعادة الرهائن، وتتضمن رؤية لإعادة بناء غزة تشارك في تمويلها دول عربية مقابل موافقة إسرائيل رسمياً على قيام دولة فلسطينية مستقلة، وحاول إقناع نتنياهو بأن حل الدولتين هو أفضل وسيلة لحماية إسرائيل وتوحيد الدول العربية وعزل إيران.

وخلال زيارته لإسرائيل أعطى تحذيراً لنتنياهو، مشيراً إلى أن عليه الاستجابة لفكرة حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية بما يحقق الأمن لإسرائيل. وأشارت مصادر إلى أن بلينكن حاول إقناع نتنياهو بخطة من شأنها أن تقوم السلطة الفلسطينية بفرض سيطرتها على قطاع غزة والضفة بعد الحرب، وأخبر بلينكن نتنياهو أنه في نهاية المطاف لا يوجد حل عسكري للقضاء على «حماس»، وأن نتنياهو يحتاج إلى الاعتراف بذلك، وإلا فإن التاريخ سيعيد نفسه وسيستمر العنف. وعاد بلينكن إلى واشنطن دون أن يحصل من نتنياهو على موقف إيجابي.


مقالات ذات صلة

نائب مستشار الأمن القومي الأميركي: قواتنا باقية في سوريا

الولايات المتحدة​ سكان يقفون في أحد الشوارع خلال دورية مشتركة لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) بقيادة الولايات المتحدة في ريف القامشلي شمال شرقي سوريا (رويترز)

نائب مستشار الأمن القومي الأميركي: قواتنا باقية في سوريا

أعلن جون فاينر نائب مستشار الأمن القومي الأميركي اليوم (الثلاثاء) أن القوات الأميركية ستظل في سوريا لمهمة كبيرة ستكملها هناك.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتهية ولايته جو بايدن (أ.ف.ب)

بايدن: خطة ترمب الاقتصادية ستكون «كارثة»

وصف الرئيس الأميركي المنتهية ولايته جو بايدن اليوم الثلاثاء الخطط الاقتصادية لخليفته دونالد ترمب بأنها «كارثة».

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
العالم الولايات المتحدة تضيف شركتين صينيتين إلى إحدى قوائم القيود التجارية (إ.ب.أ)

أميركا تفرض قيوداً على شركتين صينيتين لأسباب تتعلق بحقوق الأويغور

أضافت الولايات المتحدة شركتين صينيتين إلى إحدى قوائم القيود التجارية، اليوم (الثلاثاء)، بسبب مزاعم تمكينهما ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ سيدة تغطي وجهها بعلم المعارضة السورية في دمشق 10 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

واشنطن: يجب أن يؤدي الانتقال السياسي في سوريا إلى حكم غير طائفي

حضَّت الولايات المتحدة، الثلاثاء، كل الدول على دعم عملية سياسية «جامعة» في سوريا بعد سقوط نظام الرئيس بشار الأسد.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
المشرق العربي سوريون يبحثون عن قطع معدنية وذخائر غير منفجرة في موقع استهدفته غارة إسرائيلية في القامشلي (أ.ف.ب)

إدارة بايدن تغض الطرف عن الانتهاكات الإسرائيلية في الجولان وسوريا

أمرت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بعمليات عسكرية ضد «داعش» في سوريا، وغضت الطرف عن النشاطات الإسرائيلية في الجولان وعبر كل الأراضي السورية.

علي بردى (واشنطن)

بارّوسو: انتخاب ترمب يضيف أزمة رابعة متعددة الأبعاد للقارة الأوروبية

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)
TT

بارّوسو: انتخاب ترمب يضيف أزمة رابعة متعددة الأبعاد للقارة الأوروبية

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

تواجه أوروبا حالياً ثلاث أزمات كبرى هي الغزو الروسي لأوكرانيا وصعود اليمين الشعبوي المتطرف والصعوبات الاقتصادية. ثم تأتي إعادة انتخاب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب لفترة رئاسية ثانية فتضيف أزمة رابعة متعددة الأبعاد للقارة. ورغم أن فوزه لم يكن مستبعداً فقد جاء بمثابة صدمة للكثيرين من قادة أوروبا، خصوصاً وهو يرفع أجندة تفاقم أزمات أوروبا الثلاث: بتعهده بإنهاء الحرب في أوكرانيا «خلال يوم واحد» دون الكشف عن كيفية تحقيق ذلك، ثم تهديده بفرض رسوم جمركية إضافية على كل الواردات الأميركية وإشادته بالقادة الشعبويين في أوروبا.

