أكثر من 500 تقرير أميركي عن «أجسام مجهولة» يتم التحقيق بطبيعتها. أرقام لم تأتِ من مروجي نظريات المؤامرة، أو أصحاب الخيال العلمي، بل وردت مباشرة من وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) التي غيّرت في الأعوام الأخيرة من مقاربتها الرافضة للحديث عن ظواهر من هذا النوع بشكل علني.
يتطرق تقرير واشنطن، وهو ثمرة تعاون بين «الشرق الأوسط» و«الشرق»، إلى حقيقة هذه الظواهر الغامضة وطبيعتها، ويتناول تحذيرات المشرعين بشأن خطورتها على الأمن القومي الأميركي، خاصة في ظل رصد أغلبية هذه الظواهر بالقرب من قواعد عسكرية.
جلسات علنية وسرية
يقول الدكتور ستيفن غرير، مؤسس مركز دراسة الاستخبارات الفضائية، إن الكونغرس تأخّر في عقد جلسات استماع علنية حول الملف، رغم حملات التوعية والدعوات للشفافية التي بدأت «منذ أكثر من 30 عاماً». ويتحدّث غرير عن إقرار «البنتاغون» بوجود «هذه الأجسام المجهولة»، فيقول: «أعتقد أن المثير للاهتمام هو أن البنتاغون قد أقرّ بأن هذه الطائرات أو الأجسام حقيقية على الأقل، وأنها ثلاثية الأبعاد وليست خيالية، وهناك لقطات مصورة لها».
ويشير باتريك تاكر، محرّر قسم العلوم والتكنولوجيا في موقع «ديفنس وان»، إلى الانفتاح الرسمي للحديث عن هذه الظواهر منذ عام 2017 حين عرضت صحيفة «نيويورك تايمز» لقطات عن هذه الأجسام، «الأمر الذي أرغم البنتاغون على الاعتراف بأن لقطات مماثلة لا يمكن تفسيرها بسهولة». وأضاف تاكر: «لقد شاهدها طيارون في البحرية، يتمتعون بمصداقية عالية. وقد رأينا بعضهم يقدم شهادته أمام الكونغرس، ما أدى إلى ردود فعل علنية».
تهديد للأمن القومي
تتعدّد التكهنات حول النظريات المحيطة بظاهرة الأجسام المجهولة. وفي ظل التجاذبات التي شهدها الملف في الأعوام الأخيرة، أسّست وزارة الدفاع الأميركية في يوليو (تموز) من عام 2022 مكتب «AARO» الخاص بمعالجة الظواهر الغريبة، ومهمته مراجعة والتحقق من ملفات «الأجسام الطائرة المجهولة (UAP)».
يقول مدير المكتب شون كيركباتريك إنه يتمّ التحقيق في أكثر من 650 حادثة، بينها 171 حالة «غير محددة». ويتحدث غرير عن النظريات وتحذيرات أعضاء الكونغرس من خطورة هذه الأجسام على الأمن القومي، في ظل اتهام البعض منهم للصين بالوقوف وراء هذه الظواهر. وقال: «يجب تصحيح الرواية القائلة إن هذه الأجسام تأتي من الصين، فهذه الأجسام نوعان: هناك الأجسام التي تكون خارج الكوكب وهي التي ذكرها مسرّبو البنتاغون، أي من أصول خارج كوكب الأرض. وهناك الأجسام الخاصة بنا». ويوضّح غرير: «هذه الأخيرة هي التي تعد تهديداً للأمن القومي لأنها أجهزة من صنع الإنسان، وتستخدم نوعاً من الدفع الكهرومغناطيسي من دون طائرات أو صواريخ، وهي أجهزة تمتلكها شركات عسكرية أميركية وتطورها في إطار مشاريع سرية للغاية، وهناك أعضاء من الكونغرس يدركون الأمر بشكل كامل وسيحاولون تصحيح هذه المشكلة».
ويتفق تاكر مع تقييم غرير الذي استبعد أن تكون هذه الأجسام من صنع الصين بهدف التجسس، فيقول: «ليس هناك أي تصريح علني يقترح أن الصين قد تمتلك تكنولوجيا من هذا النوع، لكن هناك الكثير مما لا نعرفه حول الأجهزة العسكرية الصينية».
في المقابل، يشير تاكر إلى أن «البنتاغون» استبعد أن تكون الأجسام المجهولة منسوبة إلى أنشطة «خارجة عن كوكب الأرض»، مضيفاً: «رغم هذا النفي، لم تتمكن الولايات المتحدة من تفسير سلوك هذه الأجسام الذي تحدى نوعاً ما كل ما نعرفه عن الفيزياء وقوانين الديناميكية الحرارية. فبحسب اللقطات التي شاركها البنتاغون، لدينا أجسام قادرة على التحليق في مكانها بغض النظر عن الرياح الشديدة، ثم التحرك من دون أي آثار حرارية أو أجنحة أو أي دليل على دفع مرئي... إنه أمر يصعب تفسيره».