وفي تحليل نشره موقع المعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاتام هاوس) البريطاني قال جوزيه مانويل بارّوسو، الرئيس الأسبق للوزراء في البرتغال والمفوضية الأوروبية، إن الفوز الكبير الذي حققه ترمب في الانتخابات الرئاسية وسيطرة حزبه الجمهوري على الأغلبية في الكونغرس الأميركي سيسمح بتغييرات سياسية سريعة تتماشى مع نهجيه القومي والعملي في السياسة والتجارة والعلاقات الدولية.

خوسيه مانويل بارّوسو (رويترز)

لذلك؛ فإن ولاية ترمب الثانية يمكن أن تفجّر أزمة عميقة في العلاقات عبر المحيط الأطلسي. ورغم ذلك، يرى بارّوسو الذي تولى رئاسة المفوضية الأوروبية خلال الفترة من 2004 إلى 2014 أن التحديات التي سيفرضها ترمب على أوروبا، يمكن أن تكون فرصة لكي تتغلب القارة على أزماتها الثلاثية، كما تنبأ بذلك جان مونيه، مهندس إنشاء الاتحاد الأوروبي، عندما قال إن «أوروبا ستتشكل في الأزمات، وستكون هي نفسها مجموع الحلول اللازمة لهذه الأزمات».

ويشير بارّوسو، المستشار البارز في «تشاتام هاوس»، إلى أنه أثناء رئاسته المفوضية الأوروبية تعرّضت منطقة اليورو لأزمة مالية طاحنة على خلفية إفلاس اليونان عضو المنطقة، ودعا إلى اجتماع مع كبار الخبراء الاقتصاديين في البنوك الأوروبية الكبرى؛ لمناقشة الأزمة، وأصرّ جميع الخبراء تقريباً على ضرورة خروج اليونان من منطقة اليورو، في حين كان نصفهم يعتقد أن العملة الأوروبية الموحدة لن تستمر لمدة عام.

ترمب وماكرون يتصافحان في اجتماع ثنائي بباريس 7 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لكن الآن وبعد مرور عقد من الزمن على الاجتماع خرجت اليونان من أزمتها الاقتصادية وما زالت عضواً في منطقة العملة الأوروبية الموحدة التي أصبحت ثاني أقوى عملة في العالم بعد الدولار. كما أثبت الاتحاد الأوروبي قوته ومرونته مرتين، الأولى في مواجهة جائحة فيروس كورونا المستجد، والأخرى في مواجهة الغزو الروسي لأوكرانيا.

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب يصافح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي داخل كاتدرائية نوتردام دي باريس قبل حفل إعادة افتتاح الكاتدرائية التاريخية بعد حريق عام 2019 بباريس 7 ديسمبر 2024 (رويترز)

لذلك؛ يمكن أن تصبح رئاسة ترمب الجديدة محفزاً لأوروبا لكي تواجه أصعب تحدياتها. وإذا تعامل الاتحاد الأوروبي مع تحديات رئاسة ترمب بشكل استراتيجي فستكون لديه الفرصة لتجاوز النواقص الجيوسياسية، ويؤكد حضوره الدولي إلى جانب الولايات المتحدة والصين. ويعدّ ملف الأمن هو الملف الأشد إلحاحاً بالنسبة لأوروبا، أي الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وغيرها من الشركاء الأوروبيين الآخرين من غير الأعضاء في الاتحاد.

ومن بين تعهدات ترمب إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا بسرعة، وهو أمر غير ممكن من الناحية العملية. وأقصى ما يمكن أن يتحقق هو «الفصل بين القوات» أو «وقف إطلاق النار»، وهو ما لن يكون مصالحة حقيقية بين البلدين المتحاربين.

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب والرئيسان الأوكراني زيلينسكي والفرنسي ماكرون قبل اجتماع ثلاثي في الإليزيه السبت (د.ب.أ)

ويبدو أن ترمب يعتقد أن التنازل عن الأراضي الأوكرانية يحقق السلام. لكن حتى إذا قبلت أوكرانيا هذا الطرح، فلن يكون مرضياً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. فهذه الحرب هي حرب وجود بالنسبة للزعيم الروسي، الذي لن يقبل بأقل من عودة أوكرانيا للدوران في الفلك الروسي وعدم التفكير في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو حلف شمال الأطلسي (ناتو). لذلك؛ فهو أبعد ما يكون عن الانخراط في أي عملية سلام بنّاءة، بحسب بارّوسو.

لذلك؛ على أوروبا مواصلة دعم أوكرانيا، رغم أن انضمامها إلى حلف «الناتو» في الوقت الراهن يبدو مستحيلاً كما أن انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي ما زال بعيداً. وإذا فشل ترمب في التوصل إلى اتفاق أو قرّر وقف الدعم الأميركي لأوكرانيا، فلن يكون في مقدور بريطانيا وفرنسا وألمانيا تقديم ضمانات أمنية ذات مصداقية لكييف. ومع ذلك، على الحلفاء الأوروبيين استمرار تعزيز دعمهم لأوكرانيا؛ لآن البديل هو قبول هزيمة كييف، وهو ما لن يؤثر فقط على الاتحاد الأوروبي كله وإنما على «الناتو» والولايات المتحدة أيضاً.

مجسَّم لليورو أمام مبنى البنك المركزي الأوروبي في فرنكفورت (أ.ب)

في الوقت نفسه، فإن العالم كله من الصين إلى أفريقيا سيتابع ما إذا كانت أميركا وأوروبا ستدافعان عن النظام الليبرالي العالمي، بالدفاع عن أوكرانيا في مواجهة الغزو الروسي. لذلك؛ وكما فعل الاتحاد الأوروبي في مواجهة جائحة كورونا عندما رصد 800 مليار يورو لاحتواء الجائحة وتداعياتها الاقتصادية، عليه الآن حشد قدراته المالية والتكنولوجية لتعزيز قدراته الدفاعية في مواجهة التهديدات الروسية، واحتمالات تراجع الدعم الأميركي للنظام الدفاعي في أوروبا.

المستشار الألماني أمام شعار سيارات «فورد» الأميركية في مصنعها في كولون بألمانيا (أ.ف.ب)

أما الأزمة الثانية التي تواجه أوروبا، فتتمثل في صعود الشعبوية القومية. وإذا كان انتصار ترمب الكبير يشجع صعود الشعبوية، فإن أوروبا تعلمت دروساً مهمة للتصدي لها. في الوقت الذي يشجع فيه انتصار ترمب هذه التوجهات.

والحقيقة أن نجاح ترمب المثير للإعجاب كان راجعاً إلى حد كبير إلى قدرته على مخاطبة المخاوف الحقيقية للأميركيين، خصوصاً القضايا المتعلقة بالقوة الشرائية للأسر المتوسطة والمنخفضة الدخل ومسائل الأمن العام، وارتفاع معدلات الجريمة والهجرة غير الشرعية، في حين أن الأحزاب الرئيسة في أوروبا تتجنب التطرق إلى مثل هذه القضايا لأسباب تتعلق بـ«الصوابية السياسية»، رغم أنها تعكس مخاوف عامة مشروعة لدى الناخبين.

العاملون في مصانع «فورد» الأميركية في كولون بألمانيا يتظاهرون ضد عمليات التقليص في الوظائف (أ.ف.ب)

لذلك؛ على الأحزاب الرئيسة التي تمثل يسار الوسط أو يمين الوسط في أوروبا التعلم من الدرس الأميركي والتعامل مع القضايا التي تمثل هواجس حقيقية لدى الناخبين؛ حتى لا تتركهم فريسة لأحزاب أقصى اليمين أو أقصى اليسار.

والحقيقة، أن هناك مؤشرات على حدوث هذا التحول المرغوب فيه بأوروبا. ففي الكثير من العواصم الأوروبية بدأت أحزاب الوسط تركز على قضايا الأمن الداخلي، بما في ذلك موضوعات مثل الهجرة. وإذا لم تتخلَ هذه القوى الوسطية عن القيم الديمقراطية التي تقول إنها ملتزمة بها عند التعامل مع هذه القضايا، فستكون في وضع أفضل لإفشال الطموحات الانتخابية لليمين المتطرف.

كما يتعين على الاتحاد الأوروبي السعي بجد ليكون «كنيسة واسعة تستوعب مختلف وجهات النظر»، على حد وصف بارّوسو. وفي حين يجب على الدول الأعضاء احترام سيادة القانون والقيم الأساسية للاتحاد، كما هو منصوص عليه في المادة الثانية من معاهدة لشبونة، فلا ينبغي النظر إلى هذا باعتباره تقييداً للأحزاب السياسية الموجودة خارج مركز الطيف السياسي. وفي الوقت نفسه، تحاول الأحزاب المتطرفة أن تبدو أكثر ميلاً إلى التيار الرئيس.

على سبيل المثال، حزب «إخوان إيطاليا» الذي تتزعمه رئيسة الوزراء الإيطالية جورجا ميلوني، والذي كان يقدم ذات يوم باعتباره «فاشياً جديداً»، يضع نفسه في موقع يمين الوسط، وهو ما حدث مع حزب سيريزا اليساري المتطرف في اليونان أثناء أزمة منطقة اليورو.