ويرفض الدكتور سيث شولستاك، كبير علماء الفلك في معهد «سيتي»، رفضاً قاطعاً نظرية غرير الزاعمة بوجود «كائنات غير بشرية تزور الأرض». فيقول: «إن لم يكن هناك أي دليل على ذلك، فهذه مجرد ادعاءات». ويضيف شولستاك: «إذا كنت ستدعي أن هناك كائنات غير بشرية تزور كوكب الأرض، فليست هناك قصة علمية أكثر إثارة للاهتمام من هذه. وسيكون لديك آلاف العلماء الذين يعملون عليها. لدينا 8000 قمر صناعي ومدار حول الأرض، فإذا كانت هناك أجسام تغط في الأرض، فلا يمكن إخفاء هذا».
برامج عسكرية سرية
رداً على ادّعاء غرير بوجود برامج عسكرية سرية تصنع أسلحة متطورة، يقول تاكر: «أشكّك في هذه النظرية، لأن هذه الشركات مثل (لوكهيد) و(بوينغ) وغيرهما تبيع منتجاتها إلى الحكومة الأميركية، وأي برنامج سري تخفيه عن الحكومة يمكن أن يشكل فضيحة بالنسبة إلى دافعي الضرائب». ويضيف تاكر أن «الفكرة القائلة إن هذه الشركات قد ابتكرت منتجاً ذات قيمة عالية، ولكنها تخفيه عن الجهة الوحيدة التي يمكن أن تشتريه، أي الحكومة الأميركية، هو أمر غير منطقي بالنسبة لي».
ويشير تاكر إلى أن وجود تكنولوجيا من هذا النوع بحوزة الشركات الأميركية سيؤدي إلى تباهي الولايات المتحدة بذلك، وليس إلى إخفائه. ويفسّر شولستاك ظاهرة بعض «الأجسام المجهولة»، بأنها «طائرات تجارية تتم رؤيتها من مسافة بعيدة جداً»، ويشكك في تقييم بعض المشرعين. ويقول: «لقد قدمت إفادتي أمام الكونغرس حول هذا الموضوع، وأول ما نتعلّمه هو أن أعضاء الكونغرس هم سياسيون، ليسوا علماء وإدراكهم لما يرون هو سطحي للغاية».
ورداً على تشكيك كل من تاكر وشولستاك في نظريته، يقول غرير إن «هناك ما يسمى (التمويل الأسود) للولايات المتحدة يطّلع عليه عدد قليل من أعضاء الكونغرس والبيت الأبيض. وهناك أيضاً ما يطلق عليه اسم (التمويل الأسود العميق)، وهو الجزئية غير القانونية». ويتابع غرير: «يمكن مثلاً لشركة صناعة طيران أن تسعّر منتجاً لها بملياري دولار، في حين كلّفت صناعته 200 مليون فقط. أتمنى لو كنا نعيش في عالم مثالي لكن الفساد موجود، وأعتقد أيضاً أن هناك نشاطات إجرامية».
منطقة الشرق الأوسط
رفع «البنتاغون» السرية عن 3 شرائط فيديو عرضتها لجان الكونغرس في جلساتها المفتوحة، وتضمنت حادثة في 12 يوليو 2002 في منطقة الشرق الأوسط، التقطتها مسيّرة أميركية «MQ-9» تُظهر جسماً فضياً دائرياً يتحرك بسرعة فائقة. وهذه من الحوادث التي لم تتمكن وزارة الدفاع من تفسيرها حتى الساعة. ويقول الرائد في البحرية الأميركية، دايفيد فرور، للكونغرس إن التقنيات التي رآها في هذه الأجسام «تتفوق على أي شيء نملكه». بينما يطرح زميله السابق في البحرية، راين غرايفز، زاوية مختلفة تتعلق بـ«الوصمة» التي يعاني منها كل شخص يُبلغ عن أجسام مجهولة. وقال للكونغرس: «حالياً، نحتاج إلى نظام يمكّن الطيارين من الإبلاغ عن هذه الحوادث من دون خوف من خسارة وظائفهم. هناك خوف من أن وصمة العار المرتبطة بهذا الموضوع ستؤدي إلى تداعيات مهنية سلبية». ولهذا السبب تحديداً، عمد الكونغرس إلى طرح مشروع قانون يحمي هؤلاء المبلغين والمسرّبين من أي «تدابير انتقامية».