أخيراً، يصل الحديث إلى الأزمة الثالثة التي تواجه الاتحاد الأوروبي وهي تراجعه الاقتصادي. فمن دون مبالغة يمكن القول إن أوروبا تعاني تدهوراً اقتصادياً منذ 10 سنوات على الأقل.

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب يصافح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي داخل كاتدرائية نوتردام دي باريس قبل حفل إعادة افتتاح الكاتدرائية التاريخية بعد حريق عام 2019 بباريس 7 ديسمبر 2024 (رويترز)

كما فقد الاتحاد قدرته التنافسية في مواجهة الولايات المتحدة والصين والدول الأخرى. وعلى الصعيد الداخلي، أدى إعطاء الدول الأعضاء الأوروبية الأولوية لمصالحها الفردية إلى منع المزيد من التكامل الاقتصادي الأوروبي. على سبيل المثال، فإن عرقلة صفقات الاندماج المصرفي العابرة للحدود في الاتحاد الأوروبي تنطلق من حسابات وطنية داخلية وليس من سياسة حماية المنافسة للاتحاد الأوروبي.

في الوقت نفسه، ولأن الأزمة الاقتصادية في أوروبا تتحرك ببطء، لم يجد قادة أوروبا مبرراً لاتخاذ القرارات الشجاعة المطلوبة لمواجهتها، وفضلوا استمرار التسويف في التعامل مع الملف الاقتصادي.

لكن يمكن أن تكون ولاية ترمب الثانية جرس إنذار لإيقاظ قادة أوروبا، خصوصاً إذا نفذ تهديداته بفرض رسوم على السلع الأوروبية. والاتحاد الأوروبي يعاني نقاط ضعف واضحة في هذا السياق بدءاً من تراجع أعداد السكان وحتى الاعتماد على استيراد مصادر الطاقة. لذلك؛ سيعاني الاتحاد الأوروبي بشدة من أجل المحافظة على مكانته في ترتيب القوى العالمية والدفاع عن مصالحه الاستراتيجية إذا لم يتحلَ بقدر كبير من التصميم والعزم في التعامل مع التحديات التي تمثلها ولاية ترمب الثانية.

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب والرئيسان الأوكراني زيلينسكي والفرنسي ماكرون قبل اجتماع ثلاثي في الإليزيه السبت (د.ب.أ)

وفيما يتعلق بالتهديد قريب الأجل المتمثل في الرسوم الجمركية، يتعين على الاتحاد الأوروبي السعي لاستخدام موقعه القيادي في التواصل استراتيجياً مع الولايات المتحدة، وتأكيد أن الطرفين سيخسران بشكل كبير في حالة اندلاع صراع تجاري بينهما، من خلال التأكيد على الترابط الاقتصادي المتبادل. وفي الوقت نفسه، على الاتحاد أن يظل مستعداً للرد على الرسوم الأميركية إذا لزم الأمر، مع ضمان أن يكون الرد مدروساً ومنسقاً ومتوافقاً مع مصالحه الاقتصادية على المدى البعيد.

وللتعامل مع مشكلتَي ضعف النمو الاقتصادي والتنافسية، ستحتاج دول الاتحاد الأوروبي إلى الاقتراض المشترك لتوفير التمويل المطلوب للتعامل مع المشكلتين بتكلفة محتملة. وسيكون موقف ألمانيا صاحبة أكبر اقتصاد في أوروبا حاسماً في هذا الأمر خصوصاً وأنها تعارض باستمرار فكرة الاقتراض المشترك، بسبب القلق من تساهل بعض الدول في الالتزام بقواعد الانضباط المالي.

لكن بارّوسو، أستاذ القانون والسياسي البرتغالي، يرى أن ألمانيا تدرك حقيقة أنها لن تكون قوية دون أن يكون الاتحاد الأوروبي قوياً. لذلك؛ على ألمانيا أن تكون مستعدة للقيام بما يلزم، سواء على صعيد الريادة السياسية أو الالتزام المالي لقيادة عملية تعزيز النمو الاقتصادي والقدرة التنافسية للاتحاد الأوروبي ككل.

أخيراً، يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى التحرك الموحد على الصعد كافة من السوق الموحدة إلى توحيد أسواق المال، ومن الدفاع الأوروبي إلى السياسة الخارجية للحفاظ على قدرته التنافسية على الساحة العالمية. والآن هو الوقت المناسب للاتحاد لكي يغتنم الفرصة لتطوير سياسة اقتصادية خارجية موحدة يفتقر إليها بشدة